إسلام ويب

تقويم الله لغزوة بدر [3]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كان المؤمنون يريدون أن تكون غير ذات الشوكة من نصيبهم، وأراد الله أن تكون معركة بدر التي أحق الله فيها الحق وأبطل فيها الباطل، وقطع بها دابر الكافرين. حيث أتت المعركة بثمارها الطيبة ونتائجها المباركة فقوي بها إيمان الصحابة وثبتوا على الطريق الحق، وامتلأت قلوب الأعداء خوفاً ورعباً، وتم استصئال صناديد الكفر من قريش، وانكسرت شوكة المنافقين داخل المدينة. وهكذا أثر طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأثر الإيمان الحق والمنهج المستقيم يظهر جلياً من خلال معركة بدر.

    1.   

    نتائج غزوة بدر

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فقد سبق استعراض بعض أحداث غزوة بدر الكبرى، وسنصل الآن إلى بعض النتائج التي ترتبت عليها، فمن هذه النتائج:

    تقوية إيمان المؤمنين وتثبيتهم على الحق

    تقوية إيمان المؤمنين، وتثبيتهم على طريق الحق.

    فإن الله سبحانه وتعالى أنزل عليهم نصره، وأيدهم بملائكته، وكان ذلك تثبيتًا للمؤمنين، وإعلاءً لكلمة الله تعالى، وتقويةً لإيمانهم وثقتهم بالله تعالى. وهذا ما يحتاج إليه كل مؤمن، وهو لا ينافي في الأصل كمال الإيمان؛ لأن الإنسانَ حتى لو كان نبيًّا معصومًا، يزداد إيمانه؛ فالإيمان يبقى قابلًا للزيادة دائمًا؛ ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260]، فاطمئنان القلب زيادة في الإيمان، وقد سألها إبراهيم وهو حينئذٍ خليل الرحمن وقد اصطفاه الله من خلقه نبيًّا ورسولًا.

    فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد آمنوا، ورضوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، وآمنوا بالقدر خيره وشره، وعرفوا أن ما قدر سيكون، وأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف عما هو كائن، ولكن الإنسان يبقى محتاجًا إلى زيادة تمكن هذا الإيمان من قلبِه ليطمئن به.

    فلذلك ثبتهم الله تعالى بهذا النصر المبين، الذي لم يكن متوقعًا لدى كثير منهم، فنصرهم الله تعالى بما أنزل من جنوده الذين لا يرون، وهم الملائكة، وبما قذف في قلوب الأعداء من الرعب، فكان هذا زيادة لتوكلهم على الله تعالى وتقوية لإيمانهم به.

    وهذا الأثر بقي بعد الصحابة رضوان الله عليهم، فإن هذه المعركة كان لها ما بعدها؛ ولذلك ما دامت الأمة متشبثة بها وتتذكر أحداثها، وما دام تاريخ الأمة مرتبطًا بها- سيبقى هذا التوكل وهذا الإيمان جديدًا في النفوس؛ لأن المعايير المادية التي يعتمد عليها الناس قد تحطمت في معركة بدر.

    فهذا الجيش القليل اليسير الذي لا يتجاوز تعداد المقاتلين فيه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا، وليس لهم من السلاح إلا ثمانية أسياف، وليس لهم من الخيل إلا ثلاثة، يهزم هذا الجيش العرمرم الذي دوخ الجزيرة العربية كلها.

    فكان هذا تقوية للإيمان، وزيادة للتوكل على الله سبحانه وتعالى، وبقي الارتباط به في أذهان المؤمنين كلما وقفوا في مضيقٍ أو شاهدوا أزمة أو ضَعُفوا من الناحية المادية، تذكروا الحال الذي كان عليه المؤمنون في وقت بدر وما نصرهم الله به؛ ولهذا يقول أبو تمام في ذكر معركة فتح عمورية:

    إن كان بين ليالي الدهر من رحم موصولة أو ذمام غير مقتضب

    فبين أيامك اللاتي نصرت بها وبين أيام بدر أقرب النسب

    امتلاء قلوب أعداء الله بالرعب

    كذلك من هذه النتائج أيضًا: أن أعداء الله في داخل الجزيرة العربية وفي خارجها، قد امتلأت قلوبهم من الرعب من هذا الدين الجديد ومن هذه الدولة الجديدة، فكان هذا تمكينًا للمؤمنين في النفوس.

    والتمكين ينقسم إلى قسمين:

    إلى تمكين في الواقع.

    وتمكين في القلوب والنفوس.

    فالتمكين في النفوس يحصل: بالخوف، وبالمحبة.

    فالفرس والروم واليهود، وجميع أعداء الإسلام في خارج الجزيرة العربية، ملئت قلوبهم من الرعب من هذا الدين الجديد وأهله؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر). وعندما غزا في غزوة تبوك هربت منه جيوش الروم وانصرفت على أدبارها مهزومةً من مجرد الرعب، وهكذا حصل للفرس، فقد خافوا خوفًا شديدًا من مجرد رسوله الذي يحمل رسالةً منه.

    وقد نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمحبة أيضًا في نفوس كثيرين، فكثير هم أولئك الذين رأوه فأحبوه حبا شديدًا؛ فقد قال شيبة بن طلحة بن أبي طلحة: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وما على وجه الأرض أبغض إلي منه، فلما رأيت وجهه أخذتني الهيبة فارتعشت فرائصي، فقال: (ادن شيب. فدنوت منه فضرب في صدري بيده، فوالله ما رفعها وعلى وجه الأرض من هو أحب إلي منه).

    وكذلك ما قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (لقد مررت بأطباق ثلاثة: فقد كنت امرأً مشركًا، وكنت أشد الناس عداوةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأشدهم بغضًا له. فلما أدخل الله علي الإسلام لم يكن أحد على وجه الأرض أحب إلي منه، ولا أهيب في نفسي منه، ولو سئلت أن أصفه لما استطعت، فوالله ما رفعت إليه نظري إجلالًا له وتعظيمًا).

    وذكر الطور الثالث، وهو ما حصل من الفتنة ودخوله فيها، فقال: إنه لو مات على الطور الأول الذي هو الشرك لكان صائرًا إلى النار، ولو مات على الطور الثاني وهو الصحبة لكان صائرًا إلى الجنة، وقد دخل في الطور الثالث فهو يرجو ويخاف.

    فهذه المحبة مكن الله بها لرسوله صلى الله عليه وسلم في القلوب.

    اعتداد المؤمنين بدينهم وتمسكهم به

    وكذلك فإن من آثار هذه المعركة أيضًا: اعتداد المؤمنين بدينهم، وتشبثهم به.

    فقد عرفوا أن هذا الدين به نصروا، وقد كان المنافقون يقولون: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ[الأنفال:49]، ويزعمون أن اعتمادهم على الدين إنما هو من قبيل الغرور، فلما تحطمت نظرة المنافقين وانهزموا، ازدادت ثقة المؤمنين بهذا الدين، وعرفوا أنه الذي ينهزم به الأعداء، وهو الذين ينصر به أهل الإيمان، وهو القوة التي لا تهزم.

    استئصال رءوس الكفر بمكة

    كذلك من نتائج هذه المعركة: أن الله استأصل بها رءوس الكفر وزعماءه بمكة.

    وأهل الجزيرة العربية من المشركين وأهل الكتاب تبع لأولئك الرءوس الذين هم بمكة، فلما قطعت هذه الرءوس لم يبق من يستطيع التشبث بتلك المبادئ ولا المدافعة عنها لمدة طويلة؛ ولهذا فإن بعض الذين بقوا على هذا المنهج من أهل مكة لم يزالوا في شك وريب، كـأبي سفيان وصفوان بن أمية، حتى أدخل الله الإيمان في قلوبهم.

    وكذلك فإن اجتثاث هذه الرءوس المشركة كان سببًا لإسلام أولادهم من بعدهم، وقد سأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن العاص فقال: (يا عمرو، والله إن كنا لنعدك من أعقلنا في الجاهلية، فما الذي أخرك عن الإسلام؟ قال: يا أمير المؤمنين، لقد كنا مع شيوخ كنا نراهم أوفر الناس عقولًا، وأحصفهم رأيًا، فنفروا من هذا الأمر وعادوه، فتبعناهم على ذلك، فلما ماتوا نظرنا فإذا الحق واضح).

    فكان اجتثاث رءوس الكفر الذين علم الله أنهم لا يمكن أن يدخل الإيمان في قلوبهم، ولا يمكن أن يكونوا من أهل الجنة، كان ذا أثر بالغ في إيمان كثير من الشباب والمقلدين والضعفة، الذين كان هؤلاء الرءوس يحولون بينهم وبين الإيمان؛ ولذلك قال الله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ[الأنفال:39].

    فالفتنة: هي صرف الناس عن الدين، والحيلولة بينه وبينهم، وهذه إنما تكون من الرءوس والملأ.

    فكان اجتثاثهم مهما جدا لانتشار الإيمان واستقبال الناس له بالقبول.

    خوف قبائل العرب المحيطة بالمدينة من الدين وأهله

    كذلك من آثار هذه المعركة أيضًا: خوف قبائل العرب والأعراب المحيطة بالمدينة من هذا الدين وأهله.

    فقد دخل الخوف عليهم، فأقبلوا يرغبون في مصالحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا أن ينتسبوا إلى هذه الدولة الجديدة ولو لم يؤمنوا، وهذا ما نشهده فيما بعد في العام السابع في وقت صلح الحديبية، عندما توافد بنو خزاعة فدخلوا في عقد النبي صلى الله عليه وسلم وعهده.

    فكثير من القبائل غير المؤمنة رأت أن هذا الدين له مستقبل، وأن هذه الدولة الجديدة ينبغي أن ينضم إليها الناس وأن يدخلوا في كنفها، وأن هذا الخيار خيار إستراتيجي بالنسبة لهم، فاختاروه وقطعوا قرارهم فيه.

    هزيمة المنافقين في المدينة

    وكذلك من آثار هذه المعركة: أنها كانت أيضًا سببًا لهزيمة المنافقين الذين كانوا في المدينة.

    فكانوا يمنعون أولادهم من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته من كبار السن، فلما حصلت هذه المعركة وجاءت نتائجها مشرفة، ورأوا شباب المؤمنين قد فازوا بالصحبة وبالشهادة، لم يعودوا يستطيعون الحيلولة بين أولادهم وبين المسارعة إلى الخير والمسابقة إليه، حتى إن عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول- وأبوه رأس النفاق- قد كان من الشباب المسارعين إلى الخيرات المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم المبادرين إلى الغزو معه، ولم يستطع أبوه صده عن ذلك؛ لما شاهده من الـمزية لأولئك الشباب الذين ضحوا وقدموا أنفسهم، كأبناء عفراء وأولاد عمرو بن الجموح، وغيرهم من الشباب الصغار الذين كان لهم أثر بالغ في هذه المعركة.

    غنائم غزوة بدر وكيفية تقسيمها

    كذلك من الآثار التي ترتبت على هذه المعركة ومن النتائج الطيبة لها: ما غنمه المؤمنون من الغنائم التي قد ذكرنا من قبل، أن من حكمة هذه المعركة ومن أهدافها أن يسترد من قريش ما أخذوه من مال المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم.

    فقد كثرت الغنائم، وجمع منها الشيء الكثير، ثم تضاعفت وازدادت بالفداء عندما فادى قريش أسراهم، فاجتمع من ذلك مال كثير، فكان تخفيفًا للأعباء عن الأنصار، وكان أيضًا جبًرا للمهاجرين بما فقدوا من أموالهم وبما خرجوا منه من ديارهم، وكان ذلك أيضًا رفعًا لمعنوياتهم حين وجدوا نفس الأموال التي كان يملكها المشركون وكانوا يبغون بها عليهم في الجاهلية.

    فذو البرة وهو جمل كان لـأبي جهل، كان معروفًا بمكة مشهورًا- كان من غنائم بدر، وقد أهداه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة فنحر عندها، فكان ذلك نكاية عظيمة بالمشركين.

    لكن هذه الغنائم كانت ذات تأثير على النفوس، وهذا يدلنا على خطورة المال وما يتعلق به؛ فالمال تحبه نفوس الناس:

    والناس بالطبع قد مالوا إلى الذهب

    وهذا في نفوسهم، سواء منهم من كان صالحًا أو طالحًا في الأصل، إنما يتغلب الإنسان على نوازعه وعلى شهواته وعلى محبته للدنيا بتذكره للآخرة، وبزيادة مشاهدته لما عند الله عز وجل.

    ولهذا فإن هؤلاء الذين لم يغنموا قبل هذه المعركة، لـما جمعت الغنائم اختلفوا في شأنها، فقالت طائفة منهم: إنما هي للذين قاتلوا حتى أحرزوها. وقالت طائفة: بل هي للذين جمعوها؛ فهم أول من سبق إليها. وحصل هذا الخلاف فأدى إلى شقة فيما بينهم، فحسم الله هذا النزاع بقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[الأنفال:1].

    فكان هذا القرار الرباني حاسمًا في هذا الخلاف.

    والأنفال: المقصود بها هنا الغنائم وهي جمع نفل، والنفل في الأصل: ما ناله الإنسان باجتهاده وجده.

    وفي الاصطلاح: تطلق على ما زاد على الغنيمة كما إذا وزع الإمام الغنائم على الناس فبقيت زيادة فنفلهم، أي: أعطى كل إنسان ما يزيد على سهمه، فهذه الزيادة هي التي تسمى في الاصطلاح الفقهي بالنفل.

    لكن المقصود هنا في الآية: الغنائم مطلقًا، سواء منها ما كان نفلًا أم كان سهمًا وأصولًا، فلذلك قال: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ[الأنفال:1]، والجواب: قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ[الأنفال:1].

    فاتخذ الله عز وجل هذا القرار بمصادرة حقوق الناس منها، فجعلها إلى الله وإلى رسوله ليس لأحد فيها نصيب ولا حق، وهذا ما ينقاد له المؤمنون جميعًا ويستسلمون له، وهو الذي يؤدي إلى اجتماع كلمتهم وتقارب قلوبهم وإزالة الشقة عنهم، إذا عرفوا أن الحكم فيها لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وليس للناس فيها رأي وليس لهم مشاركة في القرار في شأنها، فهذا مما سينفض أيدي قلوبهم عن المشاركة في الرأي فيها.

    ثم بعد ذلك قسمه النبي صلى الله عليه وسلم على نحو ما أوحى الله إليه فقد أنزل الله عليه: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ[الأنفال:41].

    وهذا الخمس قسمة إلى خمسة أخماس، هذا الخمس الواحد مقسم إلى خمسة أخماس؛ لأنه قال: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ[الأنفال:41].

    فهذه الخمسة هي من هذا الخمس الواحد، هذا الخمس هو لله ولرسوله ولذي القربى، أي: قرابات النبي صلى الله عليه وسلم، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، إن كنتم تؤمنون بالله.

    والأخماس الأربعة الأخرى قسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المقاتلين من المؤمنين، من كان منهم مشاركًا في المعركة ومن كان في أمر من أمور الإسلام الأخرى؛ لأن أمر هذا الدين ونصرته هو عمل جماعي مشترك للنائم فيه أجر القائم، وللغائب أجر الحاضر، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم الأجر والمغنم بين الناس، فأسهم لقوم تخلفوا عن المعركة لانشغالهم بأمر آخر من أمور الدين ولصرف النبي صلى الله عليه وسلم لهم في مسئوليات أخرى، كـعثمان بن عفان وكالذين يرعون الإبل، وكالذين خرجوا في السقاية، وكالذين خرجوا يجمعون الأخبار، فكل أولئك أسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي جعل لهم سهمًا في الأجر والمغنم، فكانوا من الذين شهدوا بدرًا ولو لم يشهدوها في الواقع.

    ولذلك قال: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ[الأنفال:1]، ورتب على ذلك: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[الأنفال:1]. وهذا أمر يأتي مع كل أمر ذي بال، كل أمر مهم يأمر الله به من أمور الدين يسبق بالأمر بالتقوى، فإذا جاء الأمر بالتقوى وجاء بعده أمر آخر فهذا دليل على الاهتمام بذلك الأمر الآخر؛ لأنه مهد له بالأمر بالتقوى؛ لتشرئب النفوس إلى الطاعة والامتثال، فلذلك قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ[الأنفال:1].

    وإذا سمع ذلك المؤمن سينتفض من أمور الدنيا ويتخلص منها ويقبل على الله، ويتهيأ للطاعة مطلقًا امتثالًا واجتنابًا، فقال بعده: وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[الأنفال:1]، وهذا أمر بإصلاح ذات البين الذي يقتضي إزالة كل النعرات وعبية الجاهلية وتفاخرها بالآباء، وهو قاضٍ على كل الدعوات المغرضة والمميزة، سواء كان ذلك التمييز عنصريًّا أو قبليًا أو طائفيًّا أو جهويًّا أو غير ذلك، فكل ذلك قد قضى الله عليه بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[الأنفال:1]. وذات البين: (ذات) مؤنث (ذو) بمعنى صاحب، والمقصود بذات البين؛ أي: ما بين الناس من العلاقات، فما بين الناس من العلاقات هو ذات بينهم.

    فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[الأنفال:1].

    1.   

    الأمر بطاعة الله ورسوله

    وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ[الأنفال:1]، فهذا أمر بالطاعة مطلقًا، سواء فهم الإنسان المأمور به واستوعب هدفه أو لم يفهمه.

    فالأوامر تنقسم إلى قسمين: إلى أوامر إستراتيجية، وإلى أوامر تكتيكية.

    فالأوامر الإستراتيجية: هي التي يعرف الإنسان ما تؤدي إليه ويعرف هدفها.

    والأوامر التكتيكية: هي التي لا يعرف الإنسان ما يترتب عليها، وإنما يطيع ويؤديها ولو لم يفهم علتها، والأوامر التكتيكية من علامتها: النسخ قبل التمكن من الفعل كأمر إبراهيم بذبح ولده، وكأمر المؤمنين بالصدقة بين يدي النجوى، وغير ذلك من الأوامر التي نسخت قبل التمكن من فعلها.

    فهذه الأوامر قطعًا ليست إستراتيجية؛ لأنها لا يقصد وقوعها؛ لأن الله لم يردها، ولكن يقصد بها تهيئة النفوس للطاعة، أن تكون النفوس منقادة للطاعة عرفت المطلوب أو لم تعرف، وهذا تأكيد للموقف الذي أعلنه المهاجرون ثم أعلنه بعدهم الأنصار في بيعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال لما ندبهم إلى ذلك، فإنهم جميعًا آثروا رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم على مصالح أنفسهم، وقالوا: ( لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما تخلف منا رجل ولا امرأة )، وقالوا: ( لو ضربت بنا عرض هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا أحد ).

    فآثروه على أنفسهم، وأكد الله هذا المعنى حتى يكون حاضرًا في النفوس في كل وقت وفي كل مكان فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[الأنفال:1]. وطاعة الله: هي الالتزام الديني، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هنا: هي الالتزام التنظيمي. فالالتزام لا يخلو من هذين الأمرين: إما التزام ديني يتعلق بأمر الله وعبادته فهذا نتيجته أخروية، وإما التزام تنظيمي أي يتعلق بمصالح الناس وهذا في شئون الدنيا ونتيجته دنيوية.

    فطاعة الله فيما يتعلق بالآخرة يدخل فيها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم نبيًّا مبلغًا؛ لأننا لا يمكن أن نطيع الله إلا بما أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك لو قال في أمر الدين: (فأطيعوا الله) لكان ذلك شاملًا لطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين؛ لأننا لا يمكن أن نطيع الله في أمور الدين إلا بما بلغنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم عطف على ذلك- والعطف يقتضي المغايرة- طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقصد بها طاعته نبيًّا من الأنبياء؛ لأن ذلك داخل في طاعة الله في قوله: ((فَأَطِيعُوا اللهَ)).

    بل يقصد طاعته قائدًا، فطاعة القائد فيما لا يخالف أمر الله هي من الأوامر التنظيمية وهي مؤازرة للأوامر الدينية، وبينهما تكامل وترابط، وقد يقع بينهما تعارض في بعض الأحيان، وحينئذٍ لا يمكن أن يرجح الأمر الديني مطلقًا، ولا أن يرجح الأمر التنظيمي مطلقًا، بل المرجع حينئذٍ إلى تحقيق مقصد الشارع. فالشارع لماذا أرسل الرسول أصلًا؟ ولماذا أنزل الكتاب؟ لتكون كلمة الله هي العليا وليمكن لدين الله في الأرض. فهذا القصد ما يحققه أكثر تجب المبادرة إليه، ومثال هذا أرسل رسول الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس ليغتال خالد بن سفيان الخزاعي، وكان يجمع الجموع لغزو المدينة، قال: فأتيته في وقت العصر فقال: ممن الرجل؟ فقلت: رجل من العرب سمع أنك تجمع لغزو هذا الرجل، فأتيت لأشهد معك فإن غنمت رضخت لي، أي: أعطيتني من غنيمتك؟ قال: هو على ما سمعت، فأمسك بيدي، فجعل يدور بي بين الجموع حتى كادت الشمس تغرب وما صليت العصر، فصليتها إلى غير القبلة أومئ إيماءً حتى غربت الشمس فخلوت به فأطرت رأسه وقلت:

    أقول له والسيف يعجم رأسه أنا ابن أنيس فارسًا غير قعدد

    إذا حارب المختار أي منافق سبقت إليه باللسان وباليد

    فـعبد الله بن أنيس تعارض عليه الأمر الديني وهو الصلاة في وقتها، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا[النساء:103]. والأمر التنظيمي وهو قتل هذا الرجل فهو من أمور الدنيا، فلما تعارض عليه الأمران لم يرجح أمر الدين مطلقًا، ولا أمر التنظيم مطلقًا، بل عادل بينهما ووازن على أساس المقصد الشرعي، فرأى أن المقصد الشرعي من كليهما هو التمكين لدين الله في الأرض، وأن قتل هذا العدو الذي يكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغ في التمكين لدين الله مما لو صلى هو ركعتين فقتل، فلذلك بادر للأمر التنظيمي؛ لأنه أبلغ تحقيقًا لمقصد الشارع ففعله.

    ونظير هذا أيضًا من الأمثلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب لما قفل نادى مناديه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في ديار بني قريظة).

    فهنا تعارض أمران: أحدهما ديني، والآخر تنظيمي.

    فالأمر الديني: هو قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا[النساء:103]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله).

    والأمر التنظيمي: هو ألا يصلي أحد من المؤمنين العصر إلا في ديار بني قريظة.

    فلما تعارض الأمران اجتهد أهل الإيمان، فطائفة رجحوا الأمر الديني فصلوا العصر في المدينة وبادروا إلى بني قريظة. وطائفة رجحوا الأمر التنظيمي فلم يصلوا العصر إلا بعد صلاة العشاء في ديار بني قريظة، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم الطائفتين ولم ينكر على واحدة منهما.

    فدل ذلك على أنهم متعبدون بالاجتهاد والموازنة بين الأمرين عند تعارضهما.

    وهذا الأمر لم يأت نبي قط إلا به، فكل نبي يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ[الشعراء:108]، ((فَاتَّقُوا اللَّهَ)) هذا الالتزام الديني، ((وَأَطِيعُونِ)) هذا الالتزام التنظيمي.

    ولذلك بينه الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ[النساء:59]، فقسم الطاعة إلى طاعتين: إلى طاعة الله، وإلى طاعة رسوله، أما طاعة أولي الأمر فهي من طاعة رسوله؛ لأنهم ما نالوا الأمر إلا بوراثته.

    ولذلك قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ[النساء:59] ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم!

    فجعل طاعة أولي الأمر من طاعة الرسول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني).

    وهنا ملمح آخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أميري)، بالإضافة، فليس كل أمير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أميره هو الذي يفعل ما يفعله ويترك ما يتركه، ويعمل عمله وينصر دينه الذي جاء به، فمن كان كذلك فهو فعلًا أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يقوم بعمله ووظيفته، ومن لم يكن كذلك ليس أميرًا للنبي صلى الله عليه وسلم بل هو أمير نفسه.

    وهذا الملمح واضح في الإضافة في قوله: (من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)، ثم بعد هذا قال: إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ[الأنفال:1]. فهذا الأمر مما يؤكده ربطه بالدافع العقدي، فكل تصرف يتصرفه الإنسان لابد أن يكون له دافع يدفعه إليه، وهذا الدافع إما أن يكون قويًّا وإما أن يكون ضعيفًا، فالدافع الضعيف مثل كيد الشيطان من الشهوات والشبهات، فكثيرًا ما تدعو لتصرفات ولكنها ضعيفة؛ ولذلك يندم عليها صاحبها بعد أن يقع فيها، يتصرف تصرفًا على أساس الشهوة أو على أساس الشبهة ثم يندم عليه غاية الندم بعد أن يقع فيه، فهذا من الدافع الضعيف وقد قال الله تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[النساء:76].

    والدافع القوي هو الدافع العقدي المنبثق من عقيدة الإنسان وإيمانه، فتصرفات الإنسان في عبادته ومعاملته وخلقه إذا انبثقت من عقيدته وترتبت على قناعته، فإنه يفعلها لا يبالي، فيفعلها أمام الناس كما يفعلها في خلوته.

    ومن هنا قد ذكرت لكم أكثر من مرة أن كثيرًا من المؤمنين الآن لم يتخذوا بعد قرار الإيمان، فإنهم إنما يتركون ما كانوا ينهون عنه في صباهم، وإما يفعلون ما كان يؤذن لهم بفعله في صباهم.

    كثير من الناس الآن يرى أن خروجه من الخيمة إلى جهة الشمال الغربي مثلًا، أشد حرمة من أكل الغيبة أو من الكذب؛ لأن اللوم الذي تلومه به أمه إذا فعل هذا الأمر أشد من اللوم الذي تلومه به إذا كذب أو أكل الغيبة.

    وهذا يدل على أنهم إنما يقلدون فيما أحل لهم وما حرم عليهم آباءهم وأمهاتهم، فهذا لا يرتبط بالدافع العقدي وإنما هو مجرد تقليد للآباء والأمهات، أما إذا كان الإنسان منطلقًا من عقيدته فإنه يعلم أن ما أحله الله هو الحلال وما حرمه الله فهو الحرام، وما أحله الله لا يستحيي منه أحد، وما حرمه الله لابد أن يستحيي منه الجميع.

    فلذلك لابد أن يكون الإنسان منقادًا لكل الأوامر مجتنبًا لكل النواهي، راغبة نفسه في الطاعة خائفة من المعصية، كما قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65].

    1.   

    الإيمان الحق وأثره في النفوس

    ثم بعد هذا قال: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ[الأنفال:2].

    بعد أن بين الدافع العقدي الذي يؤدي إلى العمل بين أعلى مستوياته، وهذا من قيم القرآن العجيبة، فهذا القرآن فيه قيم عجيبة جدًا ومنها قيمة الخوف والرجاء، وهما ميزان حياة المؤمن، فالمؤمن دائمًا بين الخوف والرجاء، يرجو ثواب الله ويخاف عقابه، وهذا العيش الذي يعيشه الإنسان حتى يصل إلى الغرغرة وحينئذٍ يقدم حسن الظن: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بالله). فيأتي الوعد على أعلى الدرجات ويأتي الوعيد كذلك على أقصاها، فيبقى الإنسان مترددًا بينهما، ومثال ذلك في القرآن قول الله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى[الليل:14-16].

    إذا قرأ المؤمن ذلك يقول: الحمد لله، أنا لست كذلك، النار لا يصلاها إلا الأشقى: أشد الناس شقاوة، (الذي كذب وتولى) فلم أكذب ولم أتولَّ، لكن يأتي الوعد: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى[الليل:17-21].

    فإذا قرأ المؤمن ذلك يقول أنا أيضًا لست كذلك أنا لست الأتقى: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى[الليل:18-21].

    فيبقى بين الرجاء والخوف، الآيات الأول نال بها الخوف، والآيات الأخر نال بها الرجاء، فيعيش بينهما، فكذلك هنا هذه القيمة لابد من ترسيخها فيأتي الوعد على أبلغ الدرجات، فأهل الإيمان عند الله درجات كثيرة جدًا، لكن إذا ذكر المثال الذي يؤتسى به ويقتدى به من يكون؟ إنما يكون على أعلى الدرجات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ[النور:62]، ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ))، فيؤتى بأعلى الدرجات.

    فالمؤمنون حقًّا الذين درجتهم في الإيمان هي الأسوة وهم الذين يقتدى بهم، من هم؟ لا يقصد في قيم القرآن أن يقال: فلان وفلان وفلان؛ لأن هذا يقتضي ارتباط الناس بالأشخاص والحق يعرف بالحق ولا يعرف بالرجال، فالرجال هم الذين يعرفون بالحق، فلو قال الله تعالى: إنما المؤمنون أبو بكر وعمر وفلان وفلان، لكان هذا ربطًا للإيمان بجيل معين، وإذا بحثت أنت اليوم عن ذلك الجيل لا تجد صفاته فتصاب بإحباط وهزيمة، لكن لم يربط الله تعالى هذا الإيمان وقيمه بالأشخاص، وإنما أبرزها كقيم تطبق على أهل كل عصر بحسب حالهم، وقد أخرج الترمذي بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم في زمان من ترك فيه عُشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى فيه بعُشر ما أمر به نجا).

    وبهذا نلاحظ الفرق الشاسع بين الجيل الأول والأجيال اللاحقة، فالحجة القائمة عليهم أكبر من الحجة القائمة على من بعدهم. إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ[الأنفال:2]، فالحصر هنا ليس لأصل الإيمان، بل لأعلى درجات الإيمان، إنما المؤمنون: أي: كاملو الإيمان.

    ((الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ)): وهذا الذكر يشمل الذكر القلبي والذكر اللساني وكل عامل لله تعالى بطاعة فهو ذاكر، أي إذا رأوا ما يذكرهم بالله سواء كان ذلك بمشاهدات أعينهم في هذا العالم من عالم الملك أو عالم الملكوت، أو كان بسماعهم للقرآن أو كان بسماعهم لذكر لله، أو كان بتأثرهم بأية نعمة من نعم الله، أو بأي أخذ من أخذه وابتلاء من ابتلاءاته، كل ذلك يذكرهم بالله، فيذكرون الله سبحانه وتعالى فيخافونه فقال: ((إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ))، إذا ذكر الله وقد نسب هذا الفعل للمفعول، فالذاكر محذوف لم يسم هنا، وذلك يدل على أن هذا الذاكر قد لا يكون إنسانًا، بل هذا الذكر يحصل بكل ما يدل على الله سبحانه وتعالى، فإذا نظروا في هذا العالم فرأوا السماء ذات الأبراج والأرض ذات الفجاج خوفهم ذلك من الله.

    إذا رأوا الشمس تكسف أو القمر يخسف زادهم ذلك إيمانًا وخوفًا (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، وقد قال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا[الإسراء:59]. فكل آية من آيات الكون تدلهم على الله وتخوفهم منه.

    ((إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)): والوجل شدة الخوف، وقد قال كثير من أهل العلم: الخوف حال والوجل مقام، والفرق بين الحال والمقام: أن المقام ثابت وأن الحال متذبذب، فالحال ما يحصل في قلب الإنسان من الرعب في وقت ثم يزايله ويزول عنه. والمقام: ما يستقر في قلبه فيبقى كذلك دائمًا. والناس في خوفهم من الله على هذين المستويين، منهم من يخاف الله في وقت الموعظة والذكرى أو في وقت أخذ الله الشديد: إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا[الزلزلة:1]، أو كسفت الشمس أو رأى آية من آيات الله خافه، لكن يزول عنه الخوف فيغفل عن الله ويبطش في محارم الله إذا زال عنه هذا الخوف وأثره.

    ومنهم من يكون الخوف شاهدًا في قلبه مقامًا له في كل أوقاته، فإذا خلا بمحارم الله لم ينتهكها لعلمه أن الله ينظر إليه، فهو يخاف الله على كل أحيانه، فلذلك قال: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا[الأنفال:2].

    ((إِذَا تُلِيَتْ)): أي قُرئت عليهم. ((آياتُهُ)): والمقصود بها الآيات المسطورة وهي آيات القرآن، فآيات الله مسطورة ومنظورة، فالمنظورة آيات الكون، والمسطورة آيات القرآن، والمنظورة تؤكد المسطورة كما قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ[فصلت:53].

    ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا)): وهي الآيات المنظورة، ((فِي الآفَاقِ)): السموات والأرض وخلق الناس والمواعظ والعبر، ((وَفِي أَنْفُسِهِمْ)): فيما يشاهدونه من الخوف والرجاء والغنى والفقر والتقلبات، تقلبات الأحوال، ((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ)): أي القرآن، ((الْحَقُّ)) فشواهده قائمة في الآيات المنظورة.

    1.   

    أقسام زيادة الإيمان

    فلذلك قال: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا[الأنفال:2]، وهذه الزيادة- وهي زيادة الإيمان- تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

    إلى زيادة الطمأنينة: أن تزداد طمأنينة الإنسان بمبادئه، وتزداد قناعته بما آمن به، وهذه إذا أطلقت زيادة الإيمان فهي المقصودة، إذا أطلقت زيادة الإيمان فالمقصود بها زيادة القناعة والطمأنينة.

    النوع الثاني: زيادة الإيمان باعتبار العمل، أي: ما يزيد الإنسان إحسانًا، فإذا كان الإنسان يزداد صلاة وصومًا وذكرًا وعبادة فقد ازداد إيمانه؛ لأن هذه داخلة في مسمى الإيمان؛ ولذلك قال الله تعالى في أصحاب الكهف: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[الكهف:13]. فزيادتهم هدًى هي بزيادة توفيقهم للأعمال الصالحة.

    والقسم الثالث من زيادة الإيمان: هو زيادة أفراد ما يؤمن به الإنسان، فقبل أن تنزل هذه السورة كانوا يؤمنون بالسور التي نزلت قبلها، لكن لما نزلت هذه السورة ازداد الإيمان بالإيمان بهذه السورة، وهكذا كلما نزلت سورة يزداد أفراد ما يؤمنون به، فيؤمنون بتلك السورة الجديدة.

    وهذا يختلف فيه الناس فخديجة بنت خويلد رضي الله عنها ومن مات معها في صدر الإسلام كـ ياسر وسمية وغيرهم من الذين آمنوا قديمًا حصلوا على الأمر الأول وهو زيادة الإيمان بزيادة الطمأنينة واليقين، وحصلوا كذلك على الأمر الثاني وهو زيادة الإيمان بزيادة العمل والطاعات بحسب ما نزل.

    لكن الأمر الثالث ازداد عند غيرهم من الصحابة من الذين شهدوا ختم نزول الوحي، فإن أولئك ماتوا وقد بقي الكثير مما لم ينزل من القرآن.

    ففي العهد المكي نزل اثنتان وثمانون سورة بالاتفاق، واثنتا عشرة سورة محل خلاف، وفي العهد المدني نزل عشرون سورة بالاتفاق والاثنتا عشرة محل خلاف، فالذين شهدوا نزول كل القرآن ازدادوا إيمانًا بزيادة عدد ما يؤمنون به، فآمنوا بكل السور مائة وأربع عشرة سورة.

    والذين ماتوا قبل تنزلها آمنوا بما نزل منها قبل موتهم وصدقوا به، وهذا لا ينقص درجتهم ولا مستواهم، ولكنه يزيد درجة الآخرين لأنهم شهدوا ما لم يشهدوه.

    ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)): وتلاوة آيات القرآن على الإنسان تزيد إيمانه من الأوجه الثلاثة:

    فالوجه الأول: أنها تزيد قناعته ويقينه لأن هذا القرآن حبل الله المتين وصراطه المستقيم وهو هدًى للمتقين: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[الإسراء:9]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ[يونس:57]، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42].

    فلذلك يزداد به يقين الإنسان كلما قرأه كلما ازداد يقينا ولهذا قال الشاطبي رحمه الله:

    وإن كتاب الله أوثق شافع وأغنى غناء واهبًا متفضلا

    وخير جليس لا يمل سماعه وترداده يزداد فيه تجملا

    وحيث الفتى يرتاع في ظلماته من القبر يلقاه سَنًا متهللًا

    هنالك يهنيه مقيلًا وروضة ومن أجله في ذروة العز يجتلى

    يناشد في إرضائه لحبيبه وأخلق به سؤلًا إليه موصلا

    والأمر الثاني: زيادة الإيمان بزيادة العمل لأن القرآن يدعو إلى الازدياد من الطاعات: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الحج:77]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ[الحج:77].

    فهذا يزيد الإنسان فعلًا للخير فيزداد إيمانه بذلك لأن أعماله هي من إيمانه.

    والأمر الثالث: أن هذا القرآن إذا قُرئ على الإنسان لابد إذا كان من المتدبرين الواعين أن يفهم منه أمرًا جديدًا لم يكن فهمه من قبل، وعلى كل إنسان منكم أن يراجع نفسه، فهذه الآيات كنتم تقرءونها في كل وقت وتسمعونها، لكن بمجرد تدبرها والمراجعة فيها يكتشف الإنسان كثيرًا مما كان خفي عنه من معانيها، فيزداد إيمانه بذلك لأنه يؤمن بمعاني هذه الآيات.

    فبذلك تكون تلاوة القرآن زائدة للإيمان من الأوجه الثلاثة: ((فَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)). هذا الختام لهذه الآية ولهذه الديباجة ديباجة السورة ختام عجيب جدًا، وهو بيان لأكبر قيمة أو أكبر نتيجة من نتائج هذه المعركة أكبر نتيجة من نتائج معركة بدر هي تقوية التوكل على الله سبحانه وتعالى، فأهل الإيمان لم يعتمدوا على السيوف والسلاح ولا على العدد والعدة، وإنما اعتمدوا على توكلهم على الله ورضاهم بما يكتب لهم، وهذا تقوية لنفوسهم وتشجيع لها.

    1.   

    القوة المعنوية ودورها في الثبات

    القوة أنواع:

    منها القوة المعنوية، ومنها القوة المادية.

    والقوة المعنوية: أهمها قوة الاعتقاد لأن الإنسان إذا اقتنع بشيء لا يمكن أن يتغير ذلك لديه، ولنلاحظ أن إبراهيم عليه السلام ما ترك قومه أية وسيلة من وسائل الضغط والتأثير عليه؛ ليصرفوه عن قناعته إلا أعملوها فلم يتأثر إبراهيم ولم يزدد إلا إيمانًا ويقينًا ولقي ربه بقلب سليم. آذاه أبوه غاية الأذى واجتمع عليه الملأ وحاكموه، وأرادوا إخراجه في التلفزيون لو كانت لديهم: فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ[الأنبياء:61]. ثم بعد ذلك رموه في النار بالمنجنيق كل هذه الوسائل للتأثير على إبراهيم لم تؤثر في قناعته وإيمانه.

    ونظير هذا أيضًا ما حصل لأنبياء الله جميعًا، ولكثير من أصفيائه وأوليائه الذين أوذوا في الله فلم يتأثروا، وقد حدثنا التاريخ أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسود البشرة خرج في غزو إلى جهة الروم، فأخذ أسيرًا في القسطنطينية، فنقل إلى شرق أوروبا ولم يكونوا يعرفون اللون الأسود، فلما رأوه عجبوا منه فنقلوه إلى ملكهم، فلما رآه تعجب منه فظن أنه قد صبغ جسمه، فأمر بغسله بأنواع الغاسول فغسل فلم يتغير لونه، حتى إنه أمر بأمشاط الحديد فمشط جلده بالحديد فلم يتأثر، فأمر بطرحه في قدر من نحاس يريد أن يمتحن هذا اللون، وهذا الرجل ثابت على إيمانه لا يتزلزل وهو في القدر يرفع إصبعه بالتوحيد.

    وكذلك حبيب بن زيد رضي الله عنه لما جاء إلى مسيلمة الكذاب قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم. قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، فقطع يده. ثم أعاد عليه السؤال: أشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم. قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. فقطع يده وهكذا لم يزل يقطع منه عضوًا بعد عضو، وهو ثابت على مبدئه لا يتزلزل ولا يتغير حتى لقي الله؛ لهذه القوة الباطنة المعنوية التي هي قوة العقيدة والإيمان. وهذه القوة لا يمكن أن تعادلها القوة المادية ولا أن تساويها، فمثلًا أعداء الله أوتوا القوة المادية وامتحنهم الله بذلك: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء:35]، لكن ما أوتوه من القوة المادية ماذا أغنى عنهم في معركة بدر؟!

    وكذلك ماذا أغنت جنود فرعون عنه عندما غرق، وأين قوم نوح: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ[الحاقة:8]، وأين عاد وثمود؟! فكل تلك القوة المادية تذهب بين الكاف والنون؛ ولهذا قوى الله تعالى نفوس المؤمنين أمام هذه القوة المادية تقوية عجيبة، فقال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78].

    فالمؤمن مم يخاف، إذا كان يخاف الموت فهو ميت لا محالة: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[الزمر:30] ولا يمكن أن يموت قبل أجله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[الأعراف:34]. والموتة التي كتب الله عليه واحدة وسينالها، لابد أن تأتيه في وقتها المحدد، وما دون ذلك من الأمور لا يمكن أن يقع عليه منه أقل شيء إلا وقد كتب عليه من قبل، كما قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[الحديد:22].

    والكفار يخافون من الموت؛ لأنهم لا يؤمنون بهذه القوة المعنوية، فهم يخافون من الموت ويخافون من السجن ويخافون من التعذيب، ويخافون من الأذى، فكل هذه الأمور يخافونها والمؤمنون لا يخافونها: قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا[التوبة:52].

    ولهذا شجع الله المؤمنين بهذه القوة المعنوية حتى أصبح الموت مرغوبًا لديهم يحبونه، فمن ليس من أهل هذه القيمة لا يمكن أن يحب الموت بحال من الأحوال، بل سينفر منه ويفر، وأهل الإيمان إذا كان الموت شهادة في سبيل الله فهو أقصى ما يتمنونه، هو أقصى أمانيهم، فهذا من تقوية الله المعنوية للمؤمنين؛ ولهذا قال في ذلك: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا[الأنفال:3-4].

    ((الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ)): يزداد إيمانهم بالعبادة. والصلاة في الأصل هي العبادة، فتشمل كل طاعة لله تعالى، ويصدق ذلك بالأولى على العبادة المخصوصة التي هي الصلاة ذات الإحرام والركوع والسجود، ولكنه يشمل كل الطاعات الأخرى، كل الطاعات البدنية فهي داخلة في تلاوة القرآن والذكر والدعاء، فكل ذلك من الصلوات، فالصلاة في الأصل تطلق على الدين، كما قال الله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا[هود:87]، أي أدينك يأمرك أن نترك ما يعبد آباءنا.

    ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)): هذا من مظاهر الربانية العجيبة، فهنا قال: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ)) فبيَّن قبل قوله ((يُنفِقُونَ)) أن الذين ينفقونه إنما هو من نعم الله عليهم ذكرهم بذلك، فلم يقل: (وينفقون من مالهم) أو (مما لديهم) أو (مما يملكون)، ولم يقل: (ومما يملكون ينفقون)، بل قال: (ومما رزقناهم)، فبدأ أولًا ببيان أن ما لدى الإنسان هو من نعمة الله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ[النحل:53]. فإذا أنفقت فأنت لم تصب بأية مصيبة، لم ترزأ في شيء، الذي أنفقته هو الذي أعطاك إياه، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[الحج:35]، أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا[الأنفال:4].

    المتصفون بهذه الأمور الخمسة: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا[الأنفال:2-4]. هؤلاء هم المؤمنون حقًّا عند الله الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان فلا يمكن أن يمحى ولا أن يبدل، ولا يمكن أن تسوء خاتمة أحد منهم ولا أن يتغير هذا الإيمان من قلبه؛ لأن الله كتبه في قلوبهم: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإيمان[المجادلة:22]، أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[الأنفال:4].

    ما وعدهم الله به منه الدرجات، وهذا يشمل الدرجات العلى من الجنة فالجنة جنان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأم حارثة حين أتته فقالت: يا رسول الله أخبرني أين ابني؟ وكان شابًّا صغيرًا قتل يوم بدر شيهدًا. فقالت: أخبرني أين ابني؟ أفي الجنة هو فأصبر؟ أم في غير ذلك فترى ما أصنع؟ فقال: (أوجنة هي؟! إنما هي جنان وابنك في الفردوس الأعلى منها).

    فدرجات الجنة متباينة متباعدة: (إن أهل الجنة ليتراءون الغرف، كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء).

    انظروا إلى البون الشاسع، الكوكب الدري الذي بيننا وبينه مئات السنين الضوئية، هذا الفرق بين منازل أهل الجنة، ويكفي من ذلك أن آخر من يدخل الجنة، يقول الله له: اذهب فلك الدنيا وعشرة أضعافها معها، ويأتي فيدخل الجنة فيظنها ملأى قد امتلأت، فيرجع إلى ربه فيقول: اذهب فلك الدنيا وعشرة أضعافها معها.

    انظروا لو كان بيت أحدكم مثلًا قدر مساحة موريتانيا فقط أو قد قدر مساحة إفريقيا فقط أليس بيتًا كبيرًا؟ فكيف ببيت قدر الدنيا كلها وعشرة أضعافها معها! إن لك الدنيا وعشرة أضعافها معها، فهذه هي جنة الله الواسعة.

    وبذلك لا يقع فيها ضيق ودرجات أهلها متباعدة متمايزة، ويمكن أن يكون المقصود بالدرجات هنا درجات الإيمان أي مستوياتهم عند الله في إيمانهم وقربهم متباينة، فالناس يوم القيامة أهل الإيمان منهم يرون الله عز وجل لا يضامون في رؤيته ويكلمهم ربهم جل وعلا، لكنهم يتفاوتون في ذلك، فهم درجات، فمنهم من يكون أقرب، ومنهم من يكون نظره أصفى، ومنهم من يكون سماعه أصفى بحسب درجاتهم عند الله.

    فلذلك قال: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ[الأنفال:4]، ثم عطف على الدرجات: وَمَغْفِرَةٌ[الأنفال:4]، والمغفرة هي ستر الذنب في الدنيا وعدم المؤاخذة به في الآخرة، أن يجمع للإنسان بين أمرين: أن يستر ذنبه في الدنيا فلا يعاب به، ولا يطلع عليه الناس، وأن يغفر في الآخرة فلا يؤاخذ به، ستر الذنب في الدنيا وعدم المؤاخذة به في الآخرة. وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[الأنفال:4]: هذا الوعد الثالث الذي وعدهم الله به هو الرزق الكريم، وهو يقتضي الحياة الشريفة في هذه الدنيا، فالرزق مقتض أولًا للعيش أن يعيشوا وأن يعمروا، ثم بعد ذلك أن يكون عيشهم كريمًا ليس فيه مذلة ولا هوان، فالعيش الكريم هو الذي ليس فيه مذلة ولا هوان.

    1.   

    منهجية القرآن في التعريف بالحق والإيمان قبل التعريف بالرجال

    ثم بعد هذا بين الله مثالًا لأهل الإيمان بعد أن عرفنا المنهج وعرفنا طريق الحق، بغض النظر عن الرجال نحتاج إلى بيان الأمثال، فلذلك بينه بقوله: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ[الأنفال:5]، وهذا الأسلوب القرآني مؤثر وهو قد وجدناه متكررًا في القرآن، ففي سورة الفاتحة يقول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ[الفاتحة:6-7]. فقال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6] فعرف الصراط بالاستقامة ولم ينسبه إلى الأشخاص، ثم كرر فقال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7].

    بعد أن عرفنا الصراط ذكر لنا المثال وهو الذين أنعم الله عليهم، فلو قال من قبل: (اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم) لكان هذا يقتضي معرفة الصراط بالرجال؛ ولذلك بدأ أولًا بمعرفة الصراط، فلما عرفناه ذكر الرجال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6] أولًا، ثم قال: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[الفاتحة:7].

    فكذلك هنا بعد أن عرفنا بأهل الإيمان ودرجاتهم عند الله ذكر لنا مثالهم، ما مثال أهل الإيمان الذين كمل إيمانهم ووصلوا إلى هذا المقام الذي نوه الله به، رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين خرجوا معه من المؤمنين. فبين الله لنا هذا المثال فقال: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ[الأنفال:5].

    بعض أهل التفسير يقول: الكاف صلة، والمقصود بذلك أنها زائدة لديهم، ولكن الذي أفهمه أنها ليست كذلك، إن الكاف هنا إنما هي مثال لأهل الإيمان؛ لأنه قال: ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون)) ما مثالهم؟ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ[الأنفال:5].

    وهذا مثال للأعمال الصالحة التي يزداد الإنسان بها إذا ازداد في الإيمان فقال: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ[الأنفال:5]. وهنا تعود الربانية أيضًا فلم يقل: (كما خرجت من بيتك بالحق)، بل نسب ذلك إلى الله ليرتبط كل فعل من أفعالنا وكل تصرف من تصرفاتنا بالربانية: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ[الأنفال:5].

    وإذا كان هذا الفعل نسب إلى الرب جل جلاله بهذا الاسم، فإنه لن يكون مضيعة قطعًا، فالرب لا يفعل بعبده إلا ما هو رحمة له؛ لأن الربوبية هي الرعاية وإيصال الشيء إلى كماله بالتدريج، فهنا لم يقل: (كما أخرجك الله من بيتك بالحق)، ولم يقل: كما أخرجك المهيمن أو الجبار بالحق، بل قال: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ[الأنفال:5]؛ لبيان أنه لن يضيعه، وأن ما أخرجه له لن يكون إلا لطفًا به ورحمة له: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ[الأنفال:5]، وهذا الخروج مؤذن بأن الإنسان ما دام في مكانه وما دام في بيئته قلَّما يبدع ولا يستطيع الإتيان بجديد، لكن إذا خرج فسيكون خروجه مقتضيًا لصقل ذهنه، وهذا ما عرفه الناس قديمًا، فذكروه فكل من خرج من بيته وبيئته ومألوفه فسيكتسب أمورًا جديدة لا محالة، وما دام الإنسان في بيئته التي ولد فيها، فسيكون تصوره ناقصًا وسيكون محجوزًا بحاجز الزمان والمكان مأسورًا ببعض العادات والتقاليد، لكن إذا خرج من بيته وبيئته فسيكون ذلك خيرًا له،ولهذا ما من نبي من الأنبياء إلا وقد كتب الله عليه الهجرة، فجميع أنبياء الله هاجروا من ديارهم الأصلية.

    1.   

    مقتضيات الهجرة والخروج من البيئة

    وهذا أيضًا مما يدل عليه هجرة البشر جميعًا؛ فـآدم وحواء أهبطا من الجنة إلى الأرض، حتى يكون ذلك سببًا للانتشار والكثرة. وخروج الإنسان من بيته وبيئته يقتضي منه عددًا من الأمور:

    أولًا: يقتضي منه رحمة كل من وجده غريبًا، كما قال الشاعر:

    أيا جارتا إنا غريبان هاهنا وكل غريب للغريب نسيب

    وكما قال عبد الرحمن الداخل لما رأى أول نخلة في أوروبا وهي النخلة التي أخذها معه من الرصافة فغرسها في الأندلس:

    تراءت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

    فإذا كان الإنسان قد خرج من بيئته فسيرحم كل خارج من بيئته، ستحصل لديه الرحمة، كذلك سيكتسب الأصدقاء الجدد الذين هم عوض عما ألفه الإنسان وتعوده، وكذلك سيتعود الصبر والجلد وسيزداد قوة إلى قوته بمجرد خروجه؛ ولهذا يضربون مثلًا عجيبًا فيقولون: العود في مكانه ضرب من الخشب، فإذا أخرج منه أصبح عطرًا وطيبًا يتطيب الناس به. فكلما خرج من بيئته ومكانه فسيقتضي ذلك زيادة في تحركه واكتسابه لبعض المعارف والأمور.

    وقد كان العلامة المختار البونة رحمه الله كثير التنقل والحركة والأسفار، فلامه بعض طلابه على ذلك فقال:

    قالوا لي اسكن ولا تركن لمنتقل فقلت مهلًا فسر الله في النقل

    لو لم يكن في انتقال المرءِ نيل غنًى وفي السكون اكتساب الفقر والوجل

    ما قال أفضل خلق الله قاطبة لا خير في رجل في الأرض لم يجل

    ولا عرفت من الملزوم لازمه إذًا جهلت وجود الواحد الأزل

    وهو هنا اعتمد على حديث ضعيف، لكن مع ذلك أصل الفكرة له كثير من الشواهد والأدلة.

    ثم بعد هذا قال: (من بيته)، فهذا الخروج بدايته بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وبيته قيل: المدينة، فالمدينة كلها، بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على شرفها أن الله سماها بيت رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا يدل على مكانتها وقداستها وحرمتها حيث جعلت بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فيقتضي ذلك ألا يعصى الله فيها، وأن يتعبد الإنسان فيها كلها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمتها؛ ففي حديث أبي جحيفة السوائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والمدينة حرم ما بين عير إلى كذا)، وفي رواية: (إلى ثور، من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منهم صرفًا ولا عدلًا).

    وقيل: المقصود خروجه من بيته؛ أي: من حجرته النبوية، إحدى حجره، وهي الحجرة التي خرج منها، ولا يقتضي ذلك كل بيوت المدينة؛ لما بها حينئذٍ من بيوت المنافقين الذين لم يدخلوا بعد في الإسلام، ومن بيوت اليهود الذين لم يخرجوا بعد من المدينة.

    وهذا اللفظ وهو (بيت) نكرة، وهي مضافة إلى الضمير، فيدل ذلك على العموم، فالمفرد إذا أضيف إلى الضمير يعم، كقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ[الأحزاب:50].

    فعمه وخاله مفردان أضيفا إلى الضمير فعَمَّا، ونظير ذلك قول الشاعر:

    بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلد فصليب

    وهذا الخروج علق به قوله: «بالحق»، فلم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته من أجل الرياء أو السمعة أو المفاخرة، أو لمجرد التشهي أو لطلب السلطة أو لغير ذلك، فهذه ليست من الحق ولم يخرجه الله بها، إنما أخرجه الله من بيته بالحق وهو نصرة الدين وإعلاء كلمة الله.

    1.   

    وقوع إرادة الله يوم بدر في إحقاق الحق وإبطال الباطل

    ثم بين الله تعالى أن كثيرًا من المؤمنين كانوا يكرهون هذا الخروج، وهم مع ذلك مؤمنون، ودل هذا على تفاوت درجات أهل الإيمان في الإيمان: وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ[الأنفال:5]، وهم من المؤمنين: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ[الأنفال:6].

    ((يُجَادِلُونَكَ)): أي يناقشون النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه ولم يكونوا يرونه، فكان كثير منهم يرون أن العير قد فاتت وأنهم ما خرجوا إلا للعير فعليهم أن يرجعوا إلى المدينة، وقد قال الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ[التوبة:113]؛ أي: من بعد ما تبين للنبي صلى الله عليه وسلم بالوحي أن الله سيهزم المشركين وسينصره عليهم، فهذا هو الحق الذي تبين بنزول الوحي به: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ[الأنفال:6].

    فهؤلاء ما زالوا يتأثرون بالنظرة المادية التي كانوا عليها من قبل، فلذلك خافوا أن يساقوا إلى الموت كأنما يقدمون إلى أعدائهم لقمة سائغة في حلوقهم: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ[الأنفال:6]، أي: ليس لهم وسيلة دفع إلا مجرد النظر.

    وهذا التصور غير صحيح، فإن الموت في سبيل الله هو أقصى ما يتطلبون وأعلاه وأسماه، وهم موعودون بالنصرة والتمكين وسيهزم عدوهم أمامهم، فلذلك قال: وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ[الأنفال:7]، «إذ» هنا يمكن أن تكون ظرفية ويمكن أن تكون تعليلية، فإذا كانت ظرفية كان المعنى: وفي ذلك الوقت يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، ويمكن أن يكون المعنى أن الله سبحانه وتعالى علل الحق الذي تبين بما أرى النبي صلى الله عليه وسلم وبما وعده من أنه سيمكنه من إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير، فالعير يقودها أبو سفيان والنفير يقوده عتبة بن ربيعة وأبو جهل: وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ[الأنفال:7]، أي: أنكم ستأخذونها وتتغلبون عليها.

    وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ[الأنفال:7]، (تودون)، أي: يود كثير من أهل الإيمان أن غير ذات الشوكة: وهي العير التي ليس فيها سلاح ولا قوة تكون لكم، أنها هي الموعودة؛ لكن هذه المودة إنما هي محبة قلبية، ولا يترتب عليها أثر؛ لأن الإنسان كثيرًا ما يحب شيئًا وعكسه أنفع له منه: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ[الأنفال:7].

    فقد أراد الله تعالى أن يكون العكس أن تكون ذات الشوكة وهي النفير هي المكتوبة للمؤمنين فيمكنهم من رقابهم، فتكون غنيمتهم بهذا النفير فيقتلون سبعين رجلًا ويأسرون سبعين رجلًا، ويجرحون البقية ويؤثرون فيهم، فلذلك قال: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ[الأنفال:7] أن يحق الحق: أي أن ينصره وإحقاق الحق نصرته وإعلاؤه.

    ((بِكَلِمَاتِهِ)): فهذا الكون لا يقع فيه شيء إلا بكلمات الله الكونية، وكلمات الله تنقسم إلى قسمين إلى كلمات تشريعية وكلمات كونية.

    فالكلمات التشريعية: يقف عندها البر ويتعداها الفاجر، كما إذا قال للبر: صلِّ يصلي، وإذا قال للفاجر: صلِّ. امتنع.

    وكلمات الله الكونية: لا يتعداها بر ولا فاجر، فإذا قال للبر: مت، سيموت، وإذا قال للفاجر: مت سيموت ولا يستطيع واحد منهما أن يمانع، فكلمات الله التشريعية هي الوحي المنزل، وكلماته الكونية هي الأوامر التي يكون بها خلقه: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[النحل:40]، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[يس:82].

    فهذه الكلمات هي التي يكون الله بها ما شاء من خلقه وهي التي لا نفاد لها فقد قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا[الكهف:109]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه[لقمان:27]، وهي التي لا تبديل لها: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ[الأنعام:34].

    بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ[الأنفال:7]، أي: يريد الله أن يهزم الكافرين بكلماته فما قدره الله من هزيمتهم وقتل سادتهم وتمكين المؤمنين من رقابهم كله مما يحق الله به الحق وهو مما أراده الله ولا معقب لإرادته وسيقع ذلك لا محالة.

    سنقف عند هذا الحد الآن، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا وإيمانًا وإخلاصًا.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755982033