إسلام ويب

أولية الله وحدوث الخلقللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله تعالى هو خالق الخلق من عدم، وقد كان الله ولا شيء سواه، فله الأولية المطلقة التي لم تسبق بعدم، كما أن له الأسماء الحسنى التي أصلها ومرجعها لفظ الجلالة، وله الصفات العلا المنزهة عن كل نقص وتشبيه.

    1.   

    معنى العقائد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    يقول الشيخ حفظه الله تعالى: (العقائد).

    والعقائد جمع عقيدة، وهي ما يعتقده الإنسان، أي يجزم به جزماً لا يقبل الشك، والمقصود به أن هذه الأمور المذكورة هنا أكثرها أمور نصية جاءت في القرآن أو في السنة، فمن عرف أنها نصية وجب عليه الإيمان بصدقها وصحتها، ومن لم يعرف ذلك ولم يسمعها فهو غير مطالب إلا بالأصول الستة التي هي أركان الإيمان، فلا يطالب الإنسان بمعرفتها تفصيلاً إلا إذا سمع الوحي الذي نزل فيها، ومن هنا فإن كثيراً من الصفات التي تسمعونها هنا إنما جاءت في أحاديث آحاد ولم يعلّمها الرسول صلى الله عليه وسلم لكل الأمة.

    وكذلك بعض العقائد التي هي معروفة لدينا اليوم كانت في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرفها إلا قلائل.

    فمثلاً: عذاب القبر من هذه العقائد التي يجب الإيمان بها، لكنه قد ثبت في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها على قربها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تعلم عذاب القبر، حتى جاءت امرأة من اليهود فاستعاذت من عذاب القبر فأنكرت عليها عائشة ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرها أن عذاب القبر حق.

    ولم يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عامة الناس بعذاب القبر إلا في خطبته عندما كسفت الشمس عند موت إبراهيم ، وهذا أمر متأخر جداً، ففي حديث أسماء في الصحيحين أنه ذكر في خطبته عند كسوف الشمس عذاب القبر، وفتنة القبر، فقال: (إنكم تفتنون في قبوركم مثل -أو قريباً من- فتنة المسيح الدجال -لا أدري أي ذلك قالت أسماء- فيقال للرجل: ما ربك، وما دينك، وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والمبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد هو محمد هو محمد -ثلاثاً- جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعنا، وأما المنافق أو المرتاب -لا يدري أي ذلك قالت أسماء - فيقول: هاه هاه لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها).

    وفي رواية في الصحيحين: (ويضربانه بين قرنيه) وفي رواية: (ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن).

    فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا عامة الناس، وهذا فيه إثبات لفتنة القبر ولعذاب القبر؛ ومن فتنة القبر ذكر السؤال والامتحان، وفي عذاب القبر ذكر هذه الضربة التي يصيح منها صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن، وهي من عذاب القبر.

    وكذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من أصحابه : (إن الله يضحك إلى المصلي في جوف الليل فقال رجل: أويضحك ربنا عز وجل؟ قال: نعم. فقال: لا يعدم عبد من رب يضحك خيراً)، فدل هذا على أن بعضهم لم يكونوا يعرفون أن صفة الضحك ثابتة لله سبحانه وتعالى، ونظير هذا كثير في الأحاديث الصحيحة.

    1.   

    الكلام على لفظ الجلالة

    ابتدأ الشيخ هذه العقائد بذكر اسم الله عز وجل الذي يدل على ذاته وجميع صفاته وهو الله، وهذا الاسم يدل على الذات وجميع الصفات.

    اشتقاق لفظ الجلالة

    وقد اختلف فيه هل هو من العربية أو من غيرها:

    فقالت طائفة من أهل العلم: ليس من العربية، بل هو اسم لله سبحانه وتعالى بكل اللغات، ولكن هذا لا يناسب؛ لأنه عرف في كثير من اللغات إطلاق اسم على الله غير هذا الاسم، ولا يعرف كثير من أصحاب اللغات هذا الاسم، لكن يمكن أن يقصر على اللغات السامية مثلاً، فهو معروف بالعبرية والعربية وغيرها من اللغات السامية.

    وعلى أنه من العربية اختلف فيه: هل هو مشتق أو مرتجل:

    فقالت طائفة من أهل العلم: هو مرتجل لأن صورته ليست على صورة الأسماء المشتقة؛ لأن الأسماء المشتقة إما مصدر أو اسم فاعل أو اسم مفعول، أو صفة مشبهه أو أفعل تفضيل أو وزن مبالغة، وليس هذا الاسم شيئاً من ذلك.

    لكن قالت طائفة: هو إله عرّف بأل.

    وهذا غلط من ناحية التصريف؛ لأن إلهاً إذا عرف بأل قيل فيه الإله ولم يقل فيه الله، لكن قيل: حذفت الهمزة لصعوبتها في النطق، ولا شك أن الهمزة يقع التكلف في النطق بها، ولهذا من العرب من يبدلها هاءً، كما في قول الشاعر:

    ألا يا سنا برق على قلل الحمى لهنك من برق علي كريم

    ولذلك يقول الناظم رحمه الله:

    والهمز في النطق به تكلف فسهلوه تارة وحذفوا

    وأبدلوه حرف مد محضا ونقلوه للسكون ....

    فهذا يدلنا على صعوبة النطق بالهمزة، ولذلك إذا حذفت الهمزة فيقال: (الله) لأن (أل) ستدغم بلام إله فيكون الله.

    وعلى كل فإن كان مشتقاً فإما أن يشتق من (لاه) بمعنى احتجب لأنه لا تدركه الأبصار، وفي هذا يقول الشاعر:

    لاهت فما عرفت يوماً بخارجة يا ليتها برزت حتى عرفناها

    لاهت: أي احتجبت، أو أن يكون بمعنى أن (الله) ارتفع، ومنه قيل للشمس (إلهة) قال الشاعر:

    تروحنا من الدهناء عصراً وأعجلنا الإلاهة أن تغيبا

    وقيل من (أله) إليه، بمعنى لجأ إليه، لأنه الملجوء إليه في كل الأمور، ومن هذا قول الشاعر:

    ألهت إليكم في أمور تهمني فألفيتكم فيها كراماً أماجدا

    وقيل: هو من أُله إلهة كعبد عبادة وزناً ومعنى، ولكن الراجح أن هذه الكلمة ليست من أصل العربية، وإنما هي مشتقة من الإله.

    لفظ الجلالة من أعظم أسماء الله

    وعلى كل فإنه لم يرد في القرآن من أسماء الله الحسنى المستعملة استعمال الأسماء إلا الله أو الرحمن فقط، وبالنسبة لبقية الأسماء فإنما جاءت مستعملة في القرآن استعمال الصفات، وكذلك في السنة.

    فمثلاً جاء هذا الاسم فاعلاً بقول الله تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ[النحل:51] وجاء مبتدأً: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[البقرة:255] .

    وكذلك جاء في محل نصب عن المفعولية في قوله: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ[النور:39] لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا[النساء:64] .

    وكذلك الرحمن استعمل استعمال الأسماء في قوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[الإسراء:110] ، وفي قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5] ولم يرد استعمال غير هذين الاسمين استعمال الأسماء في القرآن كله ولا في السنة.

    فدل هذا على أن هذين الاسمين من أعظم أسماء الله سبحانه وتعالى، ولهذا أتى بهذا الاسم مبتدأ هنا وأخبر عنه بكل ما يأتي من الصفات فقال: (الله حق).

    و(حق) بمعنى موجود ثابت، ويعبر عنها في الكلام بالموجود، لكن لم ترد النصوص بإطلاق (الموجود) على الله، وإنما أطلق الفعل: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ[النور:39] لكن لم يرد لفظ (الموجود) في النصوص مطلقاً على الله سبحانه وتعالى، فلذلك اختار هذا الألفاظ الواردة في النصوص.

    ذكر أسماء الله الحسنى

    قال الناظم: (الله حق) والله تعالى يقول: وأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ[النور:25] وقد عد الحق في الأسماء التسعة والتسعين، كما في حديث أبي هريرة في الترمذي و ابن خزيمة والمستدرك.

    (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت -وفي رواية المغيث- الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب -وفي رواية: القريب- المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين - وفي رواية: المبين- الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور).

    معنى الحق في أسماء الله

    قوله: (حق) المقصود بها ما يشمل أمرين:

    فالحق يطلق على الصدق الثابت المقابل للكذب، فيقال: حق قوله، بمعنى صدق، ويقال: حق الأمر، بمعنى استقر، وكلاهما مقصود بالمعنى، فالحق يطلق على خلاف الكذب وهذا إنما هو في الأخبار، ولكن المقصود أن الأخبار الواردة عن الله تعالى وفي وصفه حق.

    ويطلق على المستقر، والمقصود بذلك وجوده وعدم تغيره فلا تعروه الحوادث والآفات، ولا تحل به السنة ولا النوم، فهو حي قيوم دائم على ما عليه كان قبل أن يخلق الخلق.

    ومن المناسب أن يذكر هذا الوصف خبراً عن لفظ الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أيضاً يتضمن كثيراً من صفاته سبحانه، فيتضمن القومية والدوام والبقاء والملك والجبروت وغير ذلك من الصفات.

    1.   

    الكلام على أولية الله تعالى

    تقسيم الزمان إلى وهمي وحقيقي

    قوله: (أول):

    أتى بهذه الصفة وهي الأولية، ومعناها: نفي العدم السابق للوجود، ولا يقصد بها أنه أول شيء سيسترسل وراءه ما بعده، فالمقصود أنه لم يمض زمان إلا وهو موجود فيه.

    والمقصود (بالزمان) هنا ما كان حقيقياً وما كان وهمياً، فالزمان ينقسم إلى قسمين:

    إلى زمان حقيقي وهو منذ خلق الله السماوات والأرض إلى أن ينتهي الزمان.

    والقسم الثاني: الزمان الوهمي والمقصود به ما نتصوره نحن زماناً وليس زماناً، وهذا ما قبل خلق العالم فإنه يسمى أزلاً والأزل أزمنة متوهمة لا يطلق عليها زمان في الواقع؛ لأن الزمان هو اسم للوحدات المعروفة بالليل والنهار، وما كان قبل خلق السماوات والأرض ليس فيه ليل ولا نهار فلا يوصف بالزمان، لكن يسمى بالأزل.

    ومن هنا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الأحاديث الواردة في أول الخلق لا تعارض بينها، فإنه جاء في الحديث: (أول ما خلق الله القلم) وكذلك ما جاء في أن العرش سبق ذلك: (وكان عرشه على الماء)، فيقول: القلم والعرش والماء كل ذلك كان قبل الزمان، والأولية إنما تتصور بالزمان فيما له وحدات، فتكون هذه الدقيقة قبل الدقيقة الأخرى وتلك قبل التي تليها وهكذا.

    وهذا الموضوع سنفصله إن شاء الله تعالى عند الكلام في قدم العالم لأن بعض الناس يتهمه بأنه يرى قدم العالم؛ لأنه لم يفهم كلامه في هذا المجال.

    أولية الله ليس لها ابتداء

    وهذه الأولية ليس لها ابتداء كما قال ابن أبي زيد رحمه الله: (ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انتهاء)، وهذه من الأمور التي لا يدركها العقل دون وحي، فالعقل نظراً لأن نطاقه الوجود الضيق الذي سبقه عدم ويلحقه عدم، لا يمكن أن يسلم صاحبه إلا إذا سلم للوحي، والإنسان لا يتصور إلا الشيء الذي يكون في المكان لأنه هو كذلك.

    ومن هنا قال الغزالي : إن العقل بمثابة المائع إذا صب في شيء أخذ شكله، أي: أخذ شكل الشيء الذي يصب فيه، فالعقل صب في الإنسان، والإنسان حادث وسيعدم فلم يستوعب العقل إلا ما كان كذلك.

    ومن هنا فتصورات الإنسان ناشئة عن تشبيهه بنفسه وبما يعرفه من هذه الكائنات، ومن هنا جاءت فكرة التشبيه وفكرة التعطيل، وكلها ناشئة عن أن عقل الإنسان لا يتصور إلا ما كان كالإنسان مما يسبق وجوده عدم وسيلحق وجوده عدم، وهكذا، وما سبق وجوده لا يمكن أن يدركه عقله، وما بعد عدمه أيضاً لا يمكن أن يدركه عقله، ومن هنا لا يتجاوز العقل حدوده وعليه أن يسلم بالوحي، وإذا تجاوزنا نطاق العقل وأخذنا بالوحي، فالوحي يغطي ما وراء ذلك من المساحات التي وراء العقل.

    الكلام على لفظ القديم

    ويقابل صفة الأولية عند المتكلمين (القديم) فيطلقون على الأول القديم، والقديم لم تأتِ في القرآن ولا في السنة صفة لله سبحانه وتعالى، وإنما جاء الأول لقول الله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[الحديد:3] .

    فأما القديم فإنها من إطلاقات المتكلمين، وهي تطلق على غير الجديد؛ لقول الله تعالى كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ[يس:39] ، فالمقصود به: الذي قد التوى واعوج من قدم مدته.

    (فالأول) صفة ثابتة لله سبحانه وتعالى واسم من أسمائه، وإطلاقها لا محذور فيه لأنها جاءت في القرآن، وفي السنة: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء)، أما القديم فلم تأتِ، والذين يطلقونها من أئمة هذه الأمة وعلمائها إنما يطلقونها من باب المجاراة؛ لأنها أصبحت مصطلحاً، ولذلك تجدونها في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ولا يقصد بذلك إثبات صفة لم ترد في النصوص، وإنما يقصد المجاراة، لأن الناس إذا تكلموا في الأولية عبروا عنها بالابتداء، وذكروا معها القدم.

    كان الله ولا شيء معه

    وشرح الأولية بقوله: (كان ولم يكن سواه)، وهذا لفظ حديث: (كان الله ولا شيء معه)، فالمقصود بذلك سبقه للزمان وأنه لم يمض زمان وهو غير موجود فيه، ولم يسبق عليه عدم قط، فمن أجل هذا قال: (كان ولم يكن سواه)، ومعناه أنه سبق مخلوقاته كلها، فقد كان الله ولا شيء معه، ثم بعد ذلك خلق الخلق، ولم يزل يخلق ما شاء.

    (ولم يكن سواه): جملة حالية مقرونة بالواو، أي: والحال أنه لم يكن سواه، والمقصود بسواه: كل المخلوقات، ولا يدخل في ذلك صفات الله لأنها ليست من خلقه، فإذا قلنا: (كان) اشتمل ذلك على ذاته وصفاته كل ذلك كان موجوداً، فلم يستفد من الخلق صفة الخالق، فهو الخالق ولا خلق، وهو الرازق ولا رزق ولا مرزوق، وهو العالم ولا معلوم، فكل هذه الصفات كان متصفاً بها قبل أن يخلق خلقه، ولم يتجدد عليه أي شيء، لكن تجددت الأفعال فقط وسيرد مثل ذلك.

    1.   

    الكلام على إنشاء الخلق

    (ثم من بعد العدم أنشأ خلقه):

    بعد أن كان الكون كله معدوماً أنشأه الله سبحانه وتعالى، والمقصود بالإنشاء الخلق على غير مثال سابق، ويسمى إبداعاً أيضاً ويسمى فطراً: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[فاطر:1] معناه: الذي فطرهن والذي فطرها، ومعناه خلقها على غير مثال سابق، ولم يسبق ذلك أي مثال يحتذى، وهذا الغاية في الإبداع والإعجاز.

    وهذا الإنشاء هو النشأة الأولى التي هي من أدلة النشأة الآخرة، كما جاء ذلك في كثير من الآيات في القرآن، فالنشأة الأولى إنشاء الخلق من عدم، والنشأة الآخرة إعادته بعد أن عدم.

    فالإنسان مثلاً كان معدوماً فخلقه الله وأنشأه ثم يموت ويفنى ويبلى فيعيده الله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104] ، وهي من أدلة البعث، فالله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه عدداً من أدلة البعث منها النشأة السابقة، فمثلاً قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ[يس:77-78] ، أي: نسي النشأة السابقة قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ[يس:78-79].

    كذلك قال تعالى: قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ[الإسراء:50-51].

    وفي سورة الواقعة: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ[الواقعة:58-62].

    فالنشأة الأولى هي دليل النشأة الآخرة.

    والإنشاء يقتضي خلقاً من غير مادته، فيقال: أنشأ فلان في سيره؛ لأنه أحدث المشي من غير مادة سابقة، ويقال: أنشأ قصيدة. أي: قالها من دون أن ينشدها. ويقال: هذا الشعر إما منشد وإما منشأ، فالإنشاد معناه: أن تقرأ شعراً قد قاله من سواك، والإنشاء: أن تقول ما لم تسبق إليه.

    مخالفة الفلاسفة في حدوث الكون

    قال: (أنشأ خلقه)، وهذا لا يخالف فيه إلا الفلاسفة؛ فإنهم يرون أن الهيولي كانت موجودة قبل نشأة الخلق، والهيولي يطلقونها على مادة الكون، فيرون أن الكون من مادة كانت موجودة قديماً فأخرج الله منها هذا العالم كله، ومن هنا يرون قدم العالم، وقد كفروا بذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه خلقه، ولا يمكن أن يخلق ما كان موجوداً لأن تحصيل الحاصل محال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الرعد:16] .

    وهؤلاء الذين يزعمون الهيولي أخذوا ببعض الشبه في فهمهم من القرآن، منها قول الله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[فصلت:11] فيقولون: كانت مادة السماء الدخان، وكذلك قالوا: كان عرشه على الماء، فهذا دليل على أن الماء سابق، ولهذا قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ[الأنبياء:30] .

    لكن الإجابة عن هذه الشبهات بأن الله سبحانه وتعالى يقلب مخلوقاته فيخلق الشيء على صورة أولاً ثم ينقله لناحية أخرى، وهذا أبلغ في الإعجاز، فيخرج الشيء من ضده كما يخرج النار من الشجر الأخضر، وكما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.

    فكذلك هذه السماء القوية كانت من قبل خلقها أولاً دخاناً فقط، ثم جعل هذا الدخان على ضد هيئته تماماً، وهذا من تمام قدرته ومن تمام إبداعه للكون، ولا يقتضي هذا أن الدخان قديم بل قد أحدثه الله وأنشأه ثم خلق منه السماء.

    كذلك قوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ[هود:7] ، فإن هذا لا يقتضي إلا سبق العرش والماء لخلق السماوات والأرض فقط، لكن لا يقتضي أن ذلك من غير سبق بعدم، بل هو مسبوق بالعدم؛ لقول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[الرعد:16] فيدخل في ذلك العرش والماء.

    كلام ابن تيمية على قدم العالم

    وأما ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته (رسالة الكرسي) فإنه ذكر فيها ما ظاهره أنه يوافق الفلاسفة في ذلك، لكن الذي يبدو لي أن مقصوده أن الأزل إنما هو أزمنة متوهمة فقط، ومن هنا فيقول: إن ما كان قبل خلق السماوات والأرض من المخلوقات ليس بعضه سابقاً بعضاً بمعنى السبق الذي نفهمه نحن؛ لأننا نفهم السبق بمعنى أن هذه الدقيقة قبل هذه وهذه الساعة قبل هذه، وهذا الليل قبل هذا النهار مثلاً، لكن قبل خلق السماوات والأرض لا زمان، فيكون الترتيب إنما هو حسب إرادة الله ومشيئته لا لذات الكون ولا لذات الأشياء أنفسها.

    وقد أبعد النجعة في الاستدلال حتى ذكر كثيراً من الأمور، منها مثلاً: قضية جاذبية الأرض؛ فإن الأجرام إذا اقتربت من الأرض تأثرت بجاذبيتها فتستقيم في سيرها، وكلما ابتعدت عنها نقصت هذه الجاذبية فأصبح التوازن مختلاً. لكن هذا ليس دليلاً على المراد ولا له به علاقة.

    فلذلك كان اللازم أن لا يتعمق الشيخ رحمه الله في هذا المجال، وهو من الأمور التي ينبغي الاقتصار فيها على الوحي وعدم تعدي العقل مجاله، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وما من أحد إلا وله أغلاط.

    تكاثر الخلق

    (أنشأ خلقه): المقصود بالخلق المخلوقات وهو مصدر يطلق على المفعول، والمصدر كثيراً ما يطلق على المفعول، والعكس أيضاً صحيح فيطلق المفعول ويراد به المصدر.

    والمقصود بذلك ما خلق من المخلوقات على حسب ترتيبها في الوجود، فإن الله يخلق شيئاً ثم يخلق لذلك الشيء عدة أشياء، كالإنسان خلقه من نفس واحدة وأخرج منه هذا البشر الكثير، وهكذا كثير من الكائنات يجعلها في بداية الشيء واحداً ثم يكثره ويخرج منه الأضعاف المضاعفة.

    وهذا فيه من الحكم الشيء الكثير إذا فهمه الإنسان، فيكون الشيء في الأصل واحداً ثم يتولد عنه ما لا حصر له، فكذلك الحسنات في تضعيفها، كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ[البقرة:261] .

    فإذا فهمنا هذا في المحسوسات فهمناه في المعقولات، وفهمناه في الأجر وفهمناه في أمور الآخرة، وفهمنا أن الإنسان الواحد إذ كان قد أخرج الله منه خلقاً وكان أباً لقبيلة، فلا يستغرب أيضاً تضخيم جسمه يوم القيامة، فكل الناس من أهل الجنة سيكونون على صورة آدم، وطوله ستون ذراعاً في السماء، وسبعة أذرع بالعرض.

    وكذلك فإن الكفار سيضخمون يوم القيامة، فمجلس الكافر في النار كما بين مكة والمدينة، وضرس الكافر في النار كجبل أحد، ويمدد الله بطونهم ووجوههم وبالأخص الذين يمنعون الزكاة، فقد جاء فيهم أن الله يوسع بطونهم وظهورهم ووجوههم حتى لا يقع دينار على دينار ولا درهم على درهم؛ لأنها يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.

    تمثل الملائكة بالآدميين

    ومن هنا يفهم أيضاً تمثل الملائكة في صورة البشر، فإن الملائكة أجسامهم كبيرة جداً كجبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، ومع ذلك يأتي في سورة دحية الكلبي فيجلس في مكان ضيق بين الناس، ويجلس معهم كأنه رجل لا يزيد عليهم في قامته ولا في عرضه.

    وقد اختلف العلماء في هيئة ذلك فقالت طائفة: إنه لما عرفنا التكثير في خلق الله عرفنا التقليل فيه، فكما يكثر الخلق يقلله أيضاً، كما قال تعالى: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ[فاطر:1] والزيادة في مقابلها النقص، فينقص من الخلق ما يشاء.

    وقالت طائفة: بل يعدم ما زاد على تلك الصورة ويخرج جبريل في تلك الصورة، ثم يعيد الله إليه أجنحة أخرى بخلق جديد.

    وقالت طائفة: بل تنسلخ روحه من بدنه فتأتي الروح في تلك الصورة فقط.

    وقالت طائفة: بل إنما يمثل ذلك للعيان فيراه الناس، والواقع أنه جبريل على صورته الحقيقية، لكن الله جعل هذا في أعيننا على هذه الهيئة، وهذا أقرب الأقوال للصواب.

    فهو مثل تمثيل الجنة والنار لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عرض حائط المسجد يوم الكسوف؛ فإنه عندما خطب الناس قال: (ما من شيء لم أكن أريته إلا أريته في مقامي هذا حتى الجنة والنار).

    وذكر أن الجنة والنار مثلتا له في عرض الحائط، وتقدم إلى الجنة حين مثلت له وتأخر عن النار حين مثلت له، وذكر أنه أراد أن يأخذ لهم عنقوداً واحداً من العنب، ولو أخذه لعاش منه الناس حتى تقوم الساعة، ولكن الله لم يقدر ذلك، بل جعل هذا مختصاً بالجنة، فنعيم الجنة لا يفنى ولا يبلى.

    1.   

    يخلق الله ما يشاء ويختار

    (أنشأ خلقه اختياراً): هذا إثبات صفة أخرى لله سبحانه وتعالى وهي صفة الاختيار وعدم الإكراه، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، وليجزم أحدكم المسألة فإنه لا مكره له).

    فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68] ومن المناسب جداً ذكر الاختيار بعد ذكر الخلق؛ لأن الله عطفه عليه بقوله: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ[القصص:68] فلذلك قال هنا: (أنشأ خلقه اختياراً).

    واختياراً. معناه: اصطفاء للهيئات والصور، فالله سبحانه وتعالى بالإمكان أن يخلق أي شيء من الخلق على أية صورة شاء، كما قال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8] ولحكمته اختار لكل صورة ما يناسبها.

    وقد بحث العلماء هنا في مسألة، وهي ما ذكره الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين حيث قال: (ليس بالإمكان أبدع مما كان)، فعندما عرضت هذه المسألة في كتابه على علماء المغاربة في دولة علي بن يسر المكاشفي في بداية القرن السادس الهجري، أمر بتحريق الكتاب على الزيت وتحريق كتب الغزالي كلها؛ لأن العلماء حكموا بأن هذا ضلال.

    لكن التصور هنا متباين، فـالغزالي رحمه الله يرى أن الله سبحانه وتعالى عندما أثبتنا أنه لا يمكن أن يخلق على أساس الغرض وإنما يخلق على أساس الحكمة، فإن حكمته مقتضية لأن يكون كل شيء أبدعه على أحسن ما يمكن في علمه هو، فكل إنسان الآن خلق على صورة معينة فهي الأفضل له.

    قد يتصور أحدكم أنه الآن كان بالإمكان أن يكون أطول من هذا أو أحسن من هذا الشكل؛ لكن ذلك شراً له، وأفضل شيء له وأتمه هو ما خلقه الله عليه.

    وحتى وإن كان معيباً أو ناقص الخلقة أو مبتلىً بمرض أياً كان فإنه الأفضل له، لأنه في المقابل كان سيقابل ذلك قدر من أقدار الله التي لا نعرفها، وقد تكون في الدنيا وقد تكون في الآخرة.

    أقول ما سمعتم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755913832