وبعد: فإن التعامل بين المسلمين فن من الفنون التي ينبغي أن يعتنى بها.
وهناك لوازم وضوابط لنجاح التعامل بين الناس: منها: مراعاة مراتبهم وأحوالهم، فمراعاة أحوال الناس ومراتبهم من أسباب النجاح في التعاملات مع الناس، فكم من شخص يتحمل منك الكلمات الشديدة، وثم أشخاص لا يتحملون منك نظرة غضب فقط فضلاً عن الكلمات النابية الشديدة، فمن ثم كان لزاماً عليك أن تتعامل مع الناس بحسب أحوالهم.
ونذكر في ذلك واقعتين واقعتان حدثتا لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه:
أما الواقعة الأولى فحدثت لـأبي بكر مع عمر ، وعمر وهو رجل من فضلاء الصحابة رضي الله عنه، له قبيلته وقدره في قريش.
وأما الثانية فحدثت لـأبي بكر مع بلال وسلمان وصهيب وهم من الفقراء الذين ليست لهم قبائل في مكة ولا في المدينة. ولتنظر كيف تعامل أبو بكر مع هذا؟ وكيف تعامل مع هؤلاء؟ ولتنظر ما هو تعقيب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التصرفات؟
أولاً: كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شيء فقال أبو بكر عن نفسه: وكنت أنا أظلم. يعني: أنا الذي كنت مخطأ في حق عمر رضي الله عنهم، وكل الناس تخطئ.
قال: (أخطأت في حق ثم إن عمر أيضاً أحس بخطئه فكيف يأتي أبو بكر يعتذر إليه ولا يقبل عذره؟ فانطلق مسرعاً إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا له: إن أبا بكر ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول جالس مع أصحابه وأبو بكر بجواره، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم عمر ، قام مغضباً في وجهه غاية الغضب، وقال: هل أنت تارك لي صاحبي يا ابن الخطاب ؟ صدقني إذ كذبتموني، وأعطاني إذ منعتموني، فوالله لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل. لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر ؛ واستمر عليه الصلاة والسلام في لوم عمر رضي الله عنه وتأنيبه
ورد في بعض الروايات خارج الصحيح (استغفر لي يا رسول الله، وإذا لم تستغفر لي من يستغفر لي يا رسول الله).
ثانياً: أبو بكر مع بلال وسلمان وصهيب وهم من الفقراء: (مر
إذاً: أحوال الناس تختلف، الضعيف والمسكين خاطره يكسر بكلمة، بل بنظرة، لكن الآخر الصلب يتحمل إذ هو يستطيع الدفاع عن نفسه، ولذلك كان التعامل مع الأيتام يحتاج إلى دقة ورقة، والتعامل مع الكبار البالغون، غير التعامل مع الصغار والأيتام.
فلابد أن تفهم هذه الطرق في التعامل مع الناس، من الذي أمامك؟ ما هو قدر تحمله لك، هل هو كبير السن يحتاج إلى توقير؟ أو شاب مثلك يحتاج إلى أن تتعامل معه معاملة الند للند؟ أم هو أصغر منك فيحتاج إلى أن ترحمه؟ أو هو امرأة ضعيفة العقل تحتاج إلى تطييب الخاطر؟ أو هو سفيه يحتاج إلى المداراة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً مقبلاً فقال: (بئس أخو العشيرة)، فلما قدم ألان له صلى الله عليه وسلم القول، مع أن الرجل سيء وبذيء الأخلاق. وقد ألان له الرسول صلى الله عليه وسلم القول، ليس عن جبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رياء أبداً، بل دفعاً لسفهه وطيشه، في نفس الوقت الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام فيه: (بئس أخو العشيرة).
فتراه صلى الله عليه وسلم يشتد على الأفاضل من أصحابه، كالثلاثة الذين خلفوا، جاءوا واعتذروا إلى الرسول وقالوا: (تخلفنا يا رسول الله وليس لنا عذر)، ومنهم هلال بن أمية وهو بدري -شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك هجرهم الرسول عليه الصلاة والسلام خمسين ليلة.
فأحياناً يعتذر إليك شخص وتشدد في قبول اعتذاره، ويعتذر شخص آخر اعتذاراً واحداً وتقبل منه العذر.
ولكن رسول الله -الرسول الأسوة- جاء يخاطب -المتهم- يسمع منه.
وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24] عقب قوله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ [ص:21-22] ثم بدأ أحدهم في بث الشكوى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي [ص:23] أي: غلبني فِي الْخِطَابِ [ص:23] اشتكى إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ص:23] فأصدر داود الحكم مباشرة وقال: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص:24].
قال العلماء في تفسيرها وهو أولى الأقوال والله أعلم: إن داود استغفر ربه وخر راكعاً وأناب؛ لأنه لم يسمع قول الخصم الآخر بل حكم للخصم الأول دون سماع ما عند الخصم الآخر.
الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـحاطب : (يا وهذا من إيمانه رضوان الله عليه: فقد وكل الأمر إلى الله فقال: يدفع الله بها عن أهلي ومالي يا رسول الله، فكل أصحابك له أهل يدفع الله بهم عنه. فانفعل عمر أيضاً وقال: دعني أضرب عنق هذا الرجل يا رسول الله، منافق خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه قد صدقكم، فلا تقولوا له إلا خيراً، وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم
إذاً: الرجل زلت قدمه زلة خطيرة لكن له سابقة خير، فقد شهد بدر فلا تذهب السيئة بعموم الحسنات، فلابد من تذكر أفعال البر التي عملها من وقع في خطأ، فلا تدفع أفعال البر نتيجة سيئة واحدة اقترفت وإن كانت كبيرة من الكبائر، فهي لا تنـزع عن المسلم لباس الأخوة الإيمانية.
ومثلاً: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات كبيرة من أكبر الكبائر:
أن تأتي إلى امرأة غافلة مؤمنة محصنة عفيفة، فتقول: فلانة زنت. كبيرة من أكبر الكبائر، فكيف إذا تعدت هذه الكبيرة إلى قذف امرأة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول القائل: عائشة فعلت كذا وكذا وكذا مع فلان، فهي كبيرة ضم إلى كونها كبيرة أنها طعن في عرض رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومع هذا كله نزل تكذيب هذا القائل ليس من عندي ولا من عندك بل تكذيبه من الله، ومع ذلك كله أيضاً يقول الله لـأبي بكر : وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22] فعند وزن الناس بأعمالهم عليك أن تزن بميزان عدل وميزان قسط، فلا تزن بميزان جور وميزان هوى والعياذ بالله.
عليك أن تدرك هذه المفاهيم جيداً ولا تكن أبداً يوماً عوناً للشيطان على إخوانك، فإن غلب الشيطان أخاك ثم جاء تائباً فافتح له صدرك لتقبل منه العذر. ما حديث شارب الخمر بخفي عنكم: رجل يجلد لشرب الخمر ثم يذهب ويؤتى به ويجلد مراراً، حتى قال بعض الصحابة: (لعنك الله ما أكثر ما يؤتى بك، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، إنه والله ما علمته إلا يحب الله ورسوله).
إذاً: قد يذنب الشخص، لكن هذا الذنب لا ينـزع عنه حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء أخوك معتذراً فلا تسد أبواب الاعتذار أمامه بل افتح له الباب، وقل له: يا أخي كلنا نذنب. غفر الله لي ولك، ستر الله عليّ وستر الله عليك، ووفقني الله وإياك، واستر عليه وساعده، واقبل منه الاعتذار حتى يصلح حاله، أما أن تغلق في وجهه الأبواب فما عساه أن يجني من وراء موقفك هذا، إلا أن يشرد عنك بل ويشرد عن الدين.
إذاً: إذا وجدت في مسلم من المسلمين خطأ وفيه مناقب فعليك أن تثني عليه بما تعلم من المناقب التي فيه، ثم تذكِّره عرضاً بالخطأ، وهذه طريقة مضطردة في كتاب الله، الله سبحانه وتعالى، فقد ذكّر نبيه داود صلى الله عليه وسلم فقال: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:78-79] يعني: الولد وحتى يحفظ عرض داود أيضاً قال تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79] يعني: داود عنده فهم أيضاً فلا تظن غير ذلك. لذلك قال: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79].
وقال الله سبحانه أيضاً في شأن يعقوب لما قال لبنيه: وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف:67] إلى قوله: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف:68] ولكنه بين السبب فقال: إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا [يوسف:68] وحتى لا يأتي شخص ويقول يعقوب لا يفهم قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:68].
فإذا أردت أن تنتقد فانتقد وأظهر المحاسن التي في أخيك المسلم، كأن تقول لمن بدرت منه بادرة سيئة: أنت مخك نظيف وعقلك ناضج، لكن هذه فلتة فلتت منك فارجع إلى نظافة العقل، وآرائك السديدة التي نسمعها منك دائماً. إذاً: لا تجعل الخطأ يأتي على كل المحاسن، فهذا نوع من أنواع الظلم -والعياذ بالله- بل افتح للناس باب التوبة وباب الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى وسهله عليهم، وعرّف الناس بربهم وخالقهم وعلمهم أن الله رحيم حليم يغفر الذنوب جميعاً.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز العرش لموت
الشاهد: قول جابر وهو من الخزرج: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ . فقيل لـجابر : إن البراء يقول: إن الذي اهتز إنما هو السرير، يريد أن يؤول العرش بالسرير؛ لأن العرش يطلق عليه سرير، نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا [النمل:41] العرش: هو سرير الملك.
فهم هكذا رضي الله تعالى عنه، وقد يكون سمع الحديث لكن أحياناً كما يقول القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
فعندما يكون بينك وبين شخص عداوة فإنك تراه بمنظار آخر، يأتيك أبيض فتحسبه أسود، يأتيك مبتسماً فتقول: جاء يشتم ويسب.
فالشاهد: أن قائلاً قال لـجابر : إن البراء يقول: اهتز السرير. فقال جابر : لا قد اهتز العرش إنما كان بين هذين الحيين ضغائن.
أي: كان بين الأوس والخزرج ضغائن ففسر العرش بالسرير.
فالشاهد: أن البراء بشر التبس عليه الأمر، وجاء في الرواية: إن البراء يقول: إن ثبت عنه فهو من البشر يجري عليه ما يجري على البشر.
أيضاً: أمنا عائشة لما رأت مدى حب الرسول صلى الله عليه وسلم لـخديجة ، وقد كان عليه الصلاة والسلام وفياً غاية الوفاء لـخديجة ، وكان يحبها حتى بعد موتها، وإذا جاءت أختها هالة تستأذن ذكرته نبرات صوتها بـخديجة رضي الله عنها، فيرتاع لها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: (اللهم
حتى قالت: يا رسول الله! ما تذكر امرأة عجوز، ماتت في غابر الزمان قد أبدلك الله خير منها، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إني رزقت حبها).
عائشة ما رأتها ومع ذلك طعنت فيها بدون أن تراها رضي الله تعالى عنها، فأحياناً يعتري البشر في حب للنفس والانتصار لها ما يعتريهم.
وكما حدث مع الرسول عندما قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة لـحفصة : قولي له أبو بكر رجل أسيف، إذا قام مقامك فلم يسمع الناس من البكاء، ولكن مر عمر فقال عليه الصلاة والسلام: (إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس).
والشاهد: أن عائشة تقول عن نفسها: (والله ما كنت أبداً أريد ألا يؤم
فحاصل كلامها: أردت أن ألحق هذا التشاؤم بـعمر لا بأبي؛ فأرادت عائشة أن تدفع هذا كله عن أبيها وتلصقه بـعمر .
وفي حادثة الإفك قال عليه الصلاة والسلام: (من يعذرني من رجل بلغني أنه قال في أهلي، والله ما علمت عن أهلي إلا خيراً فـ
- واقعة أخرى في هذا الصدد: كان هناك رجل يقال له: أبو السنابل بن بعكك صحابي من أصحاب رسول الله، وكان رضي الله عنه قد تقدم لخطبة امرأة يقال لها سبيعة الأسلمية بعد أن مات زوجها، فأبت أن تتزوجه، وكانت سبيعة امرأة تتجمل للخطاب، قد اكتحلت واختضبت وتجملت للخطاب، لما رآها أبو السنابل متجملة وقد ردته قال: (ما لي أراك تجملت للخطاب؟ والله لا تحلين لأحد حتى يبلغ الكتاب أجلَه)، أي: حتى تنقضي أربعة أشهر وعشراً، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها، وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234] وسبيعة عدتها عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل، فقال هذه الكلمة وهو الذي لم يلبث أن خطبها، (فحملت عليها ثيابها وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن
وهذا الحديث هو عمدة العلماء القائلين: بأن أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن، حتى المتوفى عنها زوجها، وليس في المطلقات فحسب؛ لأن سبيعة كانت قد توفي عنها زوجها.
فالحاصل: أنهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر ويغفر لهم ما يغفر للبشر (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم).
أيضاً عليك أن تعلم القاعدة المضطردة في كتاب الله ( أن هناك فضل وهناك عدل ) ، فضل وعدل، تنـزيل ذلك أو استنباطه من الآيات إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، فالعدل جزاء السيئة بالسيئة، والإحسان العفو، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45] كله عدل، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] فضل وعفو، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] عدل، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ [الشورى:40] عفو، ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ [الحج:60] عدل إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج:60] عفو وفضل.
هناك عدل وهناك فضل، فيجوز لك أن تأخذ بالعدل، ويجوز لك أن تأخذ بالفضل، فليس معنى أني جئته في وقت من الأوقات فلم أعف. وطلبت بحقي أني ظالم.
الشاهد: أنه لما أفاق قال: (لا يبقين أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر). يعني: كل واحد في البيت كان يشاهد الموقف لابد أن يوضع اللدود في فمه أمام عيني، عليه الصلاة والسلام.
وقال: (إلا
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء:8] يعني: الفقراء المساكين إذا حضروا تقسيم التركة فلا بأس أن يجبر خاطرهم بشيء من المال.
ومن العلماء من قال: إن خاطر إبراهيم صلى الله عليه وسلم جبر لما لم يؤمن به إلا القليل، فجبر الله خاطره بأن جعل كل الأنبياء الذين جاؤوا من بعده من ذريته عليه السلام، وَجَعَلَهَا [الزخرف:28] أي: كلمة التوحيد كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28].
وجبر خاطر الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم لما سجن واتهم بأن جعله عزيزاً على مصر، فجاء إخوته يقولون كما قال الله: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88].
فاجبر خاطر الناس ولو بكلمة طيبة، فهي في بعض الأحيان تقوم في مقام جبر الخاطر أفضل من آلاف الجنيهات، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما قسم الغنائم، أعطى قوماً ضعفاء الإيمان وأكرمهم عليه الصلاة والسلام غاية الكرم، ومنهم عيينة بن حصن أعطاه مائة من الإبل الأقرع بن حابس مائة من الإبل غيرهم وغيرهم من المنافقين أو ضعاف الإيمان، وممن أكرمهم: رجل اسمه عمرو بن تغلب كان جالساً ولم يأخذ من الغنيمة إلا الشيء اليسير جداً إن ذكر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله إني أعطي قوماً وغيرهم أحب إلي منهم، أعطي قوماً وأكل قوماً إلى ما في قلوبهم من إيمان منهم
فالكلمة الطيبة تجبر الخاطر، أفضل من كثير من المال، ومن ثم قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ [البقرة:263].
وهذه فضيلة باقية لـعمرو بن تغلب إلى يوم القيامة، ندارسها نحن وحديثها في البخاري ويدارسها من بعدنا إلى يوم القيامة، وهي شهادة من رسول الله لـعمرو بن تغلب رضي الله تعالى عنه، فالكلمة الطيبة صدقة كما الرسول صلى الله عليه وسلم، وتؤتي أكلها في الناس بإذن الله، ولكن المهتدي إليها من هداه الله، والله يقول: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24] فسل الله أن يهديك لهذه الكلمات الطيبة.
يقول الله عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10] أي: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، تتكلم بكلام طيب وتتبعه بعمل صالح العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:24-25] وإن كان أكثر العلماء على تفسير الكلمة الطيبة بلا إله إلا الله. تخرج من اللسان، أصلها ثابت في القلب، وفرعها في السماء، تصعد ثمرتها إلى السماء وتتقبل، وتفتح لها أبواب السماء، لكن مع هذا القول بأنها لا إله إلا الله لا مانع من دخول غيرها معها، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الكلمة الطيبة صدقة) والآية عامة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [إبراهيم:24] فلا إله إلا الله أفضل كلمة، ويلتحق بها عموم الكلم الطيب وإن كان دونها في الفضل.
هذه بعض الملاحظات التي نريد أن ننبه عليها، والباب واسع، ولكن كلل أعمالك برحمة العباد والعفو عن الناس.
وتحضرنا واقعة وإن لم يكن إسنادها صحيح ولكن نأخذ منها العبرة: ذكر عدد من المفسرين في تفسير قوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] أن رجلاً من التابعين كان عنده أضياف فأتته جاريته بمرق حار فمن ربكتها سقط منها المرق على الأرض فتغيض عليها سيدها، وقام ليلطمها. فقالت: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134] فسكت، فخشيت بعد ذلك أن يضربها فقالت: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134] حتى تأخذ منه وعداً أنه لا يضربها فيما بعد، فقال: قد عفوت عنك. فقالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وهكذا كان الناس وقافين عند كتاب الله سبحانه وتعالى.
ومن هذه القصة نأخذ: فضل الفقه الذي كان سبب نجاة وعتق هذه الأمة رضي الله عنها وعن سيدها.
فجدير بنا معشر الإخوة أن نتخلق بخلق رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن نتبع سنته وأثره.
أخرج البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: (أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله) أي: نطلب منه أن يحملنا للجهاد على إبل الصدقة أو على خيل نجاهد عليها في سبيل الله، وهو في معنى قوله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:92].
الشاهد: (أتينا إلى رسول الله نستحمله فقال: والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه، فانطلقنا، فأتي إلى رسول الله بخيل فدعانا وأعطانا خيولاً أو إبلاً نركب عليها للقتال فانصرفنا، فقلنا في طريقنا: استغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه) يعني: أخذنا من الرسول الخيل وكان قد أقسم أنه لا يبارك لنا في هذه الخيل فقالوا: (نرجع إلى رسول الله).
الشاهد: أن الصحابة تورعوا عن أن يكونوا قد أخذوا شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على حين غفلة، أو على حين غرة، فكذلك لا تفعل مع إخوانك، فلا تستغفل أخاك حتى تأخذ منه حقاً ليس لك، أو شيئاً بغير طيب نفس منه.
فحينئذٍ تأكدوا أنهم لم يستغفلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا رجاء أن يبارك لهم في هذا العطاء، ولذلك نجد أن من أخذ شيئاً من أخيه بنفس غير طيبة، أو عن شك أو ريبة في طيبة نفسه بذلك الشيء، نجده في قلق دائم، ولا يبارك له في هذا الشيء والمقدر سيكون، ولا يظن أحدنا أن ملازمة الورع تنقص الرزق، فهذا خطأ بين، فلا يحمل أحدنا استبطاء الرزق على أن يستغفل الناس أو أن ينال الزرق بمعصية الله سبحانه.
والحقيقة أيها الأحبة! أن الموضوع طويل ولكن نكتفي بهذا القدر، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر