الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، لا سيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرفا.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فقد انتهينا من الكلام في علو همة السلف ومن تبعهم من الخلف في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ونتكلم اليوم في علو همة السلف الصالح في طلب العلم.
العلم أشرف ما رغب فيه الراغب وأنفع ما كتبه واقتناه الكاتب، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لـكميل بن زياد : احفظ ما أقول لك، الناس ثلاثة: فعالم رباني، وعالم متعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.
العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، يعني العمل يزيده وينميه، والمال ينقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها باكتساب الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته وفنائه.
وصنيعة المال تزول بزوال صاحبه، مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
الحديث عن فضل العلم وما يناله طالبه من مزية وكرامة من الله سبحانه وتعالى هو حديث لا يكشف عن غامض، ولا يطرق السمع بجديد، وليس مقصودنا هنا: أن نتكلم في فضائل العلم أو في الحث على العلم، فذاك حديث كثر فيه الكلام والتصوير؛ إنما مقصودنا: لفت الأنظار إلى القوة العملية، وهي الوسيلة التي صعدت بعلمائنا فخدموا الدين ونشروا العلم.
يقول الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: تأملت عجباً وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله، يعني: أن الراحة لا تنال بالراحة، وإنما الراحة تنال على جسر من التعب، فكلما ازداد خطر الشيء وقيمته ووزنه كلما صعب الحصول عليه وتناوله.
يقول: فإن العلم لما كان أشرف الأشياء لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة.
لا شك أن العلم أشرف ما يحصل عليه الإنسان، وأشرف مأرب يتطلع إلى تحصيله، فبالتالي لا يمكن أن ينال إلا بأشد التعب والجهد والسهر والتكرار وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر؛ لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس، والهريسة في اصطلاح السلف ليست الهريسة بالمصطلح المصري، وهي هذه الحلويات، وإنما كانت الهريسة عبارة عن أكل فيه توابل كثيرة جداً. هذا معنى الهريسة عندهم.
فما استطاع هذا الطالب أبداً خلال سنوات طويلة أن يضحي بلحظة أو ساعة أو وقت من الدرس في سبيل أن يحصل هذه الشهوة! قبل ثلاث سنين أو أربع تفاجأت أن الشوارع خاوية، وكأنه فرض حضر التجول في المدينة، ثم دخلت المسجد لإلقاء درس تفسير القرآن فوجدت المسجد يكاد يكون خاوياً إلا من عدد قليل جداً من الأخوة، فظننت أنه حصل أمر خطير حتى تغيب طلبة العلم عن مجلس القرآن ومجلس الذكر، ثم علمت أن سبب ذلك مباراة كرة قدم دولية!
فحينما نقارن أحوالنا بأحوال السلف نعرف خطورة الوضع الذي نحن فيه، وبعدنا عن منهج السلف الذي ندعيه ونزعم الانتساب إليه.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله تعالى في العون عليه.
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وقد كان أهل العلم رحمهم الله تعالى يلاقون المصاعب والشدائد في تحصيلهم للعلم.
الإمام ابن هشام النحوي صاحب كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب وقطر الندى وبل الصدى نصح طلبة العلم بالصبر على مشاق العلم والتحصيل، إذ هو شرط في نيل المراد العزيز الغالي، فيقول رحمه الله:
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلى يسيراً يعش دهراً طويلاً أخا ذل
فيقطع السفر ويصل الإنسان إلى البلد الذي يسافر إليه بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق، ونام الليل كله فمتى يصل إلى مقصده؟!
الجد بالجد والحرمان في الكسل فانصب تصب عن قريب غاية الأمل
فعليك يا طالب العلم أن تجد في التحصيل فإن الأمر كما قال ابن الجنيد : ما طلب أحد شيئاً بجد وصدق إلا ناله، فإن لم ينله كله نال بعضه، فعلى طالب العلم أن يحرص على علو الهمة في طلب العلم.
من خصائص استشعار طالب العلم العالي الهمة: الغيرة على الوقت، فإنه يغار على الوقت، ويمكن أن يضحي بالمال لكن لا يضحي بوقته، ولا يجلس إلا إلى من يستفيد منه، أما جلسات الأنس والسمر والمزاح واللعب واللهو فلا يعرفها طالب العلم الكبير الهمة.
فأبرز خصائص طالب العلم الجاد في طلبه أن يغار على وقته أن يضيع في غير ما يقربه إلى الله، ويحصل فيه العلم، وعنده بجانب الغيرة على الوقت عزم يبلى الجديدان وهو صارم صقيل، أي: تمر الأيام ومع ذلك عزمه لا تنال منه الأيام ضعفاً أو فتوراً. إنما يظل كالصارم القاطع الصقيل.
وعنده حرص لا يشفي غليله إلا أن يغترف من موارد العلوم بأكواب طائحة، فطالب العلم شره ونهم، وشهيته منتبهة جداً وحريصة جداً على أن يغترف من العلم، يشرب من بحور العلم ولا يروى؛ لأنه يشتاق إلى المزيد، فلا يقنع بحد محدود، وغوص في البحث لا تحول بينه وبين نفائس العلوم وعورة المسلك، ولا طول مسافة الطريق، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ولا مهاترة، كيف لا وقد شغلت نفسه بالحق فأشغلها عن الباطل؟
فأعظم ما يعصم الإنسان من آفات اللسان واللغو والباطل أن يشتغل بالأمور الجادة؛ لأن الإنسان لا يقع في الغيبة والنميمة وهذه الآفات من الجدل والمراء والرياء وغير ذلك إلا نتيجة الفراغ، فإن هذه أعراض مرض الفراغ والبطالة، أما إذا بادر بشغل نفسه بالحق فإنها بذلك تنشغل عن الباطل.
كان حال سلف الأمة في طلب العلم ونشره والتصنيف فيه حالاً عجيبة استثمروا فيه أوقاتهم، وأفنوا شبابهم، فحصلوا ما يدهش العقول، ويبهر الألباب، ويستنهض الهمم، فهيا نطالع أحوالهم لنقتدي بهديهم، ونسير على سننهم.
يقول الشاعر:
وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني جنوناً فزدني من حديثك يا سعد
ويقول الآخر في نفس هذا المعنى وهو التشوق إلى مطالعة أحوال وسير السلف الصالح حتى تستنهض الهمم الراقدة:
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما سعادته فلا يورثك إياها إلا بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، وقد أحسن القائل في ذلك:
فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا
ما دام طلبك نفيساً لابد أن تبذل ثمناً نفيساً.
ومن أحب أن يخطب الحسناء فلابد أن يدفع لها المهر الذي تستحقه، فالحور لا تخطب بالنوم ولا بالكسل ولا بالتراخي وإنما تخطب بمهر هو الكد والجد والتعب والسهر.
يقول الشاعر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
ومن طمحت همته إلى الأمور العالية، فواجب عليه أن يشد على محبة الطرق الدينية وهي السعادة، وإن كان في ابتدائها لا تنفك عن ضرب من المشقة والكره والتأذي، وأنها متى أكرهت النفس عليها، وسيقت طائعة وكارهة إليها، وصبرت على لأوائها وشدتها؛ أفضت منها إلى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم، تجد كل لذة دونها لعب الصبي بالعصفور بالنسبة إلى لذات الملوك، فحينئذ حال صاحبها -يعني: الإنسان الذي يكد ويتعب في الدنيا في سبيل تحصيل مراتب ومنازل الآخرة، هو يجد في الدنيا التعب والمشقة والسهر وهجر الراحة والملذات، ثم إذا به حين يعاين الثمرة في الآخرة يكون حاله- كما قيل:
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب
فلما تلاقينا وعاينت حسنها فأيقنت أني إنما كنت ألعب
حينما يرى الثمن العظيم والجزاء الوفير الذي يلقاه في الآخرة ينظر إلى عبادته وجهاده في الدنيا أنه كان لعباً على حد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة.
فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر عليها إلا على جسر من المشقة، فلا تقطع مسافتها إلا في سفينة الجد والاجتهاد.
قال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير : لا ينال العلم براحة الجسم، وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
فيا واصل الحبيب ألا إليه بغير مشقة أبداً تروح
ولولا جهل الأكثرين بحلاوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف، يعني: لولا أن أغلب الناس في جهل بلذة العلم ولذة السعادة التي ينالها الإنسان في الحياة الدنيا لتقاتلوا عليها.
مالنا يشقى أحدنا ويكدح ويتعب في سبيل تحصيل هذه البواطل العالية، ولا نفعل ذلك للجنة؟
السبب أنها حفت وأحيطت بحجاب من المكاره، فغفل عنها أغلب الناس، وحرموا منها بحجاب من الجهل، ليختص الله لها من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم.
العلم الشريف هو صناعة القلب، وهو شغل القلب، فالعلم وظيفة تؤدى أساساً بالقلب، والقلب إذا حمل هم رفع رذيلة الجهل والتحلي بالعلم الشريف، فإن القلب ينشغل بذلك، ويكون هذا جل همه.
فما لم تتفرغ لصناعته وشغله لم تنلها، فلابد أن يتفرغ طالب العلم، ويوحد همه، ويجعل له وجهة واحدة، فالقلب لا ينشغل إلا بشيء واحد فقط كما قال تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4].
فالقلب لا يمكن أن يصرف همه إلى أكثر من وجهة، فإذا وجهت همة القلب إلى اللذات والشهوات انصرفت عن العلم، فلم يجد فيه همة تقوده إلى طلب العلم، ومن لم يغلب لذة إدراكه العلم وشهوة العلم على لذة جسمه وشهوة نفسه لن ينل درجة العلم أبداً.
فإذا صارت شهوته في العلم ولذته في إدراكه رجي له أن يكون من جملة أهله، وقد كان علماؤنا رحمهم الله تعالى يحرصون على العلم وطلب العلم حرصاً ليس له نظير، ونذكر أمثلة على ذلك:
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمير المؤمنين يقول: كنت أنا وجار لي من الأنصار وهو أوس بن خولي الأنصاري في بني أمية بن زيد -وهي من عوالي المدينة- وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك. يعني اتفقا على نوبات بالتبادل، يذهب هذا يوماً ليحصل العلم ثم يعود فيعلم أخاه، ثم يذهب الآخر وهكذا؛ وهذا من أجل ألا يفوته شيء من العلم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العلم فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يـابن عباس ! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟! قال: فتركت ذاك يعني: لم يفت عزمه ولم يبال بتثبيطه، فانصرف عنه ابن عباس مع صغر سنه رضي الله تعالى عنه، يقول: فتركت ذاك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل -يعني: في وقت القيلولة قبل صلاة الظهر، فيكره أن يوقظه من القيلولة- فأتوسد ردائي على بابه، فتسف الريح علي من التراب، فيخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما جاء بك؟! هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: لا أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث.
فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني.
ولما فتحت البلاد آثر ابن عباس من أجل العلم ظمأ الهواجر في دروب المدينة ومسالكها على الظلال الوارفة في بساتين الشام وسواد العراق وشطآن النيل ودجلة والفرات.
قال رضي الله عنه: لما فتحت المدائن أقبل الناس على الدنيا، وأقبلت على عمر رضي الله عنه. يعني: كي يتعلم منه ويستفيد من صحبته.
يقول الشاعر:
لكل بني الدنيا مراد ومقصد وإن مرادي صحة وفراغ
لأبلغ في علم الشريعة مبلغا يكون به لي للجنان بلاغ
وفي مثل هذا فلينافس أولو النهى وحسبي من الدنيا الغرور بلاغ
فما الفوز إلا في نعيم مؤبد به العيش رغد والشراب يساغ
يقول أيضاً ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن دأبه في طلب العلم: كنت آتي باب أبي بن كعب رضي الله عنه وهو نائم، فأقبل على بابه، ولو علم بمكاني لأحب أن يوقظ لي لمكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكني أكره أن أمله.
وقال أيضاً ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كنت ألزم الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نزل في القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحداً إلا سر بإتياني لقربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أبي بن كعب يوماً وكان من الراسخين في العلم عما نزل من القرآن في المدينة فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة، وسائرها بمكة.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين.
وقال أيضاً: لما ختمت القرآن دخلت المسجد فكنت أجالس العلماء، وكنت أسمع المسألة فأحفظها، ولم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به قراطيس -يعني: أوراق- فكنت إذا رأيت عظماً يلوح آخذه فأكتب فيه، فإذا امتلأ طرحته في جرة كانت لنا قديماً. يعني يجمع فيها هذه العظام التي كتب فيها العلم.
والإمام الشافعي نشأ يتيماً فقيراً رحمه الله، يقول عن نفسه: لم يكن لي مال، وكنت أطلب العلم في الحداثة -يعني: في مستهل العمر، وكانت سن الإمام أقل من ثلاثة عشرة سنة- وكنت أذهب إلى الديوان استوهب الظهور -يعني: أسألهم أن يهبوني ظهور الأوراق المكتوب عليه؛ لأن ظهورها يكون خالياً- فأكتب فيها!
وقال ابن أبي حاتم : سمعت المزني يقول: قيل للشافعي : كيف شهوتك في العلم؟ قال: أسمع بالحرف -يعني: الكلمة- مما لم أسمعه فتور أعضائي أن لها أسماعاً تتنعم به ما تنعمت به الأذنان.
وقيل له: كيف حرصك على العلم؟ قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال. الجموع الممنوع هو الذي يجتهد في جمع المال من كل حدب وصوب، ثم يبخل به، فتكون شدة حب هذا الرجل للمال وشدة حرصه عليه كبيرة جداً، فلما سئل عن حرصه على العلم قال: حرص الجموع المنوع في بلوغ لذته للمال، فقيل له: فكيف طلبك له؟ قال الشافعي : طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره.
تخيل امرأة ليس لها سوى ولد واحد، فضل ولدها، فكيف ستجتهد في البحث عنه، ونشدان هذه الضالة؟!
يقول: هذا هو طلبي للعلم.
محمد بن سلام شيخ من شيوخ الإمام البخاري رحمه الله تعالى، كان في حال الطلب جالساً في مجلس الإملاء، فانكسر قلمه، فأمر أن ينادى: قلم بدينار فتطايرت إليه الأقلام. فهو لا يضحي بلحظة واحدة، حتى لا يفوته فيها سماع حرف من الحديث أو كلمة أو جملة، ويعتبر هذه مصيبة لا يعوضها مال الدنيا، فأراد أن يغري الذين يسمعونه فرفع سعر القلم إلى ثمن كبير جداً، فقال: قلم بدينار، فتطايرت إليه الأقلام من كل صوب. وذلك كي لا يفوته شيء من مما يمليه الشيخ.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف .
تلقى الإمام أحمد الحديث ببغداد من سنة تسع وسبعين ومائة إلى ستة وثمانين ومائة، ولزم عالماً كبيراً من علماء الحديث والآثار ببغداد لمدة أربع سنوات وهو هشيم بن بشير بن أبي حازم الواسطي المتوفى سنة ثلاث وثمانين ومائة.
وسمع الإمام أحمد أيضاً من عبد الرحمن بن مهدي وأبي بكر بن عياش ، وكان في طلبه للعلم مثال الجد والحرص والنشاط.
يحكي الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن طلبه العلم وهو طفل صغير جداً، فيقول: ربما أردت البكور في الحديث، أي: كان أحياناً يريد التبكير في الخروج في طلب العلم؛ لأن المعلوم أن البركة في البكور، فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها)، وهو الوقت الذي بعد صلاة الفجر، فكان يخرج قبل أذان الفجر حتى يلتمس الحديث، يقول: كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي حتى يصبح الناس. وقال: لو كان عندي خمسون درهماً لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد .
قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: لما أردت أن أطلب العلم قلت: يا رب! إنه لابد لي من معيشة، ورأيت العلم يدرس -أي: ينسى ويهجر- فكنت أفرغ نفسي لطلبه، وسألت ربي الكفاية.
وعزم على طلب العلم فتكفلت والدته. الإنفاق عليه وقالت: اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي فأخذ يتلقى العلم عن شيوخه المتعددين، وعن كل من يحمل علماً أو خبراً، وكان سفيان الثوري كثير الاهتمام بطلب العلم، وذكر أبو نعيم : أن سفيان الثوري كان إذا لقي شيخاً كبير السن سأله: هل سمعت من العلم شيئاً؟ فإن قال: لا، رد عليه وقال: لا جزاك الله عن الإسلام خيراً.
ومن مظاهر اهتمامه بالعلم أنه كان يقول: ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث فإنه مسئول عن تعليم ولده.
ولم يكن اهتمام سفيان للعلم مقصوراً على طلبه، بل كان يعمل به، ويحرص على إشاعته بين الناس، والدعوة إليه، روى ابن معين عنه أنه كان يقول: ليس عمل بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وكان يقول: لا نزال نتعلم العلم ما وجدنا من يعلمنا.
قال ثعلب : ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغة ولا نحو خمسين سنة!
ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة أبي حاتم الرازي محمد بن إدريس المتوفى سنة سبعة وسبعين ومائتين أن أبا حاتم قال: قال لي أبو زرعة الرازي : ما رأيت أحرص على طلب الحديث منك، فقلت له: إن ابني عبد الرحمن لحريص، فقال: من أشبه أباه فما ظلم.
قال الرقام -وهو أحمد بن علي أحد رجال إسناد الخبر-: فسألت عبد الرحمن عن اتفاق كثرة السماع له وسؤالاته لأبيه، فقال: ربما كان يأكل وأقرأ عليه -كان يغتنم اقترابه من أبيه في البيت، فكان يأكل أبوه ويقرأ عليه-ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه.
يعني كان يغتنم الفرصة إلى أقصى حد ممكن، فكانت ثمرة تلك المحافظ على الزمن والحرص على طلب العلم نتاجاً علمياً كبيراً، هو كتاب الجرح والتعديل في تسعة مجلدات، وهو من الكتب النفيسة الحافلة الرائدة في هذا العلم، ومنها أيضاً كتاب التفسير في عدة مجلدات، وكتاب المسند في ألف جزء.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى: قال علي بن أحمد الخوارزمي : قال ابن أبي حاتم : كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة -يعني: ما ذاقوا طبيخاً- نهارنا ندور على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل.
فذهبت أنا ورفيق لي إلى شيخ فقالوا: هو عليل، فرجعنا فرأينا سمكة أعجبتنا، فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت أن تنتن، فأكلناها نيئة، ولم نتفرغ لشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
يقول الشاعر:
لولا ثلاث قد شغفت بحبها ما عفت في حوض المنية موردي
وهي الرواية للحديث وكتبه والفقه فيه وذاك حسب المهتدي
الإمام سليم بن أيوب الرازي أحد كبار أئمة المذهب الشافعي المتوفى سنة سبع وأربعين وأربعمائة، كان يحاسب نفسه على الأنفاس أن تضيع دون إفادة أو استفادة، قال أبو الفرج غيث بن علي التنوخي الصوري : وحدثت عنه أنه كان يحاسب نفسه على الأنفاس. أي: يحاسب نفسه على الأنفاس، يعني: اللحظة التي يستهلكها النفس كان يضن بها ويبخل بها ويحاسب نفسه على هذه الأنفاس، قال: ولا يدع وقتاً يمضي عليه بغير فائدة، إما ينسخ أو يدرس أو يقرأ وينسخ شيئاً كثيراً.
ولقد حدثني عنه شيخنا أبو الفرج الإسفراييني وهو من تلامذته: أنه نزل يوماً إلى داره ورجع، فقال: قد قرأت جزءاً في طريقي، يعني: فرغ من كتاب أو جزء منه أثناء ذهابه إلى البيت ورجوعه.
قال: وحدثني المؤمل بن الحسن أنه رأى سليماً حفي عليه القلم -يعني: رق ولم يعد صالحاً للكتابة- فإلى أن قطه جعل يحرك شفتيه. أي: يذكر الله في هذه اللحظات، فحركة اليد حركة ميكانيكية، يمكن أن يجتمع معها النشاط الذهني، فكان يقرأ وقت إصلاح القلم لئلا يمضي عليه وقت بلا فائدة.
وصف ابن ناصر الحافظ أبا الطاهر السلفي رحمه الله تعالى في طلب العلم وفي تحصيل العلم بكلمة واحدة فقط فقال في وصفه: كأنه شعلة نار في التحصيل، كأنه شعلة نار في التحصيل.
وكان الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله تعالى يقول: أثقل الساعات علي ساعة آكل فيها، لماذا؟ لأنه يضطر إلى هجر العلم.
وكان عثمان الباقلاوي دائم الذكر لله تبارك وتعالى، فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج لأجل اشتغالي بالأكل عن الذكر، فكان يجلس يكتب الحديث وتأتي أخته تلقمه إلى فمه؛ لأنه ما عنده وقت ليتناول الطعام بيديه.
فهل كان عندهم وقت مثلنا للمجلس أمام التلفزيون حتى لو كان ما يشاهد مباحاً بغض النظر عن الفساد الذي فيه والتبرج والموسيقى وغير ذلك.
يقول عبيد بن يعيش : أقمت ثلاثين سنة ما أكلت بيدي بالليل، كانت أختي تلقمني وأنا أكتب الحديث، وكان داود الطائي يستف الفتيت، وهو بقايا الخبز وفتاته، فما كان يأكل لقمة الخبز الكبيرة، وإنما كان يستف الفتيت، يضعه في يده ويتناوله بلسانه، يقول: بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية. يقارن بين الوقت الذي يستغرقه إذا تناول الفتيت، والوقت الذي يأخذه إذا أكل خبزاً ويقطعه ويمضغه جيداً، فوجد أن بينهما قدر قراءة خمسين آية، فيقول: أنا أكسب الخمسين آية وأوفر هذا الوقت، فكان يستف الفتيت.
قال الإمام الجليل ابن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى: وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي. ابن عقيل له كتاب مشهور جداً اسمه الفنون، بعضهم يقول: هو في سبعمائة مجلد.
يقول: وأنا أقصر بغاية جهدي وقت أكلي حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ. يعني إذا استف الكعك فإن وقت بلعه سريع، بينما الخبز إذا مضغه فإنه يأخذ وقتاً أطول، فيتحسى الكعك، ويشرب الماء بعده مباشرة؛ توفراً على مطالعة أو تسطير فائدة لم أدركها.
ذكروا لـشعبة حديثاً روي عن شيخ، وهذا الشيخ توفي فلم يسمعه منه مباشرة، فلما ذكر له هذا الحديث وهو لم يسمعه من هذا الشيخ جعل شعبة رحمه الله تعالى يتحسر ويقول: واحزناه، واحزناه، واحزناه.
يقول شعبة : إني لأذكر الحديث يفوتي فأمرض، يحاول أن يستذكر الحديث فإذا ما تذكره يصيبه المرض من شدة الحزن على ذلك.
قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمار، وبكور كبكور الغراب.
وكان من حرصهم على العلم ومجالسه أنك تجدهم يعدون في الطرقات كأنهم مجانين؛ حتى يوفر الوقت، يقول شعبة رحمه الله تعالى: ما رأيت أحداً قط يعدو إلا قلت: مجنون أو صاحب حديث. إما مجنون لا يبالي بأن يعدو في الطريق، أو صاحب حديث تأكله الغيرة على الوقت، فيجري بسرعة حتى يوفر الوقت.
يقول الحافظ أبو إسماعيل الهروي الأنصاري رحمه الله تعالى: المحدث يجب أن يكون سريع المشي، سريع الكتابة، سريع القراءة.
وبعض العلماء قال: يمكن أن يزاد سريع الأكل، قال سحنون : لا يصلح العلم لمن يأكل حتى يشبع.
وقال الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى:
حدثنا شيخنا الكناني عن أبه صاحب الخطابة
أسرع أخا العلم في ثلاث الأكل والمشي والكتابة
العلامة الكبير أبو المعالي محمود شكري الألوسي البغدادي الحكيم رحمه الله تعالى عالم كبير من علماء المنهج السلفي الذين نافحوا عنه أشد المنافحة، وانتصر له أعظم انتصار في كتاب مشهور اسمه: غاية الأماني في الرد على النبهاني .
كان يمتاز بالجد الشديد، والحرص على الوقت، فكان لا يؤخره عن دروسه حمارة القر، ولا قرس برد الشتاء، وكثيراً ما تعرض تلاميذه بسبب تأخرهم عن موعد الدرس إلى النقد والتعنيف، يقول عنه تلميذه العلامة الجليل السلفي الشيخ بهجت الأثري رحمه الله تعالى: أذكر أنني انقطعت عن حضور درسه في يوم مزعج شديد الريح، غزير المطر، كثير الوحل، ظناً مني أن الشيخ لن يحضر إلى الدرس، فلما حضرت في اليوم الثاني إلى الدرس صار ينشد بلهجة غضبان يعاتبه: ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد. يعاتبه بذلك.
العلامة القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى من نوادر النابغين والعباقرة في هذا الزمان، قال عنه بعض الأخوة: هذا الرجل قذيفة قذفت من القرون الأولى واستقرت في القرن الرابع عشر الهجري رحمه الله تعالى. فقد كان يشبه علماء السلف في أحواله، وفي علمه، وفي ملكته.
ذكر العلامة القرآني رحمه الله تعالى عن نفسه أنه قدم على بعض المشايخ ليدرس عليه، وقد كان الشيخ الشنقيطي صبياً صغيراً، كان صبياً صغيراً، ونظام طلب العلم في شنقيط وهي موريتانيا أن الشيخ ينزل في مكان في الصحراء، ويتخذ خيمة هناك، ثم يأتي الطلبة إليه، ويضربون الخيام حول خيمته، ويتفرغون تماماً للعلم الذي سيتلقونه من هذا الشيخ، فإذا فرغوا منه انتقلوا إلى غيره في الصحراء.
فذهب وهو طفل صغير إلى الشيخ ليدرس عليه كتاب لامية الأفعال، وأولها: الحمد لله لا أبغي به بدلاً.
فلما قدم الشنقيطي وهو طفل صغير على الشيخ ونزل عليه لم يكن الشيخ يعرفه من قبل، فأمام ملأ من التلامذة سألة: من أنت؟ فقال مرتجلاً:
هذا فتى من بني جاكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا
رمت به همة علياء نحوكم إذ شام برق علو نوره اشتعلا
فجاء يرجو ركاماً من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا
إذ ضاق ذرعاً بجهل النحو ثم أبى ألا يميز شكل العين من فعلا
وقد أتى اليوم صباً مولعاً كلفًا للحمد لله لا أبغي به بدلا
فارتجل هذه الأبيات بمجرد أن سأله الشيخ من أنت؟!
مضى رحمه الله تعالى في طلب العلم قدماً، وقد ألزمه بعض مشايخه بالقران، أي: أن يقرن بين فنين؛ لأنهم كانوا يهتمون جداً بتخصص الطالب وتركيزه على علم واحد حتى يتقنه ثم يتحول إلى علم آخر، لكن الشنقيطي بالذات نصحه بعض مشايخه لما رأى فيه النجابة والذكاء والعبقرية أن يقرن بين علمين؛ لأن طاقته وقدرته تؤهله لذلك؛ كي يسرع في تحصيل العلم، فقد تفرس فيه القدرة على ذلك، فانصرف بهمة عالية في الدرس والتحصيل رحمه الله تعالى.
حتى أن بعض مشايخه لما رأى عليه أمارة النجابة والعبقرية قال له: يا بني! إن العلماء يذهبون إلى أن من أنس من نفسه أمارات الذكاء والنباهة والنبوغ فإنه يتعين عليه طلب الإمامة في الدين. يعني: يجب عليه أن يجتهد في طلب العلم حتى يصير إماماً.
قال رحمه الله تعالى في كتابه رحلة الحج: ومما قلت في شأن طلب العلم، وقد كنت في زمن الاشتغال بطلب العلم دائم الاشتغال به عن التزويج؛ لأنه ربما عاق عنه، فلما طال اشتغالي بطلب العلم قال لي بعض الأصدقاء: إما أن تتزوج الآن من تصلح لك، وإلا تزوجت عنك ذوات الحسب والجمال ولن تجد من تصلح لمثلك، يريد أن يثنيني عن طلب العلم، فقلت في ذلك هذه الأبيات:
دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجت بيض الملاح
فقالوا لي تزوج ذات دل خلوب اللخط جائلة الوشاح
ضحوكاً عن مبصرة رقاق تمج الراح بالماء القراح
كأن لحاظها رشقات نبل تذيق القلب آلام الجراح
ولا عجب إذا كانت لحاظ بيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلت كمياً ذابلات ضعيفات الجفون بلا سلاح
فقلت لهم دعوني إن قلبي من الغي الصراح اليوم صاح
ولي شغل بأبكار عذارى كأن وجوهها غرر الصباح
يقصد الكتب والمسائل العلمية.
أراها في المهارق لابسات براقع من معاينها الصحاح
أبيت مفكراً فيها فتضحى لفهم الفدم خافضة الجناح
أبحت حريمها جبراً عليها وما كان الحريم بمستباح
هذه إشارة عابرة عن مظاهر علو همة السلف الصالح رحمهم الله تعالى في طلب العلم، وشدة حرصهم على طلب العلم.
عن عبد الرحمن بن تيمية قال عن أبيه: كان الجد إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك حتى أسمعك.
حتى هذا الوقت داخل الخلاء حتى لا يكون وقتاً ضائعاً يجعل ابنه يقف في الخارج ويقرأ في الكتاب ويرفع صوته حتى يستفيد؛ لأنه لا يستطيع النظر في الكتاب في الخلاء.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر