إسلام ويب

ماذا يعني انتمائي للإسلام [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أقام الله الحجة على عباده ببعثة نبي الإسلام إليهم، ثم أوجب عليهم نصرته واتباعه، ومن هنا لا بد أن يدرك الإنسان قيمته، وأن يبادر للقيام بوظيفته قبل أن يأتيه الأجل، فقد جعل الله له في هذه الحياة فرصاً للنجاة، فمن وفى ببيعته مع الله أفلح، ومن نقضها كان من الخاسرين.

    1.   

    إقامة الحجة ببعثة نبي الإسلام

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أحمد الله تعالى على نعمة اللقاء بهذه الوجوه الخيرة النيرة في هذا البلد المبارك، الذي طالما اشتقنا إلى اللقاء فيه والاجتماع بالأحبة فيه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا أجمعين من المتحابين فيه الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ).

    وأخرج مالك في الموطأ و مسلم في صحيحه في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )، وأخرج مسلم في صحيحه كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في والمتجالسين في والمتزاورين في ).

    وأخرج البخاري في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لله ملائكة سيارين في الأرض، بغيتهم حلق الذكر، فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا وتنادوا: أن هذه طلبتكم، فيرتفعون إلى ربهم فيسألهم - وهو أعلم- : ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يحمدونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها كانوا لها أشد طلباً وعليها أشد حرصاً، فيقول: ومن ماذا يستعيذون بي؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك: يا ربي فيهم عبدك فلان ليس منهم وإنما جاء لحاجته، فيقول: هم الرهط.. )، أو: ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ).

    وأخرج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه )، ونحن الآن ينبغي أن نستحضر نياتنا وأن نخلص لله سبحانه وتعالى، وأن نحرص على أن يكون مجلسنا هذا الذي قل ما سمح الزمان لنا بالاجتماع في مثله أن يكون حلقة من حلق الذكر التي تحفها الملائكة وتتنزل عليها السكينة ويغفر الله تعالى لأهلها جميعاً ولكل من حضرها ولو لم تكن نيته خالصة، ولا يكون ذلك إلا بالنية الخالصة بقصد التعبد لله سبحانه وتعالى والإخلاص له وطلب العلم الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من عنده، والعمل بما يسمعه الإنسان من ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    فأنتم تعلمون أن هذه الأمة لها رسول واحد هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، صلى الله عليه وسلم وأنه جاء بالبينات والهدى من عند الله، وأننا جميعاً رضينا به نبياً ورسولاً، فيكفينا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم من القدوات والأسوات، والذي ينقص هو أن نتعلم ما جاء به ثم أن نبادر للعمل به، فليس لنا الخيار بعد مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس أحد معذوراً في الإعراض عن ما جاء به، فإنه صلى الله عليه وسلم قامت به حجة الله جل جلاله على الثقلين الإنس والجن؛ فقد بلغ رسالات الله إلى من يقومون بتبليغها إلى من وراءهم؛ فكل إنسان مثل الآن بلغه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة ويجب عليه التبليغ لمن وراءه، ويكون الوقت الذي يمضيه بالتبليغ امتداداً لعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيادة في أمد رسالته، وأنتم جميعاً رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم للتبليغ إلى من وراءكم؛ فقد جاء بهذا الدين فتركه في أصحابه وهم نقلوه إلى التابعين ونقله التابعون إلى أتباعهم، وهكذا حتى وصل إلينا الليلة ونحن في القرن الخامس عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.

    المصلحة في ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم

    وهذا الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله هو مصلحة الإنسان في الحياة الدنيا وفي البرزخ وفي الدار الآخرة؛ فهو جماع المصالح، لا يحتاج الإنسان معه إلى أي شيء آخر، إذا طلب أية مصلحة فسيكفلها هذا الدين ويحققها؛ فقد جاء فيه من التشريع ما ينظم علاقات العباد بربهم جل جلاله، وجاء فيه من التشريع ما ينظم علاقات العباد فيما بينهم، وجاء فيه من الأخلاق أكرمها وأفضلها، وجاء فيه كذلك من الحوافز والترغيب والترهيب ما يقتضي من الإنسان المبادرة إلى الطاعة والنجاح في الامتحان، ونحن جميعاً في هذه الدار - أي الدار الدنيا - ممتحنون بامتحان من عند الله سبحانه وتعالى، والناجحون فيه قليل ولكنهم يحرزون من الفضل والسبق ما لا يخطر على بال كما روى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أنه قال: ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )، وقد قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ[السجدة:17-18].

    فرق شاسع بين من نجح في هذا الامتحان فكان من الذين آمنوا وبين من رسبوا فكانوا من الذين فسقوا، فرق شاسع بينهم في مقامهم عند الله ومنزلتهم عنده؛ لأن كل عمل يعمله الإنسان اليوم في هذه الحياة إنما هو وظيفة يوظفه الله فيها، والناس جميعا عباد له، وكل زين له ما يعمله؛ فمن زين الله له العمل الصالح ويسره للطاعة فهو ميسر لما خلق له، وأولئك هم الموظفون الذين اختار الله لهم أسمى الوظائف وأرقاها؛ فكانوا من نعمة إلى جنة، يعيشون في هذه الدار ما عاشوا وهم مشغولون بالطاعة وما يرضي الله جل جلاله، فإذا ماتوا أعد الله لهم من النعيم المقيم ما لا يمكن أن يخطر على قلب أحد، والآخرون قذرهم الله جل جلاله فوظفهم في أخس الوظائف، وشغلهم بشر الأعمال، وسلطهم على أنفسهم بمعصية الله، ولا يضرون الله شيئاً وإنما يضرون أنفسهم، وأعد لهم بعد ذلك الجزاء الوفاق، فالسيئة هي أسوأ ما يمكن أن يقع على وجه الدنيا، وجزاؤها هو أسوأ ما يمكن أن يقع في الآخرة.

    إدراك الإنسان لقيمته والقيام بوظيفته

    ولذلك فإن الإنسان لابد أن يدرك أنه ذو قيمة، وأن له مزية وأنه موظف وظيفة حقيقية، وعليه أن يبادر للقيام بوظيفته وأن يعمل بها قبل أن يأتي أجله، فله مدة محددة يمكثها في هذه الحياة، إذا عمل ما أمر به نجح وكان من الفائزين وكانت حياته الدنيا منزلة عالية له؛ لأنه اتخذها مطية إلى الدار الآخرة؛ فاستغل أيامه ولياليه وأوقاته الخالية فيما يقربه من الله سبحانه وتعالى، فإذا جاء يوم القيامة أوتي كتابه بيمينه ونودي ذلك النداء الشريف: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة:24]، وإذا ضيع الوقت فإنه سيندم غاية الندم، فكل يوم مضى أو شهر أو سنة أو عقد من الزمن لم يقرب الإنسان إلى الله ولم يزده من الطاعات والخيرات إنما هو وبال عليه وحسرة وخصومة يوم القيامة؛ لأن الله تعالى يقول لأهل النار: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ[فاطر:37].

    وللإنسان خمسة أعمار:

    1.   

    عمر الإنسان في عالم الذر

    العمر الأول منها عمره في عالم الذر عندما: ( مسح الله ظهر آدم بيمينه فأخرج منه ذرية فقال آدم : أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية، فقال آدم: أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون )، ثم خلطهم حتى ما يتميزون فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قالها مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم كلهم أقروا له بالربوبية؛ فأخذ عليهم العهد المؤكد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:60-61]، وذلك الوقت أصبح الإنسان فيه كائناً موجوداً وجه إليه الخطاب وصدر منه الجواب وأخذ عليه العهد ووافق عليه، وهذه أمور لا تحصل إلا من الأحياء، لكن بعد نهاية أخذ العهد عليهم حبست الأرواح جميعاً وهي نسمات بني آدم في سماء الدنيا، ولما مات آدم رفع إليها فجعل أهل السعادة عن يمينه وأهل الشقاوة عن شماله، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليلة المعراج لما فتح له باب السماء الدنيا قال: ( فإذا آدم وعن يمينه أسودة وعن شماله أسوده، إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل: ما هذه الأسودة؟ قال: أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرة أهل السعادة من بنيه، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة إذا نظر إليهم بكى لكثرة أهل الشقاوة من بنيه).

    1.   

    عمر الإنسان فوق الأرض ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله

    والعمر الثاني هو: عمر الإنسان فوق الأرض في هذه الحياة الدنيا، وهو مجزأ إلى أيام وليالي وشهور وسنوات، والامتحان فيه يبدأ من وقت التكليف، عندما يكلف الإنسان يكلف به الملكان ملك عن يمينه يكتب حسناته وملك عن شماله يكتب سيئاته، وكلاهما مطلع على كل ما يصدر منه من العمل كما قال الله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق:18]، وقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، وهو ممتحن بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله؛ فأول ذلك حق الله جل جلاله وهو أولاً توحيده وأن لا نشرك به شيئاً، فلابد من تعلم حقوق الله سبحانه وتعالى أن يحرص الإنسان على أدائها؛ فالإسلام إنما يدخل بشهادة أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، وهذه الشهادة العظيمة تقتضي من الإنسان الإقرار بأن لا نافع ولا ضار إلا الله جل جلاله وأن الأمور كلها بيده؛ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ[الشورى:53]، وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67].

    استحقاق الله للعبادة وحده

    وكذلك تقتضي هذه الشهادة الإيمان بأنه وحده الذي يستحق العبادة فصرف أي شيء من العبادة لغيره إنما هو خسارة؛ فالإنسان الذي يرائي أو يسمع، إذا كان في حضرة الناس أحسن عبادته فإذا خلا بنفسه لم يؤدها على الوجه الصحيح، أو يترك المعصية في حضرة الناس فإذا خلا بنفسه عصا الله سبحانه وتعالى هذا شهادته مدخولة؛ فهو يشهد أن لا إله الله ومع ذلك لا يعمل بمقتضى هذه الشهادة، فهذه الشهادة تقتضي منه أن لا يخاف إلا الله وأن لا يطمع إلا في الله وأن لا يقدم أي شيء من العبادة إلا لله جل جلاله؛ فهو مستحق العبادة وحده، ولذلك قال الله تعالى في سورة فاطر: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].

    توحيد الله في التشريع

    وكذلك من حقه ومن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: الإيمان بأنه لا يحل ولا يحرم إلا هو جل جلاله فهو وحده الذي يستحق التشريع لعباده، فكل الأوامر الشرعية هي من عند الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يأمر بمأموراتها وهو الذي ينهى عن منهياتها، وذلك حق من حقوق الألوهية وليس لأحد سواه أن يشرع للناس؛ فكل من أحل ما حرم الله أو حرم ما لم يحرمه الله فقد نازع الله في حقه في الألوهية، ولذلك قال الله تعالى: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[الشورى:21].

    محبة الله حباً شديداً

    وكذلك من حقوق الله سبحانه وتعالى ومن مقتضى هذه الشهادة العظيمة: محبة الله حباً شديداً؛ فكل من آمن بالله لا بد أن يحبه حباً شديداً، وللمحبة أسباب فمنها: الكمال والجمال والجلال والله سبحانه وتعالى هو المتصف بكل الكمال، وهو المنزه عن كل نقص؛ فكل كمال واجب له وكل نقص محال عليه؛ فلذلك يستحق المحبة لذاته ولواجب صفاته، وكذلك من أسباب المحبة الإحسان، ولا أحد ينعم علينا بأية نعمة إلا الله جل جلاله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]، فقد أنعم علينا بأنواع النعم التي لا تحصى؛ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، فإذا راجعنا نعمته علينا اقتضى منا ذلك محبته.

    ثم إن من أسباب المحبة أيضاً: الرجاء؛ فمن ترجو منه نفعاً تحبه ولو لم يكن جميلاً ولو لم يكن قد أسدى إليك معروفاً في الماضي ولكن لتعلقك بمعروف في المستقبل، ونحن جميعاً نرجو ثواب الله، نرجو أن يبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسوه وجوه، وأن يعطينا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، وأن يجوزنا على الصراط أجمعين كالبرق الخاطف، وأن يدخلنا جنته، وأن يرزقنا مجاورة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا الرجاء العظيم يقتضي منا تمام المحبة والتعلق به جل جلاله، والمحبة محبة الله سبحانه وتعالى قاضية على محبة من دونه؛ فمن أحب الله جل جلاله أحب كل من يحب الله؛ فنحن الآن نحب محمداً صلى الله عليه وسلم و إبراهيم وموسى وعيسى ونوحاً والنبيين أجمعين؛ لأنهم يحبون الله ويعبدونه ونحب جبريل وإسرافيل وميكائيل لأنهم يحبون الله ويعبدونه، وكل من أحب الله وعبده فإننا نحبه حباً شديداً لحبه لله جل جلاله وذلك من تمام محبتنا لله.

    وهذه المحبة كما ذكرت قاضية على كل حب سواها؛ فمن أبغض الله وخالفه وحاده في ملكه فلابد أن يكون بغيضاً علينا، ولابد أن نكرهه كراهة شديدة ولو كان أقرب الناس إلينا كما قال الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ[المجادلة:22]، وهذه المحبة هي أعظم محبة كما قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، فــ(أشد) أفعل تفضيل، وهي تقتضي أنه لا يمكن أن يوجد شيء من المحبة أشد من ذلك، وهذا المقام هو من الإيمان ومن لم يجده في نفسه عامل الله بمعاملة الإنسان في البيع والشراء، وذلك خطأ في التعبد؛ فلا بد أن يكون الإنسان يعامل الله مع رغبته في ما عنده من الخير ورهبته لما عنده من العذاب يعامله أيضاً بمحبة شديدة جل جلاله؛ ليكون في تعبده مؤدياً للحق الواجب لله سبحانه وتعالى لا يطلب حظاً نفسياً فقط، وهذا يقتضي من الإنسان أن يراجع نفسه دائماً في ما يتعلق بتعبده هل هو محب لله؟ فكثير من الناس يؤدون العبادات ويتركون المحرمات طمعاً في الجنة وخوفاً من النار، ولكن لا يخطر على بالهم ما يتعلق بحبهم لله جل جلاله، وحب الله سبحانه وتعالى مقام كبير يزداد به الإنسان قرباً ولو كان قليل التعبد؛ فمحبته لله سبحانه وتعالى ترفع منزلته وتعلي قدره.

    إحسان العبادة لله

    ومن حقه إحسان عبادته فهذه العبادة التي يؤديها المسلمون لله سبحانه وتعالى متفاوتة هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ[آل عمران:163]، وهم متفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، ومن كان منهم أحسن للعبادة وأوفى بحقها كان مقامه أعلى عند الله سبحانه وتعالى، والعبادة تبنى كما تبنى البيوت، لها تأسيس وهو صحة الاعتقاد والتوجه إلى الله جل جلاله وحده، ثم بعد ذلك أداء الفرائض، ثم بعد ذلك السنن، ثم بعد ذلك المندوبات؛ كما ثبت في الحديث القدسي الصحيح: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بهان ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ).

    1.   

    مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله

    وبعد ذلك يأتي حقوق المخلوقين وأعظمها حق محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي هدانا الله به من الكفر وأنقذنا به من الضلالة والجاهلية، وهو الذي ندخل الإسلام بشهادة أنه رسول الله، ونذكره في أذاننا وإقامتنا وفي تشهدنا في الصلاة، وهو الذي نسأل عنه في قبورنا فكل إنسان منا يقال له: ( ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: هو محمد هو محمد، ثلاثاً، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا واتبعناه، وأما المنافق فيقول: هاه.. هاه! لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته )، وهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو الذي نرجو أن ندعى به يوم القيامة، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ[الإسراء:71]، ونرجو الدخول في شفاعته، وأن نحشر تحت لوائه، ونرجو الشرب من حوضه شربةً هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً.

    التوقير والإجلال والاتباع

    وكل ذلك يقتضي منا أداء حقه، وحقه صلى الله عليه وسلم التوقير والإجلال، وتعلم ما جاء به، والحرص على اتباع سنته والإتساء والاقتداء التام به؛ فليس لأحد أياً كان العذر في مخالفة سنته، فقد قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ[الأحزاب:36]، وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، وهذا يقتضي من الإنسان أن لا يوازن أي رجل آخر بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي لا يعدل عن قوله ولا يمكن أن يعدل لأي إنسان آخر؛ فهو أفضل الخلق وأزكاهم وأطهرهم وهو المعصوم بهذه الأمة وحده، فلذلك لا هداية ولا وصول إلى مرضاة الله إلا عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله.

    نصرة الحق الذي جاء به

    ومن حقه صلى الله عليه وسلم نصرته وأنتم تعلمون أنه منذ جاء بالبينات من عند الله والناس مختلفون فيه، فقد ناصبه المشركون العداء وقاتلوه، وأخرجوه من داره التي ولد فيها وعاش فيها، وبعد ذلك قاتلوه وقاتله اليهود وحاربه النصارى وتمالأت عليه الأمم، ولم يزالوا يتمالؤون على دينه فيما بعد، وهذه الحرب التي قامت على النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أن كل إنسان منكم الآن يتمنى لو كان حاضراً يوم بدر، لو كنت حاضراً يوم بدر ماذا كنت تصنع؟ كنت تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول الحق، ويتمنى لو كان حاضراً يوم أحد؛ فيكون من الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فيفعل مثلما فعل طلحة بن عبيد الله أو يفعل مثلما فعلت نسيبة في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وكل إنسان منكم يتمنى لو كان حاضراً يوم الحديبية؛ فلا يسبقه أحد إلى بيعة الرضوان فيضع كفه يمينه في يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعه على الموت في سبيل الله، إذا كان الحال كذلك فالأمر ما زال كما كان، فكل يوم من أيام الدنيا هو يوم بدر ويوم أحد ويوم الحديبية؛ لأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالفرقان بين الحق والباطل، والناس لم يعادوه على أساس شخصه؛ فما عرفت البشرية أحداً أحسن منه خلقاً ولا أحسن خلقاً ولا أكرم نسباً ولا أخدم للناس، فلماذا عاداه الناس؟ لم يعادوه قطعاً طعناً في نسبه، ولم يعادوه قطعاً طعناً في خلقه، ولم يعادوه لأنه منعهم ماله، بل قال للأعرابي يوم أوطاس: ( إليكم عني فلو كان عندي مثل سمر تهامة نعماً لقسمته بينكم، ثم لن تجدوني جباناً ولا بخيلاً ولا كذاباً )، فإذا لم عاداه الناس؟ لم يعاده الناس ولم يقاتلوه إلا على أساس الملة التي جاء بها، وهذه الملة باقية كما أنزلت؛ فأنتم جميعاً تشهدون أن القرآن كما أنزل وأن الدين كما شرع وأن الله هو الحق المبين.

    فإذاً محور الخلاف والصراع قائم باق، وأنتم فاتكم صحبة شخص النبي صلى الله عليه وسلم فهي مزية وفضل وخص الله بها الصحابة، ولكن لكم الحق في أن تكونوا من إخوانه، وإخوانه تمنى لو رآهم فقال: ( وددت لو رأيت إخواننا، قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني قوم آمنوا بي ولم يروني، للواحد منهم أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله منا أو منهم؟ قال: بل منكم، إنكم تجدون على الحق أعواناً ولا يجدون على الحق أعواناً )، وقد خفف الله عنكم كثيراً من التكاليف والأعباء التي كانت على الصحابة؛ فالصحابة رضوان الله عليهم لما قام عليه من الحجة بالصحبة وحضور نزول الوحي ورؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لابد أن يكملوا ما أمروا به جميعاً ومن ترك منه عشر ما أمر به هلك.

    الترغيب في النصرة وخطر تركها

    وأنتم اليوم فتح لكم كثير من أبواب التضعيف والخير فمن أتى منكم بعشر ما نزل به نجا؛ كما أخرج الترمذي في السنن بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أنتم في زمان من ترك فيه عشر ما أمر به هلك، وسيأتي على الناس زمان من أتى فيه بعشر ما أمر به نجا )، وما نفعله نحن اليوم وما نقوم به من الدين في أغلب الأحيان لا يصل إلى عشر الدين، فمع كل هذا الترغيب ومع كل هذا الفضل العظيم مع ذلك لو قاس الإنسان منا عمره وما يبذله في نصرة الدين منه لوجده لا يصل إلى واحد في المائة، لينظر كل واحد منا في عمله اليومي هذا العمل اليومي كثير منه يتجه إلى أمور الدنيا، ولا بأس إذا كان في حلال، وكثير منه يذهب في اللغو والأمور التي لا طائل من ورائها، لا تزيد الإنسان في دين ولا تزيده في دنيا، وكثير منهم كذلك يكون حسرة ووبالاً على الإنسان؛ لأنه انشغال بما لا يرضي الله جل جلاله، وقليل جداً منه هو الذي يكون خدمة لهذا الدين ونصرة لهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وليتذكر كل إنسان منا ذكراً كان أو أنثى كبيراً كان أو صغيراً هل قام بحق هذا الرسول الكريم في النصرة؟ هل نصره في موقف من المواقف؟ هل يستشعر أن في هذه الدنيا صراعاً موجوداً بين حزبين هما حزب الله وحزب الشيطان؟ وهل بحث عن محله من أي الحزبين هو؟ فحزب الشيطان الانتساب إليه سهل جداً، هو ترك نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجرد تعطيل العمل ينتسب فيه الإنسان لحزب الشيطان، وحزب الله الانتساب إليه ليس مجرد نسب ولا بالاسم ولا بالجنسية، لا يكفي فيه النسب، حزب الله الانتساب لا بد فيه من العمل؛ وذلك أن الانتساب لحزب الله هو تحقيق بيعة بينك وبين الله جل جلاله؛ فما منكم أحد إلا وبينه وبين الله صفقة وبيعة وعليه دين يتحمله لله، أنتم جميعاً من أهل الدين والمروءة، ولا يرضى أحد منكم أن يكون من المفلسين ومن الذين لا يوثق بهم، ولو أن أي إنسان منكم تحمل ديناً لإنسان فمضى عليه عشر سنوات أو عشرون أو ثلاثون سنة أو أربعون سنة وهو لم يفكر يوماً من الأيام بقضاء ذلك الدين فهل يكون صاحب دين ومروءة؟ هل هو صاحب أمانة؟

    هذا إنسان مفلس، الذي يمضي عليه عشرات السنوات وعليه دين موثق لا يفكر في قضائه ولا يسعى لتسديده أبداً هذا.. إنسان مفلس وهو غير معذور، لا خير فيه.

    1.   

    الوفاء ببيعة الله

    هذا الدين في رقابنا جميعاً لله جل جلاله ببيعة أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن؛ ولذلك قال فيها: إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[التوبة:111]، أينما كان يفكر في هذه البيعة في الماضي؛ فإذا مضى عليه يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة فكر فقال: أنا علي دين لله ماذا بذلت في هذه المدة؟ ماذا قدمت في نصرة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؟ هل دعوت أحداً إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل بذلت شيئاً لأجل نصرة هذا الدين وانتشاره بين الناس؟ هل بذلت وقتاً أو شيئاً من عقلي الضافي الكبير؟ أو شيئاً من جاهي أو شيئاً من مالي في سبيل تعزيز هذا الدين والتمكين له في الأرض؟ إذا لم يجد الإنسان موقفاً مشرفاً في أي يوم من الأيام فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فذلك اليوم قد ذهب سدىً وطويت صحائفه ولم يؤد فيه الإنسان الحق الذي لله عليه، وعليه أن يبادر وأن يتدارك ما بقي من عمره وهو لا يدري كم بقي من عمره؛ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ[الأعراف:185].

    ثمرة الوفاء ببيعة الله

    لا بد أن يحاول فيما بقي من عمره أن يؤدي هذا الحق وأن يفي بهذه البيعة وأن يؤدي هذا الدين، وليعلم أنه هو الرابح؛ فالله سبحانه وتعالى يكفر عن عباده المؤمنين السيئات باجتنابهم للكبائر، ويكفر عنهم الكبائر بالتوبة وبالحسنات يذهب السيئات، ويضاعف لهم الحسنات أضعافاً مضاعفة، فالسيئة لا تكون إلا بمثلها والحسنة أقل ما تكتب به عشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة والله يضاعف لمن يشاء؛ فلذلك إذا عمل الإنسان عملاً يسيراً لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه ولو لم يترتب عليه أية فائدة؛ فإنه يضاعف له عند الله سبحانه وتعالى وينجح به في الامتحان ويكون وافياً لله بصفقته، ويكون من الصادقين وهم حزب الله جل جلاله، وينجو من أن يكون من المنافقين؛ فالمنافقون هم الذين أخلفوا الله ما وعدوه، لم يفوا لله ببيعته؛ ولذلك قال الله تعالى: مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ[الأحزاب:23-24].

    الحوافز للوفاء ببيعة الله

    وهذا يقتضي منا أن يحرص كل إنسان منا على أن يعالج النفاق من نفسه وأن يتوب منه، وأن يفي الله ببيعته، وأن يقوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق، فقد دعانا الله لنصرته وبين أننا إذا لم نفعل فلن يكله إلينا، سيخرج أقواماً آخرين ينصرونه؛ قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[التوبة:38-40]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[المائدة:54]، وقال تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[محمد:38].

    والموظف أبلغ الحوافز التي تدعوه لإتقان العمل إذا قال له موظفه: إما أن تقوم بهذا العمل على أحسن وجه أو سأعزلك وآتي بمن هو خير منك يقوم به ويؤديه على أحسن الوجوه، ونحن جميعاً موظفون لدى الله كما سمعتم، فإذا لم نقم بهذه الوظيفة فسيعزلنا ويأتي بمن هو خير منا، وعنده من الخلائق والعباد ما لا يخطر لنا على البال؛ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ[الأنعام:89-90].

    عاقبة ترك الوفاء بالبيعة

    وهذا العهد الذي بيننا وبين الله في هذه الحياة الدنيا، إذا مات الإنسان وحمل إلى القبور ولم يقدم فيه شيئاً إلا موقفه بين يدي الله مخجل جداً، مخجل في غاية الخجل! أن ينزل إلى هذه الأرض ويكرم بهذا الإكرام، فيكرم الله له عقله وسمعه وبصره وحواسه، ويعطيه من أنواع النعم ما لا يحصي، فيمكث ما مكث ويمضي عليه هذا العدد من السنوات ثم يحمل إلى العقاب في الدار الآخرة فيوارى في مدفنه فيعرض على الله ويسأله ماذا عمل في كل ما استخلفه فيه.

    وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة نسأل الله السلامة والعافية: ( رجل آتاه الله العلم فعلمه من أنواع العلم، فقامت عليه الحجة بما تعلم فدعاه فعرفه نعمته عليه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلمته، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما تعلمت ليقال: عالم، فقد قيل، فيؤمر به فيجر على وجهه فيوضع في النار، ورجل آتاه الله من أنواع المال ما آتاه، فدعاه فعرفه نعمته عليه فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: ما تركت وجهاً تحب أن ينفق فيه المال إلا أنفقته فيه، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما أنفقت ليقال: جواد فقد قيل، فيؤمر به فيجر على وجهه فيوضع في النار، ورجل قواه الله سبحانه وتعالى وأتم عليه نعمته وخلقته، فقاتل حتى قتل، فدعاه فعرفه على نعمته عليه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: جاهد فيك يا ربي حتى قتلت، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما قاتلت ليقال: شجاع، فقد قيل، فيؤمر به فيجر على وجهه فيوضع في النار ).

    وهؤلاء على الأقل فعلوا شيئاً في الحياة الدنيا يستطيعون ذكره، كثير لا يستطيعون الجواب أصلاً، يعرفهم بنعمته عليهم ولا يقدمون أي شيء، لا يستطيعون أن يذكروا أي عمل، هل يسر أحداً أن يوقف بين يدي الله فيعرفه نعمته عليه: ألم أكمل لك خلقتك؟ ألم أقذف في قلبك الإيمان؟ ألم أحببه إليك؟ ألم أكره إليك الكفر؟ ألم أمتعك بعقلك؟ ألم أمتعك بحواسك؟ ألم أمتعك بقوة بدنك؟ ألم أوتك مالاً وولداً؟ ألم أجعلك في نسب محترم في أهل الأرض؟ ألم أوفر لك الأمن والأمان في الأرض؟ فماذا عملت؟ فيقول: لم يبق نوع من الملذات والشهوات في الدنيا إلا اتبعه، هل هذا الجواب مرضٍ لدى أحد من الناس؟

    هذا الجواب مخز جدا ومخجل في موقف الصدق بين يدي الله جل جلاله؛ لذلك لابد أن نحرص جميعاً على جواب مقنع مرض، ولا يكون ذلك إلا بالصدق والعمل الصالح المرضي لله سبحانه وتعالى، وهو نصرة دينه وإعلاء كلمته وبالأخص إذا عرفنا أن هذا العمر هو أقصر أعمارنا، فالعمر السابق وهو العمر في عالم الذر مديد وطويل، ليتذكر كل إنسان منكم أنه دخل الوجود في أيام آدم ، وسئل وأجاب وأخذ عليه العهد في ذلك الوقت، ومنذ ذلك الوقت ونسمته موجودة في السماء، من أيام آدم حتى نفخت روحه وهو جنين في بطن أمه فيه، فالعمر الأول عمر مديد جداً، آلاف آلاف السنين! والعمر الثاني هو عمرنا فوق الأرض مدته يسيرة قصيرة، أطولنا عمراً من يدعى له أن يعيش قرناً، أي: أن يعيش مائة سنة، ومائة سنة تمضي الآن بسرعة هائلة، وإذا تذكرتم أياماً مضت تستغربون سرعة الزمان في أيامنا هذه، إذا أصبح الإنسان في أي يوم من الأيام ولديه مشاريع وأمور يريد إنجازها، إذا أوى إلى فراشه بالليل يتعجب كيف مضى هذا اليوم ولم ينجز شيئاً من أعماله! فالأوقات نزعت منها البركة.

    1.   

    فرص للنجاة

    وهذا العمر القصير لنا فيه ثلاث فرص للنجاة من عذاب الله:

    فرصة الحياة الدنيا

    فالفرصة الأولى: فرصة الحياة الدنيا؛ فهي دار العمل، وإذا نفخ في الصور لم يبق العمل ممكناً، عندما تنشق القبور عن أهلها فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون حينئذ ليس الوقت وقت عمل، الناس حينئذ مسخرون مذللون كأنهم جراد منتشر، يساقون إلى الساهرة ليس لأحد منهم طاعة ولا معصية، لا يستطيع أن يخالف خطة محسومة له في سيره.

    وهذه الحياة الدنيا قطعاً قد آذنت بالنهاية؛ فأنتم تعلمون أن آخر أمة في الدنيا هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتعرفون أن هذه الأمة مضى منها أربعة عشر قرناً، وأننا في آخرها قطعاً، مضى منها ما لم يبق؛ فإذا أدركنا ذلك فإننا في كل يوم جمعة نتوقع قيامة الساعة أو الأشراط الكبرى، ونتوقع طلوع الشمس من مغربها، وفي هذا العام قد طلعت الشمس من مغربها على المريخ، نعم، في هذه السنة، فاستدار في فلكه حتى كان طلوع الشمس عليه من الجهة التي كانت جهة الغرب فيه، ولذلك فالأشراط كل يوم لها ما يدل عليها، وأعظم ما يدل عليه الموت والانتقال، فإذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته، كم كان معنا من الرجال الأقوياء، الذين نكل إليهم كثيراً من الأمور، وهم الآن تحت التراب، ليتذكر كل واحد منا أباه وأعمامه وإخوانه الذين ماتوا وخلائق لا يحصون من الأقوياء الأشداء الذين أصبحوا تحت التراب، وهذا مؤذن قطعاً بنهاية هذه الحياة الدنيا.

    فرصة العمر الشخصي للإنسان

    ثم الفرصة الثانية هي فرصة العمر الشخصي للإنسان؛ فهذا العمر ما هو إلا أيام وليالي، وما لم ينفذ الإنسان فيه فإنه لا يناله ولا يجده في عمله؛ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ[آل عمران:30].

    فرصة التمكن من أنواع النعم

    والفرصة الثالثة هي: ما مكننا الله فيه من أنواع النعم فإنها لا تدوم؛ الشباب والنضارة والقوة هذه نعمة من نعم الله لكن من المجزوم به أنها لا تدوم، ومن ظن دوامها وانخدع بها من الشباب؛ فلينظر إلى أبيه وجده وأعمامه والشيوخ الذين هم أسن منه فقد كانوا بنفس الحال الذي هو عليه، مضى بهم ما يمكن أن يكون أكثر مما لديهم من النشاط والقوة ونضارة الشباب، وقد تغيرت أحوالهم وذلك مؤذن بتغير أحوالك أنت؛ ولهذا قال الماوردي رحمه الله:

    أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح وعساه لا يمسي

    واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صحيفة الأمس

    فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام بصورة الشمس

    فهذه النعمة لها أجل مسمى تنتهي فيه، ما لديك من القوى جميعاً له أجل مسمى، أنت الآن تستطيع أن تتحرك، تستطيع أن تقوم، تستطيع أن تجلس بحسب ما أردت ولكن لذلك أجل مسمى تمنع فيه الحركة، لسانك الآن يمكن أن يقول: لا إله إلا الله، وسيحال بينك وبينها، تستطيع أن تستغل ما لديك من الجاه وما لديك من المكانة، وما لديك من المال في طاعة الله، فسيحال بينك وبين ذلك، كم قد شاهدتم من الأغنياء الذين كانوا يملكون الكثير فافتقروا أو أزيحت أموالهم وهم أحياء، يمشون على وجه الأرض.

    وكم قد شاهدتم كذلك من الأقوياء الذين كان يضرب المثل بقوتهم وقد أصبحوا يحملون ولا يقضي أحد منهم حاجته إلا بمساعدة غيره، كل ذلك مقتض بأن نعلم أن النعم لا تدوم، وأن هذه النعم لها آجال محددة، وإذا لم نستغلها فإن الوقت يفوت، وقد حدثني أحد الأصدقاء اليوم في هذا اليوم الذي غربت شمسه أن أحد الوزراء كان وزيراً للمالية فحدثه أنه جعل تحت يده خمسمائة قطعة أرض في نواكشوط، وأراد أن يوزعها ولكنه جعل يسوف ويقول: عددها صغير والطلبات كثيرة، فلم يزل يحتفظ بها حتى جاء الانقلاب وعزل هو عن وظيفته فاستلمها من سواه؛ فندم غاية الندم أنه لم يقدم شيئاً في هذه الوظيفة، فقلت له: هذا درس نأخذه في هذا اليوم وعبرة من العبر؛ فكل صاحب وظيفة مدة جلوسه على كرسيها هي مثل جلوسه على كرسي حلاق ينتظر الحلاقة ويقوم ويترك مكانه لغيره، أو مثل اضطجاعه على النعش يحمل عليه إلى قبره ثم يرجع بالنعش، فكل وظائف الدنيا شغلها مثل شغل الإنسان لنعشه أو شغله لكرسي الحلاق.

    هو الموت ما منه ملاذ ومهرب إذا حط ذا عن نعشه ذاك يركب

    ثم بعد هذا لابد أن نعلم أن ما نحن فيه من الوظائف التي وظفنا الله فيها لم يكن لنا فيها تدبير ولا تفكير؛ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51]، لم يستشر أحد منا عند خلقه أن يكون طويلاً أو قصيراً، هل يكون أبيض أو يكون أسود، هل يكون جميلاً أو يكون ذميماً، هل يكون قوياً أو يكون ضعيفاً، ما شاورنا الله في خلقتنا؛ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8].

    فلذلك علينا أن نعلم أن هذا إنما هو بتدبير من الله جل جلاله فهو قيوم السماوات والأرض، ولذلك فأنت موظف فسر على الخطة التي رسمت لك وأدها على الوجه الصحيح، وإلا فاعلم أنك لن تعجز الله شيئاً، لن تعجز الله بأي شيء؛ فلم تشاور على أصل خلقتك فكيف بما هو دون ذلك؟!

    1.   

    عمر الإنسان في البرزخ ومراحله

    وبعد هذا يأتي العمر الثالث وهو: عمر الإنسان في البرزخ تحت الأرض.

    إرسال ملك الموت لقبض الروح

    وبداية هذا العمر عندما يرسل ملك الموت إلى الإنسان إذا حان أجله، فإن كانت نفسه طيبة محسنة جاء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي[الفجر:27-30]، فتتهوع إليه نفسه كما تتهوع القطرة في السقاء، القربة المليئة بالماء إذا فتح فمها تخرج الماء هكذا؛ كذلك تخرج النفس الطيبة عندما يناديها ملك الموت بهذه الآية، فتخرج إليه فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة القدير جلسوا مد البصر؛ كأن وجوههم الشموس، فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة ويجعلون عليها من عطر الجنة وطيبها، ويرتفعون بها إلى السماء الدنيا فيستأذنون فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة؛ فتفتح لها أبواب السماء حتى تخر ساجدة تحت العرش، يرحب بها أهل كل سماء، ثم يؤذن لها بالرجوع إلى القبر لسؤال الملكين.

    وإن كانت النفس خبيثة جاء ملك حتى يجلس عند رأسه فيقول: ( يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة ) فتتفرق في بدنه فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، يتقطع بشدة، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة قد جلسوا مد البصر كأن وجوههم شموس؛ وَالمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ[الأنعام:93]، فيجعلونها في سفط من أسفاط النار ويجعلون عليها من قطران النار، ثم يرتفعون بها إلى السماء فيستأذنون فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة؛ لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ * لَهمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ[الأعراف:40-41].

    حتمية الموت

    وهذا الموت حتم لا محالة وهو آت ونحن قد مررنا قبله بأطوار كثيرة؛ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ[المؤمنون:12-16].

    فكل المراحل قد مررت بها وأنت الآن وصلت إلى مرحلة الموت، يعني كل المراحل الأخرى قد مررت بها؛ فلذلك لا تنتظر الآن مرحلة جديدة إلا الموت والمرحلة التي أمامنا جميعاً، وهذا الموت ليس فناءً؛ كما يزعم بعض الناس، بل هو انتقال من دار إلى دار وتحول من حال إلى حال يبدو فيه للإنسان من الله ما لم يكن يحتسب، ويزول عن عينيه ما كان فيهما من الغشاوة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، وهو يأتي بكثير من الأسباب؛ قد شاهدنا موت الإنسان على فراشه وقد نام صحيحاً ليس به أي مرض، وشاهدنا الناس يموتون بالأمراض، وشاهدناهم يموتون بحوادث السير، وشاهدناهم بالعلل الخفيفة والأمراض الضعيفة، وشاهدناهم يموتون بالأمراض المخوفة الشديدة؛ كل هذا نشاهده، وهو كله من تدبير الله جل جلاله؛ فليس لنا فيه أية مشاركة.

    ضجعة القبر وضمته

    وبعد قبض الروح من البدن أول ما يأتي من مشاهد ذلك العمر الثالث هو تلك الضجعة، ضجعة الإنسان في قبره عندما يوضع في تلك الحفرة الموحشة المظلمة ويرد الناس عليه التراب ويضعون عليه الزنابل والخشب، ثم ينطلقون ويتركونه مع عمله، هذه الضجعة عظيمة جداً، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في جنازة.. ( فلما وضع ميت في قبره نظر إليه وأشار بيده: أن كفوا، فقال: أي إخواني! أعدوا لمثل هذه الضجعة )، هذه الضجعة يعرض على الإنسان فيها عمله ويمتحن فيها بفتنة القبر العظيمة، ثم بعدها ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، يضم القبر الإنسان ضمة شديدة، تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل.

    وإذا كانت هذه الضمة بهذا المستوى من الشدة فهي تهيئة لسؤال الملكين - منكر و نكير - يأتياه في أفظع صورة وأشدها فيجلسان إلى ركبتيه، فيقولان له: ما ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ وهذا امتحان شاق عظيم لكن الله تعالى يثبت الذين يرتضيهم من عباده؛ كما قال تعالى: يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ[إبراهيم:27].

    تجسم العمل

    ثم بعد ذلك يأتيه عمله فيعرض عليه إن كان محسناً جاءه عمله الصالح في أحسن صورة وأحسن رائحة فيقول له: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ ما عرفه، فيقول: أنا عملك الصالح وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئاً فرجحت كفة السيئات على كفة الحسنات جاءه عمله في أقبح صورة وأنتن رائحة، وما ظنكم بعمل هو سيئة تجسمت والسيئات متجسمة فيأتي في أقبح صورة وأنتن رائحة، فيدخل عليه في ذلك القبر الضيق، فيقول: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بسوء، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيء وأنا صاحبك في غربتك، فالعمل هو الصاحب في هذه الغربة والوحشة؛ فعلى الإنسان قبل أن يبدأ السفر أن يختار الرفيق الذي هو مناسب لرحلته.

    وعمل المرء رفيقه غدا قبل الطريق اختر رفيقاً جيدا

    1.   

    عمر الإنسان في المحشر ومراحله

    ثم بعد ذلك يأتي العمر الرابع وهو: عمر الإنسان فوق الساهرة في المحشر وهو عمر القيام؛ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:6]، ليس فيه اتكاء ولا اضطجاع ولا ارتفاق ولا جلوس؛ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين:6]، يحشرون جميعاً إلى الساهرة حفاة عراة غرلا مشاة؛ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104].

    النفخ في الصور

    عندما يؤذن للملك بالنفخ في الصور ينفخ فيه نفخة أولى نفخة الفزع؛ فيصعق لها الخلائق جميعاً، من كان منهم حياً يصعقون جميعاً، فيمكثون أربعين سنة، ثم يؤذن له في النفخ مرة أخرى فينفخ فيه فإذا هم قيام ينظرون، يحيون جميعاً ويقومون.

    ثم ينادي المنادي فيهم: هلموا إلى ربكم؛ فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وهم يرون الأرض تبس بساً وترج رجاً، وتنفض كما ينفض الجراب؛ فيخرج كل ما فيها من الموتى وما فيها من المعادن وما فيها الأموال وما فيها من الكنوز، يخرج منها كل ذلك، وتستوي استواء مطلقاً ليس فيها جبال ولا أودية؛ فالجبال تكون كالعهن المنفوش، تميلها الرياح يميناً شمالاً، والأودية تستوي ثم بعد ذلك تطوى الأرض طياً وتكون يوم القيامة خبزة يتكفأها الجبار بيمينه كما يتكفأ أحدكم خبزته نزلاً لأهل الجنة، ويرون السماء وهي تشقق بأصوات مروعة مفظعة، نحن الآن نرتاع لصوت الرعد، وهو صوت خفيف وصوت تشقق السماء صوت لا يتصور، هذه السماء القوية التي سمك كل سماء منها خمسمائة عام للحجر الصلب الهاوي، ومع ذلك تشقق والملائكة على أرجائها، وهم يطوونها طياً؛ كما يطوى الكتاب مثل طي الورقة؛ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ[الأنبياء:104].

    وعندما تطوى السماء والأرض يجتمع الخلائق جميعاً في الساهرة، وهي أرض مستديرة كالكرسفة البيضاء يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر، يجتمع فيها الخلائق جميعاً، وتدنو الشمس فوق رؤوسهم حتى تكون كالميل، ويشتد بهم العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يرتفع بعدها؛ فمنهم من يصل إلى كعبيه ومنهم من يصل إلى ركبتيه ومن يصل إلى حقويه ومنهم من يصل إلى سرته ومنهم من يصل إلى ثدييه ومنهم من يصل إلى ترقوتيه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ويطول هذا الموقف طولاً غير معتاد؛ فالإنسان لا يجد مكاناً يجلس فيه ولا مكاناً يضطجع فيه، ولا نوم في عينيه ولا راحة له فهو واقف وقوفاً واحداً؛ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47]، ومن كان من أهل الخير في هذه الحياة الدنيا؛ فإنه يستظل بظل صدقته يوم القيامة، فمن مستقل أو مستكثر، كل تتبعه صدقته في ذلك اليوم؛ فمن الناس من يأتي بالدرهم الواحد قد تصدق به في الحياة الدنيا فيحول بين جزء يسير من رأسه وبين الشمس، ومنهم من تأتي صدقته فتظله وتظل معه بعض أقاربه أو بعض الذين يلونهم، فكل يستظل بظل صدقته؛ فمن مستقل أو مستكثر، ويطول هذا الموقف بالناس طولاً غير معتاد ثم يرجعون إلى الشفاعة؛ فيشفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلائق وهو المقام المحمود الذي أعد الله له.

    نقف على هذا، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755990300