إسلام ويب

تأملات في سور القرآن - يوسفللشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سورة يوسف سورة مكية، ومقصودها الأعظم بيان قصة نبي الله يوسف، وما تعرض له من البلاء من قبل إخوته، ومن قبل امرأة العزيز، ومن قبل النسوة، وما تعرض له من بلاء في السجن ظلماً وعدواناً، وبينت في ختامها أن الأنبياء بشر وأنهم يكونون من أهل القرى.

    1.   

    أنواع البلاء الذي تعرض له يوسف عليه السلام

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

    فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

    سورة يوسف مكية بإجماع أهل التفسير، ومقصودها الأعظم: بيان قصة نبي الله يوسف وما فيها من الأعاجيب، وخلاصة ذلك أن يوسف عليه السلام يصدق عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، فإن كان في دين المرء صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة خف بلاؤه، حتى يمشي أحدهم على وجه الأرض وما عليه خطيئة ).

    فيوسف عليه السلام تقلب في أنواع البلاء: تارة من قبل إخوانه حين حسدوه فألقوه في غيابة الجب، وتارة من قبل امرأة العزيز التي زينت له الفاحشة وحرضته عليها، وتارة من قبل النسوة اللائي أمرنه بأن يطيع سيدته فيما تريد منه، وتارة ابتلاؤه في السجن حين أدخل فيه ظلماً وعدواناً، ثم بعد ذلك ابتلاه الله عز وجل بأمانة العلم، فآتاه الله علماً بتأويل الرؤى، حتى إنه عليه السلام يقول لصاحبيه في السجن: لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي[يوسف:37].

    وبعد ذلك كانت فتنة السراء، حيث أخرج من السجن معززاً، مكرماً، وزيراً على مالية مصر، متحكماً في كل شيء فيها، وكان في تلك الأحوال كلها نعم النبي! ونعم الرسول! ونعم الصديق! صلوات ربي وسلامه عليه.

    ثم في آخر الأمر دعا ربه بهذا الدعاء: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، قال المفسرون: لما كملت لــيوسف عليه السلام نعمة الدنيا تاقت نفسه لنعمة الآخرة، وهي الجنة، فقال: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].

    1.   

    الجمع بين قوله تعالى: (وجاء بكم من البدو ...) وكون الأنبياء من الحاضرة

    في هذه السورة سؤال، وذلك في قول ربنا جل جلاله على لسان يوسف عليه السلام مخاطباً أباه: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي[يوسف:100]، فهنا يوسف عليه السلام يقول: وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ[يوسف:100]، يعني: من البادية، وفي السورة نفسها ما يدل على أن الأنبياء يكونون من الحاضرة، قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى[يوسف:109]، وقد ذكر المفسرون رحمهم الله في قوله تعالى: مِنْ أَهْلِ الْقُرَى[يوسف:109] ثلاثة تأويلات:

    التأويل الأول: أن يعقوب عليه السلام كان أصله من الحاضرة لكنه سكن البادية في زمن المجاعة، فالبادية ليست موطنه الأصيل، والعريش.. عريش مصر، ليس مكانه الأصيل، لكنه لجأ إليه حيناً من الدهر.

    التأويل الثاني: أن كلمة البدو: اسم لمكان، يعني: ليس المقصود: البادية.

    التأويل الثالث: قالوا: كان موطنه في الحاضرة واستند إلى البدو حيناً، وهذا القول يرجع إلى المعنى الأول.

    1.   

    عقيدتنا تجاه الأنبياء والحكمة من كونهم بشراً

    الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم نعتقد فيهم عقيدة محددة، نعتقد أنهم بشر، ليسوا ملائكة، كما قال ربنا جل جلاله آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيب المشركين: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:93]، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ[الكهف:110]، ومقتضى البشرية: أن هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأكلون ويشربون وينكحون ويتناسلون ويمرضون ويخافون وينسون ويموتون، وهذه كلها عوارض بشرية تطرأ على الأنبياء كما تطرأ على سائر البشر.

    والمشركون دائماً كانوا يطلبون نزول ملك، كما أخبر الله عنهم في كتابه: لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ[هود:12]، وقوم نوح قالوا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ [المؤمنون:24]، قال الله عز وجل: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً [الإسراء:94]، أي: الرسول لا يمكن أن يكون بشراً، لا بد أن يكون ملكاً، لكن حكمة الله عز وجل اقتضت أن يكون الرسول بشراً؛ لأسباب منها:

    أولاً: لأن هذا أبلغ في الاختبار والابتلاء؛ ليبتلي الناس، من الذي يؤمن ويصدق، ومن الذي يعاند ويكذب،

    ثانياً: من أجل أن يحصل الاقتداء والتأسي، ومن أجل أن نرى كيف هذا الرسول، فنصنع مثل ما يصنع، كيف يمشي، كيف يضحك، كيف يبكي، ماذا يصنع إذا تزوج، ماذا يصنع إذا مات له ميت، ماذا يصنع إذا غضب، إذا حزن، هذا كله يقتدى به فيه؛ لسهولة رؤية ذلك منه، أما الملك فإنه لا يرى.

    ثالثاً: من حكمة إرسال الرسول البشري: لأن البشر أقدر على قيادة البشر، فيستطيع أن يقود البشر.

    رابعاً: وإن كنا نؤمن بأنهم بشر، إلا أننا نؤمن بأن الرسل أكمل البشر خلقاً وخلقاً، فما بعث الله نبياً إلا كان حسن الصورة، حسن الصوت، فالنبي لا يمكن أن يكون مصاباً بعاهة أو مصاباً ببكم، أو عمى، أو شلل، أو عرج، بل النبي أكمل الناس خلقاً وهو كذلك أكمل الناس خلقاً، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذروة من ذلك، حتى قال الصحابة رضي الله عنهم في مدحه:

    وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء

    خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء

    فكان عليه الصلاة والسلام ربعة بين الرجال، لا بالطويل ولا بالقصير، أبيض مشرباً بحمرة، في وجهه تدوير، كث اللحية، تملأ لحيته صدره، أزج الحواجب في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، سواء الصدر والبطن، شثن الكفين، مسيح القدمين، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.

    وكان في صوته عليه الصلاة والسلام بحة، تزيده بهاء وجمالاً، كما قالت أم معبد الخزاعية : رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، أبلج الوجه، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيماً، قسيماً، أحور، أكحل، أزج، أقرن، في عنقه سَطَع وفي صوته صَحَل، أجمل الناس وأحلاهم من بعيد، وأحسنهم وأبهاهم من قريب، إذا تكلم علاه البهاء، وإذا صمت علاه الوقار، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، له أصحاب يحفون به، إذا تكلم استمعوا لقوله، وإذا أمر ابتدروا أمره، محفود، محشود، غير عابس ولا مفند. هكذا كانت صفته صلوات ربي وسلامه عليه.

    وأما في الأخلاق، فيكفينا قول ربنا: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

    خامساً: الأنبياء أعلى الناس نسباً، فهم في الذروة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( إن الله اصطفى العرب من بني آدم، واصطفى كنانة من العرب، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار )، فالأنبياء يكون نسبهم دائماً نسباً راقياً عالياً.

    سادساً: الأنبياء أحرار، بعيدون من الرق، فلا يمكن أن يكون النبي رقيقاً، بل هو حر، يبعثه الله عز وجل من أوسط قومه داراً ونسباً.

    سابعاً: الأنبياء مبرءون من الأخلاق الرذيلة، فالنبي لا يكذب، والنبي لا يخون، والنبي لا يغدر، والنبي لا يبطش بطشة الجبارين، بل النبي حليم، رقيق، هين، لين.

    ومن مقتضى بشريتهم صلوات ربي وسلامه عليهم أنهم يمارسون أعمال البشر، فـ(ما من نبي إلا ورعى الغنم)، وكان نبي الله داود حداداً، وكان نبي الله زكريا نجاراً، وكذلك نقرأ في القرآن خبر موسى عليه السلام حين قال له العبد الصالح: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ[القصص:27]، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رعى الغنم لأهل مكة على قراريط، وكذلك اشتغل بالتجارة لــخديجة رضي الله عنها قبل أن يتزوج بها.

    والمقصود: أن الإيمان بالأنبياء ينبغي أن يكون إيماناً شرعياً، فنعتقد أن هؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله إياه، فالنبي لا يعلم الغيب بإطلاق، وإنما علمه بالغيب محدود، فما أعلمه الله إياه يخبر به، وفي القرآن الكريم نقرأ: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188].

    نسأل الله أن يرزقنا الإيمان بهم! وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756013218