الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون، فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن، حيث يقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4]، وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]؛ ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح ].
آخر ما ذكر الشيخ رحمه الله من القواعد في هذه المقدمة قوله: [ وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات ] وبينا النفي الوارد في كتاب الله عز وجل والإثبات، وقلنا: إن الأصل فيما وصف الله به نفسه الإثبات، فهذا الأصل، حتى النفي الذي وصف الله به نفسه المقصود به والمراد منه الإثبات، وهذه هي طريقة القرآن، وهي الطريق التي سلكها سلف الأمة، وسار عليها من سلك منهج الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وقابل هذا الطريق وخالفه الذين وصفوا الله عز وجل بالنفي تفصيلاً، وبالإثبات إجمالاً، وهؤلاء هم المتكلمون، فالمطالع ما ألفه المتكلمون من أهل البدع في هذا الباب يجد أنهم يفصلون ويطنبون في السلوب والنفي، ويجملون في الإثبات، حتى إن بعضهم لا يثبت لله عز وجل وصفاً إلا وصف الوجود.
ولا شك أن هذا في غاية المضادة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بينه القرآن؛ فإن القرآن لم يأت بالنفي إلا لأجل الإثبات، ولم يأت نفي مقصود لذاته؛ ولذلك تجد أن هؤلاء المفتونين بالكلام يجعلون التنزيه والتقديس فيما يصفون الله به سبحانه وتعالى من السلوب، فتجد أحدهم يقول: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، ولا يرى، ولا يشار إليه، ولا يقرب منه شيء، ولا يقرب من شيء، وما إلى ذلك من النفي، وهم يريدون بهذا النفي -زعموا- التنزيه والتعظيم، لكن أي تنزيه وتعظيم في قلب العبد إذا اعتقد مثل هذا الكلام الذي لا يحصل منه إلا النفي؟! قال الله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ.. [الحشر:22-23] إلى آخر ما ذكر الله من أسمائه وصفاته في هذا الموضع وفي غيره، فمن أي الطريقين يحصل للعبد تعظيم الله عز وجل؟
فذاك لا يحصل به إلا الجفاء والغلظة للقلب والجهل بالرب، وأما هذا الطريق -طريق القرآن- فهو الذي يحصل به غاية العلم بالله سبحانه وتعالى، العلم الذي يستطيعه المخلوق؛ لأن العليم الخبير أعطانا وأظهر لنا من العلم المتعلق بذاته ما تحيط به عقولنا، وما تستطيع أن تدركه أذهاننا، والإحاطة التي ذكرناها ليست الإحاطة التامة، إنما هي إحاطة الإدراك، وإلا فالكيفيات أمرها إلى الله عز وجل لا نحيط بها، كما تقدم بيانه في الشرح.
ثم بعد أن بين الشيخ رحمه الله هذا، وبين أن أهل السنة والجماعة ملتزمون بهذا الصراط، سالكون هذا السبيل لا يحيدون عنه ولا يميلون، بين أن هذا الصراط هو صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وبهذا تعلم أن ما جاءت به الرسل فيما يتعلق بالخبر عن الله عز وجل واحد، فلم تختلف الرسل فيما أخبرت به عن الله عز وجل؛ لأن الرب الذي بعث أولهم هو الذي بعث آخرهم، فالموصوف والمدعو إليه في جميع الرسالات هو رب واحد، هو رب العالمين الذي جاء القرآن ببيان أوصافه والخبر عنه على أكمل وجه.
ثم بعد أن فرغ من هذا الفصل أتى بفصل بين فيه بعض ما في كتاب الله عز وجل مما يتعلق بالخبر عنه سبحانه وتعالى، تطبيقاً للقواعد المتقدمة واستدلالاً لها، فقال رحمه الله: [ وقد دخل في هذه الجملة ]، والمشار إليه هو ما تقدم من القواعد المتعلقة بالأسماء والصفات.
وقد تقدم لنا في كلامه رحمه الله قاعدتان: القاعدة الأولى: لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
الثانية: أنه سبحانه وتعالى جمع فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات، فننظر إلى ما ساقه رحمه الله من الأمثلة، وما أدرجه تحت تلك الجملة.
فقال: [ وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص ]، وسورة الإخلاص هي سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، والاسم المشهور في السنة لهذه السورة هو قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، سميت بأول ما جاء فيها، وورد اسم الإخلاص لهذه السورة في السنة أيضاً في جامع الترمذي، لكن الاسم المشهور الذي وردت به الأحاديث هو قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وسميت بهذا الاسم لأنها أخلصت في الخبر عن الله عز وجل، هذا فيما يتعلق بمضمونها.
وأما ما يتعلق بمطلوبها فلأن من عمل بها، وقام بما تضمنته فإنه حقق الإخلاص، وهذه السورة لها شأن عظيم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح بها صلاة النهار ويختتم بها صلاة الليل، فكان يقرأ بها في وتره، ويقرؤها في سنة الفجر في ركعتي الفجر، وفي ركعتي المغرب، وفي ركعتي الطواف، فكان يكررها صلى الله عليه وسلم في العديد من النوافل، وقد قال لأصحابه مرة: (احشدوا -أمرهم بالاجتماع- أقرأ عليكم ثلث القرآن، فلما احتشدوا واجتمعوا قرأ عليهم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ثم قال: ألا إنها تعدل ثلث القرآن)، فجمعهم صلى الله عليه وسلم ليبين لهم صفة ربهم سبحانه وتعالى، وفضل ما جاء في هذه السورة.
قال المؤلف رحمه الله: [ في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن ]. أي: تعدل في الثواب والجزاء، ووجه كونها تعدل ثلث القرآن أن معاني القرآن ثلاثة: ثلث يتعلق بالله عز وجل، وثلث يتعلق بالأحكام، وثلث يتعلق بالقصص والأخبار، وهذه السورة تضمنت الثلث المتعلق بالخبر عن الله وعن التوحيد، وذكرنا أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب والجزاء، لكن هل تعدل ثلث القرآن في الإجزاء والاكتفاء؟
الجواب: لا؛ ولذلك لو قرأ الإنسان هذه السورة في ركعة من صلاته ثلاث مرات فإنها تعدل القرآن في الثواب، لكن هل تكفيه عن قراءة الفاتحة؟ لا تكفيه عن قراءة الفاتحة؛ لأنها تعدل ثلث القرآن في الثواب لا في الإجزاء.
قال رحمه الله: [ تعدل ثلث القرآن حيث يقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] ].
افتتحت هذه السورة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقول الذاتي، والقول الإعلامي الإخباري التبليغي؛ وذلك لأهمية ما تضمنته هذه السورة، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغ القرآن كله، لكن حيثما رأيت القرآن أمر الله عز وجل نبيه بأن يقول، فذاك لأن المضمون بعد القول أمر يحتاج إلى عناية وانتباه.
الأمر الأول: إثبات الأحدية لله سبحانه وتعالى التي تقتضي نفي الشريك، وذلك في قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].
الأمر الثاني: إثبات الصمدية له سبحانه وتعالى، وهي تقتضي اتصافه بأوصاف الكمال.
الأمر الثالث: إثبات تنزهه سبحانه وتعالى عن الشبيه والنظير والمثيل، وذلك في قوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4].
وقوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2] فيه إثبات هذا الاسم له سبحانه وتعالى، والصمد تنوعت عبارات السلف في بيانه وشرحه وتفسيره، وأشهرها تفسيران:
التفسير الأول -وهو الأكثر والأشهر في كتب المفسرين، والأكثر المنقول عن الصحابة والتابعين- تفسيره بأنه الذي لا جوف له، فهو مصمت سبحانه وتعالى، ونزه ربك عن المثال، أو عن تصور حقيقة هذه الصفة، فإنه لم يدر في خلد صحابة رسول الله ولا التابعين ولا سلف هذه الأمة التمثيل أو التشبيه، بل هم سائرون على ما تقدم تقريره من قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فإثبات هذا المعنى لا يلزم منه أي محذور، ولا أي نقص في الرب سبحانه وتعالى، وإنما فسر بأنه لا جوف له لأنه الغني سبحانه وتعالى، وإنما احتاج غيره إلى الجوف لافتقاره إلى ما يغذيه، أو إلى ما تقوم حياته به، وهو سبحانه الصمد القائم بنفسه الغني عن كل أحد، فليس به حاجة إلى أحد سبحانه وتعالى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].
التفسير الثاني للصمد -وهو الذي جاء في كلام بعض السلف، ورجحه كثير من المتأخرين- أنه السيد الذي تنزل به الحوائج، فيكون (الصمد) بمعنى (القيوم)؛ لأن القيوم الذي يقوم على كل نفس بما كسبت، فلا قيام لنفس من أنفس بني آدم ومن أنفس غير بني آدم إلا به سبحانه وتعالى، فالمعنى الثاني: الصمد الذي تنزل به حوائج الخلق ويقضيها جل وعلا. وهذان المعنيان هما بمعنى (القيوم) كما بينا في المعنى الثاني، وكذلك في المعنى الأول؛ لأنه القائم بنفسه المقيم لغيره.
وجمع آخرون بين هذين المعنيين لهذا الاسم العظيم فقالوا: إن الصمد هو الكامل في أوصافه، فله من العلم غايته، وله من الحلم نهايته، وله من كل صفة منتهاها، فلا فوق ما وصف به نفسه من الصفات، فله الغاية في كل صفة من أوصافه، وهذا المعنى ورد عن بعض السلف فقال: السيد الذي كمل في سؤدده، الحليم الذي كمل في حلمه، العليم الذي كمل في علمه، فيكون معنى الصمد: هو الكامل في أوصافه.
واعلم أن هذا الاسم من الأسماء الحسنى لم يرد ذكره في غير هذه السورة، فيكون ثاني اسم من الأسماء التي اختصت به هذه السورة التي بينت صفة الرحمن سبحانه وتعالى.
الجواب: لا، إنما هو نفي لإثبات كمال الغنى، هذا من حيث المعنى العام، ونفي ما وصفه به الجاهليون من أن له ولداً، كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، فكل هذا منفي بقوله سبحانه وتعالى: (لم يلد)، وهذا النفي في هذه الآية لبيان كمال صمديته سبحانه وتعالى؛ ولذلك فسر جماعة (الصمد) بأنه الذي لم يلد ولم يولد.
ثم قال: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ، وهذا فيه النفي أيضاً، ووصفه سبحانه وتعالى بالنفي والسلب، وهو نفي وسلب إجمالي، والمراد منه نفي الشريك، ونفي النظير وهو المثيل العديل؛ وذلك لكمال تفرده سبحانه وتعالى بصفات الكمال، وهو معنى قوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ومعنى قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65]، ومعنى قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22]، ومعنى قوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فهذا نفي مجمل لبيان كمال انفراده سبحانه وتعالى.
واعلم أنه سبحانه وتعالى لا كفؤ له في أسمائه، ولا كفؤ له في صفاته، ولا كفؤ له في أفعاله، ولا كفؤ له في شيء من أموره، بل ولا فيما يجب له؛ ولذلك إذا جمعت بين أول هذه السورة وآخرها وبين قوله: (اللَّهُ أَحَدٌ)، وبين قوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ اجتمع لك غاية التوحيد بنفي التمثيل ونفي الشريك، وبهذا يصح ما ذكره الشيخ رحمه الله من أن هذه السورة وما ذكر فيها من أوصاف داخلة في الجملة المتقدمة التي اختطها أهل السنة والجماعة، وسار عليها سلف الأمة من إثبات ما أثبته الله لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، والإقرار بأن الله سبحانه وتعالى جمع فيما وصف به نفسه بين النفي والإثبات.
أما كون آية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله عز وجل فذاك ثبت به الحديث في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبي بن كعب فقال له: (أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال
فالجواب: لأنها تضمنت من أوصاف الله عز وجل ما لم تتضمنه أو تشتمل عليه أي آية في كتاب الله سبحانه وتعالى، ففيها من الأوصاف وعظيم الصفات والأخبار عن الله جل وعلا ما ليس في غيرها من آيات الكتاب المبين، ويتبين هذا باستعراض ما تضمنته هذه الآية الكريمة.
قال الله جل وعلا: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] افتتح هذه الآية الكريمة بأعظم مطلوب وأجل مقصود وغاية الوجود وهو التوحيد، توحيد العبادة له سبحانه وتعالى دون غيره، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ، وهذا أول ما وصف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذه الآية، وهو وصف بنفي، فنفى سبحانه وتعالى الإلهية عن غيره لانفراده بها سبحانه وتعالى، فهذا أول نفي تضمنته هذه الآية، وهل هو نفي مقصود لذاته أو مقصود لغيره؟ مقصود لغيره، وهو إثبات الكمال له سبحانه وتعالى بهذه الصفة، وهي صفة الإلهية.
ثم قال: الْحَيُّ الْقَيُّومُ والحي القيوم اسمان من أسماء الله عز وجل، يثبت منهما للرب سبحانه وتعالى وصفان: وصف الحياة ووصف القيومية.
واعلم أن جماعة من العلماء قالوا: إن الاسم الأعظم هو مجموع هذين الاسمين (الحي القيوم)، وقد ورد في ذلك أثر وحديث، ولا غرو ولا عجب أن يكون هذان الاسمان هما الاسم الأعظم، وذلك لأن جميع ما وصف الله به نفسه وسمى به نفسه يرجع من حيث المعنى إلى هذين الاسمين، فمدار جميع الأوصاف على مضمون هذين الوصفين، أشار إلى هذا المعنى ابن القيم رحمه الله فقال:
وله الحياة كمالها ولأجل ذا ما للممات عليه من سلطان
وكذلك القيوم من أوصافه ما للمنام لديه من غشيان
وكذاك أوصاف الكمال جميعها ثبتت له ومدارها الوصفان
يعني: المتقدمين، وهما الحياة والقيومية، واعلم أن صفات الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين في الجملة: صفات ذات، وصفات فعل، أي: صفات ذاتية لازمة تختص به، وصفات فعلية تقوم به سبحانه وتعالى وتتعلق بغيره، وتتعدى إلى غيره، فجميع صفات الذات ترجع إلى اسمه الحي، وجميع صفات الفعل ترجع إلى اسمه القيوم سبحانه وتعالى، وبهذا يصح ما قاله رحمه الله: ومدارها -أي: صفات الله سبحانه وتعالى- الوصفان، فصفات الذات ترجع إلى كونه الحي، وصفات الفعل ترجع إلى كونه القيوم سبحانه وتعالى.
وهذان الوصفان ثبوتيان، ولإثبات كمال اتصاف الله بهما جاء النفي في قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ، والسنة مقدمة النوم، فلا يأخذه جل وعلا نوم ولا مقدماته؛ لأن النوم يلزم منه نقص في الحياة، فالنوم أخو الموت، ونقص في القيومية؛ لأنه إذا نام فمن يقوم بشئون الخلق؟
ولذلك نفى هذين الأمرين السنة والنوم لثبوت كمال الوصفين المتقدمين، وهما الحياة والقيومية؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام)، فيستحيل ويمتنع النوم عن الرب جل وعلا لكمال حياته وقيوميته.
فعرفنا أن ثاني سلب ونفي في هذه الآية هو قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، وأنه يفيد إثبات كمال حياته وقيوميته سبحانه وتعالى.
المهم أننا استفدنا من قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ إثبات صفة العلم، ومن قوله: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إثبات كمال عمله سبحانه وتعالى، ومن فوائد قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ أن يتضرع الإنسان إلى ربه، وأن يلجأ إليه أن يمن عليه بالعلم، وأنه لا سبيل له لتحصيل المعارف والعلوم إلا بمنة الله عز وجل، كما قالت الملائكة: لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32]، ومن قال: هذا علمي حصلته باجتهادي، وبذلي وكدي وسهر الليالي، فقد غرته نفسه، وأوبقته في المهالك.
فعلمك الدقيق أو الجليل في أمر الدنيا أو أمر الدين إنما هو من قبل الله سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل:78]، فتصور حالك أول ما خرجت من بطن أمك لا تعلم شيئاً، الذي هدى الرضيع إلى أن يلتقم ثدي أمه للرضاعة هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي علمه ذلك، ثم بنى هذه المعلومات شيئاً فشيئاً إلى أن تمايز الناس وتفاوتوا بما عندهم من علوم ومعارف، وكل ذلك فضل الله ومنه وإحسانه وكرمه.
وتفسير الكرسي بالعلم ضعيف، وذلك أن علم الله سبحانه وتعالى ليس قاصراً على السماوات والأرض، بل وسع السماوات والأرض وكل ما خلقه الله عز وجل قبل السماوات والأرض وبعدهما؛ ولذلك لم تأت سعة العلم مقيدة بالسماوات والأرض، قال تعالى: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر:7]، والعلم يتعلق بكل موجود وبكل شيء، فتفسير الكرسي بالعلم تفسير قاصر، ثم إنه قد تقدم بيان سعة علمه سبحانه وتعالى في قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ فلا وجه لتكراره هنا.
وتفسير من فسره بالعرش أيضاً فيه قصور؛ لأنه قد ورد ما يدل على أن الكرسي غير العرش، وأنه خلق آخر.
أما تفسيره بأنه الذي يضع الرب جل وعلا عليه قدميه فقد جاء ذلك بسند لا بأس به عن ابن عباس ، وتفسير الكرسي بأنه موضع القدمين اختيار شيخنا رحمه الله، وأما القول بأن الكرسي خلق من خلق الله عظيم، الله أعلم به، فهذا مبني على ضعف الأثر الوارد عن ابن عباس رضي الله عنه، وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله، وهو أن الكرسي خلق من خلق الله عظيم، الله أعلم به.
وعلى كل حال، فسواء أقيل بأنه موضع القدمين، أم قيل بأنه خلق من خلق الله عظيم، فكلاهما موافق للصواب من حيث إنه ليس بالعلم ولا بالعرش، بل هو خلق مخالف لهذين.
قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] ختم الآية بهذين الاسمين العظيمين له سبحانه وتعالى، الأول: (العلي)، وسيأتي بيان وأدلة إثبات علو الله عز وجل قدراً وقوة وقهراً ومكانة وشرفاً، فهو سبحانه وتعالى العالي على خلقه، فكل هذه المعاني الثلاث ثابته له سبحانه وتعالى من هذا الاسم، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.
(العظيم) هذا الاسم لا يقال لمعنى واحد، بل إنما يوصف الشيء بأنه عظيم لاجتماع أوصاف عديدة فيه، فالله سبحانه وتعالى عظيم لاجتماع صفات الكمال فيه، فهذا ما تضمنته هذه الآية الكريمة من النفي والإثبات.
فلو قيل لك: أين الدليل في هذه الآية على أن الأصل في صفات الله عز وجل الإثبات؟
فالجواب: أنه في جميع الصفات التي ذكرت يبتدئ بذكر صفة ثبوتية، فأول سلب ورد في هذه الآية سلب الألوهية عن غير الله عز وجل، فافتتحت الآية بقوله تعالى: (الله) وفيها إثبات الإلهية له، ثم أتى بعد ذلك بقوله: (لا إله إلا هو)، ثم بعد ذلك قال: (الحي القيوم)، ثم بعد ذلك قال: (لا تأخذه سنة ولا نوم)، ثم قال: (له ما في السموات وما في الأرض)، ثم قال: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) إلخ الآية، فكل نفي سبق بإثبات، وهذا يدل على أن الأصل في صفات الله عز وجل الإثبات، وأن النفي تابع، والمقصود منه إثبات الكمال في الصفات.
فرغنا من الكلام على آية الكرسي، وما تضمنته من الصفات الثبوتية والصفات السلبية.
ثم قال رحمه الله: [ ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح ]، وهذا الفضل جاءت به السنة في قصة الشيطان مع أبي هريرة رضي الله عنه، حيث تردد عليه في ثلاث ليال يسرق من الصدقة، وفي آخر ليلة قال له: ألا أعلمك شيئاً ينفعك؟! إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قال له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب)، فأقر ما أخبر به من أن هذه الآية تحفظ صاحبها، وتبعد عنه كيد الشياطين، ولذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا ابتلي الإنسان بأحوال شيطانية من سحرة ومشعوذين وغير ذلك فقرأ هذه الآية فإن الله سبحانه وتعالى يبطل كيدهم، ويذهب ما يزينونه من الباطل، فهذه الآية لها مكانة عظيمة؛ ولذلك ورد الحث على قراءتها في أوقات عديدة، مثل أدبار الصلوات، وعند المنام، وذلك لما تضمنته من هذه الصفات العظيمة للرب جل وعلا.
وقد يقول قائل: نحن نقرأ ونجد من الشياطين تسلطاً علينا!
فنقول: إنما يثبت الفضل بالإقرار بما فيها، والعلم بما فيها وتدبرها، وهذا ليس خاصاً بهذه الآية، بل هو في كل فضل رتب على عمل، فكل الفضائل في الكتاب والسنة المرتبة على الأعمال لك من هذه الفضائل سواء أكانت الفضائل أجوراً أخروية أم فوائد معجلة في الدنيا لك منها بقدر ما يحصل لك من حضور القلب عند فعل تلك الأعمال وقول تلك الأقوال، وهذا أمر مهم يفوت كثيراً من الناس، وسببه الغفلة، وظن أن مجرد القول ومجرد لفظ اللسان يتحقق به المقصود من هذه الفضائل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر