يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
إخوتي الكرام! نحن بفضل من الله ونعمة وقوة وكرم وجود منه سبحانه وتعالى قد انتهينا من الجزء الأول من كتاب التوحيد لـابن خزيمة ، وسنسرد الأحاديث التي فيه وهي كما يلي:
روى ابن خزيمة في هذه الكتاب العظيم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فوالذي نفسي بيده! ما تضارون إلا كما تضارون في رؤيتهما، يلقى العبد فيقول: أي عبدي! ألم أكرمك، ألم أزوجك؟..) إلى آخر هذه الروايات.
فنستنبط من هذا الحديث صفة، وهذه الصفة شمر لها المجتهدون، وسعد بها السابقون، واشتاقت لها قلوب الموحدين المؤمنين بكرة وعشياً، هذه الصفة هي رؤية الله جل في علاه.
ورؤية الله جل في علاه، ثبتت بالكتاب، وبالسنة، وإجماع أهل السنة، وأيضاً بالنظر والأثر.
فأما الكتاب: فقد قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23].
فقوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ) هذه النضارة ما كانت إلا النظر إلى وجه الله الكريم.
فيتعدى بنفسه فيكون معناه: الانتظار، أي: الانتظار لثواب الله أو لعقابه أو لحسابه.
قال الله تعالى حاكياً لنا عن حال المنافقين على الصراط مع المؤمنين عندما يضاء للمؤمنين وهم يستضيئون بنور المؤمنين، ثم بعد ذلك يضرب بينهم بسور، قال الله تعالى حاكياً عن قولهم: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13].
فقوله تعالى: انْظُرُونَا يعني: انتظرونا، حتى نستفيد من هذا النور فنمر على الصراط المظلم الشائك كما تمرون أنتم.
وأيضاً تتعدى بـ(في) قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ [الأعراف:185]، فهذه الرؤية لازمها التدبر، فهي رؤية تدبر عقلي وقلبي لآيات الله الكونية، حتى تتدبر في لوازم ربوبية الله سبحانه جل في علاه.
إذاً: لو تعدت بـ(في) فهي رؤية بصرية، لكن لازمها الرؤية القلبية بالتدبر.
وأما إذا تعدت بـ(إلى) فالمقصود بها الرؤية البصرية، كما قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، أي: يرون الله بأم أعينهم، فالرؤية بصرية، ولذلك قال الله تعالى: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الأنعام:99]، فهنا رؤية بالبصر، فإذا تعدت الرؤية بـ(إلى) فمعناها الرؤية البصرية.
قال الله تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]
فهنا رؤية بصرية لكن لازمها التدبر لقول الله تعالى: كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا .
وفي قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، هذه الآية تثبت رؤية المؤمنين لربهم، رزقنا الله وإياكم ذلك في الجنة.
والقاعدة: أن حذف المعمول يؤذن بالعموم، فالمعمول هو: المفعول به، والمفعول في قوله تعالى: عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ مبهم، فلا ندري هل ينظرون إلى الحور العين أم ينظرون إلى الجنات أم ينظرون إلى الأنهار التي فيها الخمر واللبن والعسل، والقاعدة عند العلماء: أن حذف المعمول يؤذن بالعموم، فالمفعول هنا: ينظرون إلى وجه الله الكريم وينظرون إلى الجنات، وينظرون إلى الحور العين، وينظرون إلى الفاكهة، وينظرون إلى الثمار، فقول الله تعالى: عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ عمم النظر، فيدخل من هذا العموم النظر إلى وجه الله الكريم سبحانه وتعالى.
إذاً: حكم الرضا يخالف حكم الغضب، فحكم الغضب أنهم حجبوا عنه وياللخسارة، وأما حكم الرضا فالمؤمنون ينظرون إلى وجه الله الكريم.
وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ترون ربكم لا تضامون في رؤيته) فـ(تضامون) روي بالتشديد والتخفيف، فرواية التخفيف (لا تضامُون) يعني: لا يصيبكم الضيم، أي: كلٌ سيرى الله جل وعلا.
و(لا تضامُّون) بالتشديد يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض فيحدث المزاحمة برؤية الله جل وعلا، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً ممن ينظر إلى ربه جل وعلا، وهو راض عنا بذلك.
وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن صهيب : (عندما يدخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك وسعديك، فيقول: يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ ألم تبيض وجوهنا؟ فيكشف الله جل وعلا الحجاب فينظرون إلى وجه الله الكريم)، فأنعم ما ينعمون به هو رؤية الله جل وعلا فينسون كل نعيم، فكل ما في الجنة من نعيم ولذة هو في طي النسيان في مقابل رؤية وجه الله الكريم، اللهم ارزقنا ذلك يا رب العالمين.
فلا بد للإنسان أن يوطن نفسه حتى يرتقي بقلبه شوقاً للذي فوق العرش سبحانه وتعالى؛ لأنه سينظر إلى وجه الله الكريم، والنظر إلى وجه الله الكريم لا يصل إليه أي أحد؛ فإن الله يغار ومن غيرة الله أنه لا يجعل الإنسان يرتقي إلى هذه المنزلة إلا من استحقها، فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة، فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن ينظر إلى وجهه الكريم.
وأيضاً في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين العباد وبين رؤية ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه جل في علاه) فرداء الكبرياء إذا كشفه الله جل وعلا نظر المؤمنون إلى وجه الله، وبالنظر إلى وجه الله يزول كل نعيم مقابل هذا النعيم، رزقنا الله وإياكم النظر إلى وجهه الكريم.
أولاً: أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)، فسؤال موسى لربه جل في علاه إما أن يكون أن هذا السؤال في محله أو يكون في غير محله، وحاشا لموسى وهو أعلم أهل الأرض في زمانه بالله جل وعلا، فكيف يسأل سؤالاً لا يجوز له أن يسأله، فإذا سأل موسى -وهو أعلم أهل الأرض بالله- علمنا أن موسى يعلم أن رؤية الله ممكنة.
ثانياً: لو كان هذا السؤال تنزلاً من باب التعدي فهل يقر الله جل وعلا على باطل؟! كلا، فنوح عليه السلام لما قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود:45-46]، ثم قال: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46]، فلم يقر نوحاً عليه السلام عندما سأله إنقاذ ابنه، فبين الله له جل وعلا أن هذا السؤال من باب التعدي، فلا تسأل هذا السؤال.
فلو كان سؤال موسى عليه السلام من باب سؤال نوح لابنه لرد الله عليه ولما أقره، فلما أقره الله على سؤاله دل ذلك على أن رؤية الله ممكنة، ثم إن الله جل وعلا ما أنكر عليه بل قال له: انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، فعلق الرؤية على ممكن؛ لأن الجبل ممكن أن يستقر، وأنت الآن لا تستطيع أن ترى ربك في الدنيا، لكن في الآخرة ستراه؛ لأن الله سيبدل القوة البصرية بقوة بصرية أخرى فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، فالعين المجردة لا تستطيع رؤية الله جل وعلا في الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فما يستطيع أحد رؤية الله جل وعلا، فلذلك قال الله جل وعلا: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] فعلق الرؤية على ممكن، أي: لو استقر الجبل ستراني، فتعليق الرؤية على ممكن يدل على أن الرؤية أيضاً ممكنة، فهذا من باب النظر من أن المؤمن سيرى ربه جل في علاه في الآخرة، وأما في الدنيا فلا يمكن لمؤمن أن يرى ربه إلا في حالة واحدة وهي: في المنام أو الرؤية القلبية.
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الدنيا عندما عرج به، واستدل القائلون بذلك بقول الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15].
واستدلوا أيضاً بقول ابن عباس لما سئل: هل رأى محمد ربه؟! قال: رأى ربه مرتين.
وبقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (هل رأيت ربك؟ قال: نور إني أراه) فأثبت رؤية الله جل وعلا، كأنه يقول: الله نور ووجه الله نور فإني أراه.
والقول الثاني -وهو قول الجمهور من أهل العلم-: أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ولذلك ورد عن عائشة بسند صحيح عندما قيل لها: (إن أقواماً يقولون: إن محمداً رأى ربه؟ فقالت: من قال إن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية) يعني: أعظم على الله الكذب، والكذب هنا بمعنى الخطأ.
وأيضاً ردت على من قال بأن الله يُرى في الدنيا لقوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:13-14]، فأولت ذلك وقالت: المراد بذلك جبريل، فقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين على صورته، فأما المرة الأولى فعندما نزل من الغار، فوجد جبريل يجلس على كرسيه في السماء ورجله في الأرض، ولما رآه رعب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (زملوني، زملوني، دثروني دثروني).
والمرة الثانية: عندما عرج به إلى السماء السابعة، فرأى جبريل عليه السلام على صورته، فهذا تأويل الآية وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:13-14].
وأما الرؤية القلبية فتقر بها عائشة ويقر بها ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
والحديث الذي احتج به الجمهور حديث في الصحيحين وهو لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) فـ(أنى أراه) بمعنى: كيف أراه وحجابه النور؟ وهذا أيضاً مصداق لهذا الحديث العظيم.
وأما ابن عباس فقد تضاربت الأقوال عنه، فقد سئل ابن عباس مرة أخرى: (هل رأى محمد ربه؟ قال: بلى -أو قال نعم- رآه بقلبه مرتين) ونحن نقول بهذا.
إذاً: هي ليست رؤية عينية ولكنها رؤية قلبية، وهي في المنام.
هذا آخر الفوائد المستنبطة من هذه الأحاديث التي هي من هذا الجزء الأول.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر