إسلام ويب

استغلال الوقت [1]للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أقام الله تعالى الحجة على الثقلين بتعاقب الليل والنهار، وامتن عليهم بهذه النعمة العظيمة، والحجة البالغة على الثقلين الإنس والجن إنما هي بما أتاح لهم من الفرص، وأقام عليهم من الحجة ببعثة الرسل، وتنزيل الكتب وإقامة براهين العقل، وما يريهم في الآفاق من آياته الدالة على وحدانيته وصدق ما جاء في كتابه، ومن هذه النعم نعمة الوقت، فهذه الأوقات إذا تعود الإنسان على استغلالها، ولو كان ذلك في أمر جادٍ أيًا كان، فإنه عندما يتكاسل ويجلس، سيجد أن القليل من الوقت يمكن أن يستغل في كثير من العمل.

    1.   

    نعمة الله على عباده بتعاقب الليل والنهار

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    أما بعد:

    فإن الله سبحانه وتعالى أقام الحجة على الثقلين بتعاقب الليل والنهار، وامتن عليهم بهذه النعمة العظيمة، فقد قال جل شأنه: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61-62].

    والحجة البالغة على الثقلين الإنس والجن إنما هي بما أتاح لهم من الفرص، وأقام عليهم من الحجة ببعثة الرسل، وتنزيل الكتب وإقامة براهين العقل، وما يريهم في الآفاق من آياته الدالة على وحدانيته وصدق ما جاء في كتابه، وقد قال في ذلك: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53]؛ وذلك لتآزر الآيات المذكورة التي هي القرآن، والآيات المنظورة التي هي آيات هذا الكون وبدائع صنع الله تعالى فيه، وتعاقب الليل والنهار فيه من إقامة الحجة الشيء الكثير، فلو كان عمر الإنسان وحدة واحدة لما استطاع أن يعتبر ولا أن يتذكر، ولا أن يستغلها؛ لأن استغلالها وهي فرصة واحدة شاقة به، ويصعب عليه النجاح فيه، أما عند إتاحة الفرصة بتعاقب الليل والنهار، وتقلبهما وتكوير كل واحد منهما على الآخر، يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر:5]، فإنه بذلك إذا لم توافقه بيئة أو لم يوافقه ظرف استطاع التحول وينتفع ويعتبر حينئذٍ، وبهذا يعلم أن نعمة الزمان هي مثل نعمة المكان، فكما أن الأمكنة متفاوتة، وأن حاجة الناس إلى تفاوتها قائمة، فمن البلاد ما هو حار دائماً ومنها ما هو بارد دائماً، ومنها ما يتعاقب عليه الحر والبرد، ومنها ما يكون متوسطاً، ومنها ما تلائم طبيعته بعض الناس، ومنها ما تلائم طبيعته آخرين، وكل ذلك بتدبير الله سبحانه وتعالى لهذا الكون، فكذلك الزمان تختلف أوقاته وتتناسب ظروفه مع أنواع العمل، فلما كان عمل الإنسان منوعاً، وأساسه بابان، أحدهما: حسنة المعاد، والثاني: درهم المعاش، احتاج الإنسان إلى وجود نوعين من وحدات الزمن وهما الليل والنهار، فالليل لمن أراد أن يقوم ويتوب وينيب إلى الله جل شأنه، ويتذكر آيات الله، ويتذكر نعمه عليه.

    ويتذكر أيضاً الوظائف التي وظف فيها، وما قام به منها وما فرط فيه، فما قام به هو نعمة أنعم الله بها عليه، ووفقه لها، وما فرط فيه هو ذنب ارتكبه من تلقاء نفسه، وهو محوج إلى التوبة قبل أن يفوت الأوان، وقبل أن يحل عليه سخط الله، ولولا نعمة الليل لما تذكر الإنسان ذلك، لو طال النهار فدام أزمنة طويلة دون تقلب، فعاش الناس في ضياء مستمر، لكان نشاط خلايا المخ، ونشاط الأعصاب مستمراً، فيكون الإنسان لا يجد وقتاً للراحة ولا للهدوء، ولو دام الليل سرمداً فاستمر الظلام على الناس، كذلك لاستمرت خلايا المخ نائمة، واستمرت الأعصاب كذلك في هدوء، ولم يجد الإنسان نشاطاً كالذي يجده في النهار، ولذلك امتن الله بهما معاً، وبين أنه لو جعل واحداً منهما سرمداً مستمراً لكان ذلك خطراً على البشرية.

    ومن هنا: فإن الله سبحانه وتعالى نوع وحدات الزمن، فعمر الإنسان فيه مرحلة الضعف والصبا، ثم بعد ذلك مرحلة القوة والأيد والنشاط والشباب، ثم تبدأ مرحلة الكهولة والكبر، ثم يصل إلى الضعف والشيب، ثم يصل إلى الموت، هذه المراحل كلها فيها عبرة وتذكير، ولذلك يتفاوت الناس فيها، فمن غلبه هواه وشيطانه في شبابه فكان من أهل النزغ والطيش، فالفرصة متاحة له إذا بلغ سن رشده وتم أشده أن يتوب إلى الله وينيب، فإذا تجاوز ذلك، وقد قصر وندم، فالفرصة أيضاً متاحة أمامه في حال شيبته بإنابته وتوبته، لكن إذا جاء الموت انقطع الأمل، ولم يبقَ للإنسان عودة إلى هذه الحياة، سيتمنى ذلك لا محالة؛ لأنه عندما يوضع في قبره: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:99-100]؛ ولذلك قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المنافقون:9-11].

    1.   

    المنتفعون من الذكرى

    لكن هذه الذكرى إنما ينتفع بها أولو الألباب، وذلك في قسمين:

    أهل العقل والتدبر

    القسم الأول: من كان من أهل التدبر، فينتفع بعقله.

    والقسم الثاني: من كان من أهل السماع فينتفع بكلام غيره، ينتفع بوعظ غيره، وقد بين الله سبحانه تعالى هاتين الدرجتين في سورة (ق): لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، من كان له قلب هو صاحب التدبر الذي يتفهم بنفسه، فتقوم عليه الحجة البالغة من تلقاء نفسه، فينيب ويتوب وحده وعندما يذكر الله خالياً فتفيض عيناه، وهو مع الله سبحانه وتعالى بعقله الذي قامت به الحجة على نفسه، وأول بصيرة بذلك العقل.

    أهل السماع الحاضرون

    القسم الثاني: من ألقى السمع وهو شهيد، فيلقي السمع إلى غيره ويشاهد ذلك، فالذين يلقون السمع منهم من يلقيه فلا ينتفع بما يسمع، ولا يعتبر به؛ لأن أذنه غير أمينة، فلا تؤدي ما تسمعه إلى القلب، والقلوب يطبع عليها فيحال بينها وبين ما تنقله الآذان، ومنهم من يسمع كذلك، ولكن السماع مقيد بوقت، فيعتبر في وقت السماع، فإذا رأى جنازة تدخل باب المغسلة الآن أو تنقل منها تذكر الموت واعتبر، ولكنه سرعان ما ينسى ذلك فينغمس فيما كان فيه من ملذات الحياة الدنيا على شهواتها، وينسى العرض على الله والوقوف بين يديه، وينسى وزن أعماله في الكفتين بين يديه، والميزان له كفتان ولسان: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:9]، لكن من ألقى السمع وهو شهيد، أي: حاضر لما يسمع، فهو الذي ينتفع بعقل غيره، وينتفع بموعظته وذكراه.

    فإذا ألقى سمعه دله ما يسمعه على ما فات من عمره وما فرط فيه بجنب الله، وتذكر أن عليه أن يغير مجرى حياته، وأن يبادر بالتوبة قبل الختام، فإذا كان المشوار طويلاً وبذل في شهواته وملذاته كثيراً من أوقاته، ولم يبقَ باب فتنة إلا طرقه، ولم تبقَ معصية من معاصي الله إلا نال منها لذته ونصيبه، ولكن أراد الله به الخير فختم له بخاتمة السعادة، فإنه يتوب وينوب إلى الله سبحانه وتعالى، ولحظة واحدة من عفو الله وتوبته، تهدم البناء الذي بناه لمدة سنوات طويلة، ولذلك فإن الذنوب هي حصن إبليس، يبنيه على الإنسان، وفي كل يوم يزيده طبقة أو طبقتين أو ثلاثاً أو أربعاً، بحسب ما يرتكبه الإنسان من السيئات، فإذا طال البنيان وتراكم طمع إبليس في سوء خاتمة هذا الإنسان؛ لأنه قد أحاطه بسور حصين لا يستطيع تهديمه، وبذلك يجتهد إبليس في أن يبقى في غفلته سادراً إلى أن يأتي موعده مع ملك الموت، لكن إذا أراد الله به الخير، فدله على طريق الاستقامة والتوبة، تاب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا تقبل الله منه فإن لحظة واحدة من عفو الله تنسف ذلك البناء بكامله، وتزيله فيأسف إبليس ويقول: يا ويلتاه! بنيت هذا البناء من المعصية لسنوات طويلة، فجاءت لحظة عفو من عند الله فهدمته وأزالت أساسه، فلذلك إذا وفق الإنسان لهذه التوبة فإن حياته ستتغير بالكلية.

    1.   

    اعتبار الإنسان بأحوال المخلوقات من حوله

    الاعتبار بحال أهل الطاعة

    ومن هنا: احتاج الإنسان إلى أن يشاهد عمل غيره، فالذين يراهم الإنسان إذا كان ذا قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لا بد أن يعتبر من حالهم؛ لأنهم إما مقبل على الله، عرف الله جل جلاله فأقبل عليه، ونال لذة مناجاته وأنس لقائه، وصرف نعمة الله عليه فيما خلقت من أجله فوفق للطاعات، وهذا مجرد النظر إليه عبادة، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28]، فقال: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28]، وهذا ليس فقط أمراً بمجرد النظر إليهم، بل هو أمر بإدمان النظر إليهم والاستمرار عليه.

    الاعتبار بحال أهل المعصية

    أو معرض عن الله، مقبل على ملذاته وشهواته، وقد أخذ إبليس بزمازمه وخطامه، ولم يتحرر طرفة عين، فهو في عبوديته لنفسه وهواه وشهواته، قد ألقى الزمام لـإبليس واتبع خطواته، فهو سائر في طريق الردى، كل يوم يزداد من الله بعدًا، وكل يوم تظلم بصيرته ويسود قلبه، وتنكت فيه النكات السوداء حتى يكون قلبه كالكوز مجخيًا مسودًا مربادًا لا ينجو من فتنة، ولا تنبو عنه فتنة أياً كانت، وهذا أيضًا حاله موعظة وذكرى وعبرة، فقد يكون تام العقل، وقد يكون مثقفًا يحمل شهادة عالية، وقد يكون من وسط اجتماعي رفيع، وقد يكون من وسط مادي ميسور، ولكنه مع ذلك أعمى الله قلبه، وأغفله عما خلق من أجله، فهو يسير فوق الأرض كما تسير الأنعام والبهائم، وحاله شر من حال البهائم والأنعام، فالبهائم عذابها إنما هو في هذه الحياة فقط، بما تلقاه؛ لأنها لم تكلف ولم تمتحن بتكاليف، ويوم القيامة تحشر لتقوم بها الحجة على غيرها، فمن كان يملك كثيرًا منها ولا يؤدي زكاته، بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها صغيرة ولا كبيرة، ليس فيها عقساء ولا عرجاء، تطؤه بأظلافها وتنهسه بأسنانها وتنطحه بقرونها، كلما مر عليه آخرها أعيد إليه أولها حتى يفصل بين الناس، وفي ذلك الوقت يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ثم بعد ذلك تذهب البهائم في الرياح، ولا يبقى لها أثر إلا ما كان منها معدًا لنعيم أهل الجنة أو لعذاب أهل النار فيبقى.

    والإنسان الغافل عن الله سبحانه وتعالى حاله شر من حال الأنعام؛ لأن الحياة الدنيا تمتع فيها كما تتمتع الأنعام: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهمْ [محمد:12]، فالأنعام ليست النار مثوًى لها، وهؤلاء النار مثوًى لهم، فنعيمهم هو ما يقدم لهم في الحياة الدنيا؛ لأنهم يقال لهم يوم القيامة: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20]، نسأل الله السلامة والعافية.

    الاعتبار بحال المذبذبين

    وإما متوسط يتذبذب، تارة هو مع الصالحين، فإذا سمع النداء جاء إلى المسجد وصلى، ولكن فيما بين الصلاتين يمارس الربا أو الكذب أو الغيبة أو النميمة أو سماع الفحشاء والمنكر، فهو تارة مع الصالحين وتارة مع من سواهم، وهذا التذبذب والتردد إنما هو بمثابة الذي يغزل ثم يعيد الغزل صوفًا بعد أن أتمه.

    فهو يجتهد في عمل شاق، ويسعى لوصول البناء إلى تمامه، ثم يهدمه ثم يعود إليه من جديد:

    متى يبلغ البنيان يومًا تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

    وهو بمثابة التي تنكث غزلها، فهي تشده وتجتهد وتتعب وتسهر، وتتعب نفسها وتفكيرها في إقامة غزلها ثم ترده وتنكثه بعد ذلك، فيكون عملها باطلًا، وهذا التذبذب فيه خطر عظيم على الإنسان لما فيه من ضياع الوقت والعمر، ولما فيه أيضًا من الإهانة والمشقة، فالإنسان لا هو استراح فأراح الآخرين من كده وتعبه، ولا هو عمل عملًا مستمرًا واستمر في طريقه فيقطع شوطًا منه، فهو دائمًا في مكانه يتعداه الآخرون، وتجدون هذا النوع من الناس: ينشأ ناشئ الفتيان فيجده قد سبقه إلى هذه الحياة، وقبل ميلاده كان من المصلين وكان من الصائمين في رمضان، وكان من الذاكرين في بعض الأحيان، ولكن يتعداه الجيل الناشئ، فيتقدم عليه في الإيمان، وزيادة التقوى والعلم والقرب من الله سبحانه وتعالى، ويبقى هو على الأثر، فدائمًا كلما تعداه جيل أنس بالجيل الذي بعده، فهذا النوع من الناس أيضًا موعظة وعبرة، وحاله غريب جدًا، فلذلك يعتبر الإنسان إذا ألقى السمع وهو شهيد بحال كل من يراه.

    الاعتبار بحال من لا يعقل والجمادات

    وبالإمكان أن يعتبر أيضًا بحال ما لا يعقل من الحيوان، وكذلك من الجمادات، فاعتباره وذكره فيها أمر عجيب جدًا، فقد كان الحسن البصري رحمه الله، يحفر قبرًا في بيته فإذا خلا بنفسه اضطجع فيه، ثم قرأ قوله تعالى: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون:99-100]، ويبكي ثم يقوم فيبادر العمل، فيكون هذا بمثابة الوقود الذي يكون انطلاقًا جديدًا في سرعته إلى الله سبحانه وتعالى وإقباله عليه؛ لأنه يتصور أنه قد وضع في القبر، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، وقدم إلى ما قدم، ثم أتيحت له فرصة العود مرة أخرى إلى الحياة الدنيا بعد أن شاهد وأيقن، وبذلك يكون قد نال ما سيتمناه جميع الناس في المستقبل ولم ينالوه، والإنسان إذا كان عاقلًا فإن اعتباره بغيره واتعاظه بحالهم، وهو يرى كل يوم وفد الآخرة منهم من هو أكبر منه، ومنهم من هو أصغر، ومنهم من هو معاصر له، ومنهم من هو أعلم منه، ومنهم من هو أذكى منه، ومنهم من هو دونه، ويراهم جميعًا ينطلقون إلى ما هنالك، ولا يرجعون إلا عند النشور، فتلك عبرة للمعتبرين وذكرى للمتفكرين.

    الاعتبار بمرور الأيام والسنين

    وإذا أدرك الإنسان أنه في عمره يمضي عليه العقود، هذا عقد من الزمن أي: عشر سنوات تعقد فيها الأصابع فكملت، ثم يبدأ عقدًا جديدًا، قد لا يكمله، فإذا امتن الله عليه فأتمه، فبلغ عشرين سنة سيبدأ عقدًا جديدًا أيضًا، وإذا أذن له بإتمامه، وهكذا كل عقد هو طور من أطوار العمر ومحطة من محطاته، ثم في كل عقد من العقود أيضًا سنوات، والسنة فيها أربعة فصول، والفصل فيه شهور، والشهر فيه أيام وليالٍ، واليوم والليلة فيهما ساعات، والساعات فيها الثواني، وكل ذلك آيات من آيات الله، وعبر قائمة، فيحتاج الإنسان إذاً إلى أن يعتبر بهذه السنوات، والأيام والليالي، فنحن الآن في شهر رجب المحرم من هذا العام، وكم من إنسان شهده في العام الماضي، وهو الآن بين الجنادل والتراب، كم من إنسان أيضاً عاش في شهر رجب الآن وهو يعد نفسه لرمضان، ويتهيأ له، ولكنه لم يدركه، وكم من إنسان سيدركه لكن لم تتح له الفرصة في رجب القادم أبدًا، ولم يأتِ عليه إلا وقد بدا له من الله ما لم يكن يحتسب، ورأى ما هنالك.

    1.   

    المبادرة والمسارعة والتدارك قبل فوات الأوان

    فإذا كان لحال كذلك وأيقناه، فعلينا أن نبادر لاستغلال الفرص قبل فوات الأوان، وأن ننتهز هذه الأوقات العظيمة، وقد قال الحسن بن أبي الحسن رحمه الله: إن عمراً ضيع أوله لجدير أن يحفظ آخره، فقد فرطنا في جنب الله، وضيعنا كثيرًا من الأوقات، ولا نشعر بضياعها إلا إذا وفقنا لاستغلال ما يقابلها، فإذا وفق الإنسان لقيام ليلة من الليالي، أو لدراسة كتاب من الكتب، أو لقراءة ما يحفظه من القرآن، أو لانتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد، أو لحضور درس فيه، فسيجد أن مستواه قد ربا وارتفع، وأنه قد استغل الوقت فيما ينفعه ويجدي، فيجد أن الأوقات الماضية التي كانت يقضيها في السفر الذي لا فائدة فيه، أو فيما لا نفع فيه حتى من المفضولات أو من لغو الكلام، فيجد أنها قد ضاعت وذهبت بجزء من عمره، وبجزء من قواه وسمعه وبصره وقلبه، ذهبت بكل ذلك بحيث لا يرجع، ولهذا قال البواق رحمه الله: حقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، فما من وقت يمر إلا ولله عليك فيه خطاب جديد، وأمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره، وأنت لم تؤدِّ حق الله فيه.

    فصحف الأعمال تطوى وترفع إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا الرفع منه ما هو سنوي، ومنه ما هو شهري، ومنه ما هو أسبوعي، حتى في الأسبوع فرصتان لرفع العمل: ( ترفع الأعمال إلى الله يوم الإثنين ويوم الخميس)، في كل أسبوع، ثم منه ما هو يومي، والذي هو يومي أيضًا فيه فرصتان، فصلاة العصر وصلاة الفجر: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيرتفعون إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم: كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون).

    والمقصود هنا: عباده المبرزون المتميزون لا عامة الخلائق، وهم الذين يستحقون هذا اللقب، لقب العبودية لله الذي هو أشرف ألقاب المخلوقين، ولذلك أثنى الله به على محمد صلى الله عليه وسلم في مقام التفضيل، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، ولم يقل: برسوله، ولا نبيه، ولا خليله، بل قال: بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] تنويهًا لشأنه ورفعًا لمقامه.

    1.   

    أفضل الأوقات للاستغلال

    ثم إن هذه الأوقات إذا تعود الإنسان على استغلالها، ولو كان ذلك في أمر جادٍ أيًا كان، فإنه عندما يتكاسل ويجلس، سيجد أن القليل من الوقت يمكن أن يستغل في كثير من العمل، والمسافر إذا جلس ولم يقطع المسافة فالوقت اليسير الذي يمضيه سيفوته فيه الرفاق بمسافات شاسعة جدًا يشق عليه إدراكها، فإذا كنت مسافرًا إلى الدار الآخرة، ومعك رفاق وهم كثير، وأنت في سباق معهم: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، فأنت في سباق معهم ومع الزمن، فإذا نمت وهدأ بالك فسيفوتك الرفاق، وسيقطعون من المسافات ما لا تستطيع إدراكه أبدًا، ولذلك عليك أن تجمع بين عمل الليل وعمل النهار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)، ولا يستطيع الإنسان أن يجعل وقته كله للدار الآخرة، فله ضرورات دنيوية وله حاجة إلى الراحة، ولبدنه عليه حق، ولعينه حق، ولزوره حق، ولزوجه حق، وعليه أن يعطي كل ذي حق حقه، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص .

    ولا يستطيع الإنسان أن يعيش مع الله دائمًا في حال المراقبة والمشاهدة، ولكن ساعة وساعة، فلو أن العباد جميعًا كانوا على ذلك المستوى لصافحتهم الملائكة في الطرقات، أو انكشفت لهم الغيوب، ورأوا الأمور التي هي أسرار لا يمكن كشفها الآن في هذه الحياة، ولذلك لابد أن يبقى من الأوقات ما يصرف في الأمور الأخرى.

    وقت الغدوة وبركتها

    لكن مع هذا بين النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة الاستغلال في ثلاثة أوقات، في أوقات الذروة وأوقات الغفلة: (استعينوا بالغدوة)، أول النهار هذا وقت البركة فيه، هذا الوقت الذي ينام فيه كثير من الناس، وينشغلون فيما لا نفع فيه، وترى البهائم تغدو فيه والطيور، وتستغله استغلالًا عجيبًا.

    كما في الحديث: ( لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا)، تغدو الطير في الصباح الباكر عندما ينشق الفجر، تخرج من وكناتها وتبدأ مشوارها اليومي، والبهائم أيضًا تبدأ رعيها من هذا الوقت، والجادون أيّاً كانوا يبدءون عملهم ونشاطهم في هذا الوقت، فلذلك الغدوة وقت مبارك، وعلى الإنسان أن يغدو فيه، وأن يعلم أنه في سباق، وأنه تاجر وأن رأس ماله هو هذا الوقت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ).

    وقت الروحة وقدرها

    ثم بعد هذا قال: (والروحة)، فآخر النهار هو ختامه، وهذا الوقت الذي أنتم فيه وقت عظيم جدًا، وبالإمكان أن يعوض فيه الإنسان ما مضى، وهو الوقت المضروب لهذه الأمة، فالأمم من قبلكم بين النبي صلى الله عليه وسلم حالها وضرب لها مثلًا عجيبًا، ضرب مثلًا لهذه الأمم الثلاث: اليهود والنصارى والمسلمين: ( بملِك دعا عُمَّالًا، فعملوا من الصباح إلى أن ارتفعت الشمس وتعالى النهار على قيراط قيراط، ثم دعا عمالًا آخرين فعملوا من ارتفاع النهار إلى العصر، على قيراط قيراط، ثم دعاكم فعملتم من العصر إلى الغروب على قيراطين قيراطين، فقالت اليهود والنصارى: أعطيت هؤلاء قيراطين، قيراطين، وأعطيتنا قيراطاً واحداً، فقال: فهل ظلمتكم من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء).

    (فنحن السابقون) من ناحية العرض على الله والوزن يوم القيامة، (ونحن الآخرون) من ناحية الوقت، ( بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا )، لكن هدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46]، ( ووفقنا ليوم الجمعة وهو يومهم الذي اختلفوا فيه، والناس لنا فيه تبع: اليهود غدًا والنصارى بعد غد )، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد.

    الأعمال المتاحة في وقت الروحة

    فهذا الوقت الذي ضرب مثلًا لهذه الأمة من العصر إلى غروب الشمس وقت عظيم جدًا، بالإمكان أن يراجع الإنسان فيه محفوظاته، وأن يكثر فيه الذكرى، حتى يكون من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، وبالإمكان أن يتعلم فيه الشيء الجديد، وبالإمكان أن يتدبر فيه مسيرة حياته في هذا اليوم، فيبادر بتدارك زلاته وأخطائه، فأنت قمت من الصباح فاستيقظت، فأعاد الله إليك حياتك وسمعك وبصرك وعقلك وجهازك العصبي، وكان بالإمكان أن يأخذها، فأنت ترى كثيرًا من الناس يموتون في نومتهم، كما قال الله تعالى: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42].

    فترى كذلك كثيرًا من الذين أخذت أسماعهم وأبصارهم في نومتهم، وترى آخرين أخذ إحساسهم فاستيقظوا وقد فقدوا الإحساس، لا يستطيعون حركة ولا مساسًا، فإذا أنعم الله عليك، فرد عليك حياتك، ورد عليك عقلك، ورد عليك سمعك، ورد عليك بصرك، ورد عليك قواك فهذه نعمة عظيمة، وردت عليك بالتكليف وللقيام بمهماتك في هذا اليوم، فبادر إلى استغلال خطتك، فإذا جاء وقت العصر عليك أن تحاسب نفسك؟ كم كانت واجباتك اليوم؟ كم كان عليك من الفرائض في الصلاة؟ كم كان عليك من الواجبات؟ كم كان عليك في طلب العلم؟ كم كان عليك لوردك اليومي من القرآن؟ كم كان عليك من صلة الرحم؟ كم كان عليك من بر الوالدين؟ كم كان عليك أن تقدمه في مسابقتك مع أقرانك ونظرائك في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والازدياد من الخير؟ فإذا حصل تقصير بادر لاستغلال الفرصة قبل فواتها قبل غروب الشمس، فأدركها في آخر اليوم.

    ولك في ذلك موعظة وعبرة، فأنت ترى الشمس حجة، فقد طلعت كطلوع شبابك أنت، وها هي تغرب مكسوفة كحالك عند الموت، ولذلك قال الماوردي رحمه الله:

    أقبل على صلواتك الخمس كم مصبح وعساه لا يمسي

    واستقبل اليوم الجديد بتوبة تمحو ذنوب صحيفة الأمس

    فليفعلن بوجهك الغض البلى فعل الظلام بصورة الشمس

    أهم عمل في وقت الروحة

    فإذا تُبت وأَنَبت فإن توبتك قاضية على ما سبق، كما قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ [الزمر:53-58]، ومعنى: الكَرّة: الرجوع إلى الحياة الدنيا مرة أخرى: ((لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً)) أي: رجوعًا إلى الدنيا: ((لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ)).

    فلذلك لا بد إذاً أن تجد تقصيرًا في العمل أو توفيقًا فيه وإحسانًا، فالتوفيق حظه الشكر؛ لأنه نعمة أنعم الله بها عليك فقيدها بشكرها، والتقصير حظه التوبة؛ لأنه إساءة إلى نفسك وظلم لها، فبادر بالتوبة منها قبل فوات الأوان.

    1.   

    التدريب على حفظ الوقت

    وقد يتدرب الإنسان على استغلال بعض الأوقات، حتى لو كان من الغافلين في الأصل عن أمر الآخرة، ولذلك نجد كثيرًا من أهل الدنيا من اليهود والنصارى الجادين في حياتهم، يستيقظون في الصباح الباكر، فيعملون في ساعة الصباح ثم يجتهدون في ساعة المساء، لكن تبقى الدلجة لأهلها وهي استغلال زلف من الليل في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعة والعبادة الليلية.

    تقديس الغرب للوقت وحفظه

    فالإنجليز يسمون السابعة صباحًا الوقت المقدس، فهذا الوقت عندهم مقدس لا يمكن أن ينام فيه الإنسان، بل هو وقت عمل، لا بد أن يخرج الإنسان فيه للكسب ولأمر الدنيا، وكذلك كثير من الجادين الممارسين للأعمال إذا جاء وقت نشاطهم خرجوا ولو لم يكن لديهم نشاط في ذاك الوقت، فإذا كانوا طلابًا فكانوا يدرسون يخرجون إلى مدارسهم في وقت الغدوة، ويرجعون منها في وقت الظهيرة، فجاء وقت الإجازة الصيفية كحالنا الآن، لم يذهب هذا الوقت سدًى، لأنهم تدربوا على استغلاله، وتدربوا بتقسيم الوقت كذلك على تنظيمه، فيجعلون وقتًا للمذاكرة والمراجعة، ووقتًا لحفظ الجديد، ووقتًا للعبادة، ووقتًا لاكتساب خبرات ومهارات تنفعهم، ووقتًا لكسبٍ مادي، وبهذا يكونون من أصحاب الجِد، وأصحاب الجد: هم الذين يبقى لهم تأثير بعد موتهم، أما أصحاب الهوايات ومن ليس جادًا يعيش حياة عادية، ويموت موتًا عاديًا، فلا يبقي أثرًا بعده في هذه الحياة، أما من كان من أصحاب الجد والتشمير، فإن كل وقت يمر عليه يحاول أن يترك فيه بصمة في هذه الحياة الدنيا، وتعرفون قول علال بن عبد الله الباسي رحمة الله عليه:

    أبعد بلوغي خمس عشرة ألعب وألهو بلذات الحياة وأطرب

    ولي نظر عالٍ ونفس أبية مقاماً على هام المجرة تطلب

    وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت دهري وتذهب

    ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلًا إلى العيش الذي تتطلب

    على أمرها أنفقت دهري تحسرًا فما طاب لي طعم ولا لذ مشرب

    ولا راق لي نوم وإن نمت ساعة فإني على جمر الغضا أتقلب

    إذا كان الإنسان عاقلًا وقد تدرب في أيام الدراسة على استغلال الوقت فعليه ألا يضيع هذه المكاسب التي اكتسبها في تنظيم وقته واستغلاله.

    استغلال الشناقطة للأوقات

    نحن كنا في هذه البلاد شعبًا بدويًا، وكان كثير من أوقاتنا يضيع سداً، فكثير من طلاب العلم الذين هم خيرة المجتمع، وهم نبراس العصر، ضاع كثير من أوقاتهم وكان بالإمكان أن يستغلوها، والنوادر منهم هم الذين استغلوا الأوقات، ولذلك تركوا الأثر البالغ، ورحم الله الشيخ لطفي بن عبد الودود فقد كان في وقت الطلب عند آل محمد سالم ، ليس لديه وقت للنافلة إلا ركعة الوتر، وليس لديه وقت لإكمال أذكار ما بعد الصلاة؛ لأن مراجعة الدرس أعظم منها، فكان يسلم من الصلاة فيقول: (السلام عليكم) عبد اللطيف يقولوا وإن جُنّ، عبد اللطيف زميل له يدرس معه، فيقول: قل وإن جُن، وهذا بداية درس لمختصر خليل: وإن جن نظر السلطان، فالوقت كله مستغل، ولذلك خرج قبل صلاة المغرب لحاجة لشيخه الحسن بن زيد ، فلما حان وقت المغرب إذا هو عند شجرة قد أوقد فيها أهل البادية ناراً، فجلس عندها ليصلي المغرب، فلما صلى المغرب إذا ضوء النار مشع، فأخذ باب الإضافة من الألفية، وبدأ يذاكر فيه ويراجع إلى أن طلع الفجر ولم يصلِّ العشاء؛ لأنه قد استغرق في الدرس، ولم يشعر بالزمن، فيمضي الزمن وهو مشغول منهمك في الدراسة.

    استغلال الشاطبي رحمه الله لوقته

    وقد كان بعض أسلافنا كذلك، كما حصل للإمام الشاطبي ، فقد كان إذا بدأ التأليف يذهب إلى بستان ليس فيه أحد، ويخرج صائمًا، وفي كثير من الأحيان ينسى أنه صائم، فلا يتذكر ذلك إلا في وسط الليل، يتذكر أنه اليوم كان صائمًا ولم يفطر؛ لانشغاله بالتأليف والتفكير في عويصات المسائل العلمية، وهذا الجد والتشمير هو الذي يجعل الإنسان أسوة لمن وراءه، ويعيش حتى لو انقضى عمره الدنيوي في هذه الحياة، ينقضي عمر الأكدار والمشكلات، ويبقى عمر زيادة الأجور، وزيادة الذكر والرفعة مستمرًا، فـالشاطبي و أبو عمر بن عبد البر و النووي وغيرهم من أئمتنا الأعلام الذين استغلوا أوقاتهم استغلالًا حسنًا.

    مضت أعمارهم الدنيوية التي فيها الأكدار والأمراض والأذى، والحمى وغير ذلك، لكن بقيت أعمارهم التي فيها الذكر والأجر مستمرة لا تنقطع:

    أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم

    وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى يعد من الأحياء وهو عديم

    فلذلك هم أحياء بيننا الآن، ونحن نقرأ كتبهم، فنناقش أفكارهم وعلمهم، ونستنير بها كما قال ابن هلال رحمه الله:

    لنا جلساء ما يمل حديثهم ألباء مأمونون غيبًا ومشهدًا

    يفيدوننا من علمهم علم من مضى وعقلاً وتأديبًا ورأيًا مسددا

    فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لسانًا ولا يدا

    فإن قلت: أحياء فلست بكاذب وإن قلت: أموات فلست مفندا

    عجائب استغلال الأوقات

    واستغلال هذه الأوقات هو عقل وتدبير، وسيحمد الإنسان غبه ويرى أثره عليه، والغريب أن الإنسان إذا استغل وقتًا من الأوقات فيما هو نافع سيتعجب كيف كان يضيع عليه مثل هذا الوقت، وإذا جلست الآن من بعد العصر إلى صلاة المغرب في المسجد ستتعجب في الأيام الماضية: هل كانت مثل هذا اليوم، أو هذا اليوم أبرك منها وأكثر وأطول؛ لأنك وجدت وقتًا تقرأ فيه عشرة أحزاب، وجدت وقتًا تراجع فيه معلوماتك، وجدت وقتًا تحفظ فيه نفسك، وجدت وقتًا تجد فيه، وتمنع فيه جوارحك من المعصية، وجدت وقتًا تقبل فيه على الله سبحانه وتعالى فيقذف في قلبك من ألطافه ومن محبته، وتتعرض فيه لنفاحته، فكان استغلال هذا الوقت بركة في عمرك ونبراسًا لك.

    ومثل ذلك إذا استيقظت في جوف الليل، فقمت وتوضأت وذكرت الله سبحانه وتعالى وصليت ما كتب الله لك، تعجب: هل كل الليالي الماضية كانت مثل هذه الليلة، أو هذه الليلة أطول من الليالي؟! لأنك تجد أن فيها بركة يمكن استغلالها، وقد جرب كثير من الناس في هذا أشياء عزيزة جدًا، وكثير من السلف الصالح لهم أوراد طويلة جدًا، يفعلونها يوميًا، مثلًا ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه من النافلة مائتا ركعة يوميًا، وورد عن عثمان ختمة في كل ليلة من القرآن، وتارة يصلي به في ركعة واحدة بالقرآن كاملًا يوتر به، ولذلك يقول فيه أحد الصحابة:

    ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل ترتيلًا وقرآنًا

    رضي الله عنهم أجمعين وأرضاهم، ومثل ذلك ما كان لمن بعدهم، فالإمام البخاري رحمه الله: كان إذا انتهى من عمله المعتاد، واضطجع لينام عد له بعض من حوله أن يقوم اثنتي عشرة مرة، يقوم ويوقد المصباح ويكتب ثم ينام، ثم يقوم ويوقد المصباح ويكتب ثم يطفئه وينام، إلى أن يعد اثنتي عشرة مرة في الليلة الواحدة، وكثير من الناس الآن لياليهم وأيامهم تمضي سدىً وقد نزعت منها البركة، فإذا استيقظ من الليل لسعته عقرب أو وجد ألمًاً أو كان به رمد، طالت عليه الليلة؛ لأنه لم يعرف استغلال الليالي والانتفاع بها، وهذا الذي كان أهل الجاهلية يعرفونه كما قال الأعشى:

    ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا

    فأهل الليل يستغلونه ويبادرون الصباح، وعند الصباح يحمد القوم السرى.

    1.   

    عاقبة الصابرين المجتهدين

    وبذلك يجدون الأبواب مشرعة مفتوحة، كما قال عبد الحق الأشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته، فخروا بين يديه متذللين ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم بابًا، ولا أسدل دونهم حجابًا، ولا خفض أودية ولا رفع شعابًا، فأقبلوا على الله سبحانه وتعالى في وقت غفلة الآخرين، وهم يتلذذون بذلك، يتذكرون أن بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمالهم من يغطون في نوم وغفلة، وقد نالوا في هذه اللحظات لذة المناجاة، والإقبال على الله سبحانه وتعالى وعرض حوائجهم وطلباتهم، لا يشكون من الزحام على الأبواب، أبواب المكاتب يتزاحم الناس عليها، ويشكون ممن يتقدم إذا أخذ وقتًا أكثر من الوقت المسموح به، لكن أهل الليل لا يجدون هذه المزاحمة، وهم بذلك يتذكرون لذة النظر إلى وجه الله الكريم يوم القيام: (إنكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته).

    كما أن أهل الجنة يرون وجه الله الكريم جل جلاله، لا يضامون في رؤيته ولا يحجب بعضهم بعضًا عنه، وتتفاوت رؤيتهم بحسب خشوعهم وصدقهم، وتتفاوت زيارتهم لله تعالى كذلك بحسب مستواهم بالتقريب، فمنهم من يزوره في الجمعة في مقام الجمعة، ومنهم من يزوره في الشهر، ومنهم من يزوره في السنة، ومنهم من يزوره في أيام الأعياد، ومنهم لا يحجب عنه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور من فوقهم، فإذا الرب جل جلاله يناديهم من فوقهم: سلام قولًا من رب الرحيم، فلا ينظرون إلى شيء مما هم فيه ما داموا ينظرون إلى وجه الله الكريم).

    فأهل الليل الذين يقومون في وقت غفلة الناس يتذكرون: أنهم يوم القيامة لا يضامون في رؤية الله جل جلاله، وأن أهل الهمم الدنية قد شغلوا الآن وهم يغطون في نومهم، وأن ذوي الهمم العالية هم الذين عرفوا فلزموا، وهم الذين بادروا قبل فوات الأوان، وجد بهم السير إلى الله جل جلاله، وتذكروا قوله: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فهم مقبلون على الله سبحانه وتعالى، جادون في الإقبال عليه، وبذلك: ( يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)، ومثل ذلك: (رجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)، كل أولئك كانوا من الذين لم ينشغلوا عن الله سبحانه وتعالى، فاستغلوا الأوقات فيما هو نافع مدمن مقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

    نقف عند هذا، ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756301845