ينعقد بمعاطاة وبإيجاب وقبول بسبعة شروط: الرضا منهما، وكون عاقد جائز التصرف، وكون مبيع مالاً وهو ما فيه منفعة مباحة، وكونه مملوكاً لبائعه أو مأذوناً له فيه، وكونه مقدوراً على تسليمه، وكونه معلوماً لهما برؤية أو صفة تكفي في السلم، وكون ثمن معلوماً، فلا يصح بما ينقطع به السعر، وإن باع مشاعاً بينه وبين غيره أو عبده وعبد غيره بغير إذن، أو عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً صفقة واحدة صح في نصيبه وعبده والخل بقسطه، ولمشتر الخيار.
ولا يصح بلا حاجة بيع ولا شراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني، وتصح سائر العقود، ولا بيع عصير عنب لمتخذه خمراً، ولا سلاح في فتنة، ولا عبد مسلم لكافر لا يعتق عليه، وحرم ولم يصح بيعه على بيع أخيه، وشراؤه على شرائه، وسومه على سومه].
علماء هذه الأمة اعتنوا بالعلوم الشرعية وأولوها اهتمامهم، وبينوا أن الشرع الشريف شامل لكل ما يحتاج إليه من أمور الدين ومن أمور الدنيا، وأنه ليس خاصاً بالعبادات، بل يدخل في ذلك المعاملات، ويدخل في ذلك العقود، ويدخل في ذلك الجنايات وما أشبهها، فليس هناك شيء يحتاج إليه إلا والشرع الشريف قد بينه ووضحه.
ثم إن الأولين كانوا يجمعون علم العقائد مع علم الأحكام؛ وذلك لأن العقائد تعتبر هي أساس علم العبادات، ولا تصح العبادات إلا إذا صحت العقائد التي هي التوحيد القولي والتوحيد العلمي، كما فعل البخاري حيث قدم كتاب العلم وكتاب الإيمان قبل كتاب الأحكام من الطهارة وما بعدها، وكذلك فعل مسلم حيث قدم كتاب الإيمان، وكذلك ابن ماجة حيث قدم -أيضاً- كتاب الاعتقاد أو الإيمان.
ثم إن كثيراً من العلماء أفردوا كتاب العقائد والتوحيد، وجعلوه في كتب خاصة؛ وذلك لأهميته؛ ولأن الخلاف فيه قد يخرج من الملة، فألفوا فيه مؤلفات خاصة مثل كتاب السنة للإمام أحمد ، والسنة لابنه عبد الله ، والتوحيد لـابن خزيمة ، والتوحيد لـابن مندة ، والسنة لـابن أبي عاصم ، والسنة للخلال ، والإيمان لـابن أبي شيبة ، والإيمان لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، والإيمان لـابن مندة ، والشريعة للآجري .. وأشباهها.
ولما أفردوا كتب العقائد بقي من الشريعة نوعان: نوع سموه الأحكام، ونوع سموه الآداب، فأما الآداب فإنها آداب المسلم فيما يتعامل به مع إخوانه، وفيما يتعامل به مع جيرانه، وما أشبه ذلك، وهذا النوع مستحسن عقلاً، ووارد شرعاً، ومع ذلك فإن أهل الجاهلية كانوا يحبذون العمل به، ويمتدحون أهله؛ فلذلك أفرد هذا النوع في مؤلفات خاصة، مثل الأدب المفرد للإمام البخاري ، والآداب للبيهقي ، وأدب الدنيا والدين للماوردي ، والآداب الشرعية لـابن مفلح .. وما أشبهها، يتكلمون فيها عن الفضائل: كالصدق وحسن الخلق وما يتصل به، وأضداد ذلك كذم الكذب، وذم سوء الخلق، وكذلك مدح الكرم، وذم البخل، ومدح الأمانة وذم الخيانة، وما أشبه ذلك.
فمنهم من يكون معتمده الأحاديث كما فعل النووي في رياض الصالحين، وكذلك المنذري في الترغيب والترهيب، ومنهم من يتعدى للآثار والأشعار وما أشبهها كما فعل ابن حبان في روضة العقلاء، وكل هذا لا شك أنه علم مفيد، وأن التأدب به يفيد من تعلمه وتخلق به، ولكنه لا يضلل بتركه، ولا يخرج من الملة، وإن كان يمدح به في التزكية، ويقدح ضده في العدالة، وترد به الشهادة وما أشبه ذلك، فجعلوا هذا العلم خاصاً في مؤلفات خاصة، وأدرجه بعضهم في المؤلفات العامة، فـالبخاري جعل في صحيحه كتاب الأدب، وكذلك مسلم ، وكذلك أبو داود والترمذي ونحوهم، وأفرد هذا النوع بكتب خاصة، وما ذاك إلا لأهميته ولاختلاف الآراء فيه، وما بقي إلا الأحكام التي يتعلق بها الحكم من صحة أو فساد، وسموا هذا القسم بعلم الأحكام، أو بعلم الفقه، وهو ما ألف فيه في المذاهب الأربعة وغيرها، وأكثر العلماء من التأليف فيه في كل مذهب، وفي المذهب الحنبلي أول من ألف في الأبواب الخرقي صاحب المختصر، والمؤلفون قبله كانوا يعتمدون على أشياء خاصة، كالذين كتبوا مسائل الإمام أحمد ، حيث قسموها أو بوبوها، ولكنهم أضافوا إلى الأحكام غيرها.
ثم إنهم قسموها إلى أربعة أقسام على ترتيب أركان الإسلام، فبدءوا بالصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، هذا هو ترتيب أكثرهم، وأضاف كثير منهم الجهاد، وجعلوه ركناً سادساً، كما فعل ابن قدامة في المقنع ومن تبعه من بعده، فرتبوها على ترتيب أركان الإسلام، وبدءوا بالصلاة، إلا أنهم قدموا شرطها عليها وهو الطهارة؛ لأن الشرط يتقدم على المشروط، وانتهوا من الصلاة وما يتعلق بها، وألحقوا بها -أيضاً- الجنائز؛ لأن أهم ما يعمل في الجنائز الصلاة على الميت، فألحقوها بالصلاة، وبعد ذلك ذكروا الزكاة لأنها قرينة الصلاة في كتاب الله، وبعد ذلك ذكروا الصيام؛ فإنه جاء في حديث الأركان بعد الصلاة والزكاة؛ ولأنه فرض عين على كل مكلف، وبعد الانتهاء منه ذكروا كتاب الحج؛ وذلك لأنه من أركان الإسلام، وأخروه لأنه لا يجب في العمر إلا مرة، ولا يجب إلا على المستطيع، وبعد ذلك ذكروا الجهاد؛ لأن الصحيح أنه من فروض الكفاية، وإن كان قد يصل إلى فرض العين في بعض الأحوال.
ولما انتهوا من قسم العبادات بدءوا بالمعاملات؛ وذلك لأن أهم شيء يحتاجه الإنسان في حياته هو تحصيل القوت والغذاء الذي به قوام حياته، ومعلوم أن الإنسان لابد له من غذاء يتقوت به، وهو الأكل والشراب والكسوة ونحوها، وذلك يتوقف على تحصيل المال والكسب، وقد عرف أن أنواع المكاسب التي يكتسب منها المال كثيرة، فمنها الحرف اليدوية كالصناعات من حدادة ونجارة ونساجة وحياكة، ومثلها -أيضاً- الصناعات الجديدة، والصناعات الحديثة، كصناعة الأدوات والمكائن وما أشبهها، وما تحتاج إليه من هندسة ونحو ذلك، فهذه من أنواع المكاسب التي ينشغل بها خلق كثير، ومنها -أيضاً- الحرف اليدوية، مثل البناء والحفر والغرس والتكسب بمثل ذلك كخياطة وغسيل وما أشبه ذلك، هذه -أيضاً- من المكاسب التي يتكسب بها، وكذلك -أيضاً- تربية المواشي، والتكسب من ورائها، وكذلك غرس الأشجار واستثمارها، والتكسب من ثمارها أكلاً وتجارة وما أشبه ذلك، وكل هذه تعرف بالتجربة، ويحتاج في معرفتها إلى تعلم مبادئها، وليس لها أحكام من الأحكام التي يعرف بها حلها أو حرمتها، إلا الأشياء العامة من تحريم الغش فيها والخيانة والمخادعة وخلف الوعد وما أشبه ذلك.
ولا شك أن الكسب الحلال له تأثير في الغذاء، وتأثير في حسن الحياة وطيبها، وأن الكسب الحرام له -أيضاً- تأثير في العبادات والمعاملات؛ ولذلك ورد في الحديث: (لا يدخل الجنة لحم نبت على سحت) وفي رواية: (كل جسد نبت على سحت فالنار أولى به)، والسحت: هو الحرام الذي ذم الله اليهود به، قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42] أي: للحرام، وقال تعالى: وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [المائدة:62] ، وفسر أكلهم هذا بقوله في آية أخرى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161] فإن هذا من السحت.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أكل الحرام سبب لرد الدعاء في قوله: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) يعني: أنه لما تغذى بالحرام رد دعاؤه مع وجود الأسباب الكثيرة التي تكون سبباً في إجابة الدعاء؛ فلذلك يتأكد على المسلم أن يبتعد عن أكل الحرام، وأن يحرص على أكل الحلال، ولا شك أن له تأثيراً عجيباً في إجابة الدعاء.
ذكروا أنه قبل نحو سبعين أو ثمانين سنة كان رجل في بعض القرى القريبة مستجاب الدعوة، يأتي إليه المريض فينفث عليه، فيشفى بإذن الله، ويدعو له ويستجاب دعاؤه، ثم إنه استحضر إلى هذه البلاد، وخيف أنه يتعاطى سحراً أو نحو ذلك، فلما أحضر أخبر بأنه لا يأكل إلا حلالاً، وأن والده خلف له بستاناً من كسب يده، وأوصاه بأن لا يأكل إلا منه، وأنه توقف عليه، فهو ينفق عليه بجزء منه، ويتغذى بجزء منه، ويبيع بيعاً صحيحاً بعضه، ويشتري بما يبيعه منه حاجاته الأخرى الضرورية.
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً رأى سحابة وسمع صوتاً فيها يقول: اسق حديقة فلان، ثم إن تلك السحابة تقدمت قليلاً وأمطرت في شعب، فتابع سيره حتى وصل إلى حديقة وفيها رجل يصلح الماء، فسأله فإذا هو ذلك الرجل الذي سمع اسمه من السحابة، فأخبره بأنه يقسم إنتاجها ثلاثة أقسام: قسم يتصدق به، وقسم يأكله، وقسم يرده فيها ينفق به عليها)، فرحمه ربه بهذا العمل الحسن، وأرسل هذه السحابة لسقي حديقته.
وذكر لنا بعض مشايخنا أنه في بعض القرى تأخر المطر عن زمانه، وخيف على بعض الأشجار والثمار من الكساد والموت واليبس، ولم يقدروا على الاستسقاء إلا بأمر عام من الحكومة، ثم إن أحدهم استسقى وحده ومعه أولاده وأخوه، صلى ركعتين في صحراء قريبة من بستانه، ولما صلى ركعتين رفع يديه ودعا، وقلب رداءه أو كساءه، وقلب أهله أرديتهم، ولم يمكث إلا يوماً واحداً حتى جاءت سحابة وسقت بستانه حتى روي، ووصل الماء إلى جاره ولم يسق منها إلا خمس نخلات ثم وقف! فإجابة الدعوة من آثار الكسب الحلال.
ولا شك أنه كلما فشا الحرام وكثر تداوله كان ذلك من أسباب رد الدعاء وعدم الاستجابة، وهكذا -أيضاً- إذا فشت المعاصي وكثرت المخالفات.
والحاصل أن العلماء اهتموا في هذه الكتب بالكسب الحلال، فذكروا شروط البيع، والخيار، والربا والتحذير منه وأنواعه، وكذلك بقية المعاملات، إلى أن ذكروا أنواع المكاسب التي يحصل منها كسب المال، ومنها الفرائض والوصايا والعتق، وبنهاية العتق يكون قد انتهى قسم المعاملات التي فيها كسب المال بأي طريق من الطرق، وبعدما انتهوا من هذا القسم عرفوا أن المسلم إذا حصل على قوته، وعرف كيف يكسب المال، وعرف وجوه المكاسب المباحة، فلابد له بعد ذلك من أمر آخر، ألا وهو النكاح، فإنه -أيضاً- من الضروريات في هذه الحياة، وإن لم تكن الضرورة إليه مثل الضرورة إلى الغذاء الذي هو القوت، فهو ضروري في كل يوم مرة أو مرات، فلما انتهوا من المعاملات بدءوا بالقسم الثالث، وهو قسم النكاح، ويسمى: العقود والمعاقدات، وأدخلوا فيه الخلع والطلاق والإيلاء والظهار واللعان والعدد والنفقات؛ لأنها من تمامه، وإن كان لها تعلق بالقسم الثاني الذي هو المعاملات.
وبعدما انتهوا من هذا القسم فالعادة أن الإنسان إذا تمت عليه نعمة المأكل والمشرب والمسكن والملبس والمنكح؛ فلابد أن يكون عنده شيء من التعدي، فطبع الإنسان الأشر والبطر والاعتداء على الغير، فجعلوا بعد ذلك قسماً رابعاً هو خاتمة أقسام الفقه وهو قسم الجنايات، الذي هو الشجاج والقصاص والديات وما يتصل بها، وكذلك الحدود التي حددها الشرع عقوبة على المحرمات كحد الزنا، وحد السرقة... إلخ، وألحقوا بذلك -أيضاً- القضاء؛ لأنه لا يحتاج إليه إلا عند كثرة الجنايات وكثرة الخصومات، وختموا بالإقرار الذي يكون سبباً للحكم بما أقر به.
هذه هي أقسام الفقه، وهكذا قسم كتب الفقه فقهاء الحنابلة، لكن هناك كثير من المتقدمين والمتأخرين قدموا وأخروا في هذه الأقسام، ولكل اجتهاده.
وتعريفه: عقد أو معاملة لأخذ شيء من السلع بثمن معلوم، والعقد: هو المعاقدة بين المشتري والبائع، ولابد فيه من الصيغة التي يصح بها، وله صيغتان: صيغة قولية، وصيغة فعلية، فالقولية: هي الإيجاب والقبول، والفعلية: هي المعاطاة من البائع أو المشتري، والصيغة القولية أن يقول البائع: بعتك، ويقول المشتري: قبلت. مثلاً: يقول: بعتك الثوب بعشرة، فيقول المشتري: قبلته أو رضيت به. وهذه هي العادة، فلابد من إيجاب وقبول، ثم لابد أن يكون الإيجاب هو المتقدم، وقيل: يصح تقدم القبول، فإذا قال -مثلاً-: اشتريت الكتاب منك بعشرة، فقال: قد بعتك؛ صح ذلك ولو كان القبول متقدماً، وكذلك إذا قال: بعني هذا الكتاب بعشرة. فقال: خذه بها؛ صح ذلك.
واختلفوا في تأخير الإيجاب أو تأخير القبول، كأن يقول: بعتك الكتاب بعشرة. فسكت المشتري ساعة أو ساعتين، ثم قال: قبلت. والصحيح أنه يجوز ذلك وينعقد، وكذلك لو اشتغل بكلام أجنبي، كأن يقول: بعني هذا الكتاب بعشرة. فسكت البائع، ثم انتقل إلى كتاب آخر فقال: بعني هذا المصحف -مثلاً- بعشرين. ثم بعد ذلك قال: قد بعتك الأول بعشرة. فلا حاجة إلى أن يقول: قبلت؛ وذلك لأنه قد بدأ بسومه من قبل.
وصيغة المعاطاة فعلية، وهي: أن يمد إليه بالسلعة، ويمد الثمن إذا كان قد عرف ثمنها كما، لو كان مكتوباً على الكتاب ثمنه أو على الكيس ثمنه فمد الدراهم ولم يتكلم، وأخذها البائع ومد إليه بالسلعة ولم يتكلم واحد منهما؛ صح، وتسمى هذه صيغة فعلية، وتستعمل في الأشياء التي عرف ثمنها، فإذا أتيت إلى الخباز فإنك تدفع إليه ريالاً ويمد إليك بأربعة أرغفة عادة دون أن يتكلم واحد منكما، وهكذا -أيضاً- بقية المعاملات التي لا يحتاج فيها إلى مماكسة، وأثمانها معروفة، ومثلها الأجرة إذا كانت محددة، أجرة السيارة إلى مكان معين، فتسمى هذه معاطاة.
وكذلك -أيضاً- لو أكره المشتري على الشراء، فإن البيع باطل.
وكذلك الحشرات ليس فيها منفعة، فإذا كان فيها منفعة خاصة فإنه يجوز بيعها، مثل بيع النحل؛ لأنه يستخرج منه العسل، فيجوز بيعه ولو كان من الحشرات التي هي شبيهة بالذباب، ومثل بيع دود القز، فإن نسيجه ينتج منه الحرير، ونسجه مثل نسج العنكبوت إلا أنه أرق وألين، فيؤخذ هذا النسج وينسج منه ثياب لينة رفيعة الثمن، فيجوز بيع غزله، ويجوز بيع الدود نفسه، وأما بقية الحشرات فلا يجوز بيعها، وكذلك كل ما لا منفعة فيه.
ويجوز بيع ما فيه منفعة مباحة ولو كان حرام الأكل، مثل الحمار الأهلي، فمنفعته مباحة، والناس يحتاجون إليه للحمل عليه وركوبه عادة، وإن كان غير مأكول، فبيعه متعارف عليه.
ولا يجوز لك أن تبيع شاة غيرك، حتى لو جاء إنسان محتاج وسوف يدفع فيها ثمناً كبيراً فتقول: أبيعها لأجل المصلحة، لأجل هذه المصلحة التي ليس لها نظير، فلا يجوز ذلك، وما ذاك إلا لأنه في هذه الحال قد لا يرضى، وقد تكون حاجته إلى تلك الشاة أو ذلك الثوب أو ذلك الكيس أو ما أشبهه أشد، فالحفظ لهم أولى.
ولو اشتريت شاة ونويتها لزيد بدراهم عندك له، ثم قبلها زيد، أو كان عندك له دراهم، وعرفت بأنه بحاجة إلى شاة، ورأيت شاة مناسبة واشتريت تلك الشاة بدراهمه، فإن رضي فهي له، وإن سخط لزمتك أنت، ولا ترجع لصاحبها البائع، إلا إذا أخبرته وقلت: إني أشتريها لزيد، وقد لا يكون موافقاً؛ لأنه غائب وعندي له دراهم، فإذا لم يرضها في هذه الحالة فإن صاحبها يقبلها؛ لأنك أخبرته بأنك لا تشتريها لنفسك، وإنما هي لإنسان عندك له مال، وهو لم يرضَ.
أما إذا كان حاضراً، واشتريت له بماله، وأقرك، وانتهى العقد، وهو ساكت ويرى تصرفك، فالصحيح أنه يلزمه ذلك، وإذا تم البيع فليس له الرجوع، وليس لصاحبها أن يلزم.
وهذا يعتبر من الشروط المشهورة، وهو كون البائع مالكاً للعين أو وكيلاً في تلك العين مأذوناً له فيها.
وكذلك العبد الآبق -الهارب- لا يجوز بيعه؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
وهكذا بيع الطير في الهواء ولو ألِف الرجوع كالصقر والبازي والباشق التي تعلم لأجل الصيد بها، إن كان طائراً في الهواء فالعادة أنه لا يفهم، وإذا قيل له: ارجع، فلا يدري ولا يرجع، وإن كان أهله يشيرون إليه إشارات فينزل بها لهم، ولكن ليس ذلك مطرداً؛ لذلك لا يجوز بيع الطير في الهواء، وهكذا الطيور المأكولة، لو مر بك قطيع من الحمام في السماء فلا يجوز أن تقول: أبيعك يا فلان خمساً من هذه الحمام، سأرميها وأسقطها؛ لأن هذا ليس في إمكانك، وليست في ملكيتك، ولو كنت معتاداً أن تصيب إذا رميت، فلا يجوز بيعه وهو في الهواء.
وكذلك السمك في البحر، فالعادة أنه يكون بعيداً، وقد يهرب إذا نزل إليه أحد ليصيده، فلا يجوز بيعه وهو في هذه الحال، وهذه أمثلة.
المبيع لابد أن يكون مرئياً أو موصوفاً صفة توضحه، فالمرئي مثل الجمل تشاهده وتنظر إليه، ومثل الثوب تقلبه، ومثل القدر ترفعه وتنظر فيه، ومثل الكتاب تقلب ورقاته وتعرفه؛ فهذا بيعه صحيح بعد رؤيته وتقليبه، والغائب لابد من وصفه وصفاً دقيقاً لا يكون معه اختلاط.
وسيأتينا في باب السلم أنه لا يجوز السلم في الأشياء التي لا تنضبط بالوصف، كالتي تدخلها الصناعات اليدوية، فعلى هذا لابد أن يكون منضبط الصفة، مثل ثوب من صفته كذا وكذا، نوع القماش كذا وكذا، طوله كذا، عرضه كذا، شاة صفتها كذا، ولونها كذا، سمينة أو متوسطة أو هزيلة، وسنها كذا وكذا، وكذلك -مثلاً- فيما ينضبط بالصفة من الأحذية أو الكتب والرماح والسيوف والأقواس بأنواعها، والحبوب والثمار التي توصف وتنضبط بالصفات، كعشرين صاعاً من بر من نوع كذا وكذا، أو من تمر، ولا شك أن هذه تنضبط بالصفات.
وكذلك -أيضاً- العدد، بأن يقول: بعشرين، بثلاثين، بمائة.. وما أشبه ذلك، فلا يصح بما ينقطع به السعر، أي: بما تقف عليه السلع، كأن يقول: أنا جلبت هذه الأكياس، خذ منها عشرة بالسعر الذي أبيع به في السوق، وما ينقطع به السعر، وهذا فيه خلاف، ولعل الأقرب أنه جائز إذا كان السعر عادة معيناً، ومن منع من ذلك فهو مخافة أن يكون البيع مجهولاً، وأن يكون السعر في السوق متفاوتاً، فقد يبيع كيساً بمائة، وقد يبيع كيساً بتسعين، وقد يبيع آخر بمائة وعشرة، فلذلك لابد أن يحدد السعر.
وكذلك إذا بعت عبدك وعبد زيد، وهو عبد واحد مشترك بينكما فبعته، وشريكك لم يقبل، أو كانا عبدين، إنسان يريد أن يشتري عبدين فبعت عبدك وعبد زيد صفقة واحدة بعشرة آلاف مثلاً، ثم امتنع صاحب العبد الآخر من بيعه؛ فإن المشتري له الخيار أن يأخذ عبدك أو أن يرد الجميع ويقول: لا أريد إلا الاثنين.
وكذا لو أخذ شاتين، شاة لك وشاة لزيد، وقال: لا أريد إلا اثنتين. فبعت شاتك وشاة زيد ولم يرض زيد، فإن البيع يصح في شاتك، ولا يصح في شاة زيد إلا برضاه، وإذا لم يرض فللمشتري الخيار.
وكذلك لو باع ما لا يحل مع ما يحل، فلو باع عبداً وحراً، أو خلاً وخمراً، فالحر لا يجوز بيعه، والخمر لا يجوز بيعه، فإذا باع بألف خلاً وخمراً صح في الخل؛ لأنه ينتفع به، وهو مباح، ولم يصح في الخمر، وللمشتري الخيار لو كان المشتري يعتقد أن كليهما خل، ولم يظن أن أحدهما خمر.
وكذلك لا يجوز بيع عبد مسلم على كافر إذا لم يعتق عليه، أما إذا عتق عليه كأبيه أو أخيه أو ابنه فيصح، فإذا أسلم عبد، وكان سيده مسلماً، فإنه لا يجوز أن يباع على كافر، إلا إذا كان الكافر ممن يعتقه إذا اشتراه؛ لأن العبد إذا اشتراه أبوه عتق، أو اشتراه ابنه عتق، أو اشتراه أخوه أو عمه أو خاله يعتق عليهم، فأما إذا كان لا يعتق عليه كابن عمه أو ابن خاله ونحوهم فلا يجوز بيعه عليه؛ وذلك لأن فيه إهانة للمسلم، قال الله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، وإذا تولى عليه وهو مسلم فلابد أنه يؤذيه، ولابد أنه يهينه ويمتحنه ويشق عليه.
ورد النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) ، وقال: (لا يبيع المسلم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه) ، وصورة ذلك: إذا رأيت جارك باع ثوباً بعشرة، وأشرت إلى المشتري وقلت: رده وأنا أبيعك مثله بتسعة. فيرده لأجل رخص الثمن، وكذلك لو رأيت جارك اشترى شاة أو ذهباً وباعه له البائع بمائة -مثلاً-، ثم إنك رغبت فيه، فأشرت إلى البائع وقلت له: استرجع شاتك أو ذهبك وأنا أشتريها منك بأكثر، أنا أدفع لك في الشاة مائتين أو مائة وخمسين، فحمله على ذلك استعادة تلك السلعة طمعاً في هذا الثمن الزائد الذي زدته عليه، ولا شك أن هذا فيه ضرر بالمسلم.
والعلة في تحريم ذلك أنه يسبب العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ لأنك إذا أفسدت عليه صفقة حقد عليك، فإنه قد باع هذا الثوب بعشرة بيعاً جازماً، ولما باعه أشرت إلى المشتري وقلت: أنا أعطيك مثله بتسعة. فقال: خذ ثوبك ورد علي دراهمي. ولا يدري ما السبب، فإذا عرف أن السبب كونك أنت جاره، ومع ذلك أفسدت عليه هذا المشتري أو هؤلاء المشترين حقد عليك.
وكذلك -أيضاً- الشراء على شرائه، كما لو جلب عليه سمن فاشتراه بمائة، وقبل أن يتفرقا قلت لصاحب السمن: استرجعه وأنا أعطيك مائة وعشرة. فاستعاده، فلا شك أن هذا يعتبر ضرراً؛ لأنه قد جزم على الشراء، وقد اشترى هذا السمن بمائة، فأنت أفسدت عليه العقد، وطلبته بمائة وزيادة، فتكون بذلك قد أبطلت عليه تجارته أو أغررت به.
فالحاصل: أن هذا ونحوه من جملة ما جاء الشرع بالمنع منه، وهذا من الأشياء التي فيها ضرر على الطرفين، والعلة في تحريم ذلك ما يسببه من العداوة والبغضاء والحقد بين المسلمين، وإثارة الشحناء، فيقول: فلان كلما اشتريت شيئاً لمز صاحبه، وزاد علي، أو اشتراه من صاحبه بعد أن اشتريته، وكلما بعت على أحد الزبائن أشار إليه واجتذبه إليه، فهو مضار بي، ويحرص على أن يفعل بي ما يضرني. ولا شك أن هذا مما جاءت الشريعة بالنهي عنه؛ حتى يكون المسلمون إخوة متحابين في الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر