أما بعد:
أيها المسلمون! حينما يتعاظم ركام الفتن في الأمة، وتخيم على سمائها الصافية غيوم الغمة، فيلتبس الحق بالباطل، وتخفى معالم الحق على كثيرٍ من أبناء الملة، ويختلط الهوى بالهدى، فإن تقوى الله سبحانه هي التي تنير طريق الهداية، ويُبدد نورها ظلمات الجهل والغواية، من وهبه الله التقوى فقد وهبه نوراً يمشي به على درب النجاة، في سلامة من المؤثرات العقدية والمنهجية، وفي بُعدٍ عن اللوثات الفكرية والسلوكية.
ألا ما أحوج الأمة اليوم إلى أن تُعمر قلوب أبنائها بالتقوى واليقين، ليتحقق لها -بإذن الله- النصر والتمكين.
معاشر المسلمين! قضيتنا الكبرى، التي يجب ألا تُنسى في جديد التحديات، وفي زخم الحوادث والمؤامرات؛ حيث إنها الركيزة العُظمى التي تُبنى عليها الأمجاد والحضارات، بل وتتحقق بها التطلعات والانتصارات، وتخرج بها الأمة من دوامة الصراعات؛ هي أننا أمة عقيدة إيمانية صافية، ورسالة عالمية سامية، أمة توحيد خالص لله، واتباع مطلق للحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه القضية الكبرى، هي حديث المناسبة وكل مناسبة، والتذكير فيها موضوع الساعة وكل ساعة إلى قيام الساعة، وإن خيرَ ما عُني به المسلمون، وتحدَّث عنه المصلحون: العقيدة الإيمانية، والسنة المحمدية، والسيرة النبوية.
والذي تولى كبره منهم من لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت؛ من اليهود المعتدين، والصهاينة الغاشمين، ويوالي مسيرتهم دعاة التثليث، وعبدة الصليب، ويشد أزرهم المفتونون بهم، المتأثرون بعفن أفكارهم، وسموم ثقافاتهم، من أهل العلمنة ودعاة التغريب.
ويزداد الأسى حين يجهل كثير من أهل الإسلام حقائق دينهم، وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيص ولا تحقيق، أو يُجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وقد صح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } أخرجه مسلم في صحيحه .
إن فاتكم أن تروه بالعيون فما يفوتكم وصفه وهذي شمائله |
مكمل الذات في خَلق وفي خُلق وفي صفات فلا تُحصى فضائله |
يُخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته، كما ينظر الآخرون إلى عظمائهم في نواحٍ قاصرة محدودة بعلم أو عبقرية أو حنكة، فرسولنا صلى الله عليه وسلم قد جمع نواحي العظمة الإنسانية كلها، في ذاته وشمائله وجميع أحواله؛ لكنه مع ذلك ليس رباً فيقصد، ولا إلهاً فيعبد، وإنما هو نبي يطاع، ورسولٌ يُتبِّع.
أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله } إن من المؤسف حقاً أن بعض أهل الإسلام لم يقدروا رسولهم صلى الله عليه وسلم حق قدره، حتى وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم، ذلك أنه حب سلبي لا صدى له في واقع الحياة، ولا أثر له في السلوك والامتثال.
وإن أول واجب على محبيه أن يُعنوا بأمر الدعوة إلى توحيد الله التي قامت عليها رسالته عليه الصلاة والسلام، ومحاذرة كل ما يخدش صحيح المعتقد، وصفو المتابعة، من ضروب الشركيات والبدع والمحدثات.
وفي مجال عبوديته لربه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، فيقال له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: {أفلا أكون عبداً شكوراً } أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
زانته في الخُلق العظيم شمائل يضرى بهن ويولع الكرماء |
وأعظم من ذلك وأبلغ ثناءُ ربه عليه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].. فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
يقول أنس رضي الله عنه: [[ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أحسن من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أُفٍّ قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا ]].
تلك لعمر الحق عراقة الخلال، وسمو الخصال، وكريم الشمائل، وعظيم الفضائل، فسبحان من رفع قدره، وشرح صدره، وأعلى في العالمين ذكره:
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد |
فهل من يتغنون اليوم بسيرته يقتفون أثره في هديه وشمائله؟
وهناك صفحة أخرى -يا رعاكم الله- في معاملاته لأصحابه وأهل بيته وزوجاته، يقول صلى الله عليه وسلم: {أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم } أخرجه أحمد وأهل السنن، وهكذا في سياسة الدولة الإسلامية، وفي عبادته لربه، وفي نفقته وبذله، وفي قوته وجهاده، وحرصه على أداء رسالة الله، وتبليغ دعوة ربه تبارك وتعالى.
ومراعاته لحقوق الإنسان، بل ورفقه حتى بالحيوان في وقت تتغنى فيه حضارة اليوم بدوس كرامة الإنسان، وراعيةً أحط حيوان!! والله المستعان.
ويتجلى هذا الأنموذج الرائع في قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد حين نهره الصحابة -رضي الله عنهم- فقال صلى الله عليه وسلم: {دعوه لا تزرموه - أي: لا تنهروه- }، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: {إنما بُعثتم مبشرين ولم تبعثوا معسرين } وأرشده برفق وحكمة، وكانت النتيجة أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، متفق عليه.
وفي قصة ثمامة بن أثال حينما أسر وربط في سارية المسجد وهو مشرك وكان سيد قومه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به ويقول: {ماذا عندك يا
الله أكبر! تلك آثار الدعوة بالرفق والرحمة والحسنى، والبعد عن مسالك العنف والغلظة والفظاظة، وهو درس بليغ للدعاة إلى الله إلى قيام الساعة:
بنيت لهم من الأخلاق ركناً فخانوا الركن فانهدم اضطراباً |
وكان جنابهم فيها مهاباً وللأخلاق أجدر أن تهاباً |
ولما قيل له عليه الصلاة والسلام: ألا تدعو على المشركين؟
قال: {إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة للعالمين } أخرجه مسلم .
وقال لهم: {ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً.. أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، اذهبوا فأنتم الطلقاء }.
وهل تدرك الأمة الإسلامية اليوم الطريقة المثلى للدعوة إلى دينها، وإحياء سنة رسولها صلى الله عليه وسلم، إحياءً عملياً حقيقياً لا صورياً وشكلياً.
إن حقاً على أهل الإسلام وهم المؤتمنون على ميراث النبوة، أن تصقلهم الوقائع، وتربيهم التجارب، إذ لا تزال الفتن والخطوب مدلهمة على هذه الأمة.
وإذا كانت الأمة في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها تتحدث عن شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم فكيف يطيب الحديث ويحلو الكلام ومقدسات المسلمين يعيث فيها أعداء الإسلام من اليهود المعتدين؟
وهاهم يُصعدون عدوانهم وإرهابهم، يجدّون في إذكاء نار الفتنة في صلف ورعونة على سمع العالم وبصره، تحدياً لمشاعر المسلمين في مسرى سيد الثقلين، وثالث المسجدين الشريفين أقر الله أعين المؤمنين بفك أسره من اليهود الغاصبين، وجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.
كيف يجمل الحديث وأعداء المسلمين -من الملحدين- يُصرون على صلفهم وعدوانهم ضد إخواننا وحرماتنا في الشيشان المجاهدة؟
كيف يحلو الكلام والهندوس الوثنيون يُمعنون في حقدهم السافر، ضد إخواننا ومشاعرنا في كشمير المسلمة، مما ينذر بخطرٍ داهم، وحربٍ ضروس في القارة الهندية برمتها، مما يتطلب ضبط النفس، والإصغاء إلى لغة الحوار، وصوت العقل والمنطق، ورد الحقوق إلى أصحابها؟
كيف وكيف؟؟ وكثير من قضايانا الإسلامية معلقة، وأوضاع أمتنا متردية إلا من رحم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن الأمة اليوم بأمس الحاجة في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخها إلى التمسك الصحيح بدينها وسنة رسولها صلى الله عليه وسلم في محبةٍ وتآلف واعتصام، وفي سماحة ويُسرٍ ووئام، وبذلك تتحقق وحدة الصف، وجمع الشمل، وتوحيد الكلمة على منهج الكتاب والسنة لفهم سلف الأمة رحمهم الله، فلن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وبذلك تنكشف الغمة عن هذه الأمة، وما ذلك على الله بعزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل خطيئة وإثم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! ورووا قلوبكم وأرواحكم من شمائل نبيكم صلى الله عليه وسلم، وتأملوا خصاله العظيمة، وشمائله الكريمة، واربطوا أنفسكم وناشئتكم وأسركم بها، رباطاً محكماً وثيقاً، يسمو عن التخصيص في أوقات، والتعيين في مناسبات؛ فليس هذا من منهج السلف الثقات.
واعلموا -رحمكم الله- أن هذه الشمائل المصطفوية، والسجايا النبوية، ينبغي أن يكون لها تأثير عملي في إصلاح المنهج، وأثر تطبيقي في إحكام المسيرة والبناء، في عصر كثرت فيه المتغيرات، وتسارعت فيه المستجدات، عبر كثيرٍ من القنوات والشبكات، فالسنة خير عاصم من شرور هذه القواصم.
وإن الأمة اليوم في حاجة أكثر من أي زمن مضى إلى الاتحاد على منهج الكتاب والسنة، حتى تتلقى الجهود في ميدان واحد، نحو الهدف السامي الذي يسعى إليه كل مسلم، لقيادة سفينة الأمة إلى بر الأمان، وشاطئ السلام، بعيداً عن كل ما يُعكِّر صفو ورودها، وإن كل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام في خدمة دينه وعقيدته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بحسب مكانه ومسئوليته، فأروا الله -أيها المسلمون- من أنفسكم خيراً.
سيروا بخطى متوازنة، يتوجها العلم الشرعي الذي من خلاله يبنى الوعي الواقعي، لتأخذ هذه الأمة دورها القيادي، ومكانها الريادي من جديد في مقدمة الركب، ولتقود البشرية الحيرى مرة أخرى إلى مواطن العز والشرف، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الحبيب المصطفى والرسول المجتبى، صاحب الحوض المورود واللواء المعقود والمقام المحمود.
من بلغ العلا لجلاله سطع الدجى لجماله |
حسنت جميع خصاله صلوا عليه وآله |
صلوا عليه صلاة متبع له، محب له، مقتفٍ آثاره، متمسك بسنته، فلا إطراء ولا جفاء، كما أمركم بذلك ربكم جلَّ وعلا، فقال تعالى قولاً كريماً في محكم التنزيل، وصدق القيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلَّ على نبينا محمد ما ذكره الذاكرون، وصلَّ عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، اللهم أحينا على محبته، وأمتنا على ملته، وثبتنا على سنته، وأكرمنا بشفاعته، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأنلنا شرف صحبته في عليين، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا.
اللهم وفقه لما تُحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه ونائبه إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك والمستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان .
إلهنا عز جارك، وجلَّ ثناؤك، وتقدَّست أسماؤك، نسألك يا من لا يخلف وعدك، ولا يهزم جندك، أن تنصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في فلسطين على اليهود المعتدين، والصهاينة الغاصبين، اللهم إن اليهود قد طغوا وبغوا وأرهبوا وأسرفوا في الطغيان وأفسدوا، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجزونك، اللهم شتت شملهم، وفرِّق جمعهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين!
اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم وفق أبناءنا وفتياتنا وطلابنا وطالباتنا، اللهم بلغهم فيما يرضيك آمالهم، وحقق في طاعتك رغائبهم، وأنجح مقاصدهم، واجعل النجاح والتوفيق حليفهم في الدنيا والآخرة.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر