ذكر الله قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في سورة العنكبوت باختصار، مشيراً فيها إلى أن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله سبحانه، وترك الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، قال عز وجل: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ [العنكبوت:16] أي: توجهوا إلى الله وحده بالعبادة واحذروا عقوبته سبحانه، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16] أي: لو كنتم تعلمون وتفهمون، ولو اطلعتم على هذا الأمر وحقيقة ما يكون يوم القيامة لعلمتم أن الخير لكم في الدنيا والآخرة هو بتوحيد الله تعالى وعبادته.
ثم قال تعالى: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17] أي: هذه المعبودات التي تعبدونها من دون الله أنتم الذين صنعتموها ونحتموها، فعبدتم كذباً اختلقتموه واخترعتموه.
إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ [العنكبوت:17] وقد علم كل إنسان كافر أن الآلهة الباطلة التي يعبدها من دون الله لا تملك له نفعاً ولا ضراً، ولا تملك له رزقاً ولا تمنعه عنه، إنما الذي يرزق وينفع ويضر هو الله سبحانه وتعالى، فأمرهم إبراهيم أن يبتغوا عند الله الرزق، وأن يدعوا الله سبحانه ويطلبوا من الله ويتوكلوا عليه ويعبدوه ويشكروا له، قال: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17].
وكلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كلام جميل فصيح بليغ، فهو يدعوهم إلى الله سبحانه، وبين لهم في هذه الجملة الواحدة أن هذه الآلهة لا تملك شيئاً لنفسها ولا لهم، لا تملك رزقاً؛ لأن الذي يملك الرزق هو الله سبحانه وتعالى، فإذا كان كذلك فاطلبوا الرزق ممن يملكه، فهنا يعلمهم ويعلم غيرهم ألا يتوكل المرء على غير الله سبحانه، فأنت لا تطلب الرزق ممن لا يملك لنفسه شيئاً، بل اطلب الرزق من الله عز وجل، وارفع يدك إليه وادعه مخلصاً له سبحانه، فهو الذي يعطيك، فإذا كان هو الذي يعطي فاعبده سبحانه، وتوجه بالعبادة إليه، ومن العبادة الدعاء والتوكل على الله والاستغاثة به واللجوء إليه سبحانه، وكذلك الصدق مع الله ومحبته والإخلاص له وتوحيده بجميع أنواع العبادات.
قال تعالى: وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17] أي: اشكروا الله أن ترككم وأمهلكم حتى الآن وأنتم تعبدون غيره لعلكم تتوبون إليه سبحانه، اشكروه أن رزقكم وأنتم تكفرون به وتشركون به، واشكروه أن جعل فيكم من يدعوكم إليه سبحانه وتعالى، فاشكروا نعمة الله عز وجل عليكم بإعطائه ومنه عليكم، وتذكروا أنكم إليه ترجعون.
وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت:18] هذا من خطاب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقومه، أو أن الله عز وجل يقول لهؤلاء المشركين: لستم أول من كذب، كما أن قوم إبراهيم ليسوا أول من كذب، وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت:18] أي: ليس أمراً جديداً أن يكذب قوم إبراهيم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد كذبت الأمم من قبل ذلك، وليس جديداً أن تكذب الرسل، فقد ذكر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [فاطر:4] فالرسل قد كذبهم أقوامهم أول ما دعوهم إلى الله عز وجل، ثم من الله عز وجل بعد ذلك بالهدى على من يشاء، قال: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت:18] أي: يأخذ بالأسباب والنتيجة على الله سبحانه تبارك وتعالى.
اختلفت طبائعهم بحسب ما خلقهم الله من الأرض، فهذا مخلوق من هذه الأرض، وهذا من هذه الأرض، فكان من الأرض السهل والجبل والصعب والوعر، وكذلك أخلاق الناس كهذه الأرض التي خلقوا منها، والله عز وجل على كل شيء قدير.
انظروا إلى مساكن القرون الماضية كيف سكنوا وكيف عمروا في هذه الأرض، وكيف أهلكهم الله، فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58] فتأملوا في الخلق، وتدبروا كيف يصنع الله عز وجل مع عباده ما لم يكن على بالهم وما لم يخطر بحسابهم، قال سبحانه وتعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ [العنكبوت:20] كما بدأ الخلق أول مرة وأفناه فإنه يعيده نشأة أخرى، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت:20]، لم يقل: على الإعادة قدير، ولكن على الإعادة وعلى الإفناء وعلى كل شيء هو قدير سبحانه وتعالى.
قال تعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [العنكبوت:22] أين تهربون من الله سبحانه وتعالى؟ هل تظنون أنكم سوف تفلتون من الله وتهربون منه؟! لن تعجزوا ربكم سبحانه.
فقوله وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هذا من الإعجاز القرآني العظيم؛ لأن فيه إشارة إلى أن الناس سيحاولون الصعود إلى السماء، سيحاولون ذلك، وكان الماضون من المفسرين يتعجبون لهذه الكلمة، فيقولون: وما أنتم بمعجزين في الأرض وأنتم فيها، ولا في السماء فرضاً جدلياً؛ لأنهم لم يروا أحداً، يعني: لن تعجزوا الله لا في الأرض ولا في السماء.
ولم ينزل القرآن للسابقين فقط، بل القرآن للجميع حتى تقوم الساعة، فهو يخاطب الجميع، والله يعلم أنكم في يوم من الأيام ستصنعون الصواريخ والطائرات، وتصعدون إلى السماء، وتظنون أنكم أقوياء وتعجزون غيركم، لكن ولو ذهبتم إلى السماء فلن تقدروا أن تفلتوا من الله سبحانه وتعالى، ولا تتحركون من مكان إلى مكان إلا بإذن الله وبقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى.
وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت:22] أي: من يتولى أمركم من دون الله؟ لا أحد، من ينصركم من دون الله؟ لا أحد.
إذاً: لا ولاية لأحد يتولى أمركم إذا أراد الله عز وجل بكم شيئاً، ولا ينصركم أحد من دون الله إن أراد بكم شراً.
وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [العنكبوت:23] ذكر الله عز وجل أن الكافر يستحق النار خالداً فيها، ويستحق العذاب الأليم المؤلم الموجع.
فقوله: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا [العنكبوت:24] هذا حصر لجوابهم، فهم لم يفكروا في دعوة إبراهيم عليه السلام ولم يناقشوه، بل تشاور بعضهم مع بعض، فقال بعضهم: اقتلوه، وقال بعضهم: حرقوه؛ وأشنع وسيلة لقتل الإنسان أن يحرق بالنار.
ولذلك نهانا الله عز وجل عن ذلك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا أنه لا يحرق بالنار إلا ربها سبحانه وتعالى.
قال تعالى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [العنكبوت:24] وهنا اختصر ربنا سبحانه وتعالى القصة ولم يفصلها كما فصلها في غير هذه السورة، ففي سورة الأنبياء جاء الأمر من الله عز وجل: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [الأنبياء:69-70].
فقوله: فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ فيه بيان قدرة الله سبحانه، الأمر لا يحتاج إلى عناء ولا إلى تعب، حاشا لله سبحانه وتعالى! إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] فهم تشاوروا مع بعضهم واتفقوا على أن يشعلوا ناراً عظيمة، وأججوها حتى كانوا يبتعدون عنها حتى لا تلفحهم هذه النار، ووضعوا إبراهيم في منجنيق، ومن بعيد ألقوا بإبراهيم في النار، فإذا بالله عز وجل يأتي أمره إلى النار: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] فصارت النار جنة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فرأوا أمامهم آية عظيمة، ويا ليتهم آمنوا بالله سبحانه وصدقوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام! ولكن أصروا على ما هم فيه من كفر وعناد، قال الله سبحانه: فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ [العنكبوت:24] لكن هذه الآيات لم تنفع هؤلاء الكفار إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:24] أي: من كان يؤمن ومن كان في قلبه الهدى والتقى تنفعه هذه الآيات.
وقرأها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وقرأها رويس عن يعقوب : مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
وقرأها باقي القراء:(مودةً بينكم في الحياة الدنيا).
(إنما اتخذتم من دون الله) كأنه على الابتداء، والخبر الذي اتخذتموه مودة بينكم في الحياة الدنيا، وباقي القراء يقرءونها: مَوَدَّةً بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، أي: اتخذتم ذلك مودةً بينكم؛ لأن حاله أن يكون كذلك، أو لأجل المودة التي تكون بينكم في الحياة الدنيا.
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ لأنه ليس كل مودة تنفع صاحبها يوم القيامة؛ لأن آية الإيمان الحب في الله والبغض في الله، فيحب المؤمن أخاه في الله، فينتفع بهذه المودة في الدنيا، ويوم القيامة أن يشفع أحدهم لصاحبه، وأن يظلهما الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله.
أما مودة الكفار فيما بينهم فهي فقط في الدنيا، ولكن يوم القيامة قال: يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت:25] وقال تعالى في سورة غافر: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [غافر:47] فيرد عليهم الكبار ويقولون: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ [سبأ:32] أي: نحن لم نمنعكم من الهدى وإنما كنتم مجرمين، فيحدث بينهم يوم القيامة وهم في النار شجار، فيتشاجر بعضهم مع بعض، ويشتم بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً.
يقول سبحانه: وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ [العنكبوت:25]: ملاذكم نار جهنم، ولن تخرجوا من نار جهنم وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ .
يعني: هذه النار التي تكون يوم القيامة هي نار جهنم، وهي سوداء مظلمة على أصحابها، تضطرم عليهم، وهم في هذه النار يشتم بعضهم بعضاً كل يقول للآخر: أنت السبب الذي أدخلتني فيها، ثم يقولون: لو قلنا لخزنة النار أن يشفعوا لنا، فخزنة النار لا تجيبهم ولا ترد عليهم، فيصبرون صبراً طويلاً، فطال صبرهم ثم جزعوا، فقالوا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21] فقالوا لبعضهم: نادوا ربكم، فقالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] أي: لن نعود إلى تكذيب الرسل، وظنوا أنه سيرحمهم، فأجابهم: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].
فهذه نار جهنم التي يدوم مكثهم فيها لا حياة كريمة لهم فيها ولا راحة فيها ولا موت يستريحون به، لذلك المؤمن يتخيل ما يكون في النار، ويتذكر قول الله سبحانه: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر