إسلام ويب

شبهات حول الدعوةللشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الدعوة إلى الله أشرف وظيفة وأهلها خير الناس؛ لكونهم ورثة الأنبياء، ولابد للحق أن يواجهه الباطل، ومن تلك المواجهة: تشويه الدعوة وأهلها بإلقاء شبهات متعددة تستهدف صد الناس عنهم مثل: الطعن في نياتهم وسلوكهم ومناهجهم وغير ذلك.

    1.   

    الاجتماع على الموعظة الحسنة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين أجمعين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أحمد الله تعالى إليكم معاشر المسلمين! على هذه النعمة العظيمة التي ألف بها القلوب التي لم تؤلفها الدراهم ولا الدنانير، ولم تؤلفها المصالح الدنيوية، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ[الأنفال:62-63]، هذه القلوب التي جاءت مقبلة إلى بارئها سليمة في هذا المسجد الكريم، وهذا المكان الذي هو أحب البقاع إلى الله تعالى، راغبة فيما عند الله، راجية قربه والزلفى إليه، نسأل الله تعالى أن يتقبل أعمالنا وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن ينفعنا بها يوم العرض عليه، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[الشعراء:88-89].

    أقسام الناس في استماع الذكرى

    إننا معاشر المسلمين! يجب أن نحدث عهداً بربنا كلما أمكن ذلك، وأن نجدد إيماننا كلما استطعنا، وأن نقتدي في ذلك بسلفنا الصالح الذين كانوا يحبون الذكرى، ووصف الله حالهم معها، وبين أن الناس في استماع الذكرى على ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: قوم لا يتحملون سماع الذكرى، ويفرون منها فرارهم من الأسد، وهؤلاء هم الكافرون الذين طمس الله قلوبهم وأفئدتهم وختم على أبصارهم، وفيهم يقول الله تعالى: فَمَا لَهمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:49-51].

    والقسم الثاني: قوم يستطيعون سماع الذكرى بأسماعهم، ولكنها لا تصل إلى قلوبهم؛ فيسمعونها بآذانهم ولا تتوغل ولا تدخل إلى القلوب، وهؤلاء هم المنافقون الذين يقول الله تعالى فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ[محمد:16].

    القسم الثالث: قوم ينتفعون بالذكرى فيسمعونها بآذانهم فتصل منها إلى قلوبهم، وسميت الأذن أذناً؛ لأنها بمثابة المحقن الذي ينقل ما صب فيه إلى غيره، وهذا معنى "الأذن" في اللغة، ومنه قول الله تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ[التوبة:61]، "فأذن" معناه: محقن ينقل إلى غيره، وهذه الأذن تنقل إلى القلب؛ فالقلب هو المستفيد، وهو الذي إذا صلح صلح الجسد كله؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. هؤلاء المؤمنون الذين ينتفعون بالذكرى الذين يقول الله تعالى فيهم: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ[الذاريات:55]، ويقول فيهم: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا[الفرقان:73]، نسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين بالذكرى.

    الجلوس للذكرى وتعاهد الإيمان بها

    إن تجديد الإيمان وتعاهده واجب؛ لأن الإيمان يخلق ويبلى في القلوب؛ كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو إسوتنا وقدوتنا- كان يطلب الذكرى من بعض أصحابه؛ فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه ذات يوم فسأله أن يقرأ عليه القرآن، فقال: يا رسول الله! كيف أقرؤه عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. يقول ابن مسعود : فقرأت سورة النساء حتى وصلت إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا[النساء:41-42]، فقال: حسبك، فالتفت فإذا عيناه تهملان )، وكذلك ثبت عن أصحابه صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يجلسون للذكرى ويستمعون إلى من يقرأ ويذكرهم؛ فقد ثبت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يدعو أصحابه ويقول: (تعالوا بنا نؤمن ساعة).

    فضل الجالسين في مجالس الخير

    إن أمثال هذه الجلسات التي يزيد الله بها الإيمان ويحيي بها النفوس في القلوب هي أبغض جلسة إلى الشيطان؛ ولذلك كلما كان المرء من الجماعة أقرب كان من الشيطان أبعد، وكان إلى الله أقرب؛ فهذه الجلسات التي تزيد الإيمان هي التي أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن حال أهلها فيما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه )، وهم الذين وصف الرسول صلى الله عليه وسلم حالهم في الحديث الذي أخرجه أحمد في المسند و الحاكم في المستدرك وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لله ملائكة سياحين في الأرض، طلبتهم حلق الذكر، فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم وتنادوا: أن هلموا إلى طلبتكم، فإذا ارتفعوا إلى ربهم سألهم - وهو أعلم - فيقول: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يحمدونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا لها أحب، وعليها أشد حرصاً، فيقول: وبماذا يستعيذون مني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأواها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم فلان وليس منهم، إنما جاء لحاجته؛ فيقول: هم الرهط.. )، أو: ( هم القوم لا يشقى بهم جليس )، فيغفر لجلسائهم بمجرد وجودهم معهم؛ تكرمة لهم وتقديراً لحالهم ولنياتهم ولاجتماعهم.

    إن أمثال هذه الاجتماعات تحفها الملائكة بأجنحتها، وتكتب المسارعين إليها والسابقين إليها، وبها نصرة دين الله تعالى وإعلاء كلمته، وبها إظهار شعائر دينه وشرائعه.

    وبها تتم الزلفى إلى الله تعالى والتقرب إليه بتذكير بعض الناس لبعض، والانتفاع بحال بعضهم بمجرد رؤيته ولو لم يسمع كلامه، فإن كثيراً من الناس كهيئة بعض المشايخ مجرد هيئتهم دعوة إلى الله تعالى ولو لم يتكلموا؛ لأن سمتهم وهديهم ودلهم والتزامهم بالصف الأول في المسجد وإظهارهم لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوههم وأمورهم كل ذلك دعوة إلى الله تعالى ولو لم يتكلموا به.

    وكذلك فإن هذه الاجتماعات تغيظ الشيطان وتغيظ الكفار أعداء الله من جهة توحيدها لقلوب المسلمين وقيامهم كالبنيان المرصوف في الصف الواحد بين يدي بارئهم سبحانه وتعالى، قد زالت الضغائن منهم وتألفت القلوب، ولم تعد الأجسام يقشعر بعضها من بعض؛ فقد حصل التآلف وتحققت الأخوة؛ فيقوم في الصف الواحد الكبير والصغير، والصحيح والمريض، والغني والفقير، كلهم يرغبون رغبة واحدة ويرهبون رهبة واحدة؛ فبذلك تشترك آمالهم وآلامهم وتتألف قلوبهم.

    1.   

    فضل الدعوة والدعاة إلى الله

    إن الموضوع الذي سأتحدث فيه هو بعض الشبهات التي يلقيها الشيطان وجنده على حزب الله تعالى الدعاة إلى الله عز وجل، وهذه الشبهات منها ما يتعلق بذات الدعوة.

    الدعوة وصف كمال

    من المعلوم أن الدعوة وصف الباري بها نفسه سبحانه وتعالى؛ فقال عز وجل: وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس:25]، والله تعالى لا يتصف إلا بأوصاف الكمال، وبهذا يعلم أن الدعوة وصف كمال.

    الدعوة وظيفة الأنبياء والمرسلين

    ثانياً: أن الله عز وجل جعلها وظيفة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقال: وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا[الأحزاب:46]، وأمره بها في قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[النحل:125]، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن سبيلهم الدعوة؛ فقال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]، فكل من زعم أنه من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن من الدعاة فإن الله كذبه في القرآن؛ فقال: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي[يوسف:108]؛ فكل من اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه يدعو إلى الله تعالى، سواءً كان ذلك بقوله أو بفعله أو بخلقه، كل ذلك دعوة إلى الله؛ فالدعوة إلى الله تعالى ليست محصورة في وسيلة محددة، فالوسائل اجتهادية.

    وإن هذا الشرف العظيم الذي بدايته أن الله وصف نفسه بالدعوة ووصف بها رسوله صلى الله عليه وسلم وكلفه بها، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بها لشرف عظيم يستحق أن يذكر وأن ترفع به الوجوه؛ لذلك فإن خيرة خلق الله في كل عصر هم الذين يوظفهم الله تعالى في الدعوة إليه، ولا يجدون هذا من تلقاء أنفسهم ولا يكتسبونه اكتساباً ولا يرثونه عن آبائهم، وإنما هي مسطرة من رب العزة، يسطر فيها خير كل عصر الذين يوظفهم بوظيفة الأنبياء؛ فينزل أسماءهم في لائحة: فلان ابن فلان استعملته في الدعوة إلى نصرة ديني، وهكذا، ولا معقب لحكم الله، يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهمْ الْخِيَرَةُ[القصص:68]؛ لذلك وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدالة في قوله فيما أخرج أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد و الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث من أحد عشر طريقاً، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )، هؤلاء هم الذين يصلحون للشهادة، التي هي وصف هذه الأمة؛ فهذه الأمة أخبر الله عن عدالتها، وبأنه جعلها عدولاً على غيرها، فقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة:143]، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قول الله تعالى: (وسطاً) بقوله: (خياراً عدولاً) فالمقصود بالوسطية أنهم خيار عدول على غيرهم، وهذا ليس وصفاً عاماً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فمنها الخيار العدول، ومنها من هو دون ذلك، وحتى أولئك الخيار العدول الذين ارتضاهم الله تعالى بأن يكونوا من الموقعين عن رب العالمين ومن المتحملين لوحيه الكريم متفاوتو الدرجات؛ واقرءوا -إن شئتم- في سورة فاطر قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا[فاطر:32-33]، قالت عائشة رضي الله عنها: (استوت أكتافهم ورب الكعبة حين حكم لهم بدخول الجنة)، والمقصود باستواء الأكتاف في قول عائشة رضي الله عنها هنا: أنهم جميعاً زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة، فنالوا الفوز، وليس معناه: تساويهم في الدرجات؛ فإن ( أهل الجنة يتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء )؛ من تباعد منازلهم، واقرأوا - إن شئتم - في تباعد منازل أهل الجنة سورتين متواليتين في المصحف: سورة الرحمن وسورة الواقعة؛ فهاتان السورتان بينتا بجلاء واضح تفاوت درجات أهل الجنة وتباعد منازلهم؛ لهذا؛ فإن هؤلاء الذين منهم السابقون بالخيرات الذين أخلصوا أعمالهم لله تعالى واستطاعوا أن يعملوا كل نعمهم في شكره، ومنهم المقتصدون الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ومنهم الذين أساءوا في أعمالهم، ولكن قلوبهم كانت مقبلة على الله، وكانوا يخافون من إساءتهم ويخشون موعدهم مع ربهم عز وجل، كل هؤلاء من أهل الجنة رغم تفاوت درجاتهم، ومع ذلك أورثهم الله الكتاب: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا[فاطر:32]، وجعلهم جميعاً صفوة اصطفاهم من خلقه.

    1.   

    سنة الابتلاء في سبيل الدعوة إلى الله

    هؤلاء الصفوة الذين اصطفاهم الله من خلقه من سنة الله الكونية أن لا ينجوا من كلام الناس وأن تتعرض لهم الألسنة، وذلك مما يرفع درجاتهم ويزيد قربهم إلى الله؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل الأمثل )، الأنبياء في الدرجة الأولى فيما يتعلق بالإيذاء والصبر في سبيل الله، ثم يليهم الأمثل الأمثل، يتفاوتون في ذلك.

    إن كثيراً من الناس يغفل عن هذه، فإذا سأل الله العافية نسي عافية الآخرة وذكر عافية الدنيا، إذا سأل الله العافية غاب ذهنه عن عافية الآخرة عندما يدخل أهل الجنة الجنة فيسأل أدناهم منزلة: هل رأيت شراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك لم أر سوءاً قط؛ لأنه لا شر بشر بعده الجنة، وعندما يسأل أقل أهل النار درجة في العذاب: هل رأيت خيراً قط؟ فيقول: وعزتك وجلالك ما رأيت خيراً قط؛ لأنه لا خير بخير بعده النار. إن تلك هي العافية الخالدة، وإن عافية الدنيا إنما هي بعافية الدين، إذا سلم الدين فلا مبالاة بما دونه، ولا مبالاة بما يلقاه الجسد في سبيل الدين.

    وانظروا إلى ما لقيه الأنبياء؛ فقد قص الله علينا في كتابه قصصَ كثيرٍ منهم، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ[آل عمران:146-148].

    حصول الابتلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم

    كذلك واقرءوا في سيرة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام ماذا لقي من الأذى في بدنه وفي عرضه؛ فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الله عز وجل قالوا: ( إن كنت نبياً حقاً فإننا نجلك عن أن نجيبك، وإن كنت كذاباً على الله تعالى فإننا نجل أنفسنا عن أن نجيبك )، وأغروا به صبيانهم ومجانينهم؛ فرموه بالحجارة حتى أدموا قدميه، بأبي هو وأمي! صلى الله عليه وسلم، وخرج مهموماً محزوناً من عندهم؛ فخفف الله عنه وأنزل عليه ما يعلي منزلته ويقر عينه: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى[الضحى:1-5].

    وكذلك فقد أوذي صلى الله عليه وسلم بأنواع أخرى من الإيذاء في سبيل دعوته في مكة؛ فقد جاء عقبة بن أبي معيط يحمل سلا ناقة -ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لربه عند الركن اليماني- فوضعه بين كتفيه، وأوذي بأنواع عظيمة من الإيذاء؛ فكانت أم جميل بنت حرب حمالة الحطب تأتي في آخر الليل وتجمع الحطب والشوك، وتضعه على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعثر فيه في الليالي المظلمة، وتحفر الحفر لتوقعه إذا خرج من بيته، وكان المنافقون ومعهم المشركون من اليهود والعرب يكيدون له ويهجونه ويكذبون بأنواع الكذب عليه: فزعموا أنه كذاب وأنه ساحر، وأنه شاعر وأنه مجنون، وكل ذلك يزيده قرباً عند الله عز وجل وعلو درجة في الدنيا والآخرة، ويزيد أعداءه هواناً ومذلة في الدنيا والآخرة، وهو في ذلك حلقة واحدة من سلسلة عظيمة، هي سلسلة الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى الذين تلقوا أنواع الإيذاء من قبل. ولذلك كان يضرب لنفسه مثلاً بمن سبق، فقال: ( رحم الله موسى! فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )، وعندما أوذي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة جاءه خباب بن الأرت وهو متوسد برده في ظل الكعبة فقال: ( يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ ألا ترى ما نحن فيه؟! فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان متكئاً- فقال: إنه كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرقه، فينشر به ما دون عظمه ولحمه، لا يصده ذلك عن دينه، ووالذي نفس محمد بيده ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولكنكم قوم تستعجلون ).

    وهذا ما حصل؛ فقد رأينا وشاهدنا المآذن يدوي فيها الأذان خمس مرات في اليوم والليلة في جميع أصقاع الأرض، لا توجد مدينة من العالم إلا يرفع فيها النداء بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    كذلك أوذي في عرضه؛ فادعي على زوجته في الدنيا والآخرة الصديقة بنت الصديق التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وجعلها من أمناء الله على وحيه وشرفها بالمكان الشريف في الدنيا والآخرة عائشة أم المؤمنين ادعي عليها ما برأها الله تعالى منه، وأهان الذين ادعوه بأنواع الإهانة، وضمن لها خيري الدنيا والآخرة في ذلك؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ[النور:11]، إلى أن شرف قدر عائشة رضي الله عنها وأمهات المؤمنين بقوله: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[النور:26] بعد أن قال: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[النور:26]، مغفرة في الآخرة، ورزق كريم في الدنيا.

    هذا الإيذاء منه ما هو قولي، وهذا كاد به الأعداء حتى لرب العزة؛ فزعموا له صاحبة وولداً، وهو الذي خلقهم وسواهم ورزقهم؛ ولذلك زعموا أنه فقير، وقال اليهود: يداه مغلولتان، وزعموا أن عزيراً ابنه، وزعم النصارى أن المسيح ابنه، وكل هذه الشتائم التي يوجهونها إلى ربهم سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، زادتهم بعداً عن الله تعالى وهواناً ومذلة في الدنيا والآخرة.

    أذية قوم موسى لموسى

    وكذلك حين آذوا موسى بأنواع الإيذاء ووجهوا إليه أنواع التهم وزعموا أنه متصف بأوصاف النقص في بدنه وفي خلقه؛ فزعموا أنه آدر فبرأه الله مما يقولون حين كان يغتسل ووضع ثوبه على حجر وذهب الحجر يسير به، يجري حتى دخل مجلس بني إسرائيل، و موسى يتبع الحجر ويقول: (ثوبي حجر!) فلما وصل إليهم علموا أنهم الكاذبون وأعلى الله منزلة موسى في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا[الأحزاب:69]. إذاً جائزة هذه التهم التي يكيدها أعداء الله تعالى للدعاة إلى الله تعالى وأوليائه جائزتها أن يبرأهم الله تعالى منها في الدنيا، وأن يجعلهم وجهاء عنده وعند خلقه؛ لذلك يكتب الله لهم المنزلة الخالدة الباقية.

    عداء قوم إبراهيم لإبراهيم

    وانظروا إلى رجل من السابقين من الفينيقيين كان يسكن في قرية نائية في المشرق هي قرية كوثى، وهو إبراهيم خليل الله شاب من أسرة عريقة كريمة هداه الله تعالى لدينه، فالتزم دين الله عز وجل فعاداه أقرب الأقربين: عاداه أبوه ومن دونه، وكادوا له بأنواع الكيد وحاكموه على رءوس الملأ، وأتوا به فقالوا: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَهمْ يَشْهَدُونَ[الأنبياء:60-61]، ورموه في النار فقال: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[آل عمران:173]؛ فأنجاه الله من تلك النار، وكانت جائزته أن الله جعل له لسان صدق في الآخرين، فأمر محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته أن يتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً، وما كان من المشركين، كل هذا الإيذاء كان رفعاً لمنزلته وإعلاءً لشأنه.

    الفوائد التي يجتنيها الدعاة من إلقاء الشبهات على الدعوة وأهلها

    أما اللاحقون السائرون على هذا السبيل فإن لهم فوائد، يجنونها من هذه الشبهات:

    الفائدة الأولى: الجزم بصحة المنهج

    أنهم يجزمون ويتأكدون من أن المنهج الذي يسلكونه صحيح؛ لأن المنهج الصحيح هو الذي تناط به الشبهات ويتهم أصحابه، أما المنهج الباطل الفاسد فإنه لا يمكن أن يتهمه أحد ولا أن يختلف فيه اثنان؛ ولذلك لا يبتلى الناس عليه؛ لأن بلاء الناس بحسب الأمثل فالأمثل؛ لذلك تجدونهم يعادون في مشارق الأرض ومغاربها وينبزون بأنواع الشتائم والألقاب، ويكاد لهم بأنواع القتل والتشريد والسجون، وهم في ذلك سالكون سبيل من سلك، سالكون طريق الأنبياء، راضون بذلك؛ لأنه دليل على صدق توجههم وعلى صحة السبيل الذي سلكوه؛ لأن كل سبيل ليس محفوفاً بالمكاره فليس طريق الجنة، ( حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات )، فطريق الجنة ليس محفوفاً بالورود، ولا مفروشاً بالسجاد، طريق الجنة طريق الأشواك والمحن والبلايا.

    الفائدة الثانية: الفرار إلى الضراعة إلى الله

    ثانية هذه الفوائد التي يجنونها من هذه المكائد: أنهم يقبلون في وقتها على الله تعالى؛ فيزداد بذلك إيمانهم وضراعتهم إلى الله تعالى وتوحيدهم له، ويجدون بذلك لذة عظيمة، وصدقوني فإن أهل الإيمان لا يجدون لذة أعظم من لذة الفقر إلى الله، إذا أصبح أحدهم لا حول له ولا قوة، ولا ناصر له فوق الأرض، ولا يملك ديناراً ولا درهماً فإنه سيهرع إلى الله فينال سعادة عجيبة؛ لأنه الآن وجد سبيلاً إلى اللجأ إلى الله تعالى والإخلاص إليه والإنابة إليه، وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا[النساء:45].

    الفائدة الثالثة: مضاعفة الأجر

    كذلك من هذه الفوائد التي يجنونها من هذا السبيل: أن الله تعالى يضاعف لهم الأجر، ويثبت أقدامهم فيكونون وقوداً لهذه الدعوة، فالدعوة بمثابة قطار يمشي، وهذا القطار لا يمشي إلا بوقود، ووقوده إنما هو جماجم الرجال؛ فالرجال الذين تحصد جماجمهم في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه هم وقود الدعوة، وهم الذي ينصر الله تعالى بهم دينه ويستطيعون أن يفتحوا أزرار قمصهم لاستقبال الرصاص، وأن يقولوا: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه:84].

    الفائدة الرابعة: تخليص الصف من أهل الغثاء

    كذلك فإن من فوائد هذه الشبهات التي تناط بهم: أنها تخذل عنهم من لا نفع فيه؛ فإن سبيل الدعوة مواجهة، والمواجهة تريد أهل القوة، وأهل النشاط وأهل الإخلاص لله تعالى، والذين تثني هماتهم هذه الشبهات التي تناط، وتثبطهم عن أعمارهم وتقعدهم عن نصرة دين الله، الأصلح للدعاة أن يتخلصوا منهم؛ ولذلك فإن قصة واقعية ليست من نسج الخيال ولا من الكذب حصلت للمهلب بن أبي صفرة رحمه الله تعالى، وهو من كبار التابعين: خرج في أربعين ألفاً من أهل البصرة يقاتلون الخوارج فلقوهم بنهر (تلا وسيل الرا) فوقعت المعركة ففر جمع كبير من جيش المهلب ولم يبق معه إلا أربعة آلاف، فحال الظلام بينه وبين عدوه، فلما أصبح قام خطيباً فيهم فقال: إنه لم ينهزم عنكم إلا أهل الذلة والمسكنة والهوان، الذين لا يستطيعون الثبات ولا يبيعون أنفسهم لله تعالى، وإنما يطلبون المال حيث وجدوه اتبعوه، ولا يصبرون على وقع الأسنة، وأنهم ملاقون قطري بن الفجاءة إذا طلعت الشمس؛ فاصدقوا الله تعالى في نياتكم وأخلصوا له فإنه ناصركم، فلقوا عدوهم وفيهم الكلوم يسيل دمها على نحورهم؛ فانهزم عدوهم أمامهم في لحظة عين؛ وذلك أن أهل الثبات والنجدة هم الذين بقوا ولم ينهزموا، وانهزم عنهم أهل التخذيل والضعف.

    فكذلك هذه الشبهات من فوائدها: أنها تخرج من صفوف الدعاة من لا خير فيه، من وصفه مثل وصف المنافقين الذين قال الله فيهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[التوبة:47].

    خروج المنح من رحم المحن

    فلذلك كانت هذه الشبهات المناطة بالدعاة من لطف الله تعالى بهم ونصره الخفي لهم، كثير من الأمور تكون في ظاهرها محنة ولكنها في الباطن منحة، هبة من الله عز وجل وتوفيق منه، وانظروا إلى قصة يوسف الذي رمي وهو طفل صغير في جب -قعر بير- فأخرج منه على أنه عبد وبيع بثمن بخس، وامتحن في دينه، وأودع السجن فترة طويلة؛ ليكون بهذا عزيز مصر، وليتولى عدل الله عز وجل وإقامته في تلك الأرض، وليمكن الله له في أرضه ويرزقه العلم النافع والرسالة والنبوة، إذاً هذا اللطف الخفي.

    1.   

    صنوف الشبهات التي توجه إلى الدعاة في هذا العصر

    الشبهة الأولى: الطعن في النيات

    إن الدعاة في عصرنا يواجهون حظهم ونصيبهم من هذه الشبهات؛ فمنها: ما يتعلق بالنيات وهو أضعفها وأبخسها، فكثير من الناس يتهم نية كل من رآه يدعو إلى الله تعالى، أو يصبر على الأذى في سبيله أو يقوم على حدود الله عز وجل ينافح عن دينه، يتهمه في نيته، والله عز وجل وحده هو المطلع على السرائر وعلى النيات؛ ولذلك ثبت في الصحيحين أن أسامة بن زيد رضي الله عنه حين خرج في بعث بعثه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً من المشركين أنكى في المسلمين وكان لا يجوز فارس منهم إلا قتله، فتبعه أسامة فلما علاه بالسيف قتله، فلما جاء أسامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما حصل عاتبه عتاباً شديداً، وقال له: ( أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! ما تفعل بـلا إله إلا الله إذا جاءتك يوم القيامة؟ فجعل أسامة يقول: إني أستغفر الله وأتوب إليه، وما قال: لا إله إلا الله إلا استعاذة من السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا شققت عن صدره؟! فيقول أسامة : فلوددت أني لم أسلم قبل يومئذ ) فلما كانت الفتنة والمعركة يوم الجمل رجع أسامة فلم يقاتل، مع أنه كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأرسل إليه سعد بن أبي وقاص فسأله عن هذه الواقعة فقصها عليه، وقال: (والذي نفس أسامة بيده لا أرفع سيفي في وجه من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال) فقال سعد : (وأنا والذي نفسي بيده لا أقاتل حتى أرى ذا البطين مقاتلاً). و ذو البطين يقصد به أسامة بن زيد ، وذلك اسم لقبه به رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحبه حباً شديداً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مازحه به ولقبه به.

    إن اتهام النيات أمر خطير؛ لأن معناه: أن مدعيه يدعي الاطلاع على الغيب الذي هو الخبء الذي ستره الله تعالى وتولى حفظه، والله تعالى يقول: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ[الجن:26-27]، وبين أنه إنما يرسل أو يطلع بعض الرسل على بعض الغيب لإقامة الحجة على الناس؛ فقال: إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ[الجن:27-28]، وفي القراءة الأخرى: (ليُعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً)، فإنما يأتيهم أمر الغيب لتأييدهم بالمعجزة حتى يقيموا الحجة لله على خلقه، أما من دونهم فإنهم لا يؤيدون بالمعجزات، وبذلك لا يطلعون على الغيب ولا يسألون عن السرائر؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن أقواماً كانوا يؤخذون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي، وإن الوحي قد انقطع بالنبوة، وإنما نحن قوم نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر؛ فمن أبدى لنا صفحة عنقه أخذناه).

    الشبهة الثانية: موالاة أعداء الله

    كذلك هذه التهم منها بعض التهم التي يعرف جميع الناس أنها داحضة، وأنها من وحي إبليس إلى أوليائه من الإنس؛ فإن كثيراً منهم قد يتهمونهم بموالاة أعدائه، يتهمون الذين يدعون إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أمريكا هي التي أرسلتهم، أمريكا متى عهدناها تدعو إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! متى كان القرآن في مصلحة الكافرين؟! متى كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلحة الكافرين؟! هذا لا يعقله ذو عقل سليم، ولا يمكن أن يصدقه.

    الشبهة الثالثة: العمل من أجل المصالح الشخصية

    وكذلك يتهمون كثيراً منهم بأن لهم مصالح شخصية يرغبون في التمكين أو في الحكم أو في السيطرة، سبحان الله! الذي يرغب في المصالح الدنيوية لا يمكن أن يسلك طريق الأنبياء؛ طريق الأنبياء لم يضمن لأصحابها هذا، النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى في خطابه له: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ[آل عمران:128]، هذا السبيل أهله قد جربوه من لدن نوح إلى وقتنا وما لقوا فيه إلا أنواع الإيذاء؛ ولذلك لا يمكن أن تطلب به الدنيا، الذي يرغب في الدنيا يذهب إلى الأنظمة التي تملك الأموال وتحت أيديها الجيوش وتملك السجون، والذي يرغب في الشهرة يذهب إلى وسائل الاشتهار بين الناس، وأكثرها رواجاً كما تعلمون هو الدجل ومخالفة السنة، هذه هي التي يشتهر بها الرجال ويذكرون بها في المجالس، أما سبيل الله وطريق الأنبياء فلم يكن أبداً مدعاة للظهور ولا لسلامة الأبدان ولا لعافية الدنيا.

    تضحيات الصحابة في سبيل الدعوة إلى الله ونصرة دينه

    أصحاب هذا السبيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين اتبعوه وتابعوه على هذا الدين ونصروه، عدوهم، عدو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب الذي يقول: يا رسول الله! والله لأنا أولى من أبي طالب بقوله:

    ونسلمه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل

    عندما كان يجود بنفسه في سبيل الله يوم بدر، وهو شيخ كبير؛ إذ كان أسن الجيش، ومنهم عمير بن الحمام الذي كان يحمل تمرات في يده يأكلها بعد أن بات طاوياً في ليلة مطيرة؛ فلما أصبح تذكر الجنة فاشتاق إلى ما عند الله، فقال: (إني إن انتظرت أن آكل هذه التمرات دون الجنة لحريص على الدنيا). فرمى التمرات من يده وقاتل حتى قتل شهيداً في سبيل الله، وجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عنه فقالت: ( أخبرني عن حال ابني، أهو في الجنة فأصبره أم في غير ذلك فسترى ما أصنع؟ فقال: أوجنة هي! إنما هي جنان، وابنك في الفردوس الأعلى منها ).

    وكذلك حمزة بن عبد المطلب من هؤلاء الرجال عندما كان في صيد فجاء إلى مكة والرسول صلى الله عليه وسلم في وقت كل دعوته فيه سرية، لا يستطيع أن يدعو إلا من يثق به، ويدعوه على انفراد، وهو في أشد الحرص على دعوته في ذلك الوقت وفي أشد الحاجة إلى النصرة والتمكين؛ فجاء حمزة فأخبر أن أبا جهل قد نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه في ملأ قريش وأشهد على نفسه أنه قد تابعه، وأنه أسلم له وصدقه على دينه، ويخرج مهاجراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجاهداً في سبيل الله، ويترك أهل بيته: زوجته وبنته في مكة، حتى يقتل يوم أحد شهيداً، ويبقر بطنه وتخرج كبده ويقطع أنفه وأذناه، ويلقى الله عز وجل وهو عنه راض.

    وكذلك ابن أخته عبد الله المجدع أول من لقب أمير المؤمنين: عبد الله بن جحش الذي قطع أنفه وأذناه فلقب: (المجدع في الله).

    وكذلك مصعب بن عمير الذي كان أحسن فتىً في قريش حالاً، وكانت أمه غنية فكانت تغدق عليه من المال حتى كان لا يحتاج إلى أن يغسل ثوباً إذا اتسخ، كلما اتسخ له ثوب لبس ثوباً جديداً، فلما سمع دعوة الحق وأيقن صدق محمد صلى الله عليه وسلم آمن به واتبعه، فحرمت أمه عليه كل خير كان فيه وحصرته بين أربع جدر وحبسته ومنعته طعامه ولباسه، وآذته في الله عز وجل وكلفت به رجلين يضربانه ويقيدانه بالحديد، فمكث بذلك زمناً طويلاً لا يصل إلى إخوانه عنه خبر، إلا أنهم يرونه من خلال الجدران وهو يركع لله تعالى أو يسجد، أو يذكر الله عز وجل داخل سجنه ومعتقله؛ فيبشرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بثباته وقوته في دين الله، فيختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم سفيراً إلى المدينة، ويخرجه مع ذلك النفر الذين جاءوا في بيعة العقبة التي يقول فيها كعب بن مالك كما أخرج البخاري في الصحيح: (شهدتها وإن كانت غزوة بدر أذكر في الناس منها) أي: أن غزوة بدر أذكر في الناس من بيعة العقبة، ولكن كعباً كان شهوده لبيعة العقبة أحب إليه مما لو شهد غزوة بدر، فأخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأنصار رجلين: أحدهما: مصعب بن عمير هذا خرج من مكة وهو لا يملك إلا سيفه وبرداً يلبسه، ومعه رجل آخر قد عاتب الله فيه رسوله صلى الله عليه وسلم وهو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، هذا الرجل كان ضريراً أعمى فأنزل الله فيه: عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى[عبس:1-4]، جاء ثاني المهاجرين إلى المدينة وهو الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في بضع عشرة غزوة، وهو الذي تولى الأذان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع بلال ، ولما كان يوم القادسية كان في آخر عمره فأحب أن يخرج مجاهداً في سبيل الله حتى يبيع نفسه لله، فقال لـسعد بن أبي وقاص : إنني رجل ضرير، لا يمكن أن أفر فأعطوني اللواء وأقيموني بين الصف، فأعطوه اللواء وهو رجل أعمى، فما زال يتقدم به في صفوف العدو ويضرب بسيفه وهو لا يرى ما يضرب، والمسلمون يقفونه حتى قتل شهيداً في سبيل الله.

    مصعب بن عمير رضي الله عنه مكث ثلاث سنوات في المدينة وهو لا يملك غير برده ذلك وسيفه، ولما قتل يوم أحد شهيداً يقول الذين حضروا جنازته من أصحابه: عبد الرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقاص وغيرهما، كما ثبت ذلك عن هذين في صحيح البخاري يقولان: ( فكنا إذا سترنا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا سترنا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستر بها رأسه وأن نغطي رجليه بشيء من الإذخر، فمات ولم يتعجل شيئاً من أجره ) فلقي الله وهو عنه راض.

    تهافت شبهة رغبة الدعاة في الدنيا

    في عصرنا هذا كانت هذه التهم التي تناط بكل من يقفو هذا الأثر تهماً متهافتة تافهة، وبالأخص ما يتعلق منها بالرغبة في الدنيا؛ فهو نظير ما قاله المنافقون عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غزوة العسرة: غزوة تبوك، قالوا: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء) فأنزل الله عز وجل فيهم سورة التوبة المقشقشة التي فضحت المنافقين بكل أنواع الفضائح، وبينت كل ما يكيدون للإسلام.

    هؤلاء الذين ينظرون إلى خيرة المجتمع وإلى الذين يقومون لله بالقسط، ويسلكون سبل الأنبياء فيتهمونهم بهذه التهم مرضى القلوب، صرفهم الله تعالى عند الدعوة بسبب مرض جعله في قلوبهم؛ حتى لا يرضوا عن منهج هؤلاء الذين ما جربوا عليهم كذباً ولا جربوا عليهم حباً للدنيا، ولا جربوا عليهم اتباعاً للحظوظ، ولا جربوهم إلا متوضئين متطهرين في بيوت الله يبتغون قربى وزلفى إلى الله سبحانه وتعالى.

    إن هؤلاء أهل للثقة فكيف نجد أقواماً ينبزونهم بأنواع الشتائم ولا يثقون فيهم، وهم لا يعلمون فيهم إلا خيراً؟! لو سئلوا أو سألوا أنفسهم وراجعوها: ماذا شاهدتم؟ وماذا رأيتم؟ وماذا سمعتم؟ لوجدنا كل ذلك شبهاً ملفقة، لا يقوم عليها برهان، والأولى بالمسلم إذا قامت لديه شبهة في إخوانه أن يقول ما قالت زوجة عبد الله بن رواحة : (صدقت الله وكذبت عيني)، هذه المرأة المؤمنة تعلم أن الله عز وجل وأن الوحي الذي جاء من عنده هو أصدق الحديث؛ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا[النساء:122]؛ فلذلك قالت: (صدقت الله وكذبت عيني) وهكذا الإيمان، فالإيمان أصله التسليم والرضا، وهذه ركيزته.

    الشبهة الرابعة: الإتيان بمناهج جديدة تخالف مناهج السابقين

    من هذه الشبه: أن كثيراً منهم يزعم أن الذين يدعون إلى الله تعالى في عصرنا هذا يأتون ببعض المناهج التي ما عرفت لدى من قبلهم وما عرفها السابقون، وجواب هذا: أن هذا واجبهم، وأنه يجب عليهم شرعاً أن يبادروا إلى كل صفقة فيها ربح لدين الله عز وجل وأن يتعجلوها قبل أن يموتوا، وأنهم إن فرطوا في ذلك أو أخروه حوسبوا بين يدي الله تعالى على ذلك.

    ولنعلم أن هذا الدين عندما خدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأقاموا به دولة الإسلام كان بالإمكان أن تستمر الدولة على هيئتها وأن لا يختل شيء وأن لا يسقط، وأن يبقى النظام الإسلامي سائداً كما كان، ولكن الله يمتحن أهل العصور بما امتحن به السابقين، هل سيصبرون على ما صبر عليه الأولون، وهل سينصرون دين الله عز وجل ويمتثلون قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا[التوبة:38-40]، هذه المحنة التي شهدها هذا العصر لم يشهدها كثير من العصور السابقة، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وبين لنا هذا التداول وهذا التنوع في هذه الأمة؛ كما ثبت عنه في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهج النبوة، وسكت ).

    سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وصل إلى هذا، والخلافة الأولى قد بين تاريخها وأنها ثلاثون؛ كما ثبت في حديث ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الخلافة بعدي ثلاثون )، وقد شاهدنا ذلك ثلاثين سنة كان فيها الخلفاء الأربعة الراشدون وأتمها الحسن بن علي رضي الله عنهما بستة أشهر؛ فتمت ثلاثون سنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلافة التي هي على منهج النبوة.

    ولم يبين لنا سنوات الخلافة الأخيرة ولا عدد المتناوبين عليها، ولكننا نعلم علم اليقين أن الله لا يخلف الميعاد، وقد وعد بإقامتها واستمرارها في قوله: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55]، وكما قال سبحانه وتعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:39-41].

    صور من عداء بعض من ولدوا في ديار الإسلام للإسلام

    إن من هذه الشبهات التي تناط بهؤلاء الذين اختارهم الله لهذه المهمة: أنهم قد أتوا بأشياء جديدة والواقع أن عصرنا هذا مليء بالمستجدات؛ فالهجوم على الإسلام فيه قد تطورت وسائله واختلف عن السابق، والذين يهاجمونه قد اختلفوا عن السابقين، فقد كان يهاجمه الكفرة الذين لا يؤمنون ولا يشهدون أن لا إله إلا الله ولا يشهدون أن محمداً رسول الله، وأما اليوم فإن عداء الذين ولدوا في دار الإسلام وأولاد المسلمين للإسلام أكبر وأنكى من عداء أعدائه في خارج رقعته؛ فكثير من أولاد المسلمين الذين تربوا في دار الإسلام يكيدون للإسلام أكثر مما يكيد له اليهود والنصارى، يزعمون أن هذه الشريعة المنزلة من عند الله العليم الخبير، الذي خلق الخلق وأحصاهم عدداً أنها لا تصلح في عصرنا للتطبيق، يزعمون أنها كانت صالحة لزمن معين وانتهى ذلك الزمن، يزعمون أن هذه الحدود التي رتبها الله تعالى لعلاج بعض الأمراض التي خلقها في هذا المجتمع لم تعد صالحة ولا مواكبة لهذا العصر، ولا يمكن أن تداوي تلك الأمراض التي في المجتمع، ومع هذا يزعمون أنهم مسلمون، إن من قال هذا أكفر من اليهود والنصارى بتكذيبه لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولادعائه أنه أعلم بخلق الله من الله، والله تعالى يقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14]، هل يمكن أن يكون أحد أعلم بخلق الله من الله؟ الله اللطيف الخبير الذي خلقهم وسواهم ورزقهم، ويعلم آجالهم وأعمالهم، ويعلم ما توسوس به أنفسهم، هل يمكن أن يكون أحد أعلم بأحوالهم وصلاحهم منه؟!

    سبحان الله! هذا إذاً افتراء عظيم على الله سبحانه وتعالى وجراءة عليه.

    ثم إن من وسائلهم: ما جد من هذا التقاطع والتنافر بين المسلمين، وتوزيعهم إلى دويلات ذات حدود مصطنعة، وإلى أحزاب وتجمعات، وإلى تنظيمات علمانية لا تمت لدين الله تعالى بصلة، وإن هذه الوسائل لا يمكن أن تكافح إلا بما هو من جنسها، لا يمكن أن تكافح برفض الواقع والانعزال عنه، ولا أن يترك هذا السلاح في أيدي أعداء الله يقاتلون به شرع الله دون أن يتخذه أولياء الله تعالى للدفاع عن شرع الله، ليس من العدل أن يرضى بقيام تنظيمات علمانية مخالفة لشرع الله ولا ينكر عليها، وإذا قام من يريد الدعوة إلى الله تعالى والتمكين لدينه نبذه الناس ورموه عن قوس واحدة، ليس هذا من العدل ولا من الإنصاف.

    أحرام على بلابله الدوح مباح للطير من كل جنس

    ما لبائك تجر وبائي لا تجر؟! إذاً هذا مما اختل فيه ميزان العدل الواضح بين الناس.

    الشبهة الخامسة: بطلان المنهج لكثرة اختلاف أهله

    كذلك من هذه الشبهات: أن كثيراً من الناس يثير قضية الخلاف أو تفاوت الدرجات في الجماعات التي تدعو إلى الله تعالى؛ فيقول: قد شاهدنا تناحرهم فيما بينهم واختلافهم في بعض المناطق. ولا شك أن الخلاف مذموم وأنه مدعاة للتثبت، ولكنه ليس مدعاة للرفض ولا لرفض منهج الله الذي أرسل به رسله؛ فالمنهج صحيح حتى ولو أساء الناس تطبيقه، والخلل ليس من المنهج، الدعوة صحيحة ومنهجها صحيح، وإذا وقع خلل فهو من تلقائنا نحن ومن تلقاء القائمين عليها لا من تلقائها هي؛ ولذلك فكل خلل حصل لا يجوز أن ينسب إلى المنهج نفسه، وإنما يلتمس العذر لأصحابه، ويعلم أنه امتحان من الله تعالى لهم، وأنتم تعلمون أن العشرة المبشرين بالجنة وهم خيرة جماعة محمد صلى الله عليه وسلم وأفضل هذه الأمة بعده قد اختلفوا في الرأي فحصل بسبب ذلك حروب، ومع هذا يجب على كل المسلمين أن يلتمسوا لهم العذر، وأن يعلموا أنهم جميعاً مجتهدون؛ فمن اجتهد منهم فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر وليس عليه وزر في الخطأ، وهؤلاء هم أولى الناس بأن تلتمس لهم الأعذار، وأن يحملوا على أحسن المحامل.

    الشبهة السادسة: عدم مبالاة بعض الجماعات الإسلامية بالعلم

    كذلك من هذه الشبه أن يقال: إن كثيراً من الجماعات قد لا تبالي بالعلم، أو قد لا تتسلح بسلاح العلم، ويجاب عن هذا: بأن العلم وسيلة من وسائل الدعوة وليس هو كل شيء، ليس كل الوسائل محصورة في العلم ولا يمكن أن يكون المجتمع كله علماء، والذين وصلوا إلى درجة الإفتاء والاجتهاد في دين الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتعدوا ثمانية عشر من أصحابه، ومع ذلك غيروا هذه الدنيا بحذافيرها، وأقاموا هذه الدولة التي هي خير دولة قامت على الأرض؛ ولذلك فإن هذه الجماعة التي هي خيرة جماعة عرفها التاريخ جماعة محمد صلى الله عليه وسلم كان فيها كثير من التفاوت في المستويات: في مستويات الإيمان، وفي مستويات التربية، وفي مستويات الإخلاص؛ ولهذا قال الله تعالى فيهم في يوم أحد: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ[آل عمران:152]، وهم خيرة خلق الله، وقال فيهم: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ[آل عمران:122]، قال جابر بن عبد الله : (نزلت فينا بني سلمة، وما أحب أنها لم تنزل) لماذا؟ لأن الله يقول: وَاللهُ وَلِيُّهُمَا[آل عمران:122]، فولايتهما لله تعالى أثبتها الله؛ وبذلك انتفى ما وقعوا فيه من الحرج وما حصل منهم من الفرار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غفره الله تعالى وتولى ولايتهم بنفسه، فإذاً لا يمكن أن ينظر إلى أفرد الجماعات فتعمم أخطاء الأفراد على الجماعات، ولا أن توضع الجماعة كلها في شخص واحد على أنه الذي يمثل كل أعمالها، أو أنه الذي يمثل الدعوة، أو أنه الذي يمثل القرآن أو السنة، ليس في عصرنا معصوم، ليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم؛ ولذلك قال مالك رحمه الله تعالى: (ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر). وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كلكم خطاءون، وخير الخطائين التوابون)، الذين يخطئون فيستغفرون ويتوبون، ويدرون خطأهم خير من الذين لا يشعرون بخطئهم، يركبون رءوسهم فيتبعون ما هم فيه، ويستهويهم الشيطان ويستغويهم دون أن يراجعوا مسارهم ودون أن يقوموا عملهم.

    الشبهة السابعة: أن الدعاة فرقوا بين الناس

    كذلك من هذه الشبه التي تثار حول الدعاة إلى الله تعالى: أن كثيراً من الناس يزعم أنهم دعاة فتنة، وأنهم فرقوا بين الناس، والواقع أن هذه مزية. التفريق بين الناس على أي أساس؟ إذا كان على أساس الفرق بين الحق والباطل فهو محمود، والله عز وجل أنزل هذا القرآن فرقاناً، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فرق الله به بين الحق والباطل، و عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الفاروق، فهذا التفريق مثل التفريق الذي قال فيه قريش -عندما نابذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا الصحيفة- قالوا: (إنه سفه أحلامنا، وضلل آباءنا، وفرق جماعتنا). إذا كان التفريق من هذا النوع فهو محمود ومطلوب شرعاً ولا بد منه، والله تعالى يقول: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[الفتح:25]، إذاً هذه واحدة.

    الشبهة الثامنة: مخالفة بعض الدعاة لولاة الأمور في بعض الأمور

    كذلك بعض الناس يزعم أن الذين يدعون إلى الله تعالى في المجتمعات يخالفون بعض أولياء الأمور، ويجعلون هذه تهمة عريضة كبيرة، ويأخذون بعض النصوص التي وردت في الأئمة والخلفاء ويطبقونها على من دون هؤلاء، والواقع أن هذا كقياس الخمر على اللبن.

    إن النصوص الواردة واضحة الدلالة يعرفها أهل العلم ويعرفها سواهم، نص الإمامة في كتاب يقول: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[البقرة:124]، هذا شرط من الله عز وجل على إبراهيم أنه لا يدخل في عهده بالإمامة التي هي جائزة الامتحان كل ظالم، كل ظالم لا يمكن أن ينال الإمامة بشرط رب العزة في الكتاب المحكم الذي تقرءونه وتسمعونه، وهو محفوظ في صدوركم، مسطور في مصاحفكم، إذاً هذه واحدة.

    ثانياً: أن الإمامة شرعاً عرفها جميع العلماء بأنها: نيابة عن صاحب الشرع في إقامة الدين وسياسة الدنيا به، أي: بالشرع، ومن لم يتصف بهذه الصفة فليست له إمامة شرعية.

    ثالثاً: أن الإمامة شرعاً منصب عال في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشترط له شروط محل إجماع بين المسلمين، من هذه الشروط: الكفاية، أن يكون الشخص كافياً في حماية بيضة الإسلام والدفاع عنه، ومنها: أن يكون مجتهداً في دين الله تعالى إن وجد، وإلا فأمثل مقلد، ومنها: أن يكون عدلاً، ومنها: أن يكون عاقلاً سليم الحواس.. إلخ، ومن المعلوم أن الشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فهل يصح أن يصلي الشخص الذي أحدث ويقبل الله صلاته دون أن يتوضأ؟ لا. لماذا؟ لأن الطهارة شرط للصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث ما لم يتوضأ ).

    إذاً الشرط إذا فقد انعدم المشروط، وكل من لم يتصف بهذه الشروط الشرعية فلا يمكن أن يكون إماماً.

    طرق نيل الولاية العامة في الإسلام

    ثم إن الإمامة تنال بثلاثة أمور، وهذه التي يغلط فيها كثير من الناس:

    الطريقة الأولى: رضا الناس عموماً وبيعتهم، والمقصود بالناس: ذوو الأمر، أولو الأمر، الذين يصلحون لتحمل الأمانات، وهم الذين قال مالك فيهم: (هم من اجتمع فيهم: العلم والعدالة وجزالة الرأي). قال: (ولا أراها اليوم تجتمع في واحد، فإن لم تجتمع فورع عاقل؛ فبالعقل يسأل، وبالورع يعف). مالك هنا رأى أن العلم أضعف هذه الشروط؛ لأنه لا يزال في الأمة عالم يسأل، لكن العاقل، وكلمة العاقل معناها: الذي يدري واقعه والحياة التي يعيشها ومستلزماتها وما تحتاج إليه، ويسأل أهل العلم فيجيبونه على مقتضى تكييفه للواقع الذي هو أدرى به، ثم يكون مع ذلك ورع يحجزه، ورعه عن الوقوع في ما لا يرضي الله، هذا الآن هو الذي يمكن أن يمثل المسلمين في الاختيار.

    الطريقة الثانية: عهد من سبق له بالولاية، إذا وافق ذلك المسلمون وبايعوا عليه؛ كما حصل لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه.

    الطريقة الثالثة: أن يتغلب المتصف بالشروط على الأمر ويأخذه من يتصف بالشروط الشرعية؛ مثل: عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، أما من ليس متصفاً بالشروط؛ فإن غلبته لا تكتب له الإمامة، وكثير من الناس يخلط بين النصوص؛ فيقرأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: ( وإن تأمر عليكم عبد حبشي؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين )، فينظر إلى هذا على أنه على الإطلاق، وليس الأمر كذلك، بل المقصود الإمارة دون الإمامة، والإمامة الكبرى أعظم من الإمامة الصغرى، والإمامة الصغرى هي إمامة الصلاة، وهناك الآن من نرضاه لأن يؤمنا، وأن يقف أمامنا نصلي لربنا ومن لا نرضاه لذلك، فمن لا نرضاه لأن يؤمنا في هذا المحراب لا يمكن أن يرضى إماماً للمسلمين في ما بينهم وبين الله، في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً هذه واحدة.

    إن الذين ينفون هذه الدعوة ويحاولون صد أصحابها عنها لا يدعون أنهم أئمة، وإنما يدعيها لهم البله وغير العقلاء من الناس، إنما يدعون أنهم وصلوا إلى الحكم بانقلاب عسكري أو بتصويت في انتخابات لم يتحاكم فيها إلى حكم الله، وإنما تحوكم فيها إلى الطاغوت، أو أنهم ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، هذه الوسائل المعروفة، إما أنه ورثها عن آبائه وأجداده، أو أنه وصل إليها بدبابته، أو أنه وصل إليها بطريق الانتخابات، وهذه ليست هي الطرق الشرعية، ولا أحد يدعي هذا، لا أحد من الحاكمين في أي بلد من بلاد الإسلام، من شرقها إلى غربها يدعي أنه وصل بطريقة من الطرق الشرعية، وأنه إمام تتوفر فيه الشروط الشرعية، فما لا يدعونه لأنفسهم كيف يعطونه؟! ومن المعلوم أنه من القواعد الشرعية الإجماعية: أنه لا يعطى أحد فوق دعواه، وليس معنى هذا أن الناس همج وأنهم سائبون، وأنهم ينبغي أن يتخلصوا من كل الأنظمة ومن ولاة الأمور؛ لا، بل هذا من التهيئة حتى يعرفوا من الذي يستحق الأمر فيهم، وحتى يصلوا إليه بطريق شرعية شريفة، ليس فيها ظلم ولا اعتداء، ولا إهانة ولا تعريض للفتنة، ولا إراقة للدماء ولا إفساد للأموال، والذين يريدون ما عند الله لا يبالون في سبيل ذلك ولا يريدون الإفساد.

    فالذين يرغبون في مرضاة الله عز وجل لا يمكن أن يكونوا سبباً في الإفساد ولا في إثارة الشحناء ولا في إثارة البطش في أملاك الناس ولا في أرواحهم، هم يريدون مرضاة الله عز وجل، ولا يريدون شيئاً لأنفسهم فكيف يعتدون على غيرهم. إذاً هذه قضية واضحة في مجال هذه الشبهة.

    الشبهة التاسعة: الاتهام والنبز للدعاة بعدم الوسطية

    أصحاب الوسطية والاعتدال يطبقون منهج القرآن الذي جاء فيه قول الله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8]، ودائماً ينبزهم أهل التشدد بأنهم أهل التساهل، وينبزهم أهل التساهل بأنهم أهل التشدد؛ لأنهم أهل عدل ووسط بين الطرفين؛ لذلك في مجال الاعتقاد ينبزهم المتشددون بأنهم أصحاب مداهنة لأهل البدع، وأنهم أصحاب رضىً ببعض الشركيات، كما ينبزهم أيضاً أصحاب الخرافات بأنهم أهل صلف وتشدد في مجال الاعتقاد، وهم في مجال الفقه أيضاً ينبزهم أقوام بأنهم قد نبذوا التقليد، وأنهم قد تركوا ما كان عليه الأسلاف وخرجوا عنه، ولا يعلمون أن السلف خيره محمد صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر .. وهكذا حتى تنتهي القرون المزكاة، وينبزهم آخرون بأنهم أهل جمود، وأنهم لا يريدون التحرر والتشديد في الأصول وفي الفروع، وكل هذا ضريبة من ضرائب الشمول بين الناس، وهو ظاهرة طبيعية ينبغي أن تؤخذ على وجهها الصحيح، وأن يعلم أنه لا إفراط ولا تفريط.

    ففي مجال الاعتقاد لا شك أن الاعتقاد الصحيح لا بد من بيانه للناس والأخذ به، ولكن في التعامل مع الذين لديهم انحراف لا بد من مساعدتهم على التخلص من انحرافهم، وأن لا يعان الشيطان عليهم، وأن يسعى لتقريب وجهات النظر، واتحاد صفوف المسلمين ما أمكن ذلك، وأن يسعى أيضاً للمساهمة في كل خير، فذلك على وفق القاعدة المعروفة وهي: نعمل جميعاً فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. والمقصود في الأمور الاجتهادية التي ليس فيها قاطع من كتاب ولا من سنة، هذه يعذر بعضنا بعضاً إذا اختلفنا فيها، وأصل هذا قول عثمان رضي الله عنه حين جاءه رجل فقال: (يا أمير المؤمنين! أنت إمام سنة وهؤلاء إمامهم إمام بدعة، وهم يصلون أفنصلي معهم؟، قال: إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم).

    هذا الإمام المظلوم المحصور في الشهر الحرام في البلد الحرام لم يمنعه هذا أن يكون عدلاً منصفاً؛ فقال: (إن الصلاة من أحسن ما يصنع الناس، فإن أحسنوا فأحسن معهم، وإن أساءوا فتجنب إساءتهم)، وهي قاعدة عامة للتعامل مع كل داعٍ إلى خير أو عامل به؛ فيساعد ويكون شخص معه في ذلك الخير الذي لديه، فإذا جاء غير ذلك ترك ما ليس خيراً.

    الشبهة العاشرة: الدعاة أصحاب دين مستورد!

    كذلك من هذه الشبهات ما يروج له بعض الناس بأن يقولوا: إن هؤلاء أصحاب دين مستورد، أو الإسلام المستورد، وهذه الكلمة قائلوها لا يفقهون معناها، فإذا كان المستورد معناه: خارج الحدود؛ فإن الإسلام كله مستورد، الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من أهل البلاد التي يقول أصحابها هذا، والقرآن لم ينزل فيها، وحتى الدين كله مستورد من السماء، ليس ديناً أرضياً، ليس من الأرض، فكل الدين من أصله مستورد، والديانات السماوية كلها مستوردة، وحتى المقررات التي يجعلها كثير من الناس هي الدين والكتب والمؤلفات التي تدرس، هذه كلها مستوردة أو أكثرها مستورد. فمثلاً في بلادنا هذه كثير من الناس قد يقول هذه الشبهة تبعاً لغيره، فهذه الشبهة ليست في الأصل نابعة من هذه البلاد، وإنما هي أيضاً مستوردة، شبهة الدين المستورد هذه مستوردة، ليست مألوفة ولا معروفة في هذه البلاد، والذين يقولونها لو سألتهم عن الدين غير المستورد -المحلي- لعدوا مثلاً: مختصر خليل : خليل بن إسحاق بن موسى مصري عاش في القاهرة ومات فيها، وكتابه مستورد، إذاً هذه واحدة، كذلك يعدون بعض المؤلفات الأخرى من غير المستورد، ومن الغريب أن جميع مؤلفيها ليسوا من أهل هذه البلاد، لا أحد منهم من أهل هذه البلاد.

    إذاً الدين كله -كما ذكرت- مستورد، والوحي مستورد من السماء، والكتب المقررة والمدروسة أكثرها مستورد، ليست من هذه البلاد، مالك بن أنس الذي هو الإمام، من أئمة الدين ومن أئمة الفقه ليس من أهل هذه البلاد، عاش في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات فيها، وهكذا من دونه.

    الشبهة الحادية عشرة: بعض الدعاة أصحاب إسلام سياسي

    كذلك شبهة أخرى يقولون: هؤلاء أصحاب الدين السياسي، والذين يقولونها هل تظنون أنهم يفهمون الإسلام أحسن مما يفهمه أولئك؟

    لا. هل أنفقوا في فهمه ودراسته من الوقت ما أنفقه أولئك؟ لا.

    فإذاً من أين لهم أنهم أدرى بالإسلام ويفهمون وجهته، ويعرفون فهمه الصحيح دون غيرهم من الذين أنفقوا أوقاتهم، وأخلصوا في سبيله وطلبوه وعرفوه من منابعه الصحيحة الأصلية؟!

    إن الإسلام السياسي الذي يرغب عنه كثير من الناس ويروجون لخلافه هو الإسلام الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم ومن رغب عنه فقد رغب عن شرع الله، وخالف ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

    أسأل الله تعالى أن يجمعنا في مستقر رحمته في الفردوس الأعلى من الجنة، وأن وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على النبي محمد وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756197023