إسلام ويب

تفسير سورة يس [1]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جاءت سور من القرآن الكريم مبدوءة بحروف مقطعة للدلالة على إعجاز القرآن لفظاً ومعنى، ومن تلك السور سوة يس المكية، التي ورد في فضلها أحاديث منها ما صح ومنها ما كان غير ذلك، وهذه السورة ابتدأت بالإخبار عن حكمة القرآن والشهادة لرسول الله بالرسالة رداً على من كذب ذلك.

    1.   

    فضل سورة يس

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    فابتداء من هذا الدرس إن شاء الله نشرع في ذكر بعض المعاني والأحكام المتعلقة بسورة يس، وهذه السورة المباركة مكية بإجماع المفسرين، والقرآن المكي نعني به ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة سواء نزل بمكة أو بغيرها.

    وهذه السورة المباركة آياتها ثلاث وثمانون آية، وكلماتها تسع وعشرون وسبعمائة كلمة، وحروفها ثلاثة آلاف حرف، يعني الموفق الذي يقرأ هذه السورة المباركة يكتب له من الحسنات ثلاثون ألف حسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ).

    هذه السورة ورد في فضلها أحاديث، ولكن أكثرها لا يثبت.

    من ذلك: الحديث الذي رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس، من قرأها كتب له وكأنه قرأ القرآن عشر مرات )، والإمام الترمذي بعدما ذكر هذا الحديث قال: غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي رواته هارون أبو محمد شيخ مجهول، فالإمام الترمذي رحمه الله يذكر بأن في رواته مجهولاً وهو بذلك يشير إلى ضعف الحديث.

    ومن ذلك أيضاً: ما ذكره كثير من المفسرين ومنهم صاحب بصائر ذوي التمييز أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفوراً له )، والحديث الآخر: ( من قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت لم يقبض روحه ملك الموت حتى يأتيه رضوان خازن الجنة بشربة منها فيموت وهو ريان )، وهذه الأحاديث يا ليتها صحت!

    وأمثلها ما رواه أبو داود عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اقرءوا يس على موتاكم ). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: كان المشيخة يقولون: لا تقرأ هذه السورة عند أمر عسير إلا يسره الله عز وجل؛ ولذلك يرى عمل المسلمين في مختلف الأعصار والأمصار أنهم يقرءون هذه السورة عند رأس المحتضر، أي: أن الإنسان إذا كان في كربات النزع وسكرات الموت وهو يعالج نزع روحه، فالمسلمون جرت عادتهم بأنهم يقرءون سورة يس في تلك الحال؛ تفاؤلاً بهذا الكلام، بأنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله عز وجل.

    قالوا: ولما فيها من المبشرات، فقول العبد الصالح: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27]، وكقول الله عز وجل: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55].

    ولذلك لو سئلت: ما ثواب قراءة سورة يس، فخير لك أن تقول: فيها ثلاثون ألف حسنة؛ لأنا ذكرنا أن فيها ثلاثة آلاف حرف، والحرف بعشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء.

    1.   

    ما اشتملت عليه سورة يس

    هذه السورة المباركة فيها بيان أن القرآن نازل من عند الله عز وجل، وتأكيد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإقامة الحجة على أهل الضلالة، وذكر خبر أهل أنطاكيا و حبيب النجار عليه من الله الرضوان.

    وفي هذه السورة أيضاً: بيان آيات الله عز وجل الدالة على قدرته ووحدانيته؛ قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33]، وقال سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [يس:37]، وقال أيضاً: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس:41]، ثم الحديث عن حيرة المشركين ساعة البعث والنشور، حتى يقولون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا[يس:52]، فيكون الجواب: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52].

    وفيها أيضاً: بيان أهوال يوم القيامة؛ ولذلك نقرأ فيها: إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [يس:29]، والآية الأخرى: إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:53]، فالآية الأولى تشير إلى صيحة الصعق، والآية الثانية تشير إلى صعقة البعث، كما قال ربنا جل جلاله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].

    وأيضاً في هذه السورة بيان ما أعد الله لأهل طاعته، قال سبحانه: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55]، وبيان ما أعد الله لأهل معصيته حين قال: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59]، وبيان أن الكافر تشهد عليه أعضاؤه: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، وتذكير محمد صلى الله عليه وسلم بعظيم منة الله عليه حين طهر لسانه من قول الشعر وأجراه بتلاوة آيات الوحي النازلة عليه، ثم تعود السورة للحديث عن البعث والنشور وتبكيت المشرك الذي قال: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79].

    وأخيراً التذكير ببعض آياته قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80]، وتوجيه السؤال للناس جميعاً: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:81-83]، أسأل الله أن يجعلنا من المنتفعين.

    1.   

    الحروف المقطعة في بداية السور والمراد بها

    هذه السورة المباركة تبدأ بهذين الحرفين: (يس)، وهذه الحروف المقطعة افتتحت بها تسع وعشرون سورة في القرآن، فثلاث سور في القرآن افتتحت بحرف واحد وهي سورة (ص) وسورة (ق) وسورة (ن)، وسور في القرآن افتتحت بحرفين كما في هذه السورة (يس) وكذلك في سورة النمل: (طس)، وفي سورة طه، وفي الحواميم الستة، وسور أيضاً افتتحت بثلاثة أحرف، كقوله تعالى: الم[البقرة:1]، وكقوله تعالى: الر[يونس:1]، وكقوله تعالى: طسم[الشعراء:1]، وسورتان افتتحتا بأربعة أحرف وهي سورة الأعراف: المص[الأعراف:1]، وسورة الرعد: المر[الرعد:1]، وسورتان افتتحتا بخمسة أحرف، وهي سورة مريم: كهيعص[مريم:1]، وسورة الشورى: حم * عسق[الشورى:1-2].

    والمفسرون رحمهم الله قد ذكروا في تفسير هذه الأحرف المقطعة وجوهاً، لكن قبل ذلك نقول: الأحرف المقطعة التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة في القرآن أربعة عشر حرفاً، يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر، هذه أربعة عشر حرفاً، أو يجمعها قولك: طرق سمعك النصيحة، وهذه الأحرف لو تأملناها نجد أنها مشتملة على كافة الصفات، وفيها حروف الاستعلاء وحروف الاستفال وحروف الجهر وحروف الهمس وحروف القلقلة وحروف الصفير.. وغير ذلك من الصفات.

    بعض أهل التفسير قالوا: الله أعلم بمرادها، فهي من متشابه القرآن التي قال الله فيها: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7]، فهي مما اختص الله بعلمه؛ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ[آل عمران:7]؛ ولذلك حين تذكر هذه الأحرف يقول أحدهم: الله أعلم بمراده.

    وبعض المفسرين قالوا: بأن هذه الأحرف تشير إلى أسماء، فمثلاً: الم ))، قالوا: الف: الله، واللام: جبريل، وميم: محمد صلى الله عليه وسلم.

    وبعضهم قال: بل تشير إلى صفات ربنا: الم[البقرة:1]، أنا الله أعلم، الر[يونس:1]، أنا الله أرى، المص[الأعراف:1]، أنا الله أفصل.. وهكذا.

    وبعضهم قالوا: بل هي خطاب بين الله وبين رسوله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: طه ))[طه:1]، معناها طأ الأرض، يس [يس:1]، معناها: يا إنسان، والخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام.

    وبعض الناس يعتقد بأن: (يس) اسم من أسماء رسولنا الأمين عليه الصلاة والسلام، مثلما اعتقدوا بأن (طه) اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك تجد بعض المسلمين يسمي ولده: (طه)، أو (يس).

    وقد ذكر الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله أن الإمام مالك بن أنس سئل: هل يتسمى أحد بـــ: (يس)، يعني هل يجوز أن نسمي أحداً بــ: (يس)، قال: لا يعجبني ذلك، قال الله: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]، كأن الإمام رحمه الله يرى بأن: يس [يس:1]، شأنها كقول ربنا: طس[النمل:1] وكقوله: حم [غافر:1]، فهي من الأحرف المقطعة.

    وبعض العلماء قال: بأنها أسماء للسور، واستدلوا بقول الصحابي: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صبح يوم الجمعة بــ: الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ [السجدة:1-2]، وبـ: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ[الإنسان:1] )، كأنه يرى بأن هذه الحروف المقطعة هي أسماء لهذه السور.

    والقول الذي يظهر رجحانه والعلم عند الله تعالى: بأن هذه الأحرف المقطعة جيء بها في أوائل السور للتنبيه على أن القرآن مؤلف من هذه الحروف التسعة والعشرين التي تكلمت بها العرب، فالله عز وجل يتحداهم؛ لأنهم كانوا يقولون: بأن هذا قول بشر وكانوا يقولون: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ[النحل:103]، وكانوا يقولون: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5]، وكانوا يقولون: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا[الأنفال:31]، فالله عز وجل يقول لهم: القرآن مؤلف من الحروف التي بها تتكلمون، ومن خلالها تتفاهمون، فإن كنتم صادقين بأن القرآن من تأليف بشر، فاصنعوا مثله، ويدل على رجحان هذا القول بأن أغلب السور التي افتتحت بهذه الأحرف ذكر بعدها القرآن، مثلاً سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة يونس، وفي سورة هود وفي سورة يوسف وفي سورة الرعد، وفي سورة إبراهيم وفي سورة الحجر، وفي سورة طه وفي سورة الشعراء، وفي النمل وفي سورة القصص وفي سورة العنكبوت، وفي سورة لقمان وفي السجدة، وفي سورة غافر وفي فصلت وفي الشورى والزخرف والدخان والجاثية، ومثلها أيضاً في سورة الأحقاف، فهذه المواضع كلها تجد بأن الله عز وجل بعدما يفتتح السورة بهذه الأحرف يذكر بعدها القرآن؛ فلذلك يترجح القول بأن هذه الأحرف المقطعة افتتحت بها هذه السور من أجل التحدي لأولئك العرب المعاندين المكذبين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يس * والقرآن الحكيم)

    فهاهنا في هذه السورة الله عز وجل افتتحها بهذين الحرفين: يس [يس:1].

    ثم أقسم جل جلاله بالقرآن: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:2]، الحكيم أي: المحكم، كما قال سبحانه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، فالقرآن محكم لا ترى فيه عوجاً، ولا تجد فيه اختلافاً ولا تناقضاً، كما قال سبحانه: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، وقال سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، فالقرآن مستقيم لا عوج فيه ولا انحراف، وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر:27-28].

    قال تعالى: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ [يس:2-3]، الله جل جلاله يقسم بالقرآن على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عنده، كما قال في سورة البقرة: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ [البقرة:252]، وهذا جواب على قول الكفار حين أنكروا رسالة رسوله كما قال الله عز وجل: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً[الرعد:43]، كانوا ينكرون رسالة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه فقير، ويقولون: أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً [الفرقان:41]، وقال الله عنهم: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، فكانوا يستنكرون: كيف يختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم من بين الناس ليكون رسولاً، فربنا جل جلاله أزال هذه الشبهة حين قال: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[الأنعام:124]، وحين قال: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ[الزخرف:32]، المعنى: أن الله عز وجل يصطفي للنبوة من شاء، قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ[الحج:75]، وليست القضية راجعة إلى غنى أو سعة أو قوة، وإنما ربنا جل جلاله يختار، فالنبوة اصطفاء وليست اجتهاداً، الله يصطفي لها من شاء من عباده.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم)

    وقوله تعالى: إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس:3-4]، الله جل جلاله يثبت لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه على صراط ربه، وأنه من أهل الاستقامة، والاستقامة لزوم الطريق القويم وهو شرع الله عز وجل من غير تعويج عنه يمنة ولا يسرة، وهذه الاستقامة قد أمر الله بها نبينا عليه الصلاة والسلام في موضعين حين قال له: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا[هود:112]، وحين قال له: وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ[الشورى:15]، فالله عز وجل يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالاستقامة، ويأمرنا كذلك بالاستقامة: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ[فصلت:6].

    و سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه لما قال: ( يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال له: قل آمنت بالله ثم استقم )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( استقيموا ولن تحصوا )، (ولن تحصوا)، يعني لن تستطيعوا أن تلتزموا بكل أبواب الاستقامة، ( واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن )، هذا أمر من النبي عليه الصلاة والسلام لنا بالاستقامة، وفي كل صلاة نسأل الله عز وجل فنقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، نطلب من الله عز وجل أن يهدينا صراطاً مستقيماً، والمستقيم كما يقول أهل الهندسة: هو أقصر خط يوصل بين نقطتين، يعني: عندنا نقطتان، أقصر خط يوصل بينهما يسمونه مستقيماً، أما الخط المتعرج المعوج فإنه لا يكون أبداً مستقيماً، كأننا نطلب من الله أن يدلنا على أقصر طريق يوصلنا إلى رضوانه وإلى جناته سبحانه وتعالى؛ ولذلك نردد على الأقل في اليوم سبعة عشرة مرة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

    وهذا الصراط المستقيم بين ربنا أنه صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وأنه مباعد مجاف لصراط من غضب الله عليهم وأضلهم، وهم اليهود والنصارى.

    وبين الله جل جلاله أن الصراط المستقيم واحد، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ[الأنعام:153]، و( الرسول عليه الصلاة والسلام رسم في الأرض خطاً مستقيماً، ثم جعل عن يمينه خطوطاً متعرجة وعن شماله خطوطاً متعرجة، وقال: هذا صراط الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان )؛ ولذلك سبيل ربنا في القرآن واحداً، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ[يوسف:108]، وأما الأخرى فهي مجموعة: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ[الأنعام:153]، السبل هي كثيرة متفرعة، فهناك من يدعو إلى ضلالة، ومن يدعو إلى جهالة، ومن يدعو إلى بدعة.. وهذه كلها سبل الشيطان، أما سبيل الله فواحد وصراطه واحد.

    وهذا الصراط قد لزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عباداته وفي معاملاته، وفي أخلاقه صلوات ربي وسلامه عليه وقبل ذلك في معتقده عليه الصلاة والسلام، فهو أبداً ما دعا إلى أن يعبد من دون الله، معاذ الله! قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ[آل عمران:79]؛ ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن كل ما من سبيله أن يؤدي إلى شرك، أو أن يؤدي إلى رفعه فوق المنزلة التي وضعه الله بها، ولما قال له بعض الناس: ( يا سيدنا وابن سيدنا! قال: مه! لا يستهوينكم الشيطان، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد )، وقال: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله )، عليه الصلاة والسلام، ولما قال له بعض الناس: ( ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال: أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده جل جلاله )، ولما سمع خطيباً يقول: ( من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، قال له: اجلس، بئس خطيب القوم أنت، قل: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى )، فأنكر عليه أن يقول: ومن يعصهما فقد غوى؛ ولذلك الله عز وجل أثنى على نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه على صراط مستقيم.

    وكذلك في أخلاقه عليه الصلاة والسلام ما كان فظاً ولا غليظاً ولا صخاباً بالأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، وقد قال: ( ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً ).

    أسأل الله أن يرزقنا الاقتداء به، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756180828