يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
بعدما انتهينا من الكلام عن القضاء والقدر، ومن الكلام عن الإيمان والإسلام، سنتكلم هنا عن مسألة تخص الإيمان، وهي: لوازم إقرار الإيمان في القلب محض التسليم لأوامر الله جل في علاه، ومحض التسليم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، انطلاقاً من قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] سواء كان خبراً أو إنشاءً، أو كان أمراً أو قضاءً.
وأيضاً قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
والشافعي رحمه الله ورضي عنه ضرب لنا أروع الأمثلة في محض التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حتى اشتهر عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي؛ ولذلك قال بعض المؤرخين: كان للشافعي على كل شافعي المنة، وكان للبيهقي المنة على الشافعي ؛ لأنه عمل بهذه القاعدة: إن صح الحديث فهو مذهبي، فأخذ كل مسألة تكلم فيها الشافعي بغير دليل يدلل عليها، ثم نظر في الأحاديث التي علق الشافعي القول فيها على صحة الحديث ثم صححها، وبين أن هذا هو مذهب الشافعي ؛ ولذلك قال الشافعي : آمنت بالله وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله. فهذا هو الرجل السلفي الذي يؤمن ويعتقد كما اعتقد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بكل ما جاء عن الله وعن رسول الله مسلماً تسليماً تاماً، وفي قوله هذا إشارة قوية إلى قوة الإيمان في قلبه، ولذلك فلا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول فقيه، ولا تعارض سنن النبي صلى الله عليه وسلم بهوى، ولا يقدم العقل على النقل كما سنذكر.
فهذه مقدمة أطرحها بين يدي هذه المسألة التي بينها المصنف، وهي الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كأن المصنف يقول: لا تعترض على أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء الصفات الخُلقية، أو الخَلقية، أو ما جرى من كرامات على يد أصحابه، أو معجزات على يده صلى الله عليه وسلم، أو ما جرى من أمر الله جل في علاه، كل ذلك لا تعترض عليه بعقل خرب تصد به هذه السنن، كأن تقول: أمرر هذه السنن على عقولنا وفطرنا، فإن قبلها العقل أخذنا بها، وإلا رددناها على صاحبها، وهذا الذي جر كثيراً من أهل البدع والضلالة أن يطعنوا في البخاري وفي مسلم وفي النسائي ، بل يطعنوا في أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنهم لم يقبلوا أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأهواء عفنة، وبعقول خربة صدوا بها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فردوها، ولذلك إذا أردت أن تختبر إيمان العبد فقل له: قد قال الله وقال رسوله، مدللاً على مسألة تخالف هواه، وتخالف ما عاش عليه مع آبائه، فإن رأيته قال: سمعت وأطعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأوامر الله، فاعلم أن الإيمان في هذا الرجل قد تغلغل في قلبه، وإن رأيت الرجل يعترض باعتراضات لا تقوى أن تقف أمام حديث النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه يتبع هواه كما سنبين.
ثم أتى لنا بواقعة هي من أهم الوقائع في تاريخ البشرية، وهي واقعة فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي واقعة الإسراء والمعراج، فبعدما اشتد الكرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكالبوا عليه، بل واتهموه بأكذب الأباطيل، فقالوا عنه: ساحر، وقالوا عنه: مجنون، وقالوا: إنه يفرق بين المرء وزوجه، ويفرق بين الابن وأبيه، ولم يكتفوا بهذه الاتهامات الباطلة بل إنهم أتوا بسلى جزور فوضعوها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وهو يصلي في الكعبة، ولم يكتفوا بذلك أيضاً بل تكالبوا عليه وتآمروا على قتله أو طرده وتشريده وإبعاده، والله جل في علاه علم بالحزن الشديد والهم العميق في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يفرج عنه الكرب رحمة من الله جل في علاه سبحانه الرحيم، فتنزلت رحماته تترا على عبده ورسوله ونبيه وخليله من خلقه صلى الله عليه وسلم، فجاءه جبريل ذات ليلة فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق فركب البراق، ثم ذهب به في هذه الليلة إلى بيت المقدس، فنظر إلى بيت المقدس وما فيه من بنايات، ثم بعد ذلك شرف الله سيد الخلق أجمعين أعظم تشريف، حيث أتى له بالأنبياء قاطبةً فأمهم وصلى بهم إماماً بأبي هو وأمي، ثم لم يكتف التفريج إلى هنا، بل أخذه جبريل وصعد به معراجاً إلى السماء، وفي كل سماء يدق باب السماء فيقول الملك: من؟ فيقول: جبريل، فيقول: ومن معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أوبعث؟! فيقول: اللهم نعم، فيقول: مرحباً بالنبي الصالح، إلى أن انتهى إلى صريف الأقلام، وفرض الله عليه وعلى أمته خمسين صلاة، ثم خففها إلى أن وصلت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنام بقية الليلة عند البيت أو عند الحجر، فجاءه أبو جهل ومن معه من صناديد قريش، فقال لهم: أقص عليكم ما حدث لي: إني أسري بي إلى بيت المقدس، فوقف الناس موقفاً عظيماً وقالوا: نهتبل هذه الفرصة، فهي فرصة السقوط وبيان كذب هذا الرجل -حاشا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يكذب- فأخذوها واهتبلوها فرصة وقالوا: إن أول الناس الذي لا يمكن أن يصدق هذا الكلام أبو بكر ، فهو الذي يناصره بكليته، لكن هذا الخبر لا يصدقه، فذهبوا إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا: أرأيت ما يقول صاحبك؟ قال: ما يقول؟ قالوا: يقول: إنه في هذه الليلة قد أسري به إلى بيت المقدس، فقال: أوقد قال؟ انظروا إلى الإيمان التام والتسليم التام من أبي بكر، فالذي نريده من كل مؤمن ومسلم أن يسلم لأوامر الله، ولأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يسلم لقضاء الله وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لهم: أوقد قال؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: إن كان قد قال ذلك فقد صدق، فاندهشوا فقالوا: نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس وهو في ليلة واحدة يذهب ويجيء! فقال: إني أصدقه فيما هو فوق ذلك، أصدقه أنه يأتيه الوحي من السماء؛ ولذلك لقب بـالصديق من يومئذ رضي الله عنه وأرضاه، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مرة ثانية يجرون أذيال الخيبة، فقالوا له: صف لنا بيت المقدس؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فقد غابت عني نواح من بيت المقدس فاهتممت لذلك أو قال: اغتممت لذلك، فجاءني جبريل بصورة بيت المقدس)، وهذه لا تستبعد، فالفيديو الآن يمكن من خلاله أن تنظر إلى بيت المقدس بشريط الفيديو، فأخذ النبي ينظر فيه كأنه صورة في شاشة ينظر فيها بيت المقدس، ويقص عليهم: الناحية اليمنى كذا، وكانوا قد وصلوا إلى بيت المقدس وعرفوا دقائقه، فأتى بكل دقيق وجليل في بيت المقدس فاندهشوا جداً، ثم قال لهم: إن عير فلان تأتيكم من خلف الجبل الآن، فوجدوا العير كما قال بأبي هو وأمي، لكنهم ختم الله على قلوبهم، ومن أراد الله أن يزيغ قلبه فلن ترى من يقيم قلبه مرة أخرى.
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] إلى آخر الآيات.
إذا تبنيت مسألة ووجدت أن الدليل يلوح لك في الأفق من كلام الله وكلام الرسول، فلو وقف الخط الخلفي كله أمامك، بل لو وقفت الأمة بأسرها أمامك فلا تتزعزع، فشخصية طالب العلم لا يمكن أن تتزعزع إن كان راسخاً في العلم، أما إن كان مهزوزاً أو إمعة يتبع كل ناعق فهذا الذي لا ترجو منه الخير، أما الذي يثبت بقدم راسخة مع العلم والدليل الذي يتبناه فهذا الممدوح.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن المسألة من الله جل في علاه، ويعلم أنه سيكذب بل ويتهم بالاتهامات الباطلة، وهذا فيه البلاء الشديد؛ ولذلك الله جل وعلا يسليه ويقول: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام:33].
إذاً: بهذه القصة تبين أن الأنبياء أشد بلاء؛ لأن الهمج الرعاع سيواجهونه مواجهة دامية، وهو يقف صامداً على ما هو عليه من الحق؛ لأن الله جل وعلا أمره بذلك، وهو الذي أوحى إليه بذلك.
أما الأثر: فقد قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] والباء هنا للمصاحبة والإلصاق، وباء المصاحبة معناها: بكلية الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: بروحه وجسده، وكذا جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جبريل أتاه بالبراق، وركب البراق -حقيقة- وأن البراق كان يضع رجله حيث ينتهي بصره) فغير متعذر أن يصل إلى هناك بدقيقة أو دقيقتين وأسرع من ذلك وعرج به إلى السماء.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أن جبريل جاءه وشق صدره، وأخرج قلبه ووضعه في طست من ذهب فغسله بماء زمزم ونزع منه حظ الشيطان) وهذه حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في الصغر، ومرة عندما عرج به وملئ صدره علماً وحكمة، وهذه كما قلت على الحقيقة، فيكون الإسراء بالجسد وبالروح، هذا من الأثر.
أما من النظر: فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصناديد قريش: قد رأيت في منامي أني تجولت في نواحي بيت المقدس، فلن تقوم هذه الحرب الشعواء على النبي صلى الله عليه وسلم، بل سيقولون: رجل رأى رؤيا وهم يقبلون الرؤيا؛ لأنه لو تحدث أي متحدث عن الرؤيا فسيقبلونها، فهذه الحرب الشديدة على النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنهم كانوا يستيقنون أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (أسري بي) يؤكد أن الإسراء كان بالجسد وبالروح، ولم يكن بالروح فقط. إذاً: الإسراء كان بالجسد وبالروح.
أولاً: نقول: من أين أتوا بهذا؟ بل لا بد أن يعلم أن هذه بدعة مضيئة، والعلماء المحققون اختلفوا في زمن الإسراء والمعراج: هل كان قبل الهجرة أم بعدها؟ وإن كان قبلها فهل كان قبلها بعام أم قبلها بثلاثة أعوام؟ ولم يعرفوا اليوم الذي أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج فيه إلى السماء، فالتحديد نفسه افتراء على الله وافتراء على رسوله صلى الله عليه وسلم، فالجزم بأنه في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب جزم باطل، والأحاديث التي جاءت في ذلك أحاديث باطلة لا تصح.
ثانياً: إذا قلنا بهذا التحديد فإن هذه البدعة المنكرة التي تحدث ليلة الإسراء والمعراج من الشوادر وقراءة القرآن والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والأناشيد التي فيها الكفريات كـبردة البويصري التي يقول فيها:
ومن جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
إذاً: ليس هناك شيء لله جل في علاه، وإنما من جود النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا وضرتها، أي: الآخرة.
وقوله: (ومن علومك علم اللوح والقلم) أي: ليس هناك علم لله جل في علاه، وهذا الكلام بدعة منكرة مقيتة، فعلى كل إنسان يرى ذلك أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وذلك بأن يبين أن هذه بدعة لم يرد فيها دليل من السنة، ولا دليل من سنة الخلفاء الراشدين، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، لو كان هذا اليوم يوم عيد لاحتفل به أبو بكر ، واحتفل به عمر ، واحتفل به عثمان ، واحتفل به علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ولاحتفل به الأفاضل كـالشافعي ولقرره في كتبه مالك ولفعل ذلك أبو حنيفة رضي الله عنهم أجمعين، ولكن لم يفعل السلف هذا، فهذه فيها دلالة واضحة على أن ما يفعلونه بدعة خلفية وليست سلفية، والخير كل الخير في اتباع من سلف، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
معلوم أن ملك الموت يأتي كل إنسان، وأن الموت سيدور على كل إنسان، كما أن الرزق يدور على كل إنسان، انبثاقاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نفخ في روعي الروح الأمين: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها) فقرن الرزق والأجل، فكأس الموت سيدور، وهذه العبودية تسمى عبودية أرباب العقيدة السليمة وأصحاب التوحيد السديد الذين تعلموا الربوبية والإلهية والأسماء والصفات، وتسمى هذه العبودية بالعبودية الخاصة، ومعلوم أنا كنا قد قسمنا العبودية إلى قسمين: عبودية عامة، وعبودية خاصة، فالعبودية العامة: هي عبودية المؤمن والكافر، فكل منهما يعبد هذه العبادة فهما مستويان فيها؛ لأن العبودية العامة هي عبودية القهر، وعبودية الإصابة بالبليات فلا يستطيع أحد أن يرد على الله أمره، فلو قضى الله بموت أحد فلا يستطيع أن يقول: لا، أنا لن أموت هذا اليوم، سواء كان كافراً جَلْدَاً أو مؤمناً؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93] أي: الكل عبد بالربوبية لا عبد بالإلهية، فعبودية القهر هي العبودية العامة، فالكل خاضع لعبودية القهر، وكل إنسان لا يمكن أن يرد على الله جل في علاه أمره في الموت.
ومعلوم أن ملك الموت يأتي الأنبياء فيخيرهم بين الحياة وبين الموت، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة قال فيها: (خير عبد بين الدنيا والآخرة، فبكى
فهذا دليل على أن جبريل جاء في صورة بشر، كذلك يقول تعالى: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17] فجبريل عليه السلام جاء مريم في صورة بشر، كذلك جاء ملك الموت ودخل على موسى عليه السلام متمثلاً في صورة البشر، فلما دخل على موسى نظر إليه فوجده غريباً في بيته، وظنه معتدياً، وموسى يخشى على حريمه وعلى نفسه، ولم يعلم موسى أنه جاء ليقبض روحه، أليس من جانب الشرع أنه إذا جاء رجل يريد قتلك أن تدفعه بالأهون ثم الأهون؟ وموسى عليه السلام قد دفعه بالأهون وفقأ عينه، وكان هذا هو الأهون، وموسى عليه السلام كان له قوة أربعين رجلاً، فقد قيل: إن البئر التي نزع عنها الغطاء وسقى للمرأتين كان لا يمكن أن يحرك غطاءها إلا أربعون رجلاً ولو كانوا أقل من ذلك فلن يستطيعوا تحريكه.
وموسى عليه السلام لما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ماذا فعل؟ لقد صور القرآن هذه الحادثة قال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15] أي: دفعه دفعاً هيناً فمات.
فموسى عليه السلام نظر إلى هذا الغريب يدخل إلى بيته وعنده أهله فخشي عليهم وعلى نفسه فلطمه، وما أراد قتله بل لطمه ففقأ عينه، فرجع الملك إلى ربه فقال: إنك بعثتني إلى رجل لا يريد الموت، وكأنه ظن أن موسى لا يريد الموت، وهذا حد علم الملك؛ ولذلك الله جل وعلا بين له أن موسى يريد لقاءه، فقال للملك: قل له: يقول الله لك: ضع يدك على متن ثور ولك بكل شعرة تمسها يدك سنة حياة، فقال موسى: ثم ما يكون بعد؟ قال: الموت، قال: إذاً الآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم الرفيق الأعلى) فقبض روحه.
العلة الأولى: أن موسى لا يمكن أن يفقأ عين الملك؛ لأن الملك بصيحة واحدة يهدم قرية كاملة، وبجناح واحد يهدم قرية كاملة، كما أن طوله من السماء إلى الأرض فكيف يفقأ عينه موسى؟
العلة الثانية: أن هذا تفسير سطحي جداً، كيف لا يرضى موسى بلقاء الله جل في علاه؟
فهذه شبه ترد بها الأحاديث التي ثبتت ثبوت الجبال الرواسي، هذا الفكر فكر المعتزلة، وإن لم يعرف الناس أن فكرهم فكر الاعتزال، لكن والله ما يفعلون وما يقولون هو فكر الاعتزال؛ ولذلك قال قائلهم: لو رأى البخاري ما تفعل تاتشر ما قال هذا الحديث! وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أفلح الله قوماً ولوا أمرهم امرأة) فهو يرد حديث البخاري بهذه المقولة السخيفة، يغفر الله لنا وله، وما منا من أحد معصوم، فالمعصوم من عصمه الله وكلنا ذو جهل وذو خطأ، لكننا نقول: المخطئ الذي يتصدى لحديث النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن يرجع إلى الصواب، فإن أصر على ذلك فلا بد من تحذير الناس مما هو فيه، وهذا الذي قال ذلك قد مات رحمة الله عليه، وأسأل الله أن يتغمده في رحماته، وكفى ببشريات الخير له أنه تمنى الموت في المدينة فأجاب الله له هذه الأمنية ومات في المدينة، وكفى فخراً أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن أفضل الموتات هي الموتة في البلاد المقدسة، حفظ الله مكة والمدينة وسائر بلاد المسلمين من كل شر، لكن لا بد أن نحارب من أجل سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بد لزاماً أن نقول: الشيخ الغزالي حبيب إلينا، ولكن الحق أحب إلينا منه، فأفراخ الشيخ الغزالي رحمة الله عليه في هذا الزمن موجودة بكثرة، وهو صاحب قاعدة التسهيل على الناس كثيراً، ولا بد أن يعلم أن في فكره اعتزالاً وتمييعاً للعقيدة؛ لأنه لم يكن ضابطاً لأمر العقيدة.
حتى الفتاوى التي أفتى بها مؤخراً كلها فتاوى لا يؤخذ بها؛ لأنها ستضيع الأمة وتجعلهم يتخبطون خبط عشواء، ولذا لا بد أن يعلم أن الذي جاء به وأصحابه ما جاء إلا بسبب تقديم العقل على النقل؛ ولذلك سنجد عند الحديث عن أشراط الساعة أنهم يرفضون رفضاً تاماً حياة المسيح الدجال، ويقولون: إن الدجال ليس موجوداً حتى الآن، ولو سألتهم عن ذلك لقالوا: الأقمار الصناعية منتشرة، والنظر الدقيق بالتكنولوجيا لم يبين شيئاً حتى الآن، كما أن الأقمار الصناعية أظهرت كل دقيق وجليل في الأرض، ولم تظهر لنا الدجال .
فتجدهم يعارضون السنن بهذه النظريات العلمية التي تخطئ وتصيب، والجبال الرواسي من السنن تهدم أمام هذه النظريات، فهؤلاء الأفراخ أصحاب الفكر الاعتزالي لا يعلمون للسنة احتراماً ولا تقديراً، وأفعالهم تدل على هذا، ونحن لا نلزم المرء بلازم فعله، ولكنني أحذر فقط من هؤلاء، ومن السماع لهم، أو السماع لفتاواهم؛ فإنهم ردوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتجرءوا على البخاري وأحمد ومسلم وقالوا عنهم: إن نظر هؤلاء سطحي!!
ولذا أقول: هذه البدعة المقيتة وهذا الترفع الضائع من هؤلاء الرويبضات؛ ما جاء إلا عند عدم وجود طلبة العلم الذين يتصدون لهذه البدع ويحافظون على دين الله.
القول الأول: أنه على الوجوب، وهذا قول الشافعية.
القول الثاني: سنة مستحبة، وهذا قول الحنابلة وهم الذين قالوا بالسنية.
القول الثالث: أن الختان مكرمة للمرأة، فهو على الإباحة وليس مستحباً، وهو قول المالكية.
والمقصود أنه لم يقل أحد من السلف بأن الختان للمرأة ظلم.
ومن تلك الفتاوى المظلمة: عندما قيل لإحدى المغنيات وهي تشتكي من أن أخرى غنت أغنيتها فقيل لها: ارفعي قضية عليها، وهذا ضمناً فيه إباحة الغناء، وإباحة العري والسفور الذي يحدث، فهذا الرجل يفتي بهذه الفتاوى؛ لأنه ليس هناك طالب علم يبين للناس هذا الكلام الباطل المخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، المخالف لنهج السلف.
وكذا الفتاوى الأخرى التي تطل علينا كفتوى جواز أن تصلي المرأة وهي عارية في مكان مظلم، والقول بأن الدخان حلال للأغنياء حرام على الفقراء، فأين طالب العلم الذي يتصدى لهذه الفتاوى المضللة؟! وأين الذي يدافع عن عرين السنة؟! أين أسد السنة الذي يقول: نذرت نفسي لربي، وأوقفت نفسي لربي؟ نريد طالب علم مجد في معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يميز الصحيح من الضعيف، حتى يدافع عن دين الله جل في علاه ويرد على المبتدعة.
إذاً: فلا بد من طالب علم يبين هذا الأمر، ويرد عن حياض هذا الدين بعلم ودقة وإتقان.
والمعتزلة يعتقدون ثم يستدلون، والقاعدة عند السلف: الدليل قبل الاعتقاد، أي: تستدل ثم تعتقد؛ حتى ينبثق اعتقادك من الدليل الناصع البياض، الذي هو أسطع من شمس النهار في الصحة.
وهنا أشير إلى أنه لا بد على الإخوة أن يتبنوا هذا المنهج؛ لأن أهل البدع قد بزغوا، وقد أخبرني ثقة أن الشيخ أبا إسحاق كاد يموت حين سمع أن رجلاً خرج علينا من الأزهر وضعف مائتين وثلاثين حديثاً في البخاري ، مع أن الحافظ الدارقطني انقطعت أنفاسه وكاد يقتل حين انتقد خمسة عشر حديثاً أو ستة عشر حديثاً على البخاري، ولم يوافق على الأحاديث التي انتقدها على البخاري إلا أحرفاً يسيرة، وهذا يضعف مائتين وثلاثين حديثاً! وعندما جاء الرجل وسألناه: كيف ضعفت هذه الأحاديث؟ فلعل عندك علماً بأصول السنة وفكراً عالياً بالمتون، فلم يكن عنده شيء من علم، فسألناه: هل عندك علم؟ فأجاب: لست وحدي الذي أتكلم لكي تعاتبني، بل كل الناس تتكلم!!
إذاً: فهذه موجة الكل يركبها، ولا بد أنه سيتكلم طالما أن هناك أناساً يسمعون.
فعندما ترى أن الأحاديث الصحاح ترد من أجل أنها تخالف العقل الخرب، فهذه دلالة على أن الدنيا آذنت بخراب؛ لأن الله جل وعلا أناط قيام القيامة برفع العلم وفشو الجهل، وفشو الجهل واضح جلي بين الناس، فعلينا أن نرجع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ونجليه بين الناس، ونبين أننا نحترم الأشخاص ونضعهم فوق رءوسنا، لكن لا نقدم أحداً أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر