الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين المفلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
إخوتي الكرام! شرعنا في مدارسة الأدلة التي تبين منزلة علم الفقه ومكانته، وذكرت دليلاً واحداً من كتاب الله جل وعلا يقرر هذا الأمر، وهو قول الله جل وعلا في سورة التوبة: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
وقد تقدم معنا بيان معنى هذه الآية الكريمة، وتقدم معنا أن النفْر معناه: الانزعاج من الشيء وإلى الشيء، والخروج، عندما يخرج الإنسان يحصل له شيء من الانزعاج والمشقة والتعب والكلفة، وقلت إخوتي الكرام: إن معنى الآية يتحدد بناء على صلتها بما قبلها، فإن كانت الآية لا زالت مرتبطة بأحكام الجهاد، فتحتمل معنيين اثنين:
إما أن التفقه يحصل للفرقة المقيمة، والفرقة التي نفرت وخرجت في سبيل ربنا المعبود، فيصبح تقدير الآية: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة، ليقاتلوا في سبيل الله، وقعدت طائفة، ليتفقهوا في الدين، ويتعلموا من نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فإذا عاد إليهم إخوانهم المجاهدون علموهم ما تعلموه من نبينا الميمون على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
والمعنى الثاني: أنها لا زالت مرتبطة أيضاً بأحكام الجهاد، فيكون معنى الآية: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة لتجاهد ولتتفقه، فيحصل لها صفتان متلازمتان: الجهاد والتفقه، وقلت: إن الفقه الذي سيحصل لهم -كما تقدم معنا كلام سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه وعن المسلمين أجمعين- أنهم سيرون عظيم آيات الله، حيث سينزل السكينة على عباده المجاهدين، وسيخذل أعداءه المجرمين، وفي ذلك تقوية لإيمان المؤمنين، وهذا فقه عظيم في الدين.
ويمكن أن يكون هناك معنى ثالث على أن الآية لا ارتباط لها بأحكام الجهاد، ولا تتحدث عن أحكام الجهاد، إنما جاءت الآية لتتكلم عن عبادة ثالثة بعد أن ذُكر عبادتان عظيمتان لا تحصل واحدة منهما إلا بالسفر، عبادة الهجرة وعبادة الجهاد، وذكر الله عبادة ثالثة وهي طلب العلم، فلا يحصل العلم النافع إلا بشد الرحل من أجل أن يتلقى العلم من أرجاء الأرض، من الشيوخ الصالحين، وعليه فيكون معنى الآية: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، هذا النفر والانزعاج والخروج من أجل طلب العلم فقط، فَلَوْلا نَفَرَ أي: خرج مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
إخوتي الكرام! مر معنا بيان الآية، وهنا أمران أحب أن أنبه عليهما قبل أن أسرد الأحاديث الأربعة التي تدل على منزلة التفقه في الدين، ومكانة علم الفقه بين علوم الدين.
إذاً مقصودهم هو الشفقة عليهم، ولذلك أنذروهم ليخلصوهم من عذاب الله جل وعلا، ومقصود من يتعلم من هذا الإنذار أيضاً هو الحذر من غضب الله وسخطه، وحقيقة العلم إذا لم تكن هذه نتيجته فلا خير فيه، نتعلم لنحذر الناس من سخط الله، والناس يتعلمون من أجل أن يحذروا سخط الحي القيوم، لا لمباهاة في الدنيا، ولا لمناصب، ولا لغير ذلك من عروضها الزائلة، هذا هو الأمر الأول الذي أحب أن أنبه عليه.
المعنى الأول: تأتي بمعنى حرف شرط غير جازم، حرف امتناع لوجود، ويكون هذا إذا وليها جملة اسمية، إذا ولي (لولا) جملة اسمية فهي حرف امتناع لوجود، أي: امتنع الجواب والجزاء لوجود الشرط، لوجود الاسم المتقدم، كقولك: لولا زيد لعاقبتك، امتنعت العقوبة لوجود زيد.
قال أئمتنا: فإذا كان الفعل مثبتاً دخلت عليه اللام، ومنه قول ذي الجلال والإكرام عن نبي الله يونس على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في سورة الصافات: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:139-144]، (لبث) فعل مثبت دخلت عليه اللام، وهو واقع في جواب لولا.
وإذا كان الفعل منفياً فلا تدخل عليه اللام، ومنه قول الله جل وعلا في سورة النور: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]، فاللام حذفت من الجواب فلم يقل: لما زكى منكم من أحد أبداً، كما قال هناك: للبث لما زكى، بل قال: ما زكى منكم من أحد أبداً، وعليه فتقول: لولا زيد لعاقبتك، ولولا زيد ما عاقبتك. وهذا لا علاقة لنا به الآن ضمن هذه الآية؛ لأن (لولا) هنا في سورة التوبة تحضيضية، إنما هذا كما قلت: من باب الفائدة واستكمال معاني لولا.
إذاً: لولا حرف امتناع لوجود، ومعنى التحضيض: طلب الشيء بإلحاح وحث ورغبة، ويقال لها: تحضيضية، هذا إذا وليها الفعل المضارع، ومنه قول الله جل وعلا: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، أي: هلا يحصل منكم هذا، يطلب منا سبحانه وتعالى أن نستغفره وأن نتوب إليه، وهكذا قول الله جل وعلا في آخر سورة المنافقون: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10]، فلولا هنا بمعنى: هلا، يطلب من الله، يعرض عليه، يلح في طلبه أن يؤخره من أجل أن يتدارك ما فاته.
وإذا وليها الفعل الماضي فهي للتحضيض أيضاً، لكنها تفيد اللوم والتوبيخ والمعاتبة، على أنه كان ينبغي أن يفعل وما فعل، هذا إذا وليها الفعل الماضي، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الواقعة: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:83-86]، لولا الثانية تأكيد للأولى: فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:86-87]، هل بإمكانكم؟ هلا فعلتم هذا؟ وإذا كنتم غير مقهورين لرب العالمين، وأنكم تتصرفون في أنفسكم كما تريدون، فأعيدوا هذه الروح إن كنتم تستطيعون، وواقع الأمر أنه ليس بوسع أحد أن يمد في حياته لحظة واحدة، قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]. إذاً لولا هنا تفيد اللوم والمعاتبة والتوبيخ.
قال الإمام الألوسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: وإذا وليها الفعل الماضي تفيد هذا، وإذا كان بالإمكان أن يتدارك الإنسان الأمر في المستقبل، فتفيد أيضاً اللوم على الماضي، وطلب هذا وحصوله وتداركه في المستقبل، أي: الأمر به في المستقبل، كما هو الحال لو وليها الفعل المضارع، ومنه معنى الآية التي في سورة التوبة: (فلولا نفر)، (نفر) فعل ماضٍ، فكأن الله يعاتب الذين لا ينفرون للجهاد في سبيل الحي القيوم، ولطلب العلم، لكن بما أنه عندك فسحة وسعة من الأجل، فبإمكانك أن تتدارك ما فات وأن تجاهد وأن تتعلم، فإذا وليها الفعل الماضي تفيد اللوم والتوبيخ على عدم حصول المطلوب، لكن بما أنه بإمكانك أن تتدارك هذا، فيجب عليك أن تتداركه في المستقبل.
إذاً: (لولا) إذا وليها فعل فهي للتحضيض، فإن كان الفعل مضارعاً فهي للتحضيض والطلب بحث وإلحاح في المستقبل، وإن كان الفعل ماضياً ولا يمكن تداركه فهي للوم والتوبيخ، أي: هلا جرى منكم ذلك في الزمن الماضي، وإذا كان يمكن تداركه فتفيد الأمر به في المستقبل، والعلم عند الله جل وعلا.
قال الإمام الرازي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: وإنما كان معنى (لولا) هلا التي معناها التحضيض؛ لأنها مركبة -يقول- من أمرين اثنين: فأصلها: هل لا، أي: هل فعلت؟ فهي سؤال، تستفسر تسأل تستخبر: هل فعلت؟ وبما أنه لم يفعل، ولم يجر هذا منه فتنفى الفعل بـ(لا)، فتقول: لا، لم تفعل، إذاً (هلا) أصلها: هل فعلت؟ لا لم تفعل، وكان ينبغي عليك أن تفعل، فأفادت التحضيض، وهذا من لطافة العرب وظرافتهم في أساليبهم، فلاختصار الكلام قالوا: هلا، لولا، لوما، وأصلها: هل فعلت؟ لا، لم تفعل، وهذا مطلوب، قال تعالى: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، أي: هل استغفرتم؟ ما جرى منكم هذا للآن، فأتى ربنا جل وعلا بلولا بهلا بلوما، التي تفيد التحضيض، والتي أصلها: هل لا، أي: هل فعلت؟ لم تفعل للآن، ما ينبغي أن تفعله فتداركه في المستقبل، والعلم عند الله جل وعلا. هذا -إخوتي الكرام- فيما يتعلق بالآية التي تدل على منزلة التفقه في الدين.
قوله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وفي بعض روايات الحديث: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده)، إذاً من علامة الخيرية في العبد أن يوفق إلى التفقه في دين الله عز وجل، وقد تقدم أن الفارق بين الإنسان وبين بهيم الحيوان هو العلم النافع الذي نتعلمه، هذا هو الفارق بيننا وبين العجماوات، فإذا فقُهت في الدين حصل فيك معنى الإنسانية، وحصلت فيك العبودية لرب البرية سبحانه وتعالى، وقمت بالغاية التي من أجلها خُلقت.
ومفهوم الحديث: أن الله إذا خذل العبد وغضب عليه يصرفه عن التفقه في دين الله، فيعيش جاهلاً، يعبد الله على حسب هواه، أو لا يعبد مولاه، وهو في الحالتين على ضلال، والمفهوم المخالف: أن من لم يفقه في الدين فما أراد الله به خيراً، بل خذله ووكله إلى نفسه، وهذا المفهوم -إخوتي الكرام- ورد به منطوق الحديث بسند صحيح في مسند أبي يعلى كما في الفتح في الجزء الأول صفحة خمس وستين ومائة بسند صحيح، عن سيدنا معاوية رضي الله عنه وأرضاه أيضاً، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ومن لم يبال به لم يفقهه في الدين).
إذاً: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، والمفهوم: إذا لم يرد بالعبد خيراً لا يوفق للفقه في الدين، ولا لطلب العلم وفهمه والعمل به، هذا هو المفهوم، وقد ورد بالمنطوق بسند صحيح منطوق دل على المفهوم الذي فُهم من الحديث الثابت في الصحيحين، فالمفهوم معتبر، وقد شهد له هذا المنطوق، والعلم عند الله عز وجل. إذاً: هذا الحديث نص صحيح صريح في بيان منزلة التفقه في دين رب العالمين.
الصنف الأول دخل تحته نوعان: النوع الأول: آمن بالله جل وعلا، وعَلِمَ وعمل وعلَّم، فهذا الذي فقه في دين الله ودعا إلى الله، وحاله كحال الأرض الطيبة التي تفاعلت مع الماء، وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فانتفع الناس بالخيرات والبركات التي أخرجتها هذه الأرض الطيبة، هذا حال من آمن بالله واهتدى بهداه، وتعلم وعلم، فهذا الذي يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات، وهذا أعلى المخلوقات، وهو في أعلى الدرجات.
النوع الثاني: هو الأرض الأجادب التي أمسكت الماء، فانتفع الناس بها، فسقوا ماشيتهم، واستقوا منها، وانتفعوا بهذا الماء، لكن هذه الأرض ما تفاعلت مع الماء، وهذا حال من آمن بالله جل وعلا، لكنه قصر في ناحية العمل، فما عنده جد واجتهاد في طاعة رب العباد، وتعلَّم، لكن هذا العلم ما تفقه فيه، وما وصل لدرجة المتبحرين الراسخين الواعين المستنبطين، فهو مجرد ناقل يبلغ الناس ما سمعه من غيره دون أن يفقه فيه، دون أن يستنبط منه، فحاله كحال الأرض الأجادب التي أمسكت الماء فانتفع بها الناس، هذا على خير، وهو يدخل في القسم الأول، (فذلك مثل من فقُه في دين الله فعلم وعلم)، وهذا علم لم يستنبط، ولم يصل إلى درجة الفقه، لكن هو على خير، وأهل الخير درجات: فعندنا عالم فقيه، وعندنا عالم ناقل، هذا على خير، وهذا على خير. هذا هو الصنف الأول؛ وهو الذي فقُه في دين الله فعلم وعلَّم.
الصنف الثاني: هو الذي نعته بقوله: (ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
وظاهر الحديث -إخوتي الكرام- أن المثل الثاني يشمل صنفاً واحداً، قال الحافظ ابن حجر بعد أن قرر هذا: وظهر لي أنه في كل مثل طائفتان: المثل الأول فيه الأرض الطيبة التي أنبتت الكلأ والعشب الكثير، والأجادب، والمثل الثاني فيه طائفتان: الطائفة الأولى: وهي الظاهرة التي لم تقبل هدى الله وردته، وما آمنت به، ومن باب أولى ما تعلمت ولا علمت، وهذه شر المخلوقات، وشر الدرجات، وهناك صنف آخر آمن بالله جل وعلا، وما معه من الإيمان إلا النطق بالشهادتين فقط، فيدخل في هذا المثل أيضاً، لكنه انحرف عن سماع العلم، ولم يتعلم، وإذا سمع لا يعمل ولا يُعلِّم، فهذا ملحق بهذا الصنف الخسيس الخبيث، وإن لم يصل إلى دركته تماماً، لكنه مقترن معه في الذم، آمن بالله لكن ما سمع العلم، وأعرض عنه، ولا يريده، ولو قدر أنه سمع فلا يتعلم ولا يُعلَّم، ولو سمع وعلَّم لصار حاله كحال الأجادب، لكنه ما سمع، مع أنه نطق بالشهادتين، وقبله ما نطق ولا آمن بالله جل وعلا مطلقاً.
وانظروا كلام الحافظ -إخوتي الكرام- في الفتح في الجزء الأول صفحة سبع وسبعين ومائة، وكما قلت ظاهر الحديث يدل على أن المثل الثاني يشمل صنفاً واحداً، وهو من لم يؤمن بالله، ولكن الذي يظهر أن ما استظهره الحافظ ابن حجر في منتهى الوجاهة، أنه يشمل صنفين، كما أن المثل الأول يشمل صنفين:
الصنف الأول كما قلت: من آمن، وعلم وعمل وعلَّم، وصار فقيهاً، وهو يشمل من آمن وعلِم وعلَّم، لكنه لم يتفقه، أي: لم يستنبط، لم يصل إلى هذه الدرجة، إنما هو مجرد ناقل دون أن يعي مدلول الكلام، فيحفظ القرآن ويعلم الناس القراءات ولا يعرف تفسير كلام رب الأرض والسموات، يعرف الحديث وينقله، لكنه لا يفقه فيه ولا يعرف معناه، هذا -كما قلت- يدخل في الصنف الأول الذي هو صنف فيه خير، لكنهم يتفاوتون في الخيرية عند رب البرية.
والصنف الثاني شر، وهم يتفاوتون في الشرية، فما آمن بالله، ومن باب أولى لا علم ولا علَّم، وصنف ثانٍ آمن، حصَّل الإيمان في الجملة، لكن هذا الإيمان ما قاده إلى شيء من الخيرات الحسان، ما سمع العلم، وإذا سمعه لا يعمل به ولا يعلمه، فما استفاد شيئاً إما أنه معرض، وإما أنه يسمع لكن لا يعمل ولا يعلم، فهذا ملحق بزمرة الكافرين، وأمره إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.
وأما بالنسبة للإمامين المباركين الإمام الشافعي ومالك، فيمكن أن نقول: هما في درجة مستوية في الفقه وفي الحديث، اجتمع فيهما التمام في هذا وفي هذا، وما غلبت واحدة منهما على الأخرى عندهما، فهما في الدرجة العليا في الفقه، وفي الدرجة العليا في التحديث رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد كان الإمام مالك رضي الله عنه وأرضاه محدث المدينة وفقيهها، وهكذا الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه فقيه محدث في درجة واحدة، والإمام أحمد تغلب عليه الصفة الحديثية، والإمام أبو حنيفة تغلب عليه الصفة الفقهية، لكن كل واحد منهم فقيه محدث قطعاً وجزماً.
وقد يوجد هناك محدث من غير فقه، كحال كثير من المحدثين، منهم العبد الصالح يحيى بن معين كما سيأتينا.
فدرجة الفقيه أعلى من درجة المحدث؛ لأن الفقيه بمنزلة الطبيب، والمحدث بمنزلة الصيدلي، وأيهما أعلى رتبة؟ الطبيب قطعاً، والصيدلي ترى عنده الأدوية مكدسة، ولو ذهبت تشتكي عنده فليس بإمكانه أن يصف لك دواء لعلتك، بل يقول: هذا يحتاج إلى طبيب، اذهب إلى الطبيب ليكتب لي الدواء الذي يناسب علتك حتى أصرفه لك، فالطبيب حقيقة فوق الصيدلي، وهذا ما قاله جهابذة المحدثين، قال العبد الصالح سليمان بن مهران الأعمش كما في جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله للإمام ابن عبد البر عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، في الجزء الثاني صفحة إحدى وثلاثين ومائة، لسيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه، عندما كان يجيبه عن الأسئلة الشرعية التي توجه إليه، يسأله الإمام الأعمش عن مسألة فيجيب أبو حنيفة من غير توقف، فيعجب الإمام الأعمش ويتعجب من فقهه، يقول: من أين لك هذا يا إمام؟ فيقول أبو حنيفة: مما رويتم لنا. أنت رويت لنا هذا الحديث، وأنا استنبطت منه هذا الحكم، فيقول الأعمش معلقاً على كلام أبي حنيفة: أنتم الأطباء ونحن الصيادلة. وبلغ من تقدير الإمام الأعمش -وهو إمام الدنيا في زمانه في الحديث- بلغ من تقديره لسيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين، أنه عندما أراد الحج قال لسيدنا أبي حنيفة رضوان الله عليهم أجمعين: اكتب لي المناسك حتى أحج، بين لي مناسك الحج، كيف أعمل في الحج؟ أما أنا أملي لك من صدري مجلداً في الأحاديث الواردة فيه، في حجة النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، والآثار عن الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار فيما يتعلق بمناسك الحج، لكن كيف سيتم ترتيبها وتمييز الركن من السنة، وكيف سأفعل؟ هذا في الحقيقة يحتاج إلى فقيه.
وهذا الكلام أُثر أيضاً عن الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، قال: الفقهاء أطباء والمحدثون صيادلة. روى ذلك عنه الإمام البيهقي في كتاب مناقب الإمام الشافعي، ورواه الإمام ابن أبي حاتم في كتاب آداب الشافعي ومناقبه، وانظروا أيضاً كلام الإمام الشافعي في ذلك في السير في الجزء العاشر صفحة ثلاث وعشرين في ترجمته، وهذا قاله الإمام المبجل أحمد بن حنبل أيضاً رضي الله عنهم أجمعين: الفقهاء أطباء والمحدثون صيادلة. كما روى ذلك عنه الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق.
وقاله أيضاً الإمام أبو جعفر الطحاوي كما في تذكرة الحفاظ في الجزء الثالث صفحة سبع وتسعين وتسعمائة، قال للإمام أبي سليمان الدمشقي محمد بن عبد الله وكان من المحدثين الكبار، قال: أنتم الصيادلة ونحن الأطباء. والإمام أبو جعفر الطحاوي رضي الله عنه وأرضاه إمام المحدثين في زمانه، لكنه فقيه، (أنتم الصيادلة) أي: من جمع الحديث دون فقه فهو صيدلي، وأما نحن فنحن أطباء.
ولذلك قال أئمتنا: إن من يحمل الحديث ولا يعرف فيه التأويل كالصيدلاني، كأنه صيدلي، يعرف يجمع الأدوية، وهذا يجمع النصوص الشرعية، فإذا احتجتها خذها منه واستنبط منها ما تدل عليه، وهذا الكلام المحكم -إخوتي الكرام- تناقله أئمتنا، وهو حق، وانظروه في الفتاوى الحديثية للحافظ ابن حجر في صفحة ثلاث وثمانين ومائتين، وفي شرح الإحياء للإمام الزبيدي في الجزء السادس صفحة إحدى وستين وثلاثمائة.
قال: فأنا جالس عنده إذ جاءه مستفتٍ يستفتيه، فقال له: أبا بسطام -لـشعبة بن الحجاج رضي الله عنه وأرضاه- ما تقول في رجل ضُرب على أم رأسه فزعم أن حاسة الشم فقدت منه، فماذا تقول؟ ماذا عليه؟ إنسان ضرب على رأسه، فالمضروب قال: هذه الضربة أفقدتني حاسة الشم، وإذا فقد حاسة الشم ففيها دية كاملة، كما لو فقد البصر، أو فقد السمع، ولو فقد بصر عين واحدة فنصف دية، فلو فقد حاسة الشم كما لو قتله خطأ ففيه دية كاملة.. ما تقول فيمن ضُرب على أم رأسه، فزعم أنه فقد حاسة الشم؟ فما الحكم؟ هل يُصدق ويأخذ الدية؟ أو ما الحل في هذه القضية؟ فبدأ شعبة رضي الله عنه يتشاغل يميناً ويساراً لعل السائل ينصرف، وذاك يلح يقول: أبا بسطام! ما الجواب؟ ماذا نعمل؟ ما تقول؟ ما الحكم في هذه القضية؟ إنسان ضرب على أم رأسه وقال: فقدت حاسة الشم، ما بقيت أشم شيئاً، لا الروائح الطيبة ولا المنتنة، ولا أشم شيئاً على الإطلاق، كما لو فقد حاسة الذوق نسأل الله العافية، كما لو فقد البصر وما عاد يرى شيئاً، وهنا ما عاد يشم شيئاً على الإطلاق، فقال شعبة: أفته أنت، قال: يسألك وأفتيه أنا؟ قال: إن البلاء موكل بالمنطق، ليتني ما تعرضت لك في البداية، أنا قلت لك: إذا جاءت معضلة إلى من تلجأ؟ فلو ما سألت لكان أحسن.
مثل هذا ما وقع للإمام الكسائي مع اليزيدي حينما اجتمعا عند هارون الرشيد، فتقدم الإمام الكسائي ليصلي، فقرأ سورة الكافرون فأخطأ فيها في صلاة المغرب، فبعد أن انتهت الصلاة التفت إليه اليزيدي وقال: إمام القراء في الكوفة يخطئ في سورة الكافرون! فسكت الكسائي وما أجابه، ماذا يعمل؟ انتهى الأمر، فلما حضرت صلاة العشاء قدم هارون الرشيد الكسائي ، فقال: والله لا أتقدم، فتقدم اليزيدي فقرأ فأخطأ في الفاتحة، فلما سلم اليزيدي قال له الكسائي:
احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق
أنت تعيب علي أن أخطأت في سورة الكافرون، وأنت أخطأت في الفاتحة التي لا يخطئ فيها أحد.
وهنا كذلك، قال له: إلى من تلجئون؟ قال: إليك وإلى أصحابك، فلما جاءت هذه المسألة، قال له: أفته، ماذا عندك أنت من أمور الفقه؟ فقال: سمعت الزهري والأوزاعي يقولان: يدق الخردل دقاً شديداً، ويقرب منه ليشمه، فإن عطس فقد كذب في قوله، وحاسة الشم لا زالت عنده، وإذا لم يعطس فقد فقد حاسة الشم فله دية كاملة، قال: وقد جئت بها والله كما هي، لا يمكن أن يعطس إلا إذا كانت حاسة الشم عنده، وإذا ما عطس دل على أنه فقد حاسة الشم، قال هذا هو الحكم الشرعي.
انظروا إخوتي الكرام لهذا الفقه، وهذا هو كما يقول أئمتنا: أن تبحث في القضية الواقعة، وهذا الذي هدى الله إليه أئمتنا الفقهاء، فحاسة الشم إذا فقدت ففيها دية كاملة، ولكن كيف سنعلم أنها فقدت؟ لابد لها من اختبار، فالفقهاء هم الذين جاءوا وقالوا: تختبر حاسة الشم بالخردل، وبما يشبهه من الأمور التي إذا دقت واستنشقها الإنسان سيعطس ولابد، فإذا عطس دل على أن الحاسة عنده.
هذه هي منزلة الفقيه الطبيب، وشعبة -كما قلت- أمير المؤمنين في الحديث، ولم يتقدمه أحد، ولعله أعلم من سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين في موضوع الحديث وحفظ طرقه، لكن في الفقه هو يعرف حاله، ولذلك قال له: أفته، هذه مسألة لا بد لها من فقيه مفتٍ يفتي فيها.
القصة إخوتي الكرام التي سأوردها جاءت في كتاب المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للإمام الرامهرمزي الذي توفي سنة ستين وثلاثمائة، انظروها في صفحة خمسين ومائتين، وخلاصتها: أن امرأة جاءت إلى العبد الصالح يحيى بن معين، وهو جالس مع أصحابه المحدثين يتذاكرون أحاديث نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فقالت المرأة ليحيى بن معين ولأصحابه: هل يجوز للمرأة الحائض أن تغسل الميت؟ إذا ماتت امرأة فهل للمرأة أن تغسلها وهي حائض؟ فانظر لإنصاف يحيى بن معين رضي الله عنه وأرضاه! قال: ما لنا علم بهذا، هذا فقه لا تسأليني عنه، تريدي أحاديث نروي لك، أما الفقه فما لنا علم به، انظري إلى هذا الفتى الذي أقبل، هذا الإمام أبو ثور فاسأليه، ثم عودي إلينا وأخبرينا بما يجيبك به، فاعترضت أبا ثور رضي الله عنهم أجمعين وقالت: يا إمام! هل يجوز للحائض أن تغسل الميت؟ قال: يجوز يا أمة الله! واستمع إلى علو الأمة ورفعة قدرها في ذلك الوقت، قالت: ما الدليل رحمك الله؟ يعني أنت تقول: يجوز، فما الدليل؟ أنت لست بمشرع، ستنقل هذا عن النبي الجليل عليه الصلاة والسلام، هات دليلك، فذكر لها حديثين استنبط منهما هذا الحكم الشرعي؛ لأنه لا يوجد حديث أن الحائض تغسل الميت، لكن يوجد نظائر لهذه المسألة، والفقيه يأتي ويقول: كما جاز هذا فيجوز هذا، لأنه مثله فيقاس عليه، فاستمع لهذين الحديثين:
الحديث الأول: ثابت في المسند والموطأ وصحيح مسلم والسنن الأربع، من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال لها: (ناوليني الخمرة)، والخمرة شيء صغير بحجم الكف ينسج من الخوص أو من غيره، كان النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة المسلمون في العصر الأول عندما يسجدون على الأرض مباشرة، ولا يوجد ساتر بينهم وبين الأرض، يضعونها تحت جباههم عندما يسجدون أيام الحر؛ ليقي جبهته حر الرمضاء وحر الرمال؛ لأن الرمال تستعر ناراً في الصيف، فقال لها: (ناوليني الخمرة، قالت: إني حائض. قال: إن حيضتك ليست بيدك)، أنت ما تحملين هذا في يدك، هذا له مكان معين، وأما أنتِ فطاهرة، ولا حرج عليك، فقال: إذا كان الأمر كذلك فيجوز للحائض أن تغسل الميت.
وذكر لها الحديث الثاني، وهو في المسند والموطأ والصحيحين والسنن الأربع، ورواه الإمام الدارمي أيضاً في سننه، وهو في السنن الكبرى للإمام البيهقي، وغير ذلك من دواوين السنة، وهو في أعلى درجات الصحة، عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أيضاً، قالت: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يتكئ في حجري وأنا حائض فأرجله)، عليه صلوات الله وسلامه، ترجل شعره وتمشطه وتدهنه وهي حائض، فقال: إذا جاز للحائض أن ترجل الحي، فيجوز للحائض أن تغسل الميت.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أيضاً عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان مراراً يتكئ في حجرها وهي حائض فيقرأ القرآن)، فاستنبط هذا الحكم من هذين الحديثين، الحديث الأول يدل على أن حيضتك ليست في يدك، والثاني: أنها كانت ترجل رأس الحي، فإذا جاز أن ترجل وأن تمشط وأن تسرح وأن تدهن رأس الحي؛ جاز أن تغسل الميت.
قالت: رحمك الله! جزاك الله خيراً! ثم ذهبت إلى يحيى بن معين وأصحابه فقالوا لها: ماذا أفتاك؟ فقالت: أخبرني أنه يجوز للحائض أن تغسل الميت، فقالوا لها: ذكر لك دليلاً؟ قالت: نعم، ذكر لي حديثين، فقال يحيى بن معين: نحفظ كل واحد منهما من كذا وكذا طريق، اسمعي حتى نورد لك طرقاً لهذا الحديث، الحديث الأول من كذا طريق، والثاني من كذا طريق، وبدءوا يتفاوضون في طرق الحديثين، والمرأة بدأت تنظر إليهم مشدوهة مستغربة، ثم قالت: يا عباد الله! أين كنتم عندما سألتكم؟ يعني أنتم تحفظون هذين الحديثين، وكل واحد منكم ما شاء الله يورده من طرق متعددة، فأين كنتم عندما سألتكم؟
هذه هي منزلة الفقيه، الاستنباط، ولذلك من حفظ ولم يفقه فحاله كحال الأجادب، فيه خير، لكن من حفظ وفقُه فهو كالأرض الطيبة التي قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وشتان بين الأجادب التي أمسكت، وبين الأرض الطيبة التي أنبتت، نعم، كل منهما ليس من القيعان التي هي أرض مستوية منبسطة ملساء لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، نعوذ بالله من تلك الصفة، لكنهما يتفاوتان أيضاً.
فالفقيه -إخوتي الكرام- له شأن عظيم عند رب العالمين، وسيأتينا ضمن مراحل بحثنا وتراجم أئمتنا، أن من أعظم معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام: فقهاء هذه الأمة المباركة المرحومة، أكبر معجزة لنبينا عليه الصلاة والسلام علم الفقه الذي كشف عنه أئمتنا الفقهاء، وجحده الجاحدون في هذه الأيام، وسوف يأتينا بيان هذا عند تراجمهم بعون الله وتوفيقه.
نسأل الله أن يفقهنا في دينه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر