الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أشرف البقاع في الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد، فهي بيوته، وفيها نوره وهداه، وقد نعت الله عباده الطيبين الذين يعظمونه في هذه البيوت بأنهم رجال، ثم وصفهم بأربع خصال: لا تلهيهم البيوع ولا التجارات، ويقيمون الصلاة، ويذكرون الله، ويؤتون الزكاة، ويحسنون إلى عباد الله، ثم بعد ذلك يستعدون للقاء الله في يوم تشخص فيه الأبصار فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37].
فالصفة الأولى من صفاتهم: أنهم لا يلتهون بعرض الدنيا، بما فيها من بيوع وتجارات، ولا يشغلون بذلك عن طاعة رب الأرض والسموات، وكيف يشغل هؤلاء الرجال هؤلاء الأخيار الأبرار بعرض من الدنيا حقير مهين لا يعدل عند الله جناح بعوضة؟
إن هؤلاء العباد يعلمون حق العلم أن الرزق مقسوم، كما أن العمر محتوم، ولا يمكن أن يزاد في شيء منهما ولا ينقص، ولذلك استراحت أبدان هؤلاء الرجال، وتعلقت قلوبهم بذي العزة والجلال، وأيقنوا أن ما قدر لهم سيأتيهم، كما أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى حالهم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام الترمذي ، وابن ماجه في السنن، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن الخليفة الراشد المهدي المهتدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً ).
والتوكل: هو ثقة القلب بالرب، وأن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فلما تعلقت قلوبهم بالله جل وعلا تبع ذلك راحة الأبدان، فمشوا في مناكب الأرض، وتعرضوا لنفحات الله وفضله دون إرهاق لأبدانهم، ودون غم في قلوبهم، ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً ) أي: تذهب في الصباح وهي جياع ضامرة البطون، ثم تعود بعد ذلك في المساء إلى أوكارها وقد امتلأت بطونها من فضل ربها، ( تغدو خماصاً وتروح بطاناً ).
ويتحقق هذا بعدم حب الدنيا والميل إليها.
ويتحقق هذا بعدم البخل بها بعد إحرازها وحيازتها.
ويتحقق هذا بعدم الحرص عليها.
ويتحقق هذا بأنهم لا يلتهون ولا يشتغلون بهذه الدنيا في حال من الأحوال، إنما يتقربون في كل وقت إلى ذي العزة والجلال، فمن اتصف بذلك فهو حقيق بأن يكون من أهل هذه الآية رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37].
وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذه الحالة الحسنة الطيبة لهؤلاء العباد الأخيار الأبرار في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في سننه، ورواه الإمام ابن ماجه في سننه، ورواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، والخطيب في تاريخ بغداد، وإسناد الحديث حسن، عن عبيد الله بن محصن ، ويقال: عبد الله بن محصن ، والتصغير أصح، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ورواه ابن أبي الدنيا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، فالحديث من رواية عبيد الله بن محصن ، ومن رواية أبي الدرداء ، ومن رواية أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهم أجمعين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )، والحديث إسناده صحيح كالشمس ( من أصبح منكم آمناً في سربه ) أي: في نفسه، يقال: فلان واسع السرب، أي: مطمئن البال هادئ النفس، وضبط بفتح السين والراء، ( من أصبح منكم آمناً في سَرَبه ) أي: في مذهبه وطريقه ومسلكه، آمناً في نفسه، آمناً في طريقه، عنده بعد ذلك قوت يومه، وعنده صحته وعافيته فقد ملك الدنيا بأسرها، ( من أصبح منكم آمناً في سِرْبه --آمناً في سَرَبه- معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ).
إذاً: إذا كان يأتيك القوت والصحة والأمن، ثم أصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن، أنت في نعمة في بدنك، تأمن بعد ذلك في طريقك وفي نفسك، وأنت في كفاية وعندك ما يكفيك، فلا تحتاج إلى أحد من خلق الله.
إذاً: ينبغي أن تشكر الله على هذه النعمة، ( من أصبح منكم آمناً في سِرْبه -في سَرَبه- معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ).
وهذه الحالة هي التي كان يتطلع إليها نبينا عليه الصلاة والسلام، ويسألها الله لنفسه ولآل بيته، كما ثبت في الصحيحين والحديث في المسند، وسنن الترمذي ، وابن ماجه ، وهو في أعلى درجات الصحة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً ) على نبينا وآل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه.
وفي رواية: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ). والقوت: هو مقدار الضرورة، بحيث لا تجوع ولا تفتر. والكفاف: هو ما كفك عن سؤال الناس، وكان بمقدار كفايتك وحاجتك، فإذا حصلت هذا فاحمد الله، فقد كان خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه يسأل هذا من ربه جل وعلا؛ لأن المال إذا زاد والغنى إذا كثر يؤدي إلى البطر؛ ولأن الحاجة إذا لم تتيسر يتشوش البال، فإذاً: إذا رزقت الكفاف، وكان عندك ما يكفيك فاحمد الله واقنع بما قسم الله.
هي القناعة فالزمها تعش ملكاً لو لم يكن فيها إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها سوى بالقطن والكفن
إذاً: هذا هو الأمر الأول في وصف هؤلاء العباد رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] ، فهم يقنعون، وترتبط قلوبهم بالحي القيوم، فلا يطمعون ولا يجشعون.
كما ثبت في مسند الإمام أحمد ، وصحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم ، والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير، والإمام البزار في مسنده، وإسناده حسن، من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ).
والله لو كانت الدنيا دراً يفنى، وكانت الآخرة خزفاً يبقى، لآثر الإنسان الخزف على الدر، فكيف والآخرة در باق، والدنيا خزف فان.
إن في اكتساب الدنيا مذلة النفوس، وفي اكتساب الآخرة عز النفوس، فيا عجباً! ثم يا عجباً! لمن يؤثر الذل على العز، (فآثروا ما يبقى على ما يفنى).
إذاً: لا يحب هذه الدنيا ولا يتعلق بها ولا يميل إليها إلا خاسر مغبون، وهذا الحديث كما قلت: إسناده حسن.
وقد كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين يحذرون من جاء بعدهم من التابعين من الركون إلى الدنيا والانهماك فيها. ففي مسند الإمام أحمد أيضاً، والحديث في صحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم ، ومعجم الطبراني الكبير، ورواه بدل الإمام البزار في الرواية المتقدمة الإمام أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال للتابعين الذين جاءوا بعد الصحابة الطيبين: ( ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد شيء في الدنيا، وأنتم أحرص شيء عليها ).
وهذا العبد الصالح إبراهيم التيمي الذي توفي سنة اثنتين وتسعين للهجرة، وهو من أئمة التابعين، ومن أهل الخير الطيبين، كان يقول: إذا كان الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه. أي: لا يسارع إلى تكبيرة الإحرام، يقول هذا العبد الصالح للتابعين الذين عاصرهم: إن من قبلكم كانوا يفرون من الدنيا وهي مقبلة عليهم ولهم من المنزلة ما لهم، وأنتم تقبلون عليها وهي مدبرة عنكم وعندكم من الأحداث ما عندكم، فقيسوا أمركم إلى أمر من سبقكم.
إذاً: الصفة الثانية من صفاتهم التي يتحقق بها عدم الالتهاء والاشتغال: أنهم لا يحبون هذه الدنيا، ولا تسكن في قلوبهم، إنما هي عرض بين أيديهم للاستعانة به على طاعة ربهم جل وعلا.
فهذا المال ينبغي أن تخرج الحق الواجب منه، وأن تنفق منه في سبيل الله في كل جهة من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، وهذا المال إذا أنفقت شيئاً منه فهو الذي يبقى لك، وما تتركه فلن تملكه.
أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه، والحديث في سنن الترمذي ، وابن ماجه من رواية عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الله: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك يا ابن آدم! إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت -أي أمضيته وقدمته بين يديك ليبقى عند ربك جل وعلا-، وما سوى ذلك فأنت ذاهب وتاركه ).
وفي رواية في المسند وصحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول العبد: مالي.. مالي، وهل له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى ) أي: اتخذه قنيةً له ومدخراً له عند الله -جل وعلا- ليس لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، فما أمضيته يذهب من بين يديك لتجده عند ربك جل وعلا، ليس لك من مالك إلا ما أعطيته لمن يستحقه في هذه الحياة في سبيل الله وتقرباً إليه، ليكون لك قنيةً ومدخراً عند الله جل وعلا.
عباد الله! فهؤلاء لا يبخلون، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينزل ملكان في كل يوم تطلع فيه الشمس فيدعوان للمنفق بالخَلَف، وللمسك بالتلف، ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينزل ملكان من السماء فيناديان فيقولان: اللهم أعط ممسكاً تلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط منفقاً خلفاً ).
والحديث -إخوتي الكرام- رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والإمام البيهقي من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان فيقولان: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وما من يوم تغرب فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان فيقولان: اللهم عجل لمنفق خلفاً، وعجل لممسك تلفاً ).
ولذلك خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم إمساك المال والبخل والشح به وعدم الإنفاق منه، ثبت في مسند الإمام أحمد ، وصحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم ، والحديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا أخشى عليكم الفقر، إنما أخشى عليكم التكاثر )، أي: أن تتكاثروا في الأموال، وألا تخرجوا منها في سبيل ذي العزة والجلال، ( لا أخشى عليكم الفقر، إنما أخشى عليكم التكاثر، ولا أخشى عليكم الخطأ، إنما أخشى عليكم التعمد ).
فهؤلاء العباد يقنعون، ولا يحبون هذا المال ولا يتعلقون به، ولا يبخلون به إذا صار عندهم.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن أثر الحرص على المال وما يخلفه هذا الأثر من آثار سيئة في نفس الإنسان، ففي مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه الترمذي في سننه، والإمام الدارمي في مسنده من رواية كعب بن مالك رضي الله عنه، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط، ورواه الإمام أبو نعيم في الحلية، وابن حبان في صحيحه من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وروي الحديث عن عدة من الصحابة الكرام، روي عن ابن عباس ، وعن ابن عمر ، وعن أسامة بن زيد ، وعن أبي سعيد الخدري ، وعن عاصم بن عدي رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما ذئبان جائعان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ).
ومعنى الحديث: إذا حرص الإنسان على المال، وبذل ما في وسعه لجمعه، ثم بعد ذلك منع الحق الواجب منه، فإنه يفسد دينه أشد من إفساد الذئبين الضاريين الجائعين في زريبة غنم أرسلا فيها فأفسدا، فمن يحرص على المال وعلى الشرف: وهو الجاه والمنزلة بين الناس، من يجعل هذا همه في الحياة يفسد دينه أشد من إفساد الذئبين الضاريين الجائعين في زريبة الغنم، ( ما ذئبان جائعان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف -أي الجاه والمنزلة- لدينه )، فمن حرص على هذا يفسد دينه. وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الحريص على المال الذي يتفانى في جمعه ويعبده سماه بأنه عبد له.
ثبت في صحيح البخاري ، وسنن ابن ماجه ، والحديث صحيح، فهو في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش ).
فقوله: (تعس عبد الدينار) سماه عبداً، ولم يقل: تعس مالك المال، ولم يقل: تعس جامع المال، ليس في ملك المال منقصة، وليس في جمع المال منقصة، وليس في إحراز المال منقصة إنما المنقصة أن تكون أسيراً له، أن تكون عبداً له، ألا تتصرف إلا من أجل هذا المال وهذا الريال.
ثم قال: (عبد الخميصة) وهي الثياب الحسنة المزركشة الملونة، تعس بمعنى: سقط، أو: هلك، أو: بعد، أو: أصابه شر، بفتح العين وكسرها تعس: تعس عبد الدينار وعبد الدرهم، وعبد الخميصة.
قوله: (تعس وانتكس)، أي: عاوده السقوط مرةً بعد أخرى، (تعس وانتكس) أي: سقط على رأسه بعد أن يسقط في أول الأمر سقوطاً عادياً، يدعو عليه بهذه الأمور الشنيعة التي تناسب حال هذا العبد الذي جعل نفسه عرضاً لمال حقير ليس له عند الله جل وعلا أي وزن وتقدير.
قوله: (وإذا شيك فلا انتقش) أي: إذا دخلت شوكة في بدنه، دعي عليه من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بألا يتسهل عليه إخراج هذه الشوكة بالمنقاش، أي: بالملقط الذي تخرج به هذه الشوكة، ( تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش )، هذا عبد ذليل حقير، وضع نفسه عندما عبد المال من دون ذي العزة والجلال، وإذا دعي عليه بألا تخرج الشوكة من بدنه إذا دخلت فيه فإن الدعاء إذاً لما هو أعظم من باب أولى، أي: هذا الأمر اليسير إن أصابه يسأل النبي عليه الصلاة والسلام ربه ألا يخرج هذا الأمر اليسير من بدن عابد الدنيا وعابد المال ومحب المال، وإذا وقع في ورطات أخرى فهذا من باب أولى لا يخرج منها، ولا يتيسر له الفرج عنها.
والحديث رواه الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ( لعن عبد الدينار وعبد الدرهم )، وتقدم معنا حديث: ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها ).
فهؤلاء إذاً: لا يحرصون على هذا المال، ولا يكونون عبيداً له.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن كثيراً من أفراد هذه الأمة سيهلكهم الدرهم والدينار، وسيبعدهم جمع الريال عن ذي العزة والجلال.
ثبت الحديث بذلك في معجم الطبراني الكبير، ومسند البزار ، والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، وإسناده صحيح جيد عن عبد الله بن مسعود ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أهلك من كان قبلكم الدرهم والدينار، وهما مهلكاكم ).
وفي رواية مسند البزار : ( أن
فهؤلاء العباد الذين يعمرون بيوت الله في الأرض لا تلهيهم تجارة ولا بيع، لا يلهيهم عرض الدنيا، فيقنعون بما قسم الحي القيوم، ولا يحبون الدنيا، ولا يبخلون بها، ولا يحرصون عليها.
ثبت في مسند الإمام أحمد ، وسنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه، ورواه البيهقي في الزهد، وإسناده صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فتلا قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك ). فقوله: (ابن آدم! تفرغ لعبادتي) فهذه الدنيا لا تلهيهم عن الله طرفة عين في حال من الأحوال.
والحديث رواه الحاكم في مستدركه، والإمام الطبراني في معجمه الكبير عن معقل بن يسار ، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( قال الرب عز وجل: ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً، وأملأ يديك رزقاً، وإلا تفعل ملأت صدرك فقراً، وملأت يديك شغلاً )، فيتعب وهو فقير القلب، وينصب، وكلما حصل عرضاً من الدنيا كلما ازداد حرصاً وجشعاً وطمعاً، ومحب الدنيا كمن يشرب من البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، و(الغنى غنى النفس).
فهؤلاء العباد إذا جاءتهم هذه الدنيا لا تلهيهم عن الله جل وعلا، فقلوبهم متعلقة بالله، وإذا حلت الدنيا في أيديهم أنفقوا من جميع جهاتهم. كما ثبت في المسند والصحيحين، والحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه من رواية أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا ) أي: عن يمينه وعن شماله ومن خلفه كما وضح هذا نبينا صلى الله عليه وسلم، والحديث روي عن ابن عباس وابن مسعود ، وعن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين بزيادة الجهة الأمامية ( إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا وهكذا ) من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، وأنفق من جميع جهاته، فمن فعل في المال هذا الفعل فقد حقق قول الله جل وعلا: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] .
وخلاصة الكلام إخوتي الكرام! أن هؤلاء العباد، هم عباد الرحمن الذين يكونون في بيوت ذي الجلال والإكرام، يقنعون بما قسم لهم، ولا يحبون الدنيا، ولا يبخلون بها، ولا يحرصون عليها، وإذا جاءتهم لا تشغلهم عن الله طرفة عين، وينفقون منها في جميع جهاتهم.
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرزقنا من فضله، وأن يجعل ذلك عوناً لنا على طاعته، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، أقول هذا القول وأستغفر الله.
عباد الله! إذا امتدت الحياة بالأمة الإسلامية فإنها تبتعد عن الفهم السليم الذي ينبغي أن تتحلى به في كل حين، وليست المشكلة عند المسلمين في إثبات النص ووجوده، والعثور عليه ومعرفته إنما المشكلة تكون في فهم ذلك النص وتدبره، ومعرفة ما يراد به. وحقيقةً: مما يزعج الآذان ما سمعته في كثير من البلدان، وآخر السماع ما نقل لي بعض الإخوة الكرام قبل أيام: أن بعض طلبة العلم يوردون شيئاً من الشبه في الفهم حول بعض أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه الشبه تتعلق بموضوع الذهاب إلى بيت من بيوت الله لسماع موعظة، ولحضور درس، فقال هؤلاء المتفقهون الجدد: إن هذا يكون من باب شد الرحل، فإذا خرج الإنسان من حي إلى حي ليصلي في ذلك الحي، وليسمع هناك خطبةً أو موعظةً أو يحضر درساً فقد شد الرحل إلى غير المساجد التي أمرنا بشد الرحال إليها وهذا حرام لا يجوز، وأنا أعجب غاية العجب أن تنعكس المفاهيم، وأن تنقلب الموازين في هذا الحين، وفي هذا العصر الذي نعيش فيه، فنجعل القربة والطاعة معصية، إنا لله وإنا إليه راجعون.
والحديث في المسند والصحيحين أيضاً، وسنن الترمذي ، وابن ماجه من رواية أبي سعيد الخدري ، قالا أبو هريرة وأبو سعيد رضي الله عنهم أجمعين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ).
ومعنى الحديث حسبما قرر أئمتنا ولا ينبغي أن يختلف اثنان في هذا الفهم: لا تشد الرحال إلى مسجد في الأرض من أجل مضاعفة الصلاة فيه، وحصول الخير الكثير فيه، والبركة فيه إلا لهذه المساجد الثلاثة، فالمسجد الحرام: الصلاة تضاعف فيه بمائة ألف، ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام: تضاعف الصلاة فيه بألف، والمسجد الأقصى: تضاعف الصلاة فيه بخمسمائة، والمساجد الأخرى بعد ذلك تستوي في الفضيلة، إذاً فليس من المشروع إذا أردت أن تصلي الظهر في مسجد حيك فتترك هذا المسجد، وتشد الرحل مسافة مائة كيلو أو مائتين إلى مسجد آخر في حي آخر من أجل حضور الصلاة فقط، فالصلاة في هذا المسجد تعدل الصلاة في ذلك المسجد، هذا معنى الحديث ولا يفهم منه إلا هذا.
وأما أن تشد الرحل بعد ذلك لزيارة أخ في الله في مكان من الأمكنة، أو أن تشد الرحل إلى مسجد من المساجد، أو بيت من بيوت الله؛ لتحضر فيه موعظةً، أو درس علم تتلقى فيه حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا من القربة والطاعة، وأنت ما شددت الرحل إلى المكان إنما شددت الرحل لما سيكون في ذلك المكان، وشتان شتان بين الأمرين، أنت ما شددت الرحل من أجل تعظيم تلك البقعة وأن لها ميزة خاصة على البقعة التي بجوارك، إنما شددت الرحل، وركبت الدابة أو وسيلة السفر من أجل أن تحصل طاعةً وفائدةً وعلماً لا يكون في جهتك، فهذا قربة.
وأنا أقول لهذا الصنف الذي كثر في بلاد المسلمين، ويستدل بحديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام على ما لا يدل عليه، أقول لمن يتشككون في هذا الأمر: ارجعوا لكتاب من كتب أئمتنا، لحافظ الدنيا في زمانه الإمام الخطيب البغدادي ، الذي توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة للهجرة، ألف كتاباً سماه الرحلة في طلب الحديث، ولا يقصد بالرحلة: الترغيب في الرحلة فهذا معلوم من الدين بالضرورة، إنما قرر في هذا الكتاب من رحل من الصحابة الكرام، فمن بعدهم في طلب حديث واحد. أما من رحلوا في طلب العلم وفي طلب أكثر من حديث فهؤلاء لا يحصون، كتاب بكامله ذكر عدداً من سلفنا الكرام ممن رحلوا -منهم جابر بن عبد الله وغيره رضي الله عنهم أجمعين، كما في هذا الكتاب- من أجل طلب حديث واحد، يشد رحله من بلاد العراق إلى مصر، ومن المدينة المنورة إلى مصر، من أجل أن يلتقي بالصحابي الذي حمل الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليسمعه منه مباشرة لئلا يأخذه عنه بواسطة، فيقطع مسافات في تلك العصور، وفي ذلك تعب كثير، ثم إذا سمع الحديث يكر راجعاً فلا يستقر في ذلك المكان ولا حتى لأجل تناول ضيافة، حديث واحد هو سبب الرحلة في طلب الحديث. ولذلك قال أئمتنا -كما يقول الإمام زين الدين عبد الرحيم الأثري عليه رحمة الله في منظومته في قواعد علوم الحديث والمصطلح:
وأخلص النية في طلبكا وجد وابدأ بعوالي مصركا
أي: خذ الأحاديث العالية من شيوخ البلد في مصرك وفي حيك.
وما يهم ثم شد الرحلا لغيره ولا تساهل حملا
أي: بعد أن تحصل العلم في حيك في بقعتك شد رحلك من أجل أن تطوف الدنيا، وأن تتعلم العلم النافع.
وما يهم ثم شد الرحلا لغيره -أي: لغير هذا المصر الذي أنت فيه- ولا تساهل حملا.
واعمل بما تسمع في الفضائل والشيخ بجله ولا تثاقل
عليه تطويلاً بحيث يضجر ولا تكن يمنعك التكبر
أو الحيا عن طلب واجتنب كتم السماع فهو لؤم واكتبِ
ما تستفيد عالياً ونازلاً لا كثرة الشيوخ صيتاً عاطلاً
هذا هو ما يقرره أئمتنا، وهذا هو الأدب والفهم والحكمة التي كانت عند سلفنا، فيأتيك إنسان في هذه الأيام فيقول: ثبت في الصحيحين عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد )، وأنتم تخرجون من حي إلى حي لسماع موعظة أو درس فقد شددتم الرحل، سبحان ربي العظيم! على هذا الفهم السقيم، إذا ما كان هذا الإنسان عالماً، أو طالب علم ألا سكت واستحى! ألا سأل وشفاء الجاهل السؤال لا أن يتطاول وأن يعد نفسه من أهل الاستدلال.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يبصرنا بعواقب أمورنا، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم إنا نسألك تمام العافية، ونسألك اللهم دوام العافية، ونسألك اللهم الشكر على العافية، ونسألك اللهم الغنى عن الناس، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم ارضنا وارض عنا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لشيوخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر