أما بعــد:
أيها المسلمون! اتقوا الله -تبارك وتعالى- واشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة.
عباد الله: إن المتأمل في أحوال هذا الكون، يجد أنَّ من أعظم الدلائل على وحدانية الله، وأكبر الشواهد على ربوبيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، أنه جل وعلا يختار ما يشاء من الأشخاص والأمكنة، ويخص ما يريد من الأشياء والأزمنة، لمقاصد عُظمى تقوم عليها مصالح العباد، فلا شريك له سبحانه يختار كاختياره، ويدبر كتدبيره: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].
ومن ذلك اختياره -سبحانه- للملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، فاصطفى -سبحانه- الأنبياء من ولد آدم، واختار الرسل منهم اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام، ومن ذلك اختياره ولد إسماعيل من أجناس بني آدم، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة، ثم اختار من بني كنانة قريش، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم، واختار له أصحاباً هم أفضل الأمة بعده، واختار أمته وفضلها على سائر الأمم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
فلله القدرة النافذة، والحكمة البالغة فيما يخلق ويختار، وإن مما اختاره الله -عز وجل- لعباده من الأمكنة المباركة هذا البلد الحرام، خير الأماكن وأشرف البقاع على الإطلاق، اختاره الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل عرصاته مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من كل فجٍ عميق، فيدخلونه متواضعين متذللين متجردين عن لباس أهل الدنيا.
لقد كان الرجل في الجاهلية يلقى قاتل أبيه أو أخيه في البلد الحرام والشهر الحرام فلا يعرض له، كيف وقد امتن الله بذلك على الناس بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67] ويقول جل وعلا: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْء [القصص:57] بل لقد تعدَّى الأمر الإنسان إلى الحيوان والطير والنبات والزرع والشجر والمال والجماد، أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : {إن هذا البلد! حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُسفك فيه دم، ولا يُعضد فيه شوك، ولا يُنفَّر فيه صيد، ولا يختلى خلاه، ولا تلتقط لقطته إلا لمن عرّفها }.
ولقد كان النهج الأمني الذي شرعه الله في البيت الحرام سابقاً لكل محاولات البشر في إيجاد منطقة حرام يلقى فيها السلاح، ويأمن فيها المتخاصمون، وتُحقن فيها الدماء، ويجد كل مسلم فيها مأواه.
إن في هذا التعبير البليغ زيادةٌ في التحذير ومبالغة في التوكيد.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: [[لأن أُخطئ سبعين خطيئة بركبة، أحب إلي من أن أخطئ خطيئة واحدة في الحرم ]].
أيها المسلمون! حقاً لقد ظهر سر تفضيل هذا المكان المبارك في انجذاب أفئدة المسلمين وهوي قلوبهم، وانعطاف نفوسهم ومحبتهم له، يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً.
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا |
فلله كم لهذه البقعة المباركة من محب أنفق في حبها الأموال والأرواح، ورضي بمفارقة فلذات الأكباد، والأهل والأحباب والأوطان؟!
محاسنه هيولا كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال |
يحدوهم الشوق، ويحفزهم الأمل في مغفرة الله ورضوانه.
أيها المسلمون! يقول الله عز وجل: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ [المائدة:97] ويقول سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:96-97].
مكة المكرمة أفضل البقاع عند الله، وأحب البلاد إلى رسول الله، فقد أخرج الإمام أحمد في المسند والترمذي والنسائي وابن حبان ، عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بـالحزورة -موضع بـمكة - يقول: {والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منكِ ما خرجت }.
بـمكة نور يهز الشعور وينطق كل فتى أخرس |
يجاذب قلبي إليها الهوى ففي غيرها القلب لم يأنس |
وبيت العتيق لنا قبلة نُفدِيه بالنفس والأنفس |
لقد ظلت مكة عبر التاريخ، وعلى مر القرون بناءً شامخاً، وصرحاً منيعاً، تتهاوى الدول، وتتساقط كأوراق الخريف، وتحفظ مكة بحفظ الله، رمزاً للإيمان والأخوة، وموئلاً للعقيدة، ومصدراً للدعوة، ومركزاً لأعظم حضارة إسلامية انبثقت من تلك البقاع، حتى غيَّرت مجرى التاريخ، وهزَّت كيان العالم، وزلزلت كيان الوثنية ، وحطَّمت عروش الجاهلية.
الله أكبر! بـمكة عبق الذكريات الخالدة، وشذا البطولات الماجدة.
مكة المكرمة مركز العالم وواسطة الدنيا، وقطب الرحى في كيان هذه الأمة، اسألوا عن ذلك التاريخ من عهد آدم عليه السلام إلى إبراهيم حيث بناء البيت، وحيث المقام والحطيم وزمزم وهاجر وإسماعيل، إلى هود وصالح وموسى وعيسى عليهم السلام، إلى محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه، يصدع بدعوة التوحيد في تلك الربى والبقاع، إلى أن يعود إليها فاتحاً مظفراً، إلى الصحابة الكرام والفاتحين العظام، حتى هيأ الله لهذه البقاع المباركة تلك الدولة المباركة، ترعى شئون الحرمين وتوليهما العناية والاهتمام، أخلص الله أعمالها، وسدد أقوالها وأفعالها، وجعل ما تقدمه في موازينها، وليمت الحاسدون بحسدهم، والغائظون بغيظهم: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119].
هل من الأدب! وحسن الجوار أن تضيع الصلاة ويتساهل في الطاعات؟!
هل من الأدب اقتراف الذنوب من وقوع في الزنا أو تعامل بالربا أو تعاطٍ للمسكرات والمخدرات، وجلبها إلى أفضل البقاع؟!
هل من حسن الجوار: السباب والشتائم، والغيبة والنميمة والبهتان، والظلم والتعدي والغش والتزوير، أو إعلان المعازف ورضع الملاهي، أو التبرج والسفور والاختلاط المحرم، وما يفعله بعض السفهاء من قلة الحياء في حرم الله وأمنه؟!
هل من الأدب مع حرم الله أن يحول إلى جلب منشورات، أو يحول إلى مزايدات ومهاترات؟!
فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- وأحسنوا الأدب مع هذه البقاع الطاهرة.
فاتقوا الله -عباد الله- والتزموا -جميعاً- بالآداب الإسلامية، وعلينا -جميعاً- أن نحمد الله ونشكره على ما حبانا من نعمة هذه البقاع المباركة، وأن نرعى الأدب فيها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا التأدب بآداب الإسلام، وأن يرزقنا اتباع سنة سيد الأنام بمنه وكرمه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وعظِّموا المشاعر والشعائر ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30] واشكروه جل وعلا على ما حباكم من نعمة الأمن والطمأنينة، لا سيما في هذه البقاع الشريفة، والحرمات الآمنة المُنيفة، واعلموا أنكم كما تعيشون في الأمكنة المباركة، فإنكم تعيشون في الأزمنة المباركة، وهي أشهر الحج، والأشهر الحُرم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، فيجب عدم ظلم النفس بالوقوع في المعاصي في هذه الأزمنة والأمكنة المباركة.
ألا وإن من شُكر نعمة الله التحدث بما حبا الله هذه البلاد المباركة، حيث هيأ لهذين الحرمين الشريفين من الرجال الأفذاذ من يقومون برعايتهما وصيانتهما، من ولاة الأمر -وفقهم الله- الذين بذلوا ويبذلون قصار جهدهم في صيانة الحرمين الشريفين إعماراً وتطهيراً وتوسعة وصيانة، وصدقاً وإنصافاً للحق والتاريخ، إنه لم يشهد الحرمان الشريفان عناية ورعاية، وخدمةً للحجيج، كما حصل أو يحصل في هذه البلاد المباركة، نقولها حقاً لا نريد بها نفاقاً ولا مجاملة، وليمت الحاسدون بحسدهم، لا سيما والمسلمون يعيشون هذه الأيام فرحة كبرى بوضع اللبنة الأخيرة لمشروع توسعة المسجد النبوي الشريف، وهي أعظم توسعة عرفها التاريخ، فباسم المسلمين جميعاً، وباسم الحجاج والعمار والزوار، نرفع أكف الضراعة لمن كان خلف هذا العمل الإسلامي الجليل، أن يجزيهم الله خير الجزاء وأوفره، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالهم، وأن يزيدهم من الهدى والتوفيق بمنه وكرمه.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرسول المجتبى، والحبيب المصطفى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وأرض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وسلِّم الحجاج والمعتمرين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر