الحمد لله, رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: يا
تقدمنا بعض الآيات التي أوردها المؤلف رحمه الله تعالى في بيان معنى التوحيد وحكمه وأنه واجب.
قال: (وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ( كنت رديف النبي صلي الله عليه وسلم ). الرديف: هو الذي تحمله خلفك على الدابة.
قال: ( أتدري )؟ يعني: هل تعرف؟
( كنت رديف النبي على الحمار, فقال: يا
( قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ). تقدم لنا تعريف العبادة وتعريف الشرك.
قال: ( وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ). حق العباد على الله يعني: ما كتبه الله عز وجل حقاً على نفسه للعباد تفضلاً وإحساناً, وإلا فإن العباد لا يستحقون على الله عز وجل شيئاً إلا من باب تفضله وإحسانه عليهم.
قال: ( قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس )؟ البشارة: هي الإخبار بما يسر.
( قال: لا تبشرهم فيتكلوا ). يتكلوا يعني: يعتمدوا على هذه البشارة فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة.
وهذا الحديث فيه بيان وجوب التوحيد, وفيه أيضاً بيان معنى التوحيد.
فبيان وجوب التوحيد قوله: ( حق الله على العباد ) والحق يدل على الوجوب.
وكذلك فيه معنى التوحيد, فإنه قال: ( يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) وهذا -قوله: ( يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً )- هو معنى التوحيد: إفراد الله عز وجل بالعبادة.
الباب في اللغة: هو المدخل إلى الشيء.
وأما في الاصطلاح: فهو اسم لجملة من العلم يشتمل على فصول ومباحث غالباً.
قال: [فضل التوحيد].
فضل التوحيد يعني: الثواب العظيم المرتب على التوحيد.
قال: (وما يكفر من الذنوب). التكفير في اللغة: الستر والتغطية.
وأما في الاصطلاح: فهو محو الذنب حتى يكون بمنزلة العدم.
وقوله: [من الذنوب].
هذه بيانية وليست تبعيضية, فالذنوب جميعها تكفر بالتوحيد.
الَّذِينَ آمَنُوا [الأنعام:82]: اعتقدوا بقلوبهم، وصدقوا بألسنتهم، وعملوا بجوارحهم, إذ إن الإيمان عند أهل السنة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان.
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ [الأنعام:82]. يعني: ولم يخلطوا إيمانهم.
بِظُلْمٍ [الأنعام:82]. المراد بالظلم هنا الشرك كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم.
أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. الأمن: هو طمأنينة القلب وزوال الخوف.
وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82], يعني: موفقون للسير على صراط الله المستقيم.
هذه الآية تدل على فضل التوحيد, وأن الموحد له الأمن والهداية، له الأمن في الدنيا وفي الآخرة، وله أيضاً الهداية في الدنيا وفي الآخرة.
أما الأمن في الدنيا فهو ما يكون من طمأنينة القلب وزوال الخوف؛ ولهذا من أعظم أركان الإيمان الإيمان بالقضاء والقدر، والذي يؤمن بقضاء الله وقدره مهما تصيبه من المصائب فإنه يأمن ويهدأ قلبه, والله عز وجل يقول: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]. وفي قراءة: (ومن يؤمن بالله يهدأ قلبه).
ولا شك أن الإنسان إذا كان موحداً مهما أصابته من المصائب فإنه آمن؛ لأنه يؤمن بقضاء الله وقدره, أن هذه المصائب يحصل فيها الشيء العظيم من تكفير الذنوب ورفع الدرجات, فهي وإن كانت مصيبة في ظاهرها إلا أنها منحة من الله عز وجل؛ فتحصل له السعادة.
ولهذا ذكر العلماء رحمة الله عليهم من أسباب السعادة التوحيد, ومن أسباب السعادة الإيمان بقضاء الله وقدره, وهو داخل في التوحيد.
وأما الأمن في الآخرة فهذا ظاهر, يحصل له الأمن من عذاب الله عز وجل, ويحصل له الأمن من كربات يوم القيامة حتى يصل إلى منزله في الجنة.
وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] أيضاً تحصل له الهداية في الدنيا وفي الآخرة, في الدنيا يكون على نور وعلى بينة, يعرف حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم, ويسير على الصراط المستقيم؛ امتثالاً للأمر واجتناباً للنهي , وأما الهداية في الآخرة فإنه يهتدي إلى الصراط المستقيم حتى يهتدي إلى منزله في الجنة.
وكذلك من فضائل التوحيد في هذه الآية: أنه يسلم من الشرك؛ لأن الشرك ظلم, فيسلم من ظلم نفسه.
الشهادة هي: الإقرار والاعتراف المنافي للشك.
فأنت تشهد أن لا إله إلاّ الله. يعني: كأنك تقول: أعتقد أنه لا معبود بحق إلا الله, كأنني أشاهد هذا بعيني؛ ولهذا جاء التعبير بقوله: (أشهد) دون أن يقول: (أقر وأعترف, يعني: أعتقد أنه لا معبود بحق إلا الله عز وجل, كأنني أشهد هذا بعيني، وهذا هو تمام الاعتقاد وتمام اليقين.
وقوله: (وحده): حال مؤكد للإثبات, و(لا شريك له): تأكيد للنفي.
(وحده لا شريك له) وحده: تأكيد للإثبات, ولا شريك له: تأكيد للنفي؛ لأن هذه الكلمة العظيمة اشتملت على ركنين: الركن الأول: الإثبات, أي: والركن الثاني: النفي, إثبات العبادة لله عز وجل, ونفيها عما سواه, فقولك: (وحده): هذا تأكيد للإثبات, وقولك: (لا شريك له) هذا تأكيد للنفي.
قال: ( وأن محمداً عبده ورسوله ).
يعني: أشهد، يعني: أقر وأعترف إقراراً ينافي الشك أن محمد بن عبد الله رسول من الله سبحانه وتعالى, وأنه عبد من عبيد الله. يعني: أنه رسول وعبد, عبد لا يعبد, ورسول لا يكذب.
وقوله: (عبد الله) في هذا رد على من غلا في النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزله فوق منزلته, فصرف له شيئاً من خصائص الألوهية، كما يفعله الصوفية وعامة الخرافية الذين ينزلون النبي صلى الله عليه وسلم فوق منزلته, وسيأتينا إن شاء الله شيء من ذلك في باب المحبة.
(ورسوله): رد على من جفا في حق النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر عموم رسالته، وقال: بأن رسالته خاصة بالعرب, أو أنكر أصل رسالته بالكلية.
فقوله: عبده ورسوله رد على هاتين الطائفتين.
عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. يعني: أشهد أن عيسى بن مريم عبد الله ورسوله.
وأيضاً قوله: (عبد الله): هذا رد على النصارى الذين غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام, فمنهم من جعله الإله, ومنهم من جعله ابن الإله, ومنهم من جعله ثالث ثلاثة... إلى آخره.
وقوله: (ورسوله) رد على من جفا في حق عيسى عليه الصلاة والسلام, وهم اليهود الذين جفوا في حق عيسى عليه الصلاة والسلام, فرموه بأنه ابن زانية, وهموا بقتله, وهو مكتوب عليهم أنهم قتلوه شرعاً وديناً, لكنهم لم يقتلوه كوناً وقدراً, فالله عز وجل نجاه منهم, لكنه مكتوب عليهم عند الله عز وجل أنهم قتلوه شرعاً وديناً.
قال: ( وكلمته ألقاها إلى مريم, وروح منه ). كلمته يعني: أن عيسى عليه الصلاة والسلام خلق بكلمة (كن).
( وكلمته ألقاها إلى مريم ). يعني: أرسل الله عز وجل بها جبريل إلى مريم , فنفخ جبريل في درع مريم بروح، نفخ فيها من روحه المخلوقة.
( وكلمته ألقاها إلى مريم ). يعني: أن جبريل أرسله الله عز وجل إلى مريم فنفخ في درعها -فتحة الجيب- كلمة كن, وهذا النفخ من روح جبريل المخلوقة بإذن الله عز وجل.
وقوله: ( وروح منه ). يعني: أن عيسى عليه الصلاة والسلام روح من أرواح الله المخلوقة.
وقوله: ( منه ) هذه اللفظة هي التي ضل بها النصارى, فالنصارى اعتقدوا أن عيسى عليه الصلاة والسلام في قوله: ( منه ) بأنها تبعيضية, فاعتقدوا أن عيسى عليه الصلاة والسلام فيه شيء من الله سبحانه وتعالى, فضل فيها النصارى.
والصواب: أن (من) هذه ليست تبعيضية, وإنما هي ابتدائية, بمعنى: أن هذه الروح مبتدأة من الله إيجاداً وخلقاً, ونظير ذلك قول الله عز وجل: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13]. فقوله: منه هنا هذه ابتدائية بيانية, يعني: أن هذه السموات والأرض إيجاداً وخلقاً مبتدأة من الله سبحانه وتعالى.
قال: [( والجنة حق, والنار حق )]. الجنة هي: الدار التي أعدها الله لأوليائه في الآخرة, وهي مخلوقة موجودة الآن. والنار هي: الدار التي أعدها الله عز وجل لأعدائه في الآخرة، وهي مخلوقة موجودة الآن.
قوله: ( أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ). هذا يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن الله عز وجل أدخله الجنة وإن كان مقصراً وله ذنوب؛ لأن الموحد إذا مات على توحيده فإن مصيره إلى الجنة حتى وإن عذب.
فالمعنى الأول: ( أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ). يعني: أن مصير الموحد هو الجنة حتى وإن كان عنده شيء من الذنوب.
المعنى الثاني: أن قوله: ( أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ). يعني: أنه يدخل الجنة على حسب عمله، وكما أن النار دركات فإن الجنة درجات, كلما سابق المسلم إلى الأعمال الصالحة كلما ظفر بالدرجات العالية في الجنة: وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء:21].
هذا الحديث دل على فضيلة التوحيد, وأن من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الله سبحانه وتعالى سيدخله الجنة حتى وإن عذب، إذا كان له شيء من الذنوب وحصل له شيء من العذاب فإن مصيره إلى الجنة، فهذا فيه بيان فضل التوحيد, وأن الموحد مصيره إلى الجنة.
والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر