أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
ها نحن الليلة مع سورة الكهف المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، وتلاوتها:
قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:83-93].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات: قول ربنا جل ذكره: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، سبق أن علمنا -وزادنا الله علماً- أن المشركين في مكة بعثوا وفداً إلى اليهود بالمدينة يطلبون منهم بيان حقيقة هذا الرجل الذي يدعي النبوة، هل هو حقاً نبي ورسول؟ أعطونا علماً نأخذ به.
فقال علماء اليهود: سلوه عن ثلاث، فإن أجاب عنها فهو نبي ورسول، وإن لم يجب عنها أو لم يجب عن بعضها فليس هو بنبي ولا رسول، وروا رأيكم فيه، والأسئلة هي: سألوه عن الروح، ما حقيقة هذا الجوهر؟ فأجاب تعالى بقوله: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، وسألوه عن فتية كانوا في الزمن الأول، وكان لهم شأن، وهم أصحاب الكهف، وسألوه عن ذي القرنين الذي ملك الدنيا وحكم العالم، فأنزل الله سورة الكهف فبين فيها قصة أصحاب الكهف.
وها نحن الليلة مع قصة ذي القرنين عليه السلام، وذو القرنين نبي وملك، ودلائل الآيات واضحة في أنه نبي، ولا حاجة لنا إلى معرفة لماذا سمي بـذي القرنين؟ وإنما حسبنا أن يقول ربنا: ذِي الْقَرْنَيْنِ [الكهف:83]، وذو القرنين هو أحد أربعة رجال حكموا الدنيا، فاثنان مسلمان هما ذو القرنين وسليمان عليهما السلام، واثنان كافران وهما النمرود وبختنصر، والعالم لم يكن كما هو عليه اليوم، بل كان أقل بكثير من الآن.
يقول تعالى في الحديث عنه وفي بيان حاله مفصلاً: وَيَسْأَلُونَكَ [الكهف:83]، أي: يا رسولنا، عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ [الكهف:83]، لهم، سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83]، أي: سأقرأ عليكم منه قرآناً من كتاب ربنا عز وجل، ومن وحي الله عز وجل، لا بالرأي أو بالعقل.
وبداية هذا الذكر هو قوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84]، أي: في الكرة الأرضية، بمعنى: سادها وحكم أهلها في الشرق والغرب، وذلك بجهاده وعلمه وإيمانه وصلاحه ورجاله المؤمنين معه، ولاعجب في ذلك، فقد كادت بريطانيا أن تستعمر العالم كله.
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84]، من مكن له وأعانه؟ إنه الله عز وجل، وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84]، قالت العلماء: السبب هو العلم والمعرفة، فقد أعطاه الله علماً يتناول كل جزئيات الحياة، وكل ما يعلم شيئاً يزيد علماً آخر، قال تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:85]، فعلى سبيل المثال الذي اجتهد وبنا خيمة في استطاعته أن يجتهد ويبني قبة، وهكذا سبباً بعد سبب.
إِنَّا [الكهف:84]، أي: رب العزة والجلال، مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84]، أي: لـذي القرنين، وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84]، أي: من كل جزئيات الحياة.
وقد تقدم الحديث التفصيلي عن أصحاب الكهف في أول السورة، وهذا بدء الحديث المتضمن للإجابة عن الملك ذي القرنين عليه السلام، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ [الكهف:83]، أي: يا نبينا، عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ [الكهف:83]، قل للسائلين من مشركي قريش: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:83]، أي: سأقرأ عليكم من أمره وشأنه العظيم ذكراً وخبراً يحمل الموعظة والعلم والمعرفة.
وقوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف:84]، هذه بداية الحديث عنه، فأخبر تعالى أنه مكن له في الأرض بالملك والسلطان، وأعطاه من كل شيء يحتاج إليه في فتحه الأرض ونشر العدل والخير فيها سبباً يوصله إلى ذلك.
وقوله تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:85]، أي: حسب سنة الله في تكامل الأشياء، فمن صنع إبرة وتابع الأسباب التي توصل بها إلى صنع الإبرة، فإنه يصنع المسلة، وهكذا تابعه بين أسباب الغزو والفتح والسير في الأرض.
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف:86]، وهي على ساحل المحيط الأطلنطي، وكونها تغرب فيها هو بحسب رأي العين، وإلاّ فالشمس في السماء، والعين الحمئة، والمحيط إلى جانبها في الأرض، وقوله تعالى: وَوَجَدَ عِنْدَهَا [الكهف:86]، أي: عند تلك العين في ذلك الإقليم المغربي، قَوْمًا [الكهف:86]، أي: كافرين غير مسلمين، فأذن الله تعالى له في التحكم والتصرف فيهم، إذ يسر له أسباب الغلبة عليهم، وهو معنى قوله تعالى: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ [الكهف:86]، وقد يكون نبياً، ويكون قوله الله تعالى هذا له وحياً، وهو: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ [الكهف:86]، بالأسر والقتل، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا [الكهف:86]، وهذا بعد حربهم والتغلب عليهم.
فأجاب ذو القرنين ربه بما أخبر تعالى به: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ [الكهف:87]، أي: بالشرك والكفر، فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ [الكهف:87]، أي: بالقتل والأسر، ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ [الكهف:87]، أي: بعد موته، فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا [الكهف:87]، أي: فظيعاً أليمًا.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88]، أي: أسلم وحسن إسلامه، فَلَهُ جَزَاءً [الكهف:88]، أي: على إيمانه وصالح أعماله، الْحُسْنَى [الكهف:88]، أي: الجنة في الآخرة، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88]، أي: اليوم، فلا نغلظ له في القول، ولا نكلفه ما يشق عليه ويرهقه.
وقوله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:89]، أي: ما تحصل عليه من القوة في فتح المغرب استخدمه في مواصلة الغزو والفتح في المشرق.
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ [الكهف:90]، بدائيين لم تساعدهم الأرض التي يعيشون عليها على التحضر، فلذا هم لا يبنون الدور ولا يلبسون الثياب، ولكن يسكنون الكهوف والمغارات والسراديب، وهو ما دل عليه قوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا [الكهف:90]، أي: الشمس، سِتْرًا [الكهف:90].
وقوله تعالى: كَذَلِكَ [الكهف:91]، أي: القول الذي قلنا، والوصف الذي وصفنا لك من حال ذي القرنين، وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ [الكهف:91]، أي: من قوة وأسباب مادية وروحية، خُبْرًا [الكهف:91]، أي: علماً كاملاً.
وقوله تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ [الكهف:89]، أي: ذو القرنين، سَبَبًا [الكهف:89]، أي: واصل طريقه في الغزو والفتح.
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93]، وهما جبلان بأقصى الشمال الشرقي للأرض بنى ذو القرنين بينهما سداً عظيماً حال به دون غزو يأجوج ومأجوج للإقليم المجاور لهم، وهم القوم الذين قال تعالى عنهم: وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93]، فلا يفهمون ما يقال لهم ويخاطبون به إلاّ بشدة وبطء كبير ].
ثانياً: إتباع السبب السبب يصل به ذو الرأي والإرادة إلى تحقيق ما هو كالمعجزات.
ثالثاً: قول ذو القرنين: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ [الكهف:87] إلخ، يجب أن يكون مادة دستورية يحكم به الأفراد والجماعات؛ لصدقها وإجابيتها وموافقتها لحكم الله تعالى ورضاه، ومن الأسف أن يُعكس هذا القول السديد والحكم الرشيد فيصبح أهل الظلم مكرمين لدى الحكومات، وأهل الإيمان والاستقامة مهانين!!
رابعاً: بيان وجود أمم بدائية إلي عهد ما بعد ذي القرنين لا يلبسون ثياباً ولا يسكنون سوى الكهوف والمغارات، ويوجد في البلاد الكينية إلى الآن قبائل لا يرتدون الثياب، وإنما يضعون على فروجهم خيوطاً وسيوراً لا غير.
خامساً وأخيراً: تقرير أن هذا الملك الصالح قد ملك الأرض، فهو أحد أربعة حكموا الناس شرقاً وغرباً ].
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر