وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المائدة ومع هاتين الآيتين الكريمتين، وقد تدارسنا الأولى منهما الليلة الماضية، ونحن مع الآية الثانية، ولكن نريد الدراسة للكل بعد تلاوة الآيتين:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [المائدة:6-7].
فقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا [المائدة:6] من هو الجنب؟ من هي الجنب؟ من هم الجنب؟ من هن الجنب؟ كلمة (جنب) تطلق على الواحد والاثنين والثلاثة، وعلى الذكر والأنثى، والجنب: من قامت به الجنابة، وسببها: إما التقاء الختانين، أي: موضع ختان الذكر وختان الأنثى، بمعنى: إذا أولج الرجل ذكره في فرج امرأته ولو لم ينزل ولم يمن فقد وجب الغسل.
والأمر الثاني: هو أن يفرز المني في نوم أو بلذة في يقظة، نظر إلى امرأته أو مسها فانتعش ذكره وانتصب فأمنى فقد وجب الغسل، نام فرأى نفسه أنه يأتي امرأته أو غير ذلك فتدفق ماؤه فوجب الغسل، فالجنابة بشيئين:
بالتقاء الختانين، أو بإفراز المني، والمني: ماء أبيض ثخين دافق شبيه بلقاح ذكر النخل، هذا هو الجنب، الذي يولج رأس ذكره في فرج امرأته وإن كان ذكره غير منتصب ولا لذة له، فضلاً عن أن يمني، بمجرد أن يحصل دخول رأس الذكر في الفرج يجب الغسل، وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ) الختانان: تثنية ختان، وهل المرأة تختتن؟ نعم، ختان المرأة مكرمة لها، لكن ليس بسنة واجبة كختان الذكور، ويقال فيه: الخفاض.
ثم يفرغ الماء على شقه الأيمن من رقبته إلى قدمه، فإذا فرغ من الشق الأيمن يأتي إلى الشق الأيسر ظاهراً وباطناً، من الظهر إلى البطن إلى كعبه، ويتعهد المغابن، كتحت الإبطين، والرسغين والسرة وأي مكان يخفى ما يدخله الماء يتعهده ليطمئن، وأما اللحية فإنه يخللها كما يخلل شعر رأسه، لا بد من هذا، وإنما عفي عن المؤمنة إذا كان شعرها مفتولاً بخيوط أحياناً أو مضفوراً، فليس عليها أن تحله، تجمع شعرها على رأسها وتصب الماء وتغسله إن شاءت، هذا هو الغسل.
وإذا كنت تغتسل وفسوت أو ضرطت فماذا تصنع؟ أكمل غسلك، وحين تفرغ منه توضأ بعدما تلبس ثيابك أو قبل ذلك.
وإذا كنت تغتسل فمسست بباطن كفك ذكرك فحينئذ انتقض وضوؤك، إذا فرغت من غسلك توضأ، كالذي فسا أو ضرط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ )، أما إذا مسست فرجك بظاهر الكف فليس عليك وضوء، أو مسست وأنت عليك الثياب فلا ينتقض الوضوء؛ لأن الغريزة الجنسية في الكف واللمس، أما ظاهر الكف فما يضر.
وقد بينا وقلنا: هناك صورة ثانية للغسل، هي أن ينوي الغسل ويغتسل بكامله ثم يتوضأ، أما أن تقول: يغسل جسده ولا يتوضأ فلا، لا بد من الوضوء، إنما الصورة الأولى بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدث بها نساؤه، والصورة الثانية عامة، يدخل فيغتسل بالنية، وبعد ذلك يتوضأ.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ [المائدة:6] والسفر معروف، وهو الذي تقصر به الصلاة، ثمانية وأربعون كيلو متر فما فوق إلى آلاف.
لقد كان نساء المؤمنين يتغوطن في الأربع والعشرين ساعة مرة واحدة فقط، ويخرجن إلى مكان منخفض وراء البقيع، ما عندهم مراحيض ولا مياه، وأنتم اليوم كيف حالكم؟ فمن منكم إذا توضأ ذكر هذا وقال: الحمد لله، أو إذا دخل مرحاضاً بالرخام والبلاط والكراسي يخرج فيقول: الحمد لله؟
إذاً: فمن بال أو تغوط وجب عليه الوضوء، والذي يفسو أو يضرط يجب عليه الوضوء، والفساء ريح منتن بلا صوت، والضراط: ريح منتن بصوت.
وعندي لطيفة نفعني الله بها: وهي أن الذي عنده مرض في القولون والمعدة قد يشعر أن فساء خرج منه، والشيطان هذه مهمته، ينفخ في دبرك ليفسد عليك عبادتك، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: إذا لم تشم ريحاً ولم تسمع صوتاً فلا تخرج من صلاتك. فإن الشيطان ينفخ في مقعدك ليفتنك، إذا لم تجد ريحاً كريهة، إذا لم تسمع صوتاً ولم تشم رائحة، وإنما تشعر بحركة في دبرك فتلك نفخة العدو ليفتننا، فلا تخرج من صلاتك، والذي عافاه الله فما عنده مرض فهنيئاً له.
يقول تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6] بمعنى: جامعتموهن، نكحتموهن، ما هو اللمس باليد، لم يدخل ابن عباس أصبعيه في أذنيه؟ حتى لا يذكر هذا، والملامسة تكون بين اثنين، هذا هو الجماع، ويبقى مس المرأة بيده، فإذا قصد أن يتلذذ بمسها ولمسها بهذه النية فقد انتقض وضوؤه.
ثانياً: إذا لم يقصد أن يتلذذ بامرأته إذا مسها، ولكن لما وضع يده انتعش باطنه ووجد لذة فقد انتقض وضوؤه، فإن لم يقصد ولم يجد لذة فلا ينتقض وضوؤه، أما إذا قصد أن يتلذذ فقد انتقض وضوؤه ولو لم يجد لذة، فإن لم يقصد ولم يجد اللذة لم ينتقض وضوؤه ولو تمرغ عليها.
أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني )، وقالت وهي الحكيمة: ( وكان أملككم لأربه )، ما هو مثلكم أنتم، لا تملكون أنفسكم ولا حاجاتكم، أما هو فمصدر الكمال، يقبلها رحمة لها ورفقاً بها، ولكن لا يقصد أبداً لذة ولا يريدها.
المهم القاعدة الأولى التي وضعها أهل العلم: إن قصد اللذة باللمس أو التقبيل ولو لم يجد اللذة انتقض وضوؤه، وإذا ما قصد ولكن لما لمسها وقبل وجد اللذة انتقض وضوؤه، وإذا ما قصد ولا وجد اللذة فلا انتقاض، قبلها أو لامس أو مس.
إذاً: إذا كان مس الكف ينقض الوضوء فكيف بالذي يقصد اللذة من امرأته ويمسها، فقوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6] إن شئتم قولوا كما قال الحبر: أو جامعتم، وهو الأصل، ويبقى المس بشهوة ثابتاً بالسنة النبوية.
إذاً: فإن لم تجد ماء طهوراً، وإذا وجدت ماء وهو نجس فلا، أو ماء تغير لونه أو ريحه بطعام أو بكذا فلا تتوضأ منه، لا يرفع الحدث إلا الماء الذي على أصل خلقته، كماء نبع من الأرض أو نزل من السماء، أما الماء إذا كان عذباً فأصبح صالحاً بأن صببت فيه مادة أخرى فلا يجوز التطهر به.
فالماء الطهور: هو الباقي على أصل خلقته، فإن صببت فيه ريح مسك وأصبح ذا رائحة فما يصح التطهر به، أو صببت فيه عسلاً وتغير لونه بالعسل فما يصح، الماء الطهور هو الباقي على أصل خلقته التي خلقه الله عليها، ملحاً كان أو عذباً.
فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] فماذا تصنعون؟ قال: فَتَيَمَّمُوا [المائدة:6] اقصدوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، الصعيد كالصاعد: ما علا وارتفع، فوجه الأرض كله صعيد، وجه الأرض صاعد فوقها؛ فلهذا إذا أصبحت محتاجاً إلى التيمم مضطراً إليه فاقصد الأرض سواء كانت تراباً أو رملاً أو سبخة أو حجارة، كل ما صعد على الأرض تيمم به، إلا أن التراب أفضل؛ لأن فيه الاعتراف بذلك وهوانك، يمسح المتيمم وجهه بالتراب لوجه الله، أما الحجر الأصم فما فيها شيء، ما يصيبه منه هون ولا دون، لكن التراب أولى، فإن لم يوجد فكل أجزاء الأرض يتيمم بها: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6] هذا الطيب بمعنى: الطاهر، أما إذا كان فيه بول غنم أو حمار فما يجوز التيمم به، وبول الغنم وروثه طاهر ولكن لا تتيمم عليه؛ ما يأذن الله لك أن توسخ وجهك ويديك، لا بد أن يكون طاهراً.
وللتيمم كيفيتان سهلتان ميسرتان:
إحداهما: أن تمسح وجهك وكفيك، والثانية: أن تمسح وجهك ويديك إلى المرفقين؛ لقوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6].
فالصورة الثانية في الموطأ عن ابن عمر وهي أكمل، وهي أن تقول: باسم الله، فتضرب بكفيك على الأرض، وتمسح وجهك مسحة واحدة، ثم اضرب بيديك على الأرض وامسح إلى المرفق، تمسح وجهك وكفيك مع ذراعيك، هكذا كان ابن عمر يفعل، ويقول: لأن الله قال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6] واليد يدخل فيها المرفق أم لا؟ لكن الله في الوضوء قال: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، بين الحد، وفي التيمم ما بين: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [المائدة:6]، والصورة الأولى الطيبة الهينة وإن كانت قد تقل عن الأجر؛ لأن عمار بن ياسر كان قد أجنب باحتلام في سرية من السرايا، فلما أجنب قام فتمرغ في التراب، نزع ثيابه وتمرغ، فلما جاء إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وقص القصة على نبيه صلى الله عليه وسلم قال له: ( إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وهكذا ) والله إن ذلك ليكفي! ما السر؟ ما الحكمة؟ إن مس التراب هذا ما يزيل القذى ولا الوسخ، فما السر؟ أقول: لما كان التطهر فريضة الله لمن أراد أن يناجي الله، الوضوء والغسل مفروضان، فأيما مؤمن يريد أن يتصل بذي العرش جل جلاله وعظم سلطانه ليبثه آلامه ويذكر له حاجته فلا بد أن يتطهر، وإلا فلا يقبل، فإذا عجز عن الماء أو عن استعماله فماذا يصنع؟ علمه الله عز وجل أن يعلن عن إذعانه واستسلامه وانقياده، كأنه يقول: لو كنت قادراً يا رب على الماء أو وجدته لاغتسلت أو توضأت، ولكن عجزت. إذاً: أظهر بيان أنك صادق في عجزك ونيتك، فامسح وجهك بالتراب ويديك؛ فلا يخطر ببالك أنك تتصل بالله، وتجلس بين يديه، وينصب وجهه لك وأنت على غير طهارة! لن يكون هذا، وبهذا يبقى المؤمن مع طهره دائماً لا ينسى.
قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6] إذ مع وجود الماء ما هناك إلا الوضوء والغسل، فَتَيَمَّمُوا [المائدة:6] اقصدوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] إن اكتفيت بوجهك مرة وكفيك؛ ولا تخلل أصابعك لأن العبرة بأن تمتثل أمر الله، حتى تألف الطهر فما تتركه أبداً، مرضت أو صححت.
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] أي: نمسح الوجه والكفين، وهذا أرحم بنا؛ إذ كم من إنسان يلبس ثياباً في الشتاء في البلاد الباردة فيحتاج أن ينزع كل ثيابه إذا أراد أن يتيمم، وفي ذلك مشقة كبيرة ويعانون منها، فنأخذ بهذه الرحمة الإلهية وهذه الرخصة فنقول: يمسح كفيه بعد وجهه ويجزئه.
مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6]، أي حرج، والدليل على هذا هو أنه أذن لك أيها الجنب الذي يجب عليك أن تغتسل إن لم تجد الماء أن تضرب الأرض بكفيك وتمسح وجهك وكفيك، أو مريض ما يستطيع أن يستعمل الماء ولو كان بين يديه، لجراحات ونحوها، فيضرب الأرض بكفيه ويمسح وجهه وكفيه.
مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6]، يريد أن يطهرنا؛ لأنه يحب التوابين ويحب المتطهرين، إذا طهرنا أحبنا، لو تركنا أنجاساً فوالله لن يحبنا، بل لكي يرفعنا إلى مستوى حبه ورضاه علمنا كيف نتطهر وأمرنا بذلك.
لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6]، أولاً، وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة:6] ثانياً، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6] ليعدكم بذلك إلى الشكر، (لعل) هنا الإعدادية: ليعدكم لشكره، ليطهرنا وليتم نعمة الإسلام علينا، نعمة هذه العبادات التي هي أدوات تزكية وتطهير للنفس ولنصبح من الشاكرين لآلائه وإفضاله وإنعامه.
وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6] أولاً، وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة:6]، وهي نعمة الطهارة نعمة الإسلام، نعمة الإيمان كما تقدم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3].
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، نشكر المنعم الله جل جلاله وعظم سلطانه، والشكر يكون أساساً: بإظهار النعمة، يقال: دابة شكور، كلما أكلت ظهر السمن فيها، وأخرى كفور: تأكل وتأكل وما يظهر عليها شيء، إذاً: الشكر: إظهار النعمة، وهو:
أولاً: بالاعتراف بالقلب بالنعمة لله، كانت أو طعاماً أو عافية، تعترف في قلبك بالنعمة وأنها لله.
ثانياً: أن تحمد الله تعالى عليها بكلمة: الحمد لله.
ثالثاً: أن تصرفها فيما يحب أن تصرف فيه، إذا كانت مالاً تنفقه حيث يريد الله أن تنفقه، إذا كانت صحة بدنية تنفقها حيث يريد الله أن تنفقها، في الجهاد والعبادة والعمل الصالح، وإذا كانت جاهًا وحمدت الله تعالى على هذه النعمة فأعن إخوانك المحتاجين إلى جاهك واقض حاجاتهم، وإذا كانت علماً فعلّمه وبينه للناس، فكونوا من الشاكرين.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، قلت: إنها (لعل) الإعدادية، أي: ليعدكم بذلك إلى شكره، علّمنا كيف نعبده؛ من أجل أن نصبح شاكرين، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، هيأنا لأن نشكره، علمنا كيف نتوضأ ونغتسل وكيف نتيمم ونرفع الأحداث حتى نشكره بالطاعة، لنصبح شاكرين لله، والذي لا يتوضأ هل شكر الله؟ الذي ما يغتسل هل هو شاكر؟ والذي ما يصلي ولا يذكر كافر ما هو بشاكر.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:7]، أي: نعمة خلقنا، نعمة إمدادنا، نعمة هدايتنا، فأول شيء أننا مخلوقون خلقنا الله تعالى، فاشكروه على نعمة الخلق والإيجاد، ونعمة الإمداد، فمن أمدنا بالطعام والشراب والهواء الذي نتنفس فيه، والغذاء والهواء عنصرا البقاء والحياة، فمن رب هذا الأكسجين؟ إنه الله تعالى. هل الدولة هي التي صنعته؟ والماء والطعام من خالقهما؟ الله، إذاً: فنشكر الله على نعمة الإيجاد والإمداد، أوجدنا بفضله وأمدنا بما يبقىي علينا حياتنا إلى نهايتها، إذاً: فليشكر الله عز وجل.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:7]، في الخلق والإيجاد، في الإيمان والإسلام والإحسان، غيركم كفرة فجرة فساق يأكل بعضهم بعضاً، وأنتم أنعم الله عليكم بهذه النعمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة:3]، فالوضوء والتيمم والعبادة مظاهر الشكر لله عز وجل، والذي لا يعبد الله ما شكر ولا يعتبر من الشاكرين.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة:7]، ما هذا الميثاق الذي واثقنا الله وربطنا به؟ هو أنك لما قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقد بايعت الله، هذا هو الميثاق، وهو أن تعبد الله تعالى وحده بما شرع لك أن تعبده به، ولا تشرك به أبداً أحداً في عبادته، اذكر هذا الميثاق، فمن كفر نقض الميثاق، من ترك الصلاة والعبادة ترك الميثاق ونقضه.
وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة:7]، متى؟ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، من هو الذي قال: سمعنا وأطعنا؟ كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال: سمعت وأطعت وقام اغتسل وصلى.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [المائدة:7]، بشكره وبالثناء عليه وبامتثال أمره وبطاعته وبحمده، وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ [المائدة:7]، لما دخلنا في الإسلام كيف دخلنا؟ دخلنا بـ(لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
إذاً: أقول واسمعوا: الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قد عاهد الله على الاستمرار في هذا الدين وعلى عبادة الله بما شرع وبين، وعليه أن لا يشرك في عبادة الله كائناً من كان، لا يشرك ملكاً ولا نبياً ولا رسولاً ولا ولياً ولا كائناً من الكائنات؛ لأنه يقول: أنا أشهد على علم أنه لا يوجد إله إلا الله، فكيف يخون إذاً ويوجد له من يعبده مع الله ولو بكلمة؟
ثانياً: أن لا يرضى بأن يعبد مع الله غيره أبداً؛ لأنك أقررت بأنه لا يستحق العبادة إلا الله وها أنت تعبده وحده، فكيف ترضى بعبادة غيره لفلان وفلان؟ فلهذا لا نرضى بالشرك والكفر أبداً، ويوم نقدر على نقل هذه الأنوار فإننا ننقلها إلى الأبيض والأسود كما فعل أصحاب رسول الله وأحفادهم، ما نرضى أن تبقى دولة أو أمة لا تعبد الله عز وجل، وإلا فقد رضينا بالكفر.
الجواب: يقول: تتقوني بطاعتي، من أذعن لأمري ونهيي وانقاد فقد اتقى عذابي، أما الذي لا يعبد ربه ولا يطيعه فبم يتقيه؟ هل بالجبال والصخور والجيوش؟ إن الخليقة كلها في قبضة الجبار.
إذاً: لا يتقى الله بالأسوار ولا الحصون ولا الجيوش ولا الحيل أبداً، وإنما يتقى بالإسلام له والإذعان، أذعن لربك، إذا قال: قل فقل، وإذا قال: اسكت فاسكت، بهذا فقط يتقى الله عز وجل، أي: بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [المائدة:7]، هذه من يطيقها، كل ما يجول في خاطرك وتتحدث به في نفسك الله عليم به كالظاهر، فكيف -إذاً- تستطيع أن تخونه في الوضوء أو التيمم أو العبادة وهو يعلم ذات صدرك؟ ما في باطنك يعلمه كما يعلم ظاهرك، هذه المراقبة التي يفوز بها من هيأهم الله لذلك، يعيش العبد أو الأمة يراقب الله في كل حركاته وسكناته، حين يأخذ يتوضأ إذا رأى الماء كثيراً يقلله؛ لأن الله معه، فكلما صببنا الماء من الصنبور نغلقه ونذكر مراقبة الله لنا، إذا أردت أن تأكل أن تشرب أن تقول أن تعطي دائماً تذكر أن الله معك ويراك ويعلم ما في صدرك.
وهذه جاءت في الآية العظيمة التي هي سلم الوصول إلى الكمال: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ [العنكبوت:45]، أولاً، وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45]، ثانياً، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، ثالثاً، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، الرابعة، فهذا سلم الوصول إلى الكمال:
أولاً: قراءة القرآن بالليل والنهار.
ثانياً: إقام الصلاة كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: ذكر الله في كل الأحايين إلا إذا جلست على المرحاض تتغوط.
رابعاً: أن تعلم أن الله يعلم ما تصنع فتراقبه في كل حركاتك وسكناتك، فإذا وصلت إلى هذا فأبشر واعلم أنك من خيرة أولياء الله عز وجل.
اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وتوفنا وأنت راضٍ عنا وألحقنا بهم يا رب العالمين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر