إسلام ويب

الغلو في الدين [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا شك أن المنهج الذي أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم هو صراط الله المستقيم السوي، الذي لا عوج فيه، ولا شك أنه وسط بين مناهج أخرى، وبنيات الطريق عن يمينه وعن شماله، ينزلق فيها الذين لم يصبروا على هذا الصراط ولم يستمروا عليه. ومن أخطر ما ينحرف بالإنسان عن هذا الصراط الغلو في الدين، والذي ظهر في الأمم السابقة كافة، فقد غلا اليهود والنصارى من قبل، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيراً من أفراد هذا الأمة سيتبعون منهجهم في الغلو، وهذا الغلو ظاهرة تنشأ في كل الأديان، وفي كل البيئات، وسببها إما الجفاء وغلظ القلب، أو عن الجهل بالشرع.

    1.   

    أصناف الناكبين عن صراط الله المستقيم

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد الله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم وحمة الله وبركاته.

    نحمد الله تعالى على اللقاء بكم في بداية هذا العام الجديد الذي نسأل الله تعالى أن يجعله عام نصر وتمكين لدينه، وإعلاءٍ لكلمته، ونصر لأوليائه، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا أجمعين من المتحابين فيه، المتجالسين فيه، المتزاورين فيه، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    لا شك أن المنهج الذي أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم هو صراط الله المستقيم السوي، الذي لا عوج فيه، ولا شك أنه وسط بين مناهج أخرى، وبنيات الطريق عن يمينه وعن شماله، ينزلق فيها الذين لم يصبروا على هذا الصراط ولم يستمروا عليه.

    والناكبون عن هذا الصراط أنواع: فمنهم من حيل بينه وبين أصل الدخول فيه، فلا تكون لديه إرادة لاتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سلوك منهجه، وهؤلاء محجوبون عن هذا الصراط.

    ومنهم من تكون لديهم إرادة، ولكن تأتي الشبهات والعراقيل فتحول بينهم وبين ولوج هذا السبيل.

    ومنهم من يلجون السبيل بالفعل، ولكنهم يتساقطون عنه يميناً وشمالاً، والصابرون عليه المستمرون على طريقه قليل.

    1.   

    المراحل التي يتدرج الإنسان فيها في حياته

    لذلك فلابد أن يحرص كل إنسان على أن يراجع مسيرته، وأن يفحص منهجه فحصاً دورياً ليتأكد أنه موافق لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، ثم يصبر عليه؛ لأن واجبات المسلم في هذه الحياة الدنيا محصورة في أربع مراحل تضمنتها سورة العصر، التي قال فيها الشافعي رضي الله عنه: لو لم ينزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم إلى سورة العصر لكفت حجة على الناس.

    مرحلة تعلم ما أمر الله به

    فالمرحلة الأولى: تعلم ما أمر الله به، فلا يمكن أن يكون أحد من السالكين لطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الملتزمين لهديه ومنهاجه، وهو معرض عن تعلم ما جاء به، لا يرفع بذلك رأساً ولا يهتم به، فلذلك لابد أن ننفق جزءًا لا بأس به من أعمارنا وأوقاتنا في تعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، وقد بين الله مسئولية كل إنسان عن ذلك فقال: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20]، وهنا لم يعذر الله أحداً بانشغاله بجهاد، ولا بتجارة، ولا بمرض، عن طلب هذا العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمه.

    فلذلك لابد أن نتعلمه كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، فارغين ومشغولين، لابد أن يكون لنا جميعاً جزء من الوقت ومن الجهد ننفقه في سبيل تعلم منهج الله الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عنده، ولا يمكن أن يعذر أحد بجهله والإعراض عنه، ولذلك أخرج البخاري في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة نقية قبلت الماء فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وأصاب منها طائفة أخرى أمسكت الماء على الناس فسقوا، ورعوا، وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت عشباً، فذلك مثل من نفعه الله بما جئت به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم ينفعه هدى الله الذي أرسلت به ).

    مرحلة العمل بما تعلمه

    المرحلة الثانية: هي العمل بما تعلمه الإنسان، فكثير هم أولئك الذين تعلموا، وسمعوا الكثير، وحفظوا، ولكنهم أعرضوا عن العمل بما تعلموا، فكان حجة قائمة عليهم.

    والعلم سلاح ذو حدين إما أن يكون حجة لك أو عليك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( والقرآن حجة لك، أو عليك ).

    مرحلة الدعوة إلى ما تعلمه وعمل به

    المرحلة الثالثة: هي الدعوة إلى ما تعلمه الإنسان وعمل به؛ فإن ذلك من سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    مرحلة الصبر في طريق الدعوة

    المرحلة الرابعة: هي الصبر على هذا الطريق؛ فهو محفوف بالمكاره محجوب بها، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، وفي لفظ لـمسلم: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات ).

    فلابد أن نعلم أن الطريق شاق طويل، وأن عليه كثيراً من النكبات والعقبات، وأنه يحتاج إلى صبر ومصابرة، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

    فعند سلوك الإنسان لهذا السبيل وعلمه مسبقاً مشقته، وأنه سيجد عناء في سلوكه، وعرف حال من سبقه في سلوك هذا الطريق، فإن ذلك أقمن به أن يثب عليه؛ لأن هذا الصراط السوي هو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الأخروي جسر منصوب على متن جهنم؛ أرق من الشعر، وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يسقط بالكلوب الواحد في النار سبعون ألفاً، يتفاوت مرور الناس عليه بحسب أعمالهم، ( فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوى، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس على وجهه في نار جهنم ).

    وبقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي، تكون استقامته على الصراط الأخروي، ولذلك ( مثله النبي صلى الله عليه وسلم بلاحب بين السورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفي كل باب داعٍ يدعو إليه، وفوق السورين منادي الله، ينادي: يا عبد الله لا تلج الباب فإنك إن تلجه لم تخرج منه )، وفي حديث ابن مسعود: ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط، وخطوطاً عن شماله، فوضع إصبعه على الخط الأول، فقال: هذا صراط الله مستقيماً، ثم وضع إصبعه على تلك الخطوط التي عن يمينه وعن شماله، فقال: وهذه سبل على كل واحد منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قول الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ).

    1.   

    ظهور الغلو في سائر الأمم

    فلذلك لابد أن نعلم أن هذا المنهج السوي يحفه من الطرفين الإفراط والتفريط، فالإفراط هو الغلو ومجاوزة الحد، والتفريط هو التقصير والنقص، ولذلك تجدون جمهور الناس إما غالٍ مفرط، وإما مقصر مفرّط، فالمقصرون المفرطون يعلمون أنهم على خطر، ويعلمون أنهم في تقصيرهم لا يمثلون الدين الحقيقي، فهم يعلمون أن لديهم قصوراً في عبادتهم، ونقصاً في التزامهم، وعدم أداء لبعض واجباتهم، ووقوعاً في بعض المناكر والمحرمات، فلذلك كان شأنهم أهون وأقل، أما المغالون المجاوزون للحد فإنهم يظنون أنهم على خير، وأنهم أصحاب الصراط السوي، وأن كل من دونهم لا يمكن أن ينجو من عذاب الله، وهذا الغلو سبق إليه اليهود والنصارى من قبل، فزعموا أنه لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، ولذلك كان بعضهم يكفر بعضاً، فإذا سئل اليهود عن النصارى، قالوا: هم من أهل النار، وإذا سئل النصارى عن اليهود قالوا: هم من أهل النار.

    فإذا عرفنا ذلك عرفنا أن الغلو خطر في الدين؛ ولهذا حذر الله منه في كتابه، وبين لأهل الكتاب خطر ما هم عليه من الغلو، فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171]، وقال: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [المائدة:77]، فحذرهم من هذا الغلو الذي هو دأبهم ومنهجهم.

    وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أن كثيراً من أفراد هذا الأمة سيتبعون منهجهم في الغلو، فقال: ( لتتبعن سنن من قبلكم حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذن )، وفي الحديث الآخر: ( حتى لو أن أحدهم غشي أمة في قارعة الطريق لكان منكم من يفعل ذلك )، فستقع متابعة لهم في غلوهم وتجاوزهم للحد، ومن المعلوم أن غلوهم لن يقف عند حد، فاليهود يقولون: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، ويقولون: إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، والنصارى زعموا لله صاحبة وولداً، والجميع تألبوا على أنبيائهم، وآذوهم بأنواع الأذى، فَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].

    ولذلك فـ( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في يوم يقسم قسمة، فوقف عليه شاب غائر العينين، مقصر الثياب، أو مشمر الثياب، ثائر الشعر، فقال: يا رسول الله اعدل فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله )، كيف يجرؤ هذا على أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يؤمن بأنه رسول الله، المعصوم الذي ائتمنه الله على وحيه، ومع ذلك يخاطبه بهذا الكلام، ويقول: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( ويلك ومن يعدل إن لم يعدل رسول الله، ثم قال: رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر، فولى الرجل مقفياً- أي: أدبر- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج من ضئضئ هذا قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية )، فحذر من ذلك الغلو الذي سينشأ فيهم ويكون كارثة على هذه الأمة، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج أولئك القوم وكانوا سبباً في قتل اثنين من الخلفاء الراشدين الأربعة، فقتلوا عثمان في الشهر الحرام في المدينة وهي بلد حرام، ظلماً وعدواناً، وقتلوا علياً رضي الله عنه في العشر الأواخر من رمضان كذلك، وكفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم شكوا سعد بن أبي وقاص- وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين الأولين، وهو أول من رمى بسهم في سبيل لله- إلى عمر، فذكروا أنه لا يقيم الصلاة، ولا يحسن أداءها، فلما جاء سعد إلى عمر سأله عن شكوى هؤلاء- وهم من قبيلة بني أسد من الأعراب- فقال سعد كما في صحيح البخاري: ( والله إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل لله، ولقد رأيتنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما لنا زاد إلى ورق السمر، وهذه الحبلة، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، خبت إذاً وضل سعيي.

    ثم قال: والله إني لأصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أركد في الأوليين- يعني: أطيل في الأوليين- وأخف في الأخريين- أي: الركعتين اللتين ليس فيهما قراءة بعد الفاتحة وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال له عمر: ذلك الظن بك ).

    وهذا الغلو ظاهرة ظهرت في الأمم السابقة، فليست مختصة بالإسلام، ومن هنا يعلم أنه ليس ناشئاً عن هذا الدين، ولا عن تعليمه، ولا عن خلقه، ولا عن عبادته ونسكه، إنما هو ظاهرة قديمة، وتنشأ في كل الأديان، وفي كل البيئات، وسببها إما الجفاء وغلظ القلب، كحال الأعراب الذين أنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكروا على صاحبه سعد بن أبي وقاص، أو أن يكون عن جهل بالشرع، فيظن الإنسان أن من الشرع ما ليس منه، أو يظن أن شيئاً من أركان الشرع الأساسية ولا يكون كذلك، فلا يفرق بين فرائض الشرع وسننه ومندوباته، ولا بين حدوده وجزئياته، فيقع في هذا الخلط واللبس، أو يسوء فهمه للنصوص فيحملها على غير محاملها، فكل ذلك من أسباب هذا الغلو.

    ولا شك أن سبيل الله قد جعل الله عليه نكبات وعقبات، تصرف الذين لا يرتضي الله سلوكهم لهذا السبيل واستقامتهم عليه، فقد قال الله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ [الأعراف:146]، وقال تعالى: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:9]، أي يصرف عن طريق الحق من علم الله صرفه، وقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:46-47]، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المُبِينُ [الحج:11].

    فلابد أن يفتن الناس على طريق الحق، ولابد أن تعرض القلوب على الفتن كأعواد الحصير عوداً عوداً، كما بيّن ذلك المعصوم صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى: (بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ) أَلَمَ * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، ويقول في هذه الآيات: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ [العنكبوت:10].

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلى الرجل على قدر دينه.

    1.   

    من مظاهر الغلو في الأمة الغلو في الاعتقاد

    وهذا الغلو له مظاهر كثيرة، فمنها: الغلو في الاعتقاد، بأن يجعل الإنسان جزئيات العقيدة كأصولها وأركانها، فيرى جهل شيء منها، أو تفسيره وتأويله على غير ما يعرفه، أو نحو ذلك من كبريات الأمور المخرجة من الملة، وقد فصل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وبينه، فقال لجبريل حينما سأله عن الإيمان: ( أن تومن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره )، ستة أركان من آمن بها فهو مؤمن، ومن كفر بواحد منها، أو رده من غير عذر ولا مانع من التكفير يكفر بذلك، لكن ما دونها من الجزئيات لا يصل إلى مستواها، ولو كانت كل جزئيات العقيدة مثل هذه الأركان الستة لم يكن لذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأركان الستة معنى أو فائدة، فلذلك لابد من التفريق بين هذا وذاك.

    ومن هنا فهذه الأركان الستة هي المعلومة من الدين بالضرورة في مجال الاعتقاد، وما سواها من جزئياتها لا يصل إلى مستواها، فيعذر الإنسان بجهله إذا لم يصل إليه؛ لأن كثيراً من جزئياتها العقدية إنما جاءت في أخبار الآحاد، ولو كانت مما يشترط العلم به والإيمان به لجاءت لكل المسلمين ولما وسع أحد أن يجهلها، ولذلك فإنها إنما رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق آحاد من أصحابه، مما يدل على أن كثيراً من الصحابة لم تبلغهم أصلاً، وأن كثيراً من التابعين لم تبلغهم، وأن كثيراً من أتباع التابعين لم تبلغهم تلك الجزئيات، ولا يمكن أن يكون المسلمون جميعاً على مستوى واحد في جزئيات العلم وإدراكها، بل لابد أن يكونوا على مستويات متفاوتة، وقد ذكر النسائي رحمه الله أن الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا اثنين وعشرين، وذكر ابن حزم أنهم كانوا ثمانية عشر، ومن دونهم يـأخذون من فتواهم، ولم يصلوا إلى مرتبة الاجتهاد وهذا المستوى العلمي الكبير.

    فإذا عرفنا أن كثيراً من الأمور تخفى ولا تصل إلى الإنسان، وأن الإنسان لا يكلف إلا بما وصل إليه علمه، وأنه إنما يطالب بمعرفة المعلوم من الدين بالضرورة، وما سوى ذلك يتفاوت الناس فيه ويتنفس فيه المتنافسون، ولا يمكن أن يكون كل أهل المسجد علماء، ولا أن يكونوا متساوين في إدراك جزئيات العلم ومسائله، بل لابد أن يكون بعضهم فوق بعض، هم درجات عند الله، وهذا من مقتضيات الحدوث ومن ضروراته.

    الغلو في القرآن

    فإذاً الغلو في الاعتقاد من مظاهره: الغلو في القرآن، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيأتي في هذه الأمة غالون في القرآن وجافون عنه، فالغالون فيه هم المبالغون فيه، بحيث يقول أحدهم: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، وينبذ السنة ولا يبالي بما سوى القرآن.

    وكذلك من الغلو فيه التقعر في حفظ حروفه وإضاعة حدوده.

    وكذلك من الغلو فيه المبالغة في مخارج الحروف، وفي صفاتها، بحيث يصل الإنسان بذلك إلى التكلف والتجاوز، فكل ذلك من الغلو فيه.

    ومثل هذا الغلو في تفسيره، والمبالغة في تتبع ما جاء فيه من القصص بحيث يحمل ذلك الإنسان على أن يذكر أسماء لم ترد في القرآن، وأفعالاً وأقوالاً غير ثابتة، وإنما تنقل في الإسرائيليات أو نحو ذلك، فيكون ذلك من الغلو فيه.

    أما الجافون عنه فهم المقصرون في تعلمة أصلاً، وفي حفظ حروفه، وفي حفظ حدوده، وفي فهم معانيه، وفي تدبرها، فما أنزل القرآن إلا للتدبر، كما قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].

    فالمعرضون عن تعلمه، والذين لا يحكمونه، ولا يرجعون إليه في اعتقادهم، ولا في سلوكهم، ولا في عبادتهم، ولا في معاملتهم، هم جافون عنه، والذين ينامون عنه من حفظته أيضاً هم جافون عنه، والذين يعرضون عن الحكم به في قضاياهم هم أيضاً من الجافين عنه.

    فإذاً المنهاج السوي هو الذي يلزمه قارئ القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، الذي يقال له يوم القيامة: ( اقرأ وارقه، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية ترتلها ).

    الغلو في الحكم على الناس

    وكذلك من الغلو في الاعتقاد: الغلو فيما يتعلق بالحكم على الناس، ومن ذلك تكفير كثير من المسلمين وتفسيقهم وتبديعهم بغير حق، فمن المعلوم أن هذه الأمة سيضل فيها النفاق موجوداً لا محالة، وقد كان فيها من بداية نشأتها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذه الأمة منافقون، وفي المجاورين له في المدينة كذلك منافقون، وقد هددهم الله في كتابه بقوله: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:60-61].

    وكذلك بقي هذا النفاق موجوداً وسيبقى في هذه الأمة، والخواتيم بيد الله سبحانه وتعالى، فالمنافقون مثل من سواهم الباب مفتوح أمامهم للتوبة والرجوع عما هم عليه، وكل ذلك بفضل الله وحكمته، فإن الله تعالى يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها؛ فباب التوبة مفتوح حتى تطلع منه الشمس، وهو باب قبل المغرب، فإذا طلعت منه أغلق، وقد بين الله ذلك للكفار فقال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38].

    ومع ذلك فإن الوحي هو الفيصل الذي كانت تكشف به بعض السرائر، وتفضح به بعض الخبايا، وقد انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: (إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نحن قوم نحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر، فمن أدى لنا صفحة عنقه أخذناه)، فالعبرة إذاً فيما بيننا هي بالظواهر.

    ولذلك لو راجعت نفسك لوجدت أنك أنت وأنت تتحكم في الآخرين وتلومهم، في كثير من الأحيان يعتريك بعض الوساوس والشكوك التي لا تستطيع أن تعبر عنها، ولا أن تتلفظ بها، فإذا كان الحال كذلك فانظر إلى نفسك مع إخوانك، واعلم أن الأمر يليق بالجميع، وأنه إذا كان هذا يقع منك أنت، فكيف تلوم الآخرين على وساوس الصدور، والأمور الخفية التي حسابها عند الله سبحانه وتعالى.

    ثم يبقى بعد ذلك المجال في الحكم على ظاهر الإنسان، والظواهر لاشك أنها قليلاً ما تصفو، فمن النادر أن يكون ظاهر الإنسان مرضياً جميعاً، وذلك بضرورة عدم العصمة، فالإنسان غير المعصوم لابد أن تقع منه الأخطاء، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، هؤلاء الذين اتقوا، وقد ارتضاهم الله ووصفهم بهذا الوصف العظيم، ومع ذلك إذا مسهم طائف من الشيطان، والطائف هو نسيم الهوى الذي يمر مرراً خفيفاً، وفي القراءة الأخرى: (مسهم طيف من الشيطان)، والطيف هو ما يرى في المنام، وهو أيضاً يأتي لحظة واحدة ثم يمر، (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا)، أي: ذكروا الله وعادوا إلى منهجه، (فإذا هم مبصرون) فيعرفون أنهم كانوا على خطأ فيسرعون إلى التوبة، (وإخوانهم) أي: إخوان الشياطين، (يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) فلا يرجعون عن غيهم.

    فلذلك الحكم على الناس ومراعاة تصرفاتهم، ليس باباً مفتوحاً لكل الناس، وبذلك لا يمكن أن يكون كل إنسان حكماً في الأرض، وحاكماً على أهلها ومسلطاً على رقاب الناس ودمائهم وأعراضهم وأموالهم، فلو كان كذلك لأدى هذا الوضع إلى فوضى عارمة لا نهاية لها، بل لابد أن يكون من الناس من هو مؤهل للحكم على الناس، ولإقامة الحدود عليهم، ولإقامة التعزيرات والتأديبات، والفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، ولا يمكن أن يكون ذلك مفتوحاً لكل الخلائق فليسوا سواء، وليست الثقة فيهم على مستوى واحد، ولا يمكن أن يرضى الناس بتصرفات جميع الخلائق، ولهذا لابد أن يعلم أن التكفير باب خطر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: ( إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما )، وقال: ( فإن كان كما قال وإلا حارت عليه )، أي: رجعت عليه، وقال: ( تكفير المسلم كقتله )، فجعل تكفيره بمثابة قتله، وأنتم تعرفون ما جاء في قتل المسلم الواحد، فقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].

    والآن الذين يتجاسرون على التكفير، كأنما يقتلون آلاف البشر في لحظة وحدة، فيكون هذا الوعيد متجهاً إليهم، ليس في نفس واحدة، بل في جميع من أطلقوا عليه هذا اللفظ، لأنه قال: ( تكفير المسلم كقتله ).

    منهج الصحابة في الحكم على الناس

    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخطر العظيم مما يدل على أنه سيقع وسينتشر ويكثر، وقد حصل ذلك، فانتشر في هذه الأمة في فترات من فتراتها، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تربوا على منهجه أبعد الناس عن هذا الغلو وهذا التكفير، حتى إن علياً رضي الله عنه عندما خرج عليه الخوارج وقتلهم، سأله بعض الناس عنهم فقال: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: أمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلى قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.

    وقال للخوارج: إن لكم علينا ثلاثاً: ألا نبدأكم بقتال ما لم تبدءونا به، وألا نمنعكم مساجد الله ما صليتم إلى قبلتنا، وألا نمنعكم نصيبكم من بيت المال، ما دامت أيديكم مع أيدينا.

    وكذلك عثمان رضي الله عنه، فقد أخرج البخاري في الصحيح: أن رجلاً سأله وهو محصور في الدار، فقال: يا أمير المؤمنين: أنت إمام سنة وهؤلاء قوم إمامهم إمام بدعة وهم يصلون، أفنصلي معهم؟ قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم.

    وانظروا إلى هذا الخليفة العادل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مظلوم ومحصور وممنوع من الماء الذي يشرب ويتوضأ به، في الشهر الحرام وفي البلد الحرام، ومع ذلك يقول في الذين حاصروه وظلموه: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم.

    لو كان أي أحد من السياسيين اليوم في موقف عثمان رضي الله عنه، لقال: لا تقربهم ولا تصل معهم، ولا يكن بينك وبينهم أي مخالطة، لكن هذه آثار تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتربية القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل فيه وهم إذ ذاك شهود حاضرون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، وأنزل فيه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ [المائدة:2]، وأنزل فيه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152]، وأنزل فيه: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

    فلذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة، من الأخذ بهذا المنهج والتمسك به وعدم الميل عنه.

    من الأمور المترتبة على الغلو في الحكم على الناس

    التكفير مع ما فيه من الخطورة هو أيضاً استحلال لدماء الناس، وأموالهم وأعراضهم، وإشاعة للفوضى في داخل الأمة، ولهذا حدد أهل العلم من له الحق في البحث في هذه المسألة أصلاً، فليس كل الناس مؤهلاً للبحث فيها، وإنما المرجع في هذا إلى أهل القضاء الذين هم من الراسخين في العلم ومن المتحلين بالشروط الشرعية في القضاء، فهم الذين يستطيعون البحث في هذا الأمر، وبالأخص أن البحث في الاعتقاد والامتحان فيه، هو من الابتداع، كما قال البخاري رحمه الله: الامتحان في الاعتقاد ابتداع، فالامتحان في الاعتقاد هو من قبيل البدعة، ولا يدخل في هذا الامتحانات في الجامعات والتي يقصد بها التقويم العلمي، لكن المقصود به ما يتعلق بالتطلع إلى خفايا اعتقاد الإنسان، وجزئيات اعتقاده وما يتعلق بذلك، فهذا الذي سماه البخاري ابتداعاً.

    كذلك فإن هذا التكفير الذي فيه غلو ومجاوزة، بالإضافة إلى أنه متعد للمنهج الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أيضاً مقتضٍ للفظاظة والغلظة، التي هي منافية لخلق الإسلام الذي هو الرحمة، فالله تعالى كتب الرحمة على نفسه فقال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء )، وفي الحديث المسلسل بالأولية، الذي أخرجه الترمذي والبزار وغيرهما، من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الراحمون يرحهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ).

    وهذه الرحمة بين النبي صلى الله عليه وسلم ارتباطها بخيرية هذه الأمة فقال: ( لن تزال أمتي بخير ما دام كبيرها يرحم صغيرها، وصغيرها يوقر كبيرها )، فهذا التراحم لابد منه، وإذا ذهب من هذه الأمة زالت منها الخيرية، فلابد أن تبقى فيها هذه الرحمة التي هي صفة نبيها صلى الله عليه وسلم، فقد وصفه الله بذلك فقال: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ َحِيمٌ [التوبة:128]، وبين الله تعالى أن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة سر من أسرار اجتماع هذه الأمة وألفتها واتحادها، فقال: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ [آل عمران:159].

    وهذا التكفير من مخاطره أيضاً: أنه في كثير من الأحيان- أو في أغلبها- ينشأ عن غلو الإنسان من غير أن يكون الحق معه، فكثير مما يعلنه الغاوون ويكفرون به الحكام والعلماء والشعوب والمجتمعات ليس مكفراً في الشرع، وإنما أخطئوا في فهمه، ونزلوا الكلام في غير منازله ومواضعه، ولذلك تجدون أنه في العهد الأول في أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، شهد قوم على حجر بن عدي رضي الله عنه أنه كفر كفرة شنعاء، فقتل حجر رضي الله عنه بشهادة هؤلاء، ولما سئلوا بعد ذلك عن تلك الكفرة الشنعاء ما هي؟ قالوا: خلع نجاد سيفه من عنقه، وقال: خلعت معاوية كما خلعت هذا السيف من عنقي.

    هذا ليس كفراً، ولكن أولئك الغالين ظنوا أن هذا من الكفر، فشهدوا عليه بالتكفير، ولهذا أجمع العلماء بعد ذلك على أن الشهادة بالردة والخروج من الإسلام لا بد أن يفصل فيها، فلا يكفي أن يشهد الشاهد أن فلاناً كفر، أو أن فلاناً ارتد؛ لأن كثيراً مما يراه بعض الناس كفراً ليس بكفر في الشرع.

    لذلك يقول الفقهاء: وفصلت الشهادة فيه، أي لابد من تفصيل الشهادة في الكفر، إذا شهد الإنسان على أي إنسان بالتكفير فلابد أن يفصل شهادته عليه بما قال أو فعل، والكفر الذي يكفر به المسلم أربعة أقسام:

    - إما كفر جحود: أي إنكار لما علم من الدين بالضرورة.

    - وإما كفر شك: كأن يشك الإنسان في بعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.

    - وإما فعل الكفر: كالسجود للصنم ونحو ذلك.

    - وإما التحريف والتبديل للوحي.

    وهذه هي أصول مسائل التكفير الأصلية.

    1.   

    شروط تكفير المعين

    ولا يكفر المسلم بعد دخوله في الإسلام وشهادته: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إلا إذا توافرت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، ومرجع ذلك إلى سبعة أمور هي التي تسمى شروط تكفير المعين:

    أن لا يكون مكرهاً

    الشرط الأول: أن لا يكون مكرهاً، فمن أكره على قول الكفر، أو فعل ما هو كفر، فإنه لا يكفر؛ لأن الإكراه يرفع عنه ذلك، لقول الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].

    أن لا يكون جاهلاً

    الشرط الثاني: أن لا يكون جاهلاً، فإن كان الإنسان حديث عهد بجاهلية أو كفر، أو كان جاهلاً بأمور الشرع، فدخل في الإسلام، وبقي يجهل بعض الأمور كما كان الأعراب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بين الله جهالتهم بذلك فقال: الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97]، فحصل منهم إنكار لبعض الأمور أو وقوعهم فيها عن جهل، فإن الجهل إذا كان في غير المعلوم من الدين بالضرورة، وهو ما لا يعرف الإسلام إلا به، سواء كان ذلك في الاعتقاد كأركان الإيمان التي ذكرنا، أو كان في العمليات كأركان الإسلام، أو كان في التركيات كمن لا يرى حرمة الزنا، أو حرمة الربا، أو حرمة قتل النفس التي حرم الله إلا بحق، أو حرمة شرب الخمر، أو حرمة الخنزير، هذه أمور لا يعرف الإسلام أصلاً إلا بها.

    ولا يكون الإنسان مسلماً وهو يرى إباحة هذه الأمور، أو يرى عدم وجوب الصلاة، أو عدم وجوب الزكاة أو نحو ذلك، إلا إذا كان لتوه دخل الإسلام في لحظاته الأولى، وفي بداية دخوله فيه، فهو معذور بذلك قطعاً.

    وهذا العذر بالجهل في هذه الجزئيات فيما سوى ذلك أصل بيّن الله سبحانه وتعالى دليله في قصة موسى عليه السلام فقال: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138]، فهنا لم يقل: إنكم قوم تكفرون، وإنما قال: إنكم قوم تجهلون، فعذرهم بجهلهم.

    وقد ثبت في الصحيح: ( عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي عجوزان من اليهود، فذكرتا عذاب القبر، فكذبتهم ولم أنعم أن أصدقهما، فلما خرجتا دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن عذاب القبر، فقال: عائذاً بالله من عذاب القبر )، فـعائشة رضي الله عنها أنكرت عذاب القبر، وكذبت اليهوديتين ولم تنعم أن تصدقهما.

    وهذا الذي أنكرته هو من العقيدة، ومما يجب الإيمان به على من علمه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفرها بجهلها بعذاب القبر، ولم يجدد عقد نكاحها، ولم يأمرها بدخول الإسلام مرة أخرى.

    وكذلك أخرج الترمذي وغيره من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حديث عهد بجاهلية، فمرننا بشجرة كانت تدعى في الجاهلية ذات أنواط، فقالنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفس محمد بيده ما قال أصحاب موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ).

    ومع ذلك لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم، مع أنه جعل قولهم مساوياً لقول أصحاب موسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، وأقسم على ذلك وهو مصدق بدون يمين، فدل هذا على أن هؤلاء يعذرون بجهلهم فيما جهلوه من تفصيل هذه الأمور.

    أن لا يكون مغلوباً على عقله

    الشرط الثالث: ألا يكون الإنسان مغلوباً على عقله: فالعقل هو مناط التكليف، فإذا كان الإنسان سكران، أو مغشياً عليه، أو نائماً مغطى العقل، أو كان مغلوباً على عقله بالخوف الشديد والهلع، أو نحو ذلك، فإنه لا يكفر بما صدر منه من الأقوال، وما صدر منه من الأفعال؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً كان فيمن قبلنا كان عاصياً لله سبحانه وتعالى، فلما أدركه الموت دعا أهله وذويه فأخذ عليهم العهود والمواثيق إذا هو مات أن يحرقوا جثته، وأن يقسموا رماده فيذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، قال: فلئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات فعلوا به ما أوصى، فأمر الله البر فجمع ما فيه، والبحر فجمع ما فيه، فقال: أي عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له )، فهذا الرجل عند شكه في قدرة الله كان مغطى على عقله بخشية الله والخوف منه، لذلك عذره الله سبحانه وتعالى، وغفر له كل ماضيه السيئ؛ لأن ظاهر الحديث أنه غفر له كل شيء، قال: (خشيتك يا رب، فغفر له).

    وهذا يقتضي أن من كان مغلوباً على عقله، فصدر منه ما هو مخالف للاعتقاد الصحيح، قولاً أو عملاً، فإنه لا يكفر بذلك.

    أن لا يكون مجتهداً في طلب الحق

    الشرط الرابع: ألا يكون مجتهداً في طلب الحق، متأولاً، فإن من اجتهد في طلب الحق فهو معذور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر ).

    ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله: كل من اجتهد في طلب الحق، فهو معذور أصاب أو أخطأ، سواء كان ذلك في الفروع أو في الأصول، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر ).

    ومن هذا القبيل من يكون مأسوراً بأسر العادة، كالذي يتربى في بيئة أهلها يستغيثون بالمخلوقين، أو نحو ذلك، فينادون المقبورين من دون الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يكفر بذلك؛ لأنه قد غلب بفعل العادة التي نشأ عليها، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحلفوا باللات ولا بالعزى، فمن قال ذلك فليقل: آمنت بالله )، وفي رواية: ( فليقل: لا إله إلا الله )، وقد كانوا قبل إسلامهم يحلفون باللات والعزى، ويعظمونهما ويعبدونهما من دون الله، فلما أسلموا بقي بعض الناس يحلف بهما لا تعظيماً، ولكن أسراً بالعادة السابقة، فلذلك لم يكفرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فكل من هو مأسور بعادة ولم يستطع التخلص منها، فهو مثلما كان عليه أولئك الصحابة في حلفهم باللات والعزى.

    أن يكون قاصداً للكفر

    الشرط الخامس: أن يكون الإنسان قاصداً للكفر، فإن قال قولاً لا يقصده، بل قصد قولاً فغلط لسانه إلى قول آخر، فإنه معذور بذلك لحديث آخر من يدخل الجنة: ( فيقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح )، وللحديث الآخر: ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن، من أحدكم يكون على راحلته، وعليها زاده ومتاعه في فلاة من الأرض، فتفر منه فيطلبها حتى إذا أيس من نفسه، رأى شجرةً فقال: لعلي أموت عندها، فبينما هو على ذلك إذا رحلته عنده، فأمسك بخطامها أو بزمامها، وهو يقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح )، فهذا غير كافر لأنه إنما قصد تعظيم الله سبحانه وتعالى، وشكر نعمته، فزل لسانه وغلط، فقال ما لا يقصده، فلا يكون كافراً بذلك، وهذا يدل على أن لوازم الأقوال أيضاً لا تعد قولاً لقائلها ولا يكفر بها.

    كثير من الناس يقولون: فلان يقول بكذا، وهذا القول يلزم عليه القول بخلق القرآن، أو يلزم عليه القول بإنكار كذا، أو يلزم عليه القول بإثبات كذا، فيكفرونه باللوازم، وهذه اللوازم كثير منها لا يخطر على بال المتكلم في وقت كلامه، فلا يمكن أن يلزم به أصلاً، ولا ينسب لساكت قول، وما كان منها واضحاً يمكن أن يخطر على بال الإنسان في وقت كلامه به أيضاً لا يكفر به؛ لأن الحجة لم تقم عليه بذلك.

    أن تقام الحجة عليه

    الشرط السادس: إقامة الحجة، فلا يمكن أن يكفر الإنسان ما لم تقم عليه الحجة؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فمن لم تقم عليه الحجة لا يمكن أن يقام عليه الحد، ولا أن يكفر، وإقامة الحجة إنما تحصل بسماع شبهة الإنسان، ومناقشتها من قبل أهل العلم الذين تقوم بهم حجة الله سبحانه وتعالى، فأولئك هم الذين يقومون بالحجة لله على عباده.

    أن يثبت عليه الكفر

    الشرط السابع: أن يثبت الكفر على الإنسان، فإن الحكم لا يمكن أن يتم إلا على أساس بينة، ولذلك قال الله تعالى: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وبين أن الشهادة لا يمكن أن تتم إلى على أساس علم، فقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، وقال: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81].

    فلا يمكن أن يحكم على إنسان دون أن يثبت عليه القول، فكثير من الناس ينسب لهم كثير من الأقوال التي ما قالوها، وكثير من الأفعال التي ما فعلوها، ولابد من التثبت والتبين، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، وفي القراءة الأخرى: (فتثبتوا) أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].

    فلابد من التثبت والتبين في نقل الأخبار، ولابد من إثبات التصرف في حق صاحبه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ماعز بن مالك الأسلمي لما أقام عليه الحد بالرجم، فرجموه فلما حس مس الحجارة هرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو تركوه فلعله يتوب فيتوب الله عليه )، وفي رواية: ( هلا تركتموه إذ هرب، فلعله يتوب فيتوب الله عليه )، وليس المقصود هنا أن يتوب من الزنا؛ لأن التوبة من الزنا لا تسقط الحد، وهو قد جاء تائباً وسلم نفسه للقضاء ليقام عليه حكم الله، فالتوبة حاصلة منه، لكن المقصود لعله يرجع عن إقراره فإنه لم يثبت عليه الزنا بالشهادة، وإنما ثبت عليه بالإقرار، وإذا رجع عن إقراره انتفى عنه الحكم، فهذا مقصد النبي صلى الله عليه وسلم هنا.

    وبهذا يعلم أن الإنسان حتى لو ثبت عليه قول أو فعل من الأفعال المكفرة، ولكنه أنكر أن يكون قاله أو فعله، فإنه لا يحكم عليه بالكفر، وهنا فرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، فالإنسان قد يكون كافراً في أحكام الآخرة، كحال المنافقين المستسرين في العهد النبوي وفي غيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم كفار، وأنهم من أهل النار، ومع ذلك عاملهم أحسن معاملة، فكان يعود عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان يكرمه، وعندما مات بصق في فيه، وأعطاهم ثوباً كان على جسد النبي صلى الله عليه وسلم ليدفنوه فيه، وهو يعلم أنه من أهل النار، لكن أحكام الدنيا تختلف عن أحكام الآخرة.

    ففي أحكام الدنيا كان يحسن معاملتهم، ويقول لمن يريد منه التشدد معهم: ( أتريدون أن يقول الناس: محمد يقتل أصحابه؟ )، فالناس لا يميزون بين من هو منافق، ومن هو صادق، وإنما يعرف ذلك بالوحي، فلو عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى علمه الباطني الذي جاءه به الوحي وهو يعلم أنه حق، لكان في ذلك حرج لدى كثير من الناس، وسيقول المغرضون: محمد يقتل أصحابه، فسد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الذريعة، وترك هذا الفعل، وأمر عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول بالإحسان إلى أبيه، وأن يحسن صحبته ما دام معه.

    فإذاً هذه هي الشروط، وأضداد هذه الشروط أيضاً موانع، فالإكراه مانع، والجهل مانع، وتغطية العقل مانع من موانع التكفير.. إلى آخره، فتحققها شروط، وانتفاؤها مانع من موانع التكفير.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718694

    عدد مرات الحفظ

    764882415