إسلام ويب

عمدة الفقه - كتاب الحدود [9]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من تمام قيام مصالح الأمة أن يكون لها إمام يسوس أمور دينها ودنياها، ويجب عليها القيام بواجبها تجاهه، فلو خرج عليه أناس لهم منعة بتأويل سائغ فهؤلاء بغاة، فإذا آل الأمر إلى قتالهم وجب عليها معاونة الإمام في ذلك، فإذا قضوا عليهم فلا يقتل جريحهم ولا تسبى نساؤهم، وما أتلف حال قتال أهل البغي فلا ضمان فيه.

    1.   

    الخارجين على إمام المسلمين

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم زدنا علماً وعملاً وهدى وتقوى يا رب العالمين، وبعد:

    فقد قال المؤلف رحمه الله: [باب قتال أهل البغي: وهم الخارجون على الإمام يريدون إزالته عن منصبه، فعلى المسلمين معونة إمامهم في دفعهم بأسهل ما يندفعون به، فإن آل إلى قتالهم أو تلف مالهم فلا شيء على الدافع، وإن قتل الدافع كان شهيداً. ولا يتبع لهم مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية، ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه. ولا ضمان على أحد الفريقين فيما أتلف حال الحرب من نفس أو مال. وما أخذ البغاة حال امتناعهم من زكاة أو جزية أو خراج لم يعد عليهم ولا على الدافع إليهم، ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره].

    قول المؤلف رحمه الله: (باب قتال أهل البغي)، سموا بغاة؛ لأنهم جاروا ومالوا عن الحق، وظلموا وعدلوا عن الحق، والحق هنا هو الحق الأولي وإن كان معهم حق، ولكن حق السابق أولى من حقهم.

    وهذا يفيدك على أن البغاة يجوز إطلاقها على العلماء الذين خرجوا، فـسعيد بن جبير و الشعبي وثلاثون ألفاً أكثرهم من الفقهاء في فتنة ابن الأشعث حينما خرجوا على الحجاج وفازوا بالمعركة الأولى ثم علا صيتهم وارتفع شأنهم وكثر الخطباء في البصرة ومن حولها في نصرة الإمام ابن الأشعث كما يسمونه في خطبهم، ثم دارت معركة بينهم وبين الحجاج مرة ثانية ففازوا عليه، ثم طلب الحجاج من عبد الملك بن مروان أن يمده بجيش في المعركة الثالثة فاستطاع الحجاج أن يستولي عليهم، وقتل منهم صبراً يعني: بالسيف، وهو يأخذ الواحد منهم ويقتله حتى قتل مائة ألف رجل أكثرهم من الفقهاء والمحدثين، انظر الفتن إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء، وإذا أدبرت عرفها حتى الدهماء، وأصبحت فتنة عظيمة، فسموا بغاة؛ لأنهم خرجوا عن حق إمام سابق عليهم وهو عبد الملك بن مروان .

    وهل عبد الله بن الزبير يُعد من البغاة؟ ذكر ابن كثير رحمه الله أن عبد الله بن الزبير إنما بايعه أهل مكة قبل مبايعة الناس واستتباب الحكم لـيزيد بن معاوية فلا يعد خارجياً، يعني: خارجاً على السلطان.

    والحسين بن علي رضي الله عنه هل يُعد خارجياً أم لا؟ الأقرب والله أعلم أن الحسين لا يعد خارجاً؛ لأن المدينة التي بايع أهلها الحسين لم يكن الحكم لـيزيد فيها، وكان أمير الجيش عبيد الله بن زياد ، وهذا ذكره ابن الوزير في العواصم والقواصم، وأشار إليه ابن تيمية وكذا ابن كثير في البداية والنهاية.

    1.   

    أقسام الخارجين على إمام المسلمين

    القسم الأول: الخوارج

    والذين يخرجون على الإمام على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكونوا خرجوا بمعتقد فحاربوا على هذا المعتقد كالخوارج، فالخوارج سموا خوارج؛ لأنهم خرجوا عن معتقد أهل السنة والجماعة، فالخوارج يجب قتالهم، ولو يعلم أهل الإسلام ما لقتالهم لنكلوا عن العمل، ومعنى ذلك: أن الخوارج فتنتهم فتنة في الدين قبل أي فتنة في الدنيا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( علامتهم رجل في يديه كثديي أنثى )، فقال علي بن أبي طالب : هبوا لي هذا الرجل في المعركة، قالوا: ما وجدناه، قال: ما كذبت ولا كُذبت، فوجدوه مقتولاً بين القتلى، فهؤلاء هم الخوارج.

    والخوارج غير الخارج، فالخارج عن السلطان لا يلزم أن يكون من الخوارج، فالخوارج هم الذين خرجوا على المسلمين فهتكوا الأعراض بناء على أنهم سبايا كما فعل علي بن أبي طالب عندما آووا وجلسوا في حروراء، قال علي بن أبي طالب : لكم ما بقيتم إلا أن تقطعوا السبيل وتأخذوا المال، فأحسوا أنهم على هدى، فقتلوا بعض أمراء علي بن أبي طالب ثم غزاهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، هذا القسم الأول كما أشار إلى ذلك ابن تيمية في المجلد السابع.

    القسم الثاني: المرتدون

    القسم الثاني: المرتدون الذين جحدوا ما هو معلوم من الدين بالضرورة، إما بأن منعوا الزكاة كما حصل لـأبي بكر رضي الله عنه، فهذا يسمى قتال المرتدين، أو تكون إحدى ولايات السلطان يحكمون بغير ما أنزل الله، فيأمرهم السلطان في ولايته بأن يرجعوا فيأبون فيقاتلهم فيقاتلونه كما يقول ابن تيمية : وذلك أن مانعي الزكاة ثلاثة أقسام: منهم من هو مرتد عن الإسلام ألبتة، ومنهم من جحد الزكاة، والمرتد وجاحد الزكاة كلاهما كافر، ومنهم من منعها ولا يعلم، يقول: فإن قاتل الصحابة في ذلك فهو مرتد، ولهذا حكم على المرتدين كلهم في عهد أبي بكر أنهم تُسبى نساؤهم وتؤخذ أموالهم ولا يفرق بينهم؛ لأنهم حينما قاتلوا أبا بكر على هذه القضية عُلم ما في قلوبهم.

    والذين يحكمون بغير ما أنزل الله من الولايات فيأمرهم السلطان في ولايته بأن يرجعوا فيأبون، فإن قاتلهم فإنه علم ما في قلوبهم -كما أشار إلى ذلك شيخنا عبد العزيز بن باز في ذلك- من هذا الأمر، إذ أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يُعد كفراً إلا إذا استحل هذا الأمر أو رأى أن تحكيم القوانين خير من تحكيم شرع الله أو رأى أن تحكيم القوانين مثل حكم الله أو أن يُبدل الشرع المطهر، ومعنى التبديل هنا: أن يكون الحكم كله ليس فيه إسلام، أما إذا كان شرع الله ظاهراً في الحدود والقصاص والأحوال الشخصية والقضايا المدنية إلا أن فيها جزءاً من بعض القضايا فهذا لا يُعد تبديلاً لشرع الله المطهر؛ لأن شرع الله ظاهر، وتكون معصية، وهذا هو ظاهر كلام ابن تيمية رحمه الله لمن جمع كلامه جميعاً، فرحمه الله قال: ومن أحل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المطهر فهو كافر باتفاق الفقهاء، ومعنى بدل الشرع المطهر يعني: أن الحكم ليس لله ولا لكتابه، هذا هو مراد ابن تيمية رحمه الله.

    وعليه فلو كانت مسألة أو قضية أو جزئية ليست شرعية ولو كانت تحت نظام، لكن النظام العام هو نظام شرعي فإنها تُعد كبيرة وليست مخرجة من الملة، والدليل على هذا: أنه كان في بني أمية نظام المكوس التي كانوا يأخذونها من الناس حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأبطل المظالم، ورد الحقوق إلى أهلها، فلما مات عمر جاء الخليفة من بعده فأعاد ما كان أسقطه عمر بن عبد العزيز ، وهذا بلا شك ظلم ومع ذلك لم يُكفر أئمة الإسلام بني أمية ولا العباسيين.

    القسم الثالث: البغاة

    القسم الثالث: هم البغاة الذين خرجوا على السلطان بعد أن أدان له أهل الحل والعقد بإمامته وسلطانه، وعليه يخرج بذلك عبد الله بن الزبير و الحسين بن علي رحمه الله، وبعض الكتب ذكرت أن الحسين خرج، والصواب أن الحسين ما خرج؛ لأننا قلنا: إن الخروج على السلطان لا يعتبر خروجاً إلا إذا أدان له أهل الحل والعقد بولايته وإمامته.

    وإمامة يزيد بن معاوية إمامة للمسلمين عامة وليس إمام للكوفة وغيرها، كما أشار إلى ذلك الجويني والشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وأشار إليه ابن تيمية رحمه الله.

    وللعلماء تخريج آخر على هذه المسألة فقال: إن الحسين إنما احتمى ولم يقاتل، وفرق بين الاحتماء وبين المقاتلة.

    على كل حال قلنا: إن الذين يخرجون على ثلاثة أقسام وهم: المرتدون والخوارج والبغاة.

    1.   

    قتال أهل البغي

    تعريف البغاة وضابط تسميتهم بذلك

    قول المؤلف رحمه الله: (هم الخارجون على الإمام)، والإمام هنا إما أن يكون إماماً على إقليم أو إماماً على المسلمين عامة، وقد ذكر الجويني و ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليهم جميعاً أن تعدد الولايات أو السلاطين إذا كان إمام قاد الناس أو استتب له الأمن في ولاية فيكون إماماً للمسلمين في ولايته، قال: وحكى غير واحد الإجماع على ذلك، فـعبد الرحمن الداخل حينما ذهب إلى الأندلس وفتح بلاد الأندلس كان إماماً للمسلمين في الأندلس، بينما العباسيين كانوا يحكمون بلاد الشرق الأوسط كما يسمى في المصطلح المعاصر، فلم يقل إمام من أئمة الإسلام: إن عبد الرحمن الداخل لا يجوز طاعته؛ لأن الولاية أصلاً لمن قبله، فهذه ولايتان؛ لأن عبد الرحمن الداخل استتب له في هذا الأمر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في قصة أبي بصير : ( ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد )، فـأبو بصير حينما خرج صارت ولايته ليست منوطة بولاية أو بإمرة محمد صلى الله عليه وسلم، فكل مسلم يعيش في حياض المجتمع النبوي فإنه يجب عليه طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أبو بصير في المدينة فجاء وفد قريش يريدون أبا بصير ؛ لأنه أسلم وهذا الاتفاق حصل في صلح الحديبية يريدون أبا بصير ؛ لأنه أسلم في مكة ثم دخل إليهم، فسلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بصير ، فلم خرج أبو بصير وقتل الرجلين ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما أنت -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقد أديت، ثم خرج عن ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على جواز أن يكون لكل بلد إمامهم إذا رضيه أهل الحل والعقد وبايعه المسلمون.

    وعليه فالخارجون عن الإمام هم الذين خرجوا على سلطانه بعد أن بايعه الناس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد : ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما )؛ لأن مبايعة الأول في سلطانه كافية فلا يجوز مبايعة الثاني.

    قول المؤلف رحمه الله: (يريدون إزالته عن منصبه)، فالذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه يريدون إزالته من منصبه وخلعه، ولكن هل يخرج الخليفة عن منصبه؟ لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يا عثمان ! إن ألبسك الله قميصاً فأرادوك أن تنزعه فلا تنزعه )، فعلم أن المراد بالقميص هي ولاية المسلمين، قال: ( فإن أرادوك أن تنزعه فلا تنزعه )، فأبى عثمان رضي الله عنه أن ينزعه حتى قتل رضي الله عنه شهيداً.

    واجب المسلمين نحو الخارجين على إمامهم

    قول المؤلف رحمه الله: (فعلى المسلمين معونة إمامهم في دفعهم بأسهل ما يندفعون به)، يعني: يجب على المسلمين أن يكونوا مع هذا الإمام؛ لقوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، ولهذا كان المسلمون مع علي رضي الله عنه؛ لأنه استتب له الأمر، ومعركة الجمل حينما خرج طلحة و الزبير على علي لم يقصدا الخروج على علي إنما كانا مع علي رضي الله عنه، ولكن قتلة عثمان ومن مع طلحة من المنافقين هم الذين أشعلوا الحرب بين الفريقين، وإن كان طلحة و الزبير لم يريدا ذلك، ولهذا جاء في بعض الروايات: أن علي بن أبي طالب نادى الزبير قال: يا زبير! أتذكر حينما كنت وإياك اختلفنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( يا زبير! سوف تقاتل علياً وأنت له ظالم )، أو كلمة نحوها، فتذكر الزبير فخرج من المعركة، فلما خرج الزبير من المعركة جاء بعض المنافقين إلى الزبير فقتله، وقال: تريد أن تُضعف الصف، و طلحة بن عبيد الله هرب وقت تلاحم الصفان؛ لأنه تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل )، وهو لم يرد القاتل فتبعه رجل من المنافقين فقتله في بعض الوديان، قال علي بن أبي طالب بعدما انتهت المعركة: هبوا لي طلحة بن عبيد الله ، فبحثوا عنه فوجدوه مجندلاً في بطون الأدوية، فأخذه علي ثم ضمه إلى صدره وصدر طلحة يثعب دماً، ثم قال: عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مجندلاً في بطون الأودية، إلى الله أشكو عُجري وبُجري؛ لأنهم كانوا ينشدون الحق، ولم يقصدوا القتال أو طلب الدنيا، حتى إنه جاء ابن لـسعد بن أبي وقاص وكان يرعى الغنم قال: أنت في غنمك والناس يتقاسمون الدنيا، قال: اسكت، أي: كف، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يحب العبد التقي النقي الخفي )، والفتن إذا أقبلت كثُر فيها الهرج والمرج، وقلت العبادة، وكثُر كلام الغوغائيين الذين هم ضعيفي البضاعة في العلم، فأحياناً يتحدثون فيغرون بذلك العامة، ويظهر الرويبضة الذي يتكلم بأمر العامة، غير أنه متى ما أُزيل الغبار عرفت أن كلامهم هباء وأنهم ليسوا على شيء، ولهذا أنا دائماً أذكر للإخوة مثالاً لزمن الفتن، أقول لهم: هذا المُبيد الأبيض مبيد الحشرات الذي يسمى: الفليت إذا جاء العامل فأشعله في البلد أو في الحي تجد أن الناس يمشون خلفه وينصدم بعضهم ببعض ما ينظر بعضهم بعضاً، لكن الذي يريد أن يسلم ولا ينصدم بأحد يجلس وينظر إلى أرجل الآخرين صافية لا غبش فيها ويتعجب كيف يتساقط ويتضارب هؤلاء، فجلوسه في زمن الفتن هو اعتماده على الكتاب والسنة وعصمة لسانه.

    من خرج على الإمام بغير تأويل أو بتأويل غير سائغ

    إذاً البغاة هم الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ وفيهم منعة، يعني: فيهم قوة، فلو خرجوا من غير تأويل أو بتأويل لكنه غير سائغ فهؤلاء يسمون قطاع طريق، فلو خرجت مجموعة على الإمام تريد الحكم بغير ما أنزل الله، أو تريد حكماً ديمقراطياً شعوبياً لا يحكم بالدين، فهؤلاء خرجوا على الإمام بتأويل غير سائغ، فيكون هؤلاء قطاع طريق، وقطاع الطريق في حكم المحاربين، وعلى هذا فيضمنون ما أتلفوا بخلاف أهل البغي، فإنهم لا يضمنون.

    وجوب قتال أهل البغي إذا آل الأمر إلى ذلك

    قول المؤلف رحمه الله: (فإن آل إلى قتالهم)، ومعنى (آل) يعني: فإن دُفعوا بالكلام والنصائح وآل هذا الدفع إلى وصول وقت القتل، أو وصول تلف أموالهم، فلا شيء على الدافع؛ لأن الله يقول: فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، فهو مأمور به، يعني: بالدفع، فعلى هذا ما أتلفه أهل العدل الذين مع الإمام من أموال البغاة فإنهم لا يضمنون؛ لأنه مأذون فيه.

    قول المؤلف رحمه الله: (وإن قُتل الدافع)، يعني: الذي يدفع أهل البغي (كان شهيداً)؛ لأنه قتيل في حرب أُمر بها، وأُثيب عليها فكان شهيداً؛ فيعامل معاملة الشهيد.

    كيفية معاملة البغاة بعد هزيمتهم

    والذين يخرجون لا يقتلون البغاة، ولذلك لم يقل المؤلف: باب قتل أهل البغي، بل قال: باب قتال، وفرق بين العبارتين؛ لأن الأصل أن الباغي لا يجوز قتله، ولا يُجهز على جريحهم ولا يُتبع مدبرهم، ولا يُغنم لهم غنيمة، ولا يقاتلون إلا إذا قاتلونا أو أبوا أن يرتدعوا، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما أخرجه البيهقي بسند جيد في قصة البغاة قال: لا يُذفف على جريح، ومعنى (لا يُذفف) أي: لا يُجهز، ولا يُهتك ستر، يعني: ما تؤخذ نساءهم فيء، ولا يُفتح باب، ومن أغلق بابه فهو آمن، ولا يُتبع مدبر؛ لأن القصد الستر، فإذا كان عنده نوع تأويل في نفسه لا يُجهز عليه، ولا يُتبع مدبرهم؛ لأن شوكتهم هنا انتفيت كما يقول الفقهاء.

    قول المؤلف رحمه الله: (ولا تُسبى لهم ذرية)؛ لأنهم مسلمون، ولهذا حتى الخوارج حينما قيل لـعلي بن أبي طالب : هل هم كفار؟ قال علي : من الكفر فروا، قالوا: منافقين، قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً وهم يذكرون الله، قال: فمن هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا، فهم جمعوا بين الخروج على دين المسلمين والخروج على إمام المسلمين.

    كيفية معاملة من قتل من البغاة

    قول المؤلف رحمه الله: (ومن قتل منهم غُسل وكُفن وصُلي عليه)، وقد سبق أن ذكرنا أن أهل البغي هم مسلمون متأولون، وعلى هذا إذا قتل أحدهم فإنه يُعامل معاملة المسلم، وليست جنايته سبباً لإبطال حقه الذي على المسلمين، ( صلوا على من قال: لا إله إلا الله )، وهذا الحديث رواه الدارقطني وسنده ضعيف، والأقرب حديث مسلم : ( صلوا على صاحبكم )، وعلى هذا فهم مسلمون يثبتون شهادة أن لا إله إلا الله فيصلى عليهم ويغسلون.

    ضمان ما أتلف حال قتال البغاة

    قول المؤلف رحمه الله: (ولا ضمان على أحد الفريقين فيما أتلف حال الحرب من نفس أو مال).

    يقول الإمام الزهري رحمه الله: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أنه لا يُقاد أحدٌ ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه، وهذا عمدة هذا الباب.

    ومعنى (لا يقاد أحد) أي: لا يؤخذ بالقود ولا يقاد أحد بقتل، ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن، يعني: متأولين، البغاة أخذوه متأولين، وكذا الذين نصروا هذا الإمام فإنهم يقول المؤلف: (إلا ما وجد بعينه)، فلو أنه وجد مع البغاة سيارات، والرخص والاستمارة لفلان وفلان وفلان فإنها ترجع إليهم، إذا كانوا قد أخذوها متأولين فيها، وأما ما أتلفوه إن كانوا بغاة بتأويل سائغ فلا يضمنونه، وأما أهل العدل فلا يلزمهم ذلك أيضاً، وهم الذين مع الإمام؛ لأنهم فعلوا ما يجوز لهم فعله فلا يلزمهم شيء؛ لأنه ما ترتب على المأذون فليس فيه الضمان.

    أما لو اقتتلت طائفتان لعصبية أو لنعرة قومية أو لطلب رئاسة دنيوية أو لأجل إظهار نعرة قبلية فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى، قال ابن تيمية رحمه الله: فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة، وإن لم يُعلم عين المتلف، يعني: طائفة سين وطائفة جيم تقاتلوا لأجل عصبية فجاء واحد من طائفة سين فقتل أحد أفراد طائفة جيم فإن مجموع طائفة سين يدفعون الدية عمن قتلوا من طائفة جيم، أو أحرقوا مالاً أو غير ذلك فإنهم يضمنون المجموعة كلها.

    1.   

    أحكام ضمان ما حكم به في البلاد التي سيطر عليها البغاة قبل القضاء عليهم

    المؤلف الآن يريد أن يستطرد في مسألة عدم الضمان على البغاة.

    قول المؤلف رحمه الله: (وما أخذ البغاة حال امتناعهم من زكاة أو جزية أو خراج لم يعد عليهم)، معنى كلامه رحمه الله: أن أهل البغاة أحياناً يكون لهم منعة وشوكة في جهة شمالية شرقية أو غربية جنوبية من البلد، وهذه الجهة يكونون هم من يأخذون من أهل هذه البلد الزكاة الظاهرة كالأغنام وكالزروع لرئيس هذه الطائفة الباغية، فيأخذون هذه الأشياء منهم، فيقول: (وما أخذ البغاة حال امتناعهم من زكاة) يعني: امتنعوا في حرورية مثل الخوارج، أو امتنعوا في جهة شمالية أو شرقية أو جنوبية أو غربية امتنعوا وجلسوا أحياناً سنين يتفاوضون مع الإمام، مثل ما يسمونهم في المصطلح المعاصر متمردون، لكن هؤلاء المتمردين إن كانوا مسلمين والإمام مسلماً وصار فيه اختلاف في اجتهاد تأويل، وإما إن كانوا كفاراً أو من غير تأويل كما قلنا: يريدون حكم الديمقراطية أو القبلية أو غير ذلك، فهؤلاء لا يعول عليهم فهم قطاع طريق، أما البغاة وهم الذين امتنعوا بتأويل فإن أخذوا الزكاة من أهل هذا البلد فلا يؤمرون بعد انتهاء واستتباب الأمر أن يطالبوا بالزكاة التي أخذوها، أو الجزية وهي ما يؤخذ من أهل الذمة من يهود أو نصارى ساكنون في هذه المحِلة وكانت الطائفة الممتنعة تأخذ منهم الجزية فلا يؤخذ منهم بعد ذلك، أو خراج مثل لو كانت الطائفة الممتنعة في سواد العراق الذي يؤخذ منها الخراج فلا يؤخذ منهم الجزية.

    قول المؤلف رحمه الله: (ولا على الدافع عليهم)، يعني: ما يقال للبغاة: أعطونا المال الذي أخذتموه، ولا يقال للأفراد الذين كانوا يدفعون الزكاة للبغاة: أخرجوا الزكاة مرة ثانية، يقول: (ولا على الدافع إليهم).

    قول المؤلف رحمه الله: (ولا يُنقض من حكم حاكمهم)، أحياناً الطائفة الممتنعة تكون لها محاكم، ويكون لها قضاة، ويحكمون مثل فتنة ابن الأشعث ، فهذا القاضي إذا قضى فإنه لا يُنقض حكمه إذا كان موافقاً للشرع، أو كان اجتهاده مقبولاً في الشرع، ولهذا قال: (ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما يُنقض من حكم غيره)، يعني: الإمام عنده قضاة، هذا القاضي إذا حكم بمسألة اجتهادية لا ينقص اجتهاده باجتهاد مثله، لكن لو أنه حكم أن المرأة تتزوج من غير ولي فهذا العقد باطل ويُرد عليه، كذلك قضاة البغاة إذا قضوا في مسألة مخالفة للشرع فإنه لا يعول على هذا القضاء، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه لا يجوز قضاء قضاة أهل البغاة، قال: لأنهم فاسقون ببغيهم، والفسق ينافي القضاء، وذهب الجمهور إلى أن قضاءهم صحيح؛ لأنهم متأولون، فكما أنه لا ضمان على متلف أحد المالين؛ لأنهم متأولون فكذلك يقبل قضاء قضاتهم؛ لأنهم متأولون.

    لعلنا نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755895560