يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فما زلنا مع دروس الأصول، وقد تكلمنا عن تخصيص العام، وقلنا: إن الخاص هو: قصر العام، على بعض أفراده، وقلنا أيضاً أن المخصص على نوعين: تخصيص متصل، وتخصيص منفصل، والتخصيص المتصل على أربعة أقسام: الاستثناء، والشرط، والغاية، والصفة.
بعض العلماء اشترط ذلك وهم الجمهور.
وقال بعض العلماء: إذا فصل المستثنى عن المستثنى منه بكلام، فحكمه حكم غير المفصول، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم.
واستدلوا على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في فتح مكة: (إن هذا البلد حرمه الله، يوم خلق السماوات والأرض، لا يعضد شوكه، ولا يختلى خلاه، فقال
مثاله في الآيات والأحاديث: قال الله تعالى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5] فتخلية السبيل ليست على العموم، بل يشترط فيها التوبة مع إقامة الصلاة مع إيتاء الزكاة، أي: إخلاء السبيل معلق بشرطين: الأول: التوبة، الثاني: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
أيضاً: قول الله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، يعني: أن صوم رمضان على كل الأحياء، لكن ليس على العموم، وإنما يخصص منه مَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ ، فالمريض أو المسافر مرخص له أن يفطر.
والأحكام المتعلقة بالشرط هي نفس الأحكام المتعلقة بالاستثناء، فحكم جواب الشرط بعد جملة متعاطفة أنه يرجع إلى الجميع، على الخلاف الذي سبق في الاستثناء، والراجح أنها ترجع إلى الجميع.
أو يقول: أعط طلبة العلم المال، أي: أعط طلبة أي علم: علم الكمبيوتر، علم الهندسة، علم الطب، لكن لو قال: أعط طلبة العلم الشرعي المال، فإذاً: خصصت طلبة العلم الشرعي.
ومثل قول الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] ووجه الاستدلال أن الحج واجب على الناس المستطيع وغير المستطيع، ولكن الوصف جعله عاماً في الناس الموصوفين بالاستطاعة فقط.
وقال تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23] فهنا الربيبة: التي في حجر زوج الأم، فتحرم عليه، لكن هذه الزوجة التي تزوجها ولها ابنة هل لها وصف يقيدها أم لا؟ قالت الآية: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ [النساء:23] يعني: كل امرأة سواء دخلت بها أو لم تدخل بها إذا كان لها ابنة ربيبة فتحرم عليك هذه الربيبة، ثم جاء الوصف الذي قيد هذا العموم وهو قوله: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، فهذا يفيد على أنها ليست على العموم، بل تخرج بذلك التي لم يدخل بها، فإذا لم تدخل بها فالربيبة تحل لك.
مثاله: رجل عقد على هند، وهند لها ابنة تسمى: زينب، فحدثت بين الرجل وهند مشاجرة، فطلق هنداً، ونظر إلى زينب فأعجبته فأراد الزواج منها، نقول: يصح التزوج بزينب؛ لأن الربائب اللاتي في الحجور مخصصة بالدخول على الأمهات، وهنا لم يحصل الدخول بأم زينب.
أيضاً: قول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، ملك اليمين هي: الإماء، والأمة قد تكون مؤمنة وغير مؤمنة، وممكن تكون من أهل الكتاب وممكن تكون مشركة، فيقول الله تعالى: إن لم يكن معك مال تستطيع أن تتزوج الحرة المحصنة فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ، يعني: لك أن تتزوج أمة، لكن لا يكون ذلك إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يخشى على نفسه العنت.
الشرط الثاني: ألا يجد طولاً في نكاح المحصنات المؤمنات.
الشرط الثالث: أن تكون مؤمنة، وهذا الشرط ورد في قول الله تعالى: مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، إذاً: الوصف في الآية خصص المؤمنات من الفتيات دون غير المؤمنات.
وهناك بعض الأحكام تتعلق بالصفة منها: إذا تقدمت الصفة على متعدد، فهي وصف للجميع كما قلنا في الاستثناء والشرط، أما إذا توسطت المتعدد، فهي وصف لما تقدمها فقط.
مثال ذلك قال الله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، أي: أن الوجوب إلى المرافق، فما تحت المرفق واجب، أما العضد فليس بواجب.
إذاً: ما بعد الغاية ليس بواجب، وما قبل الغاية واجب، فثبت الحكم فيما قبل الغاية وينتفي فيما بعد الغاية.
مثال آخر: قال الله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ [البقرة:196] عام، ثم قال الله تعالى مبيناً لنا الغاية حتى نخصص بها: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، أي: لا تحلق رأسك أبداً وأنت في الحج، وإلا فعليك الدم والفدية إن حلقت أو قصرت، وهذا على العموم والإطلاق، وقد خصصه الله في غاية معينة فقال: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] أي: لك يوم النحر الأكبر أن تحلق رأسك.
وأيضاً يقال في مسألة الذين أحصروا، هل يحلق المحصر قبل أن يصل إلى المحل أم لا؟ نقول: هذا مقيد ومخصص للغاية: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ .
مثال آخر أيضاً: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ [البقرة:222] أي: لا يمكن لك أن تقرب الحائض، ثم خصص فقال: حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222] أي: حتى ينقطع الدم، وهذا خلاف فقهي بين العلماء، فالجمهور يرون: أنه لا يجوز أن يجامعها بعد انقطاع الدم حتى تغتسل، وأما الأحناف وهو ترجيح الألباني فيرون: أنه يمكن أن يأتيها قبل أن تغتسل إذا انقطع الدم، وهذا الكلام ضعيف مرجوح.
مثال آخر: قال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ [البقرة:187]، أي: تتم الصيام إلى نصف النهار، إلى آخر النهار، إلى الليل، إلى اليوم الثاني، هذا معنى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ ؛ لأن إتمام الصيام ليس له غاية، فقيده الله وخصصه بغاية فقال: إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187]، ويعرف الليل بسقوط حاجب الشمس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم)، فهذا أيضاً تقييد بالغاية، يعني: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
والمخصص المنفصل ستة أنواع: الكتاب والسنة، الإجماع، القياس، مفهوم المخالفة، مفهوم الموافقة.
مثال ذلك: قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] .
المطلقة التي طلقها زوجها على أنواع: مطلقة تحيض، ومطلقة لا تحيض وتسمى يائسة، وصغيرة لا تحيض، قال الله تعالى في النوع الثاني: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ [الطلاق:4]، أما المرأة التي تحيض فعدتها ثَلاثَةَ قُرُوءٍ والقرء فيه خلاف فقهي شديد بين العلماء؛ لأن القرء من الأضداد، فيأتي بمعنى الطهر، ويأتي بمعنى الحيض، فالمالكية والشافعية يرون أنه الطهر، ولغة القوة معهم، وشرعاً القوة مع الأحناف والحنابلة بأن القرء معناه الحيض، وهذا ورد في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاعتدي أقرائك) فجعل اللفظ المبين للقرء هو الحيض.
فقوله: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ يعني: ثلاث حيضات هي عدة المرأة، أما التي لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر بنص الآية.
فقوله: وَالْمُطَلَّقَاتُ [البقرة:228] هذا لفظ عام، وقد جاءت أدلة تخصص هذا اللفظ العام، فمثلاً: الحامل على الراجح من الأقوال أن عدتها تنقضي بوضع الحمل؛ لحديث سبيعة الأسلمية ، ولقوله تعالى: وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4] .
إذاً: المرأة الحامل تعتبر حكمها خاص من الحكم العام في المطلقات، وحكمها أنها إذا وضعت الحمل ولو بعد يوم من الطلاق لها أن تتزوج؛ لأن عدتها قد انقضت.
أيضاً: قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، أي: أن حكم المطلقة المعقود عليها قبل أن يدخل بها زوجها مخصوص من حكم المطلقات العام، ويمكن أن يعقد عليها آخر بعد ساعة.
إذاً: الحكم العام في المطلقات أن عدتهن ثلاثة قروء، لكن خصصنا من ذلك أولات الأحمال بأن يضعن حملهن، وأيضاً المعقود عليها قبل أن يدخل بها ليس لها عدة.
مثال آخر: قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4] ما الحكم هنا في الذي يقذف امرأة ويقول: هذه المرأة زانية؟ نقول: يجلد ثمانين جلدة، فهذا على العموم، لكن جاءنا دليل منفصل قد خصص الزوج من هذا العام، وهذا الدليل المنفصل هو قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ [النور:6] يعني: لا يجلد ثمانين جلدة، لكن يلاعن، فهذا أيضاً حكم مخصوص من قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور:4] يعني: إلا الزوج إذا قذف زوجته.
ودليل التخصيص جاء متأخراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـهلال بن أمية : (البينة أو حد في ظهرك) فنزل قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [النور:6] ، فخصص بذلك أزواجهم.
مثال آخر أيضاً: قال الله تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221] .
قوله: (المشركات) لفظ يعم المجوسية والهندوسية والروسية والنصرانية واليهودية، فكل هؤلاء مشركات، فالعموم يؤخذ من قوله تعالى: وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ [البقرة:221]، يعني: كل مشركة لا يجوز لك أن تنكحها، وهذا عام، ثم جاءنا دليل آخر منفصل خصص عموم النهي، وهو قوله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [المائدة:5]، فقوله: أوتوا الكتاب يعني: من اليهود والنصارى، فهنا خصص النصرانيات واليهوديات على أنهن من أهل الكتاب، والله جل وعلا بين لنا أن المحصنة من أهل الكتاب تحل لنا، فهذا أيضاً تخصيص لهذا العموم.
أما المالكية: فلا يرون بحال من الأحوال أن القرآن يخصص بسنة الآحاد إلا إذا كان عمل أهل المدينة يوافق خبر الآحاد.
وأروع الأمثلة التي أستحضرها الآن للمالكية: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير).
يقول الإمام مالك : إن هذا الحديث لا يخصص عموم قول الله تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ [البقرة:168] ويأتي إلى هذا الحديث ويقول: ما أدركنا أحداً من أهل المدينة يعمل به، ثم يقول: هذا حديث آحاد لا يخصص العموم.
إذاً: عنده أن كل موجود على الأرض حتى القطط وغيرها يحل أكلها.
أما القول الراجح: فهو قول الشافعية وقول الحنابلة بأن القرآن تخصصه السنة؛ لأن السنة والقرآن وحي من الله جل وعلا، فهما خرجا من مشكاة واحدة، فيصح تخصيص هذا بذاك، ويصح تخصيص الآخر بالأول، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، يعني: كل ما يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم من كتاب أو سنة يؤخذ، وقال الله تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] ، والتبيين من الكتاب ومن السنة، وأيضاً من الحديث القدسي، فهذا كله يدل على أنه خرج من مشكاة واحدة فيخصص.
مثال: قال تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11].
قوله: (أولادكم) اسم جنس مضاف وهو يفيد العموم، أي: يعم المسلم والكافر، والرقيق وغير الرقيق. لكن هذا العموم خص بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) فهذا فيه تخصيص من عموم الآية بأن الكافر لا يرث.
مثال آخر أيضاً: قال الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
ووجه الاستدلال أن جميع أنواع البيع حسب الآية حلال، ولكن هذا العموم خص من قبل السنة الآحادية بنحو: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيوع الغرر)، فبيوع الغرر مخصوصة من عموم حل البيع.
وأيضاً: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم)، فالذي يتبرع بالدم ويأخذ أجرة على ذلك حرام؛ لأن ثمن الدم مخصوص من قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ .
كذلك: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب) فهذا مخصوص من عموم الآية.
مثال آخر: قال الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة:3] فهذا عام في كل ميتة، لكن جاءنا حديث فخصص الآية، وهو (أحلت لنا ميتتان ودمان) وإن كان الحديث فيه ضعف لكن عضد بشواهد فارتقى إلى الحسن، فقوله: (أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فهما السمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال)، فهذا الحديث روي بسند صحيح عن ابن عمر موقوفاً، وله شواهد يرتقي بها المرفوع.
إذاً: هذا الحديث خصص عموم قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3] فيخص من الميتة الجراد والسمك، ومن الدم الكبد والطحال.
مثال آخر أيضاً: قال تعالى عن النساء: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء:24] قوله: (ما) من الأسماء المبهمة، فهي تعم كل ما وراء ذلك، فتعم كل النساء اللاتي لم يذكرن في التحريم في الآيات السابقة، لكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها) فهذا التخصيص من عموم قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24].
مثال آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء) أجمع أهل العلم: أن الماء إذا لاقته نجاسة فغيرت طعمه أو لونه أو ريحه، فإنه ينجس بذلك.
إذاً: فهذا تخصيص لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (في أربعين شاة شاة) يعني: سواء كانت سائمة أم كانت معلوفة، لكن لما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (وفي السائمة زكاة) فمفهوم المخالفة: أن غير السائمة ليس عليها زكاة، فهذا الحديث الثاني خصص العموم في الحديث الأول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر