إسلام ويب

نعمة الأمنللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأمن نعمة من أجل النعم؛ ولذلك طلبها إبراهيم للبيت العتيق، ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا بعد ذهابها، حينما يحصل الضرر على مصالح الدين والدنيا، وللأمن أسباب توصل إليه منها: شكر الله، والعمل بشريعته.

    1.   

    أهمية نعمة الأمن

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! ذكر الله عز وجل لنا في كتابه الكريم في سورة إبراهيم دعوة النبي الكريم أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فقال سبحانه وتعالى في مطلع هذه الدعوات: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35] إلى آخر الآيات التي ذكر الله عز وجل فيها مطالب سبعة سألها إبراهيم عليه السلام ربه، وكان أول هذه المطالب نعمة الأمن والأمان، رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35].

    خطبتنا في هذه اللحظات عن الأمن، طلب منا أن نتحدث عن نعمة الله عز وجل على الناس بالأمن، وأعظم بها من نعمة! ذكرها الله عز وجل في هذه الآيات في مطلع المطالب السبعة التي طلبها إبراهيم عليه السلام، يقول الإمام فخر الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره عند هذه الآية: اعلم أنه سبحانه وتعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب في دعائه أموراً سبعة:

    المطلوب الأول: طلب من الله نعمة الأمان، وهو قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35]، والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به.

    واستمع إلى هذا المثال العجيب الذي يقارن فيه العلماء بين نعمة الأمن ونعمة الصحة، قال: سئل بعض العلماء ألأمن أفضل أم الصحة؟ فقال: الأمن أفضل، والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان وتقبل على الرعي والأكل، ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف، ولا تتناوله إلى أن تموت، وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد.

    منة الله على عباده بنعمة الأمن

    نعمة الأمن لا تساويها نعمة، والناس لا يعرفون قدر النعم إلا بعد فواتها، ولا يعرف الناس قدر الشمس إلا بعد الغروب، وقد ذكر الله عز وجل نعمة الأمن في معرض الامتنان في أكثر من موضع من كتابه العزيز، فامتن سبحانه وتعالى على كفار مكة أكثر من مرة بتأمين البلاد لهم، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، وقال سبحانه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125].

    وأخبرنا سبحانه وتعالى عن أن مطلب الأمن مطلب لدى الأنبياء من قبلنا، ومطلب للبشرية جميعاً، فلا يطيب العيش إلا بالأمن، فأي نعمة يلتذ بها الإنسان إذا فقد الأمن؟ ماذا يفعل الأثرياء بأموالهم؟ وماذا يفعل الأصحاء بأبدانهم؟ وماذا يفعل المثقفون بعلومهم إذا ذهبت نعمة الأمن؟ ولهذا ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في مطلع النعم الكبيرة الثلاث، فقال: ( من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها )، فأول هذه النعم وأهمها: (آمناً في سربه)، فإذا وجد الأمن التذ الإنسان باليسير وعاش سعيداً.

    قيام العبادات في ظلال الأمن

    الأمن وسيلة لتحقيق مقاصد الدنيا ومقاصد الدين، الأمن مركب وطريق لتحقيق خير الدنيا وخير الآخرة، فالدين لا يمكن أن يزدهر، ولا يمكن أن يقوم كما يقوم في ظلال الأمن، حتى العبادات، لا يتمكن الإنسان من أدائها على الوجه الأكمل، ولا يتفرغ القلب للإقبال على الله في زمن الخوف كما يتفرغ في الإقبال على الله في زمن الأمن، ولهذا شرع الله عبادات مخففة في المقدار، مخففة في الهيئة، وأسقط بعض العبادات في أزمان الخوف، فأزمان الخوف ليست الأزمان المثلى للعبادة، فشرع الله عز وجل لنا صلاة تسمى صلاة الخوف خاصة في هيئتها، وذكرها في كتابه الكريم فقال: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً [النساء:102] إلى أن قال بعد أن وصف هذا الوصف في الصلاة، وتقسيم الناس حال الخوف إلى جماعتين، وهي صفة غريبة في الصلاة، ليست الصفة المعهودة التي درج الناس على أدائها، فقال سبحانه وتعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103]، يعني: اجبروا النقص الحاصل في صلاتكم حال الخوف بالإكثار من ذكر الله، فإذا ذهب الخوف وجاء الأمن، وحصل الاطمئنان، فأتموا الصلاة كما أرادها الله بكامل قيامها وركوعها وسجودها، وهذا لا يتأتى إلا مع الأمن.

    وفي سورة البقرة يقول سبحانه وتعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:238-239]، يعني: صلوها وأنتم تمشون على أرجلكم، أو وأنتم تمشون راكبين، فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ [البقرة:239]، فإذا جاء الأمن وذهب الخوف، فأقيموا الصلاة كما علمكم الله، وكما أمركم الله عز وجل بها، فتلك الصلاة التي صليتموها رجالاً أو ركباناً كانت لظرف طارئ لا يناسب حال العبادة الكاملة، فالله عز وجل شرع العبادات الكاملة للناس حال أمنهم.

    وكذلك الحج جعل سبحانه وتعالى من شرط وجوبه على الإنسان أن يأمن الطريق الذي توصله إلى الحج، فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، وذكرهم النبي عليه الصلاة والسلام نعمة الله السابغة عليهم في مستقبل الزمان، وأنهم سيأمنون في جزيرة العرب حتى تخرج الظعينة من الحيرة -يعني: من أرض العراق- حتى تصل إلى بيت الله لا تخاف إلا الله.

    فهذا هو شأن الأمان في شريعة الإسلام، فشرعه الله لازدهار الدنيا ولإقامة الدين، فلا يقوم الدين حق القيام إلا في عهد الأمن.

    القيام بواجب الدعوة في حال الأمن

    حتى الدعوة إلى هذا الدين، والتبشير بالإسلام، وإيصال رسالة الإسلام إلى الآخرين لا تصل هذه الرسالة على وجهها الكامل بوجهها المشرق كما تصل في حال الأمن، فالإنسان حين يكون خائفاً، وحين يكون قلقاً مضطرباً لا يتفهم ما يقال له، ولا يتعقل الحجج والبراهين التي تلقى على مسامعه، ولا يتدبر الإنسان الكلام، ولا يقبل الفكر والحجة والبرهان إلا حين يكون آمناً على نفسه، آمناً على ماله، آمناً على أهله وحرماته، فإذا أمن تدبر وتفكر.

    ومن أجل هذا سمى الله عز وجل صلح الحديبية فتحاً مبيناً، وصلح الحديبية صلح بين محمد صلى الله عليه وسلم وكفار قريش، أمليت فيه شروط الإذعان على المسلمين، وقبل صلى الله عليه وسلم بتلك الشروط المجحفة الجائرة على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى تنكرت لها قلوب بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولكن الله يعلم أن في هذا الصلح وفي انتشار الأمان بين محمدٍ وأهل مكة من المصالح ما لا يقدر قدره إلا الله، ففي هذا الأمن من المنافع ما لا يعلم عواقبه إلا الله، فأوحى إلى نبيه بأن يقبل بهذا الصلح، وأن يرضخ لهذه الشروط، وأن يعطي قريشاً ما طلبت من هذه الشروط لشيء واحد، وهو أن يتحقق الأمن بين المدينة ومكة، فيسمع الناس حجة الله على وجهها، ويأمنون على دمائهم وأموالهم، ولهذا يعقب أهل السير على هذه الحادثة العظيمة، فيقول ابن هشام رحمه الله وهو يتكلم عن هذه الحادثة، قال الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. ثم يقول ابن هشام معلقاً على هذا: والدليل على صحة كلام الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله ، ثم خرج عام فتح مكة يعني: بعدها بسنة، بعد ذلك في عشرة آلاف، سنتان من السنة السادسة إلى السنة الثامنة تضاعف أعداد المسلمين أضعافاً مضاعفة، خرج رسول الله في السنة السادسة إلى الحديبية في ألف وأربعمائة من أصحابه، ووقع ذلك الشرط وتم ذلك الصلح، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً كـخالد بن الوليد و عمرو بن العاص ، وغيرهم من صناديد مكة، ولم يأت العام الثامن إلا وقد بلغ المسلمون مبلغاً كثيراً، فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً، بعد أن نقضت قريش العهد ودخلها بعشرة آلاف من المسلمين.

    1.   

    المفهوم العام للأمن

    الأمن يا إخوان! من أجل نعم الله عز وجل على هذا الإنسان، الأمن بمفهومه العام: أمن الإنسان على نفسه، وأمنه على عرضه، وأمنه على ماله، وأمنه على دينه وفكره، أمنه على عقائده، فالأمن على أديان الناس وعقائدهم من أعظم أنواع الأمن الذي كلف الله عز وجل ولاة الأمور بالحفاظ عليه، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فالأمن على الأديان لا يقل شأناً عن أمن الناس على أرزاقهم وعلى دمائهم.

    هذا الأمن أنت وسيلة في استتبابه وحفظه، أنت جزء منه، فالجميع في المجتمع المسلم رجال أمن، والحفاظ على الأمن واستتبابه لا يختص بجهاز دون جهاز في المجتمع المسلم، وفي النظرة الإسلامية للمجتمع، فالناس جميعاً حكاماً ومحكومين، مطالبون بالحفاظ على الأمن. وللحفاظ على الأمن أسباب ووسائل تسمعها في الخطبة التالية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه.

    1.   

    وسائل الحفاظ على الأمن

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! للحفاظ على نعمة الأمن أسباب ووسائل ينبغي للناس أن يأخذوا بها، فإن الله قدّر المقدورات بأسبابها، ليس السبب الأعظم في الحفاظ على أمن المجتمعات قوة الأجهزة الأمنية، فالدول العظمى فيها من الأجهزة الأمنية ما لا يعلم قدر مقدراته وإمكاناته إلا الله، ومع ذلك تعيش ألواناً من الخوف لا يغيب عن الناظر، ولو كان حديث عهدٍ بتلك المجتمعات، الخوف يسري في شوارع تلك المجتمعات، في ليلها ونهارها، مع قوة أجهزتها الأمنية، ليست أجهزة الشرط وكثرة رجال الشرطة هي الأمان الوحيد لتحقيق الأمن في المجتمع، بل هناك أسباب كثيرة أرشد الله إليها في كتابه، وأرشد إليها رسولنا في صحيح سنته، والمجتمع المسلم مأمور بالأخذ بهذه الأسباب ليحفظ على نفسه هذه النعمة العظيمة:

    شكر الله على نعمة الأمن

    أول هذه الأسباب: شكر الله تعالى على هذه النعمة، نعمة الأمن نعمة جليلة، وكل نعمة تستوجب شكراً، والشكر لهذه النعمة أن توظف هذه النعمة في الوجه الذي يرضاه الله، إذا أمن الناس كان اللائق بهم أن يقيموا العبادة على وجهها، وأن يكثروا من ذكر الله، وأن يشكروا نعمة الله عز وجل عليهم، وأن يكثروا من القيام لله تعالى بفرائضه والتقرب إليه بنوافله، وأن يأمروا بالمعروف، وأن ينهوا عن المنكر، وأن يعلموا أن خلاصهم وأمنهم في الدنيا والآخرة هو بإسلامهم وإيمانهم، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، فهؤلاء هم أصحاب الأمن في الدنيا والآخرة، فلو خلط الناس على أنفسهم عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وتفشت المنكرات في مجتمعهم، وفتحوا الأبواب على مصارعها للمنكرات إنما يجرون الويلات على أنفسهم، والله كلما كثرت المنكرات في مجتمع، وكلما غض الطرف المسئولون عن انتشارها واستقباحها كلما فتحوا أبواباً للخوف لا يقدرون على سدها بعد ذلك، ولو أرادوا سدها.

    فالمجتمعات الكبرى لا تقدر اليوم على تحقيق الأمن على وجهه التام، مع شديد رغبتهم في ذلك، مع عظيم حرصهم على تحقيق هذا المطلب، لكنهم لا يقدرون؛ لأن الله عز وجل وحده هو الذي يمن بالأمن حين يرى الناس يشكرون هذه النعمة.

    وضرب الله لنا مثلاً في القرآن، وشأن العقلاء أن يتعظوا بالأمثال، وأن يتدبروا الأمثال التي ضربها في كتابه قال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21]، تفكروا يا خلق الله في هذه الأمثلة.

    قال في سورة النحل: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا [النحل:112]، ليس رزقاً فقط، لكنه الرزق الرغد الواسع الهني السهل، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل:112]، وكفران النعمة ليس الكفر الذي يخرج الإنسان من الدين؛ ليصبح في عداد الكافرين، بل كفر النعمة معناه: أن تسخر هذه النعمة في غير ما خلقت له، أن تكفر النعمة وإن لم تكفر خالق النعمة، فكانت العاقبة فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل:112]، ليس خوفاً فقط، بل خوف ملازم دائم، يلازم الإنسان كما يلازمه ثوبه، وليس خوفاً عادياً، ولكنه خوف تظهر آثاره على الإنسان، قلق في وجهه، شحب في وجهه، اصفرار في بشرته، خوف مقلق مزعج دائم، وآثاره ظاهرة بادية، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].

    وسنة الله في هذا الكون لا تجامل أحداً، ولا تحابي مخلوقاً، بل تجري على الصغير والكبير، على القريب والبعيد، على الأصفر والأبيض، على العربي والعجمي، سنن الله في الكون لا تحابي أحداً، بل من أخذ بأسباب الدمار والهلاك وصل إليه، ومن أخذ بأسباب النجاة والفلاح بلغه، ومن سنة الله في هذا الكون أن شكر نعمة الله تعالى سبب للأمن واستتبابه، كما أن كفر النعمة سبب للقلق والاضطراب في المجتمعات.

    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    ومن الأسباب العظيمة للأمن في هذا المجتمع: أن يقوم كل واحد منا بدوره في هذا المجتمع، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم بقدر الاستطاعة من أسباب دوام الأمن للمجتمعات. وعلى الناس أن يفعلوا هذه القضية وأن يأمر الواحد بالمعروف في حدود إمكاناته، في بيته يأمر أولاده زوجته، إخوانه، جيرانه، أصحابه، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب الأمن والأمان.

    دعاء الله واللجوء إليه

    وكذلك من أسباب الأمن: دعاء الله واللجوء إليه بصدق واضطرار أن يحفظ على الناس أمنهم فهذا من أسباب استجلاب الأمن، كما ذكر الله في دعوات الأنبياء، فهذا إبراهيم يدعو بالأمن في موضعين من القرآن ذكر الله عز وجل ذلك، ولا بد للناس أن يأخذوا بالأسباب الشرعية كالأسباب الحسية، فسؤال الله تعالى ودعاؤه بصدق واضطرار أن يديم عليك الأمن في خاصة نفسك، وفي أقربائك وفي بلدك من الدعوات العظيمة التي ينبغي للإنسان أن يلازم الدعاء على الدوام.

    سلامة العقيدة وصلاح الفكر

    نحن يا إخوان! بأفعالنا، بأقوالنا، بممارساتنا، بمفاهيمنا، نحن جزء من الأمن، نحن جزء من المنظومة الأمنية، أفكار الناس، هذه القلاقل التي تنتشر هنا وهناك في بلدان المسلمين، ويرتكب بعض المسلمين بعض الحماقات التي تجلب على الإسلام والمسلمين ما لا يقدر الناس على دفعه، كل ذلك بسبب سوء الفكرة التي يحملها الإنسان المسلم أحياناً.

    فصلاح الفكر، وسلامة العقيدة، وصفاء المنهج، وتزود الناس بالعلم الشرعي، ومعرفة ما طلبه الله عز وجل منهم في كل مقام، وفي كل وقت من الأسباب العظيمة في استتباب الأمن ووفور الأمان والطمأنينة في أرجاء المجتمع.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، اللهم يا حي يا قيوم! يا بديع السماوات والأرض! يا ذا الجلال والإكرام! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    حرص الإسلام على الأمن والبعد عن أسباب الخوف

    الإسلام تتحقق له من المصالح في ظل الأمن ما لا تتحقق في ظل الخوف والفزع.

    والإسلام لا يلجأ إلى تخويف الآمنين إلا عندما تقتضي الضرورات ذلك.

    الإسلام لا يريد حمل السلاح إلا إذا كان في حمل السلاح إزالة للعوائق عن دخول البشر في دين الله.

    الإسلام لا يحمل السلاح إلا إذا كان في حمل السلاح تبليغ الناس ما أمر الله عز وجل أن يبلغوا به، وما عدا ذلك فإن الإسلام يسعى جاهداً في كل تشريعاته إلى استتباب الأمن في الأرض، ولهذا جاءت التكاليف الشرعية الكثيرة المرغبة لأن يجعل المسلم نفسه آلة في تحقيق الأمن لإخوانه، قال عليه الصلاة والسلام: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ).

    المسلم على الوجه الكامل من أمنه الناس، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، وأقسم عليه الصلاة والسلام بأنه لا يؤمن، فقال: ( والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله! قال: من لا يأمن جاره بوائقه )، فالذي لا يأمنه الناس هذا في إيمانه نقص، في عقيدته خلل، المؤمن من أمنه المؤمنون وأمنه الكفار أيضاً المسالمون، أمنوه على دمائهم، فأموالهم ودماؤهم وأنفسهم وأهليهم في عصمة من الله، ما لم يقترفوا ما يوجب إهدار تلك العصمة، ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى ).

    نهي الشريعة عن تعاطي أسباب الخوف

    وقد جاءت الشريعة بالنهي عن تعاطي كل أسباب الخوف، حتى نهى صلى الله عليه وسلم الرجل المسلم أن يدخل السوق وعلى كتفه حربته التي لا يريد إيذاء أحدٍ بها، لكن ربما يؤذي بها وهو لا يشعر، فلا يدخل السوق، ولا يخالط الناس في الزحام وحربته مرفوعة على ظهره ينكسها إن شاء، أو يمسكها بيده حتى يأمن الناس شره، ويأمن الناس غائلته.

    وحذر عليه الصلاة والسلام من أن يرفع الشخص حديدته على أخيه، ولو كان مازحاً لما فيها من الترويع له، بل ورد الوعيد الشديد أن يمازح المسلم أخاه المسلم بالترويع، كأن يحمل عليه سلاحاً ولو كان يمازحه، أو حديدة يرفعها على رأسه، ولو كان بذلك غير جاد، لكن لما كان في هذا إدخال الروع، وإثبات الخوف في نفس هذا المسلم كان هذا عملاً مسخوطاً عليه منهياً عنه، فكل هذه التعاليم تدلك على نظرة الإسلام إلى الأمن وأهمية الأمن.

    الأمن قبل الغذاء

    لقد ذكر الله عز وجل الكفار وهذا تذكير للمسلمين بالأحرى إلى فضل الله عز وجل ونعمته عليهم بالأمن؛ كي يبادروا إلى القيام بحقوق هذه النعمة، فقال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4].

    وفي كثير من الآيات يذكر الله عز وجل الأمن قبل الرزق، الأمن قبل الطعام والشراب، كما في دعوة إبراهيم في سورة البقرة قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ [البقرة:126]، قال العلماء: بدأ بنعمة الأمن قبل نعمة الرزق؛ لأنه إذا تحصل الأمن سعى الناس بعد ذلك وضربوا في الأرض يبحثون عن رزق الله وفضله فيحصلوه، وحين ينعدم الأمن لا يستطيع الإنسان أن يصل إلى الرزق إذا كان معدوماً، ولا يقدر على أن يتنعم به إذا كان موجوداً، لكنه في هذه السورة يخاطب الكفار، فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3-4]، قال العلماء: يتدرج معهم بذكر النعمة الصغرى ثم يذكر النعمة الكبرى، فبدأ بذكر الطعام، ثم ثنى بذكر نعمة الأمن.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756001599