إسلام ويب

مكافحة الفسادللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما كان الغرب همهم الدنيا اقتصر عندهم مفهوم الفساد على نوعين: الفساد المالي، والفساد الإداري. وقد جاء مفهوم الفساد في الشرع أوسع من ذلك، فهو كل سبيل يخرج عن طريق الله الذي رسمه لعباده، فيدخل في ذلك الفساد العقدي والأخلاقي وغير ذلك. وأعلى الضمانات لمكافحة الفساد هو الالتزام بالقيم الدينية.

    1.   

    حاجة المجتمعات إلى مكافحة الفساد

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى وكذا مسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر )، يعني: يوم فتح خيبر، (ففتح الله علينا فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً )، يعني: لم يكن في الغنائم ذهب ولا فضة: (وإنما غنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد يقال له: دعامة ، أهداه إليه رجل من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام هذا العبد يحل رحل النبي صلى الله عليه وسلم ) يعني: ينزل المركب الذي يوضع على ظهر الخيل الذي كان يركبه النبي عليه الصلاة والسلام، (واستقبلتنا يهود بالرمي )، يعني: ترميهم بالسهام، ( فأصابه سهم عائر )، أي: سهم طائش، لا يدرى من الذي رماه، ( فكان فيه حتفه ) يعني: مات ( قال أبو هريرة: فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله! )، وفي رواية البخاري : ( هنيئاً له الجنة يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: كلا! والذي نفس محمد بيده إن الشملة )، يعني: اللباس الذي كان يلبسه ( لتشتعل عليه ناراً أخذها من المغانم لم تصبها المقاسم ).

    أخذها يوم الفتح، فالناس غنموا متاعاً كثيراً وثياباً كثيرة, وهذا لم يأخذ شيئاً كثيراً، أخذ شملة يلبسها قبل أن يستحقها، قبل أن تقسم المغانم ويعطى كل ذي حق حقه، أصاب هذه الشملة, فأخبر عليه الصلاة والسلام بأن هذا الفعل مانع من إطلاق الشهادة عليه، وسبب لتعذيبه بالنار في قبره قبل الآخرة، وأن هذه الشملة يحولها الله -عز وجل- ناراً يتلظى بها، ( كلا! والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتشتعل عليه ناراً أصابها يوم خيبر من المغانم قبل أن تصبها المقاسم ).

    ( قال أبو هريرة ففزع الناس ) يعني: خافوا لما سمعوا كل هذا الوعيد، ( فجاء رجل بشراك أو شراكين -شك الراوي- ), الشراك: السير الذي يوضع على ظهر القدم ليربط النعل ليس كل النعل, إنما السير من الجلد فقط الذي تثبت به النعال على الأقدام، (فجاء رجل بشراك )، يعني: بسير واحد، ( أو شراكين -شك الراوي- ) (وقال: أصبت يا رسول الله يوم خيبر)، يعني: أنا أيضاً أخذت هذا يوم خيبر، ( فقال عليه الصلاة والسلام: شراك من نار، أو شراكان من النار ).

    خلال هذا الأسبوع احتفى العالم باليوم العالمي لمكافحة الفساد، ونحن بحاجة أن نتعاون مع هذا العالم المترامي الأطراف لمكافحة الفساد، فالفساد بحاجة إلى مكافحة، والله عز وجل أخبر في كتابه فقال: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251]، أي: لولا أن الله عز وجل أقام هذه السنة في الأرض يدفع المصلحون المفسدين، ويكافح المصلحون المفسدين لفسدت الأرض.

    الفساد الواجب مكافحته

    ولكننا بحاجة -أيها الإخوة- أن نتميز عن هذا العالم الواسع بمفاهيمنا الصحيحة، مفاهيمنا للفساد، وكيف يعالج هذا الفساد.

    العالم المادي اليوم غاية همه وجل آماله تحقيق المادة؛ ولهذا كان الفساد عندهم منحصراً في الفساد الإداري والفساد المالي.

    أعظم أنواع الفساد الذي يستحق المحاربة في نظرهم ويحتاج إلى أن تتكاثف الجهود لمكافحته هو الفساد المالي والفساد الإداري، وهو فساد كذلك بحاجة إلى مكافحة، ولكن نحن بحاجة أن نفهم الفساد كما أراد الله -عز وجل- منا أن نفهمه.

    فساد الإدارة والإمارة

    نحن بحاجة أن نصحح تصوراتنا عن الفساد كما جاءت الشريعة بتصوير هذا الفساد، فساد الإمارة وفساد الإدارة، لا ريب أنه من أعظم مظاهر الفساد التي يجب على كل مسلم أن يحذر على نفسه من أن يقع فيها، والنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين قد أخبر عن حال الناس, وأنهم يحرصون أشد الحرص على تولي المناصب، يحرصون أشد الحرص على تولي الكراسي، ولكنهم لا يدرون ما العاقبة! لكنهم غافلون عن مآل هذه المناصب وتلك الوظائف، لا يدرون ما الذي سيئول إليه أمرهم.

    في صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: ( إنكم ستحرصون على الإمارة )، قال شراح الحديث: الإمارة هنا المقصود بها: الولاية العامة والولايات الصغرى، يعني: الإمارة بمعنى: الإمام أو الخليفة أو الحاكم للبلاد، والإمارة بمعنى: ولاية الأقاليم والوزارات ونحو ذلك، ( إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ندامة يوم القيامة ).

    ثم ضرب عليه الصلاة والسلام لهذا المنصب مثلاً اجعله بين عينيك! قال: ( فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة )، (نعم المرضعة) المنصب والكرسي والوظيفة مرضعة تدر عليك أنواع الفوائد في الدنيا إذا لم تتق الله، إذا لم تراقب الله في عملك, صحيح أنها ستجر إليك مكاسب مالية، وستجر إليك جاهاً ونفوذاً، وستحقق أغراضك ومقاصدك، سترضع من هذه الوظيفة، وسترضع من هذا المنصب، وستأخذ أكبر قدر ممكن، وتستطيع الحصول عليه، لكنك غافل عن وقت الفطام، وقت مفارقة هذا المنصب، وقت مغادرة هذه الدنيا، كيف سيكون الحال؟ وكيف سيكون المآل؟

    ( نعم المرضعة، وبئست الفاطمة ) الفطام شديد، وأشد منه المحاسبة والسؤال بين يدي الله عن كل قليل وكثير، إذا كان شراك النعل يعذب به صاحبه بشراك من نار، شراك النعل الذي لا يساوي دراهم، لا يساوي ريالات! فكيف بما هو فوق ذلك؟

    كثير من الناس يعتبرون مناصبهم ووظائفهم مكاسب لهم، يستدرون منها ما يستطيعون من النفوذ لكنهم غافلون عما سيئول إليه حالهم وأمرهم.

    في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقول أبو حميد الساعدي- استعمل رجلاً يقال له: ابن اللتبية، ليجمع أموال الزكاة من الناس )، وهذا منصب ديني، منصب مكلف به الإنسان من الإمام يجمع زكاة الناس، ( فجاء ابن اللتبية بعد أن ذهب وجمع ما جمع، قال: هذا لكم ) يعني: هذا جمعته لكم، (وهذا أهدي إلي )، يعني: هذا أعطاني الناس هدية غير الصدقات الواجبة التي دفعوها إلي، (فغضب النبي عليه الصلاة والسلام، قال أبو حميد: فصعد المنبر وأثنى على الله وحمده، ثم قال: ما بال عامل نستعمله ثم يأتينا، فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إليه، أفلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ ).

    هل كان سيهدي إليك هذا الرجل صاحب المصلحة أو المعاملة لولا أنك تشغل هذا المنصب؟ هل كان سيصل إليك هذا لولا هذه الوظيفة؟ ( أفلا قعد في بيت أبيه، أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟ ).

    ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( والذي نفسي بيده لا ينال أحد منها شيئاً )، يعني: من هذه الأموال ( بغير حق إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه )، جاء به يوم القيامة مفضوحاً على رءوس الأشهاد يحمله على عنقه، ( بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر ) يعني: تصيح وتفضح صاحبها، وهذا مآله وعاقبته.

    الفساد المالي

    أيها الإخوة! فساد الأموال فساد عريض، والشريعة الإسلامية تبالغ في هذا الباب أشد المبالغة لحفظ أموال الناس، ولحفظ مصالح الناس؛ ولهذا جرت الشريعة على تحريم هدايا العمال، كل من تولى وظيفة يحرم عليه أن يقبل الهدية ممن له مصلحة في هذه الوظيفة، القاضي يحرم عليه أن يأخذ الهدايا من الرعية، والمسئول أو الوزير يحرم عليه أن يأخذ الهدايا من الرعية؛ لأن هذه الهدايا ذريعة إلى إفساد الذمم، ذريعة إلى التلاعب بأموال الناس ومصالحهم، فكيف إذا كان يأخذ الأموال من أموال العامة، من أموال الدولة بغير إذن، يأخذ المال بغير حق، إذا حرم عليه ما يهدى إليه بطيب نفس من الناس فكيف بما أخذه بغير حق؟! لا شك ولا ريب أن الإثم فوق ذلك، وأعظم من ذلك: (نعم المرضعة، وبئست الفاطمة)، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    أعلى الضمانات لمكافحة الفساد

    مما لفت انتباهي -أيها الإخوة!- وأنا أقرأ خلال هذا الأسبوع في ملف مكافحة الفساد أن الغربيين أيضاً العقلاء منهم يتحدثون عن أن أعلى الضمانات لمكافحة الفساد هي الأخلاق الدينية، ويقارن في مقال طويل رولانس هريزون بين المجتمعات المتدينة والمجتمعات غير المتدينة، وأن المجتمعات التي يقل فيها التدين أكثر عرضة للفساد، ويقصدون: الفساد المالي والإداري.

    إذاً: العقلاء جميعاً تجتمع كلمتهم ويتفقون على إقامة الدين في النفس، وتصحيح الضمائر، وإيقاظ هذه الضمائر بدين الله هو أعلى الضمانات لمكافحة الفساد في هذه الأرض.

    دين الله، تخويف هذا الإنسان مما سيلقاه بين يدي الله، تخويفه من السؤال والمحاسبة، وأنه سيسأل عن القطمير والقنطار، سيسأل عن القليل والكثير، وأنه لن تزول قدمه حتى يسأل عن أربع، ومنها: (عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه).

    هذه الثقافة الدينية والأخلاق الدينية هي أعظم العوامل لدفع الفساد عن الأرض، وإذا تنكب الناس لهذا الدين، وانحرف الناس عن هذا الدين، فإن سعيهم في مكافحة الفساد حراثة في بحر، وبناء على الهواء، لا يدفع الفساد عن الناس إلا التدين بدين رب الناس.

    القوانين الوضعية تستطيع أن تقنن عقوبات، وتستطيع أن تقنن جزاءات لمن وقع في الفساد المالي، لكنها لا تستطيع أن تقيم الرقيب والحسيب على الموظف في ليله ونهاره وفي كل ساعاته.

    القرآن وحده هو الذي يوجه هذا الخطاب إلى الناس، يقول لهم: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120]، الإثم الظاهر الذي يتعرض له الإنسان للمساءلة أمام الناس، والإثم الباطن الذي لا يطلع عليه إلا رب الناس.

    يقول سبحانه في سورة القيامة: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15]، المعاذير عند بعض المفسرين المقصود بها: الستائر، ولو ألقيت الستائر، ولو أغلقت أبواب المكاتب، ولو أغلقت على نفسك النوافذ بحيث لا يراك أحد، أنت بنفسك دليل على نفسك، أنت بنفسك شاهد على نفسك، أنت بنفسك حجة على نفسك، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14]. البصيرة وسيلة الإثبات، أنت بنفسك وسيلة إثبات يوم القيامة، أنت بنفسك ستشهد على نفسك، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة: 14-15]، ( يأتي العبد يوم القيامة ويقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟! يقول: بلى، فيقول: فإني لا أقبل اليوم شاهداً علي إلا من نفسي )، حتى الملائكة الكرام، الملائكة الكتبة الذين لا يظلمون ولا يجيرون ولا يحيفون لا يقبلهم شاهداً عليه، (فيعطيه الله ويقول له: لك ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: فيختم على فيه ) أي: يضرب على فيه فلا يتكلم ( ثم يؤذن لجوارحه لتتكلم, فتتكلم يده بما كان يعمل، وتتكلم فخذه بما كان يعمل )، تشهد عليه الجوارح والأركان، فإذا شهدت واستفرغت الشهادة وقامت عليه البينة من نفسه فتح الله عز وجل الحصار عن فمه، فيقول هو بنفسه موجهاً خطابه لأعضائه وأركانه: (سحقاً لكن وبعداً) في النار، (فعنكن كنت أناضل).

    من أجل هذه الجوارح ونعومتها وليونتها وراحتها كسب الناس الحرام, من أجل هذه الجوارح، ومن أجل المراكب الفارهة، والمساكن الوسيعة الجميلة ضرب الناس في أبواب الربا كل مضرب, من أجل الملبس الحسن، والسيارة الجميلة، والأرصدة العالية، ضرب الناس في أنواع المتاجرات بالحرام، أسهم محرمة، وربا، ومخدرات، إلى غير ذلك من أبواب المكاسب المحرمة، من أجل هذه الأعضاء، وهي أول من يصلى النار بسبب هذه المكاسب.

    يقول لها يوم القيامة: ( سحقاً لكن وبعداً فعنكن كنت أناضل )، كان تعبي كله من أجلكن، وسهري كله من أجلكن، فسحقاً لكن وبعداً.

    أيها الإخوة! هذا الخطاب الديني هو الخطاب الذي يقيم الرادع في ضمير هذا الإنسان، ويحول بينه وبين الحرام، وكما قال الشاعر:

    لا ينفع القانون فينا رادعاً إذا لم تك فينا ضمائر تردع

    إذا لم يكن الوازع والرادع من داخل هذا الإنسان فإنه يستطيع أن يتحايل ويوجد أنواع السبل للتحايل على أكل أموال الناس بالباطل.

    لكن مشكلة العالم اليوم أنه يدمر الدين بكل وسيلة يقدر عليها، ثم بعد ذلك يسعى للإصلاح، سعي للفساد باسم الإصلاح، وصدق عليهم قول الله سبحانه وتعالى في مطلع سورة البقرة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12] ، يصد عن سبيل الله، وتحارب أديان الله، وتعطل شريعة الله، ويحال بين الناس وبين دينهم، ثم يزعم بعد ذلك أنهم يتكاتفون للإصلاح، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12].

    ما هو الفساد في كتاب الله؟ ما هو الفساد في أحاديث رسول الله؟ هذا ما ستسمعه في الخطبة التالية.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    أثر الرابط الديني في مكافحة الفساد

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! أقرأ عليكم هذه الكلمات التي أشرت إليها في الخطبة الأولى في كلام المفكرين الغربيين وهم يتحدثون عن أهمية منظومة الأخلاق الدينية في مكافحة الفساد.

    يقول في آخر المقال: إن الرابط الديني هو الجذر الثقافي للسلوك في المجتمعات، يساهم سلباً أو إيجاباً في أمور الفساد والفضيلة إلى حد كبير، وهو رادع أو متهاون، أقوى من القوانين الوضعية تأثيراً وفاعلية.

    فالأديان التي تعتذر عن البشر يعني: تبرر لهم ارتكاب الحرام، وتعتذر لهم بأنهم ضعفاء لا يقدرون، وأن الأمور بيد غيرهم، فالأديان هذه التي تعتذر عن البشر وتتهاون في الخطيئة تكون مجتمعاتها أكثر عرضة للفساد من تلك التي تقف بصرامة إزاء الخطيئة وتعدها تعدياً على الأخلاق الدينية، والحدود الأخلاقية كثقافة سلوكية.

    الدين إذا قام في ضمير الإنسان فأبشر بعد ذلك بالصلاح كله، هذا الدين منظومة من الأخلاق والآداب والعبادات والعقائد، فلا يمكن أن يصلح إلا باجتماعها، ولا يمكن أن يصلح إلا بتظافرها، فإذا أفسد الناس جانباً من الدين وشرعوا وقننوا ما يفسد هذا الجانب ثم حاولوا بعد ذلك أن يصلحوا جانباً آخر فهو سعي في هباء.

    1.   

    مفهوم الفساد في نصوص الشريعة وصوره

    الفساد العقدي

    الفساد أيها الإخوة! في كتاب الله معنى عام يشمل كل سبيل يخرج عن طريق الله التي رسمها لعباده المؤمنين، يقول سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] ، (لا تفسدوا في الأرض) قال المفسرون: بأنواع المعاصي، ومن أعظمها: الشرك بالله، والكفر به سبحانه وتعالى وبأديانه؛ ولذلك قال: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف:56].

    إن أول بوابات الإصلاح أن يصحح الناس عقائدهم، وأن يصحح الناس دياناتهم الباطلة، وأن يصححوا معارفهم حول الكون ورب الكون وعلاقاتهم بالأنبياء والرسل، فهذا الأصل الأول في الإصلاح: إصلاح عقيدة الناس، وإذا فسدت العقائد فسد بعد ذلك السلوك، وفسدت التصورات.

    أول بوابات الإصلاح: إصلاح عقائد الناس بتوحيد الله عز وجل وحده، ونبذ كل ما يخالف هذا التوحيد من مظاهر الشرك والكفر.

    أعظم فساد أن يسب الله تعالى، وأن ينسب له الولد، أو تنسب له الصاحبة، أعظم فساد أن يسب أنبياء الله أو يكفر بدين الله، أو يكذب القرآن.

    أعظم فساد أن يصد الناس عن دين الله، وعن سبيل الله، هذا الفساد الذي ينبغي أن تتظافر الجهود لدفعه عن هذه البشرية.

    الفساد الأخلاقي

    ومن الفساد: الفساد الأخلاقي، فساد أخلاق الناس، فساد فروجهم كما فسدت بطونهم، وقوعهم في أنواع المحرمات.

    القوانين الوضعية اليوم لا سيما في المجتمع الغربي تقنن للناس زواج المثليين، ويأتي الرجل الرجل، ولا يرون هذا فساداً، لا يرون هذا انحرافاً، الدينار والدرهم والدولار هو معيار الفساد عندهم فإذا سلم الدولار فالمجتمع في سلامة، وإذا ذهب الدولار فالمجتمع في فساد، لكنهم لا يبالون بدين الإنسان، ولا يبالون بأخلاق الإنسان، أو ماذا يفعل هذا الإنسان؟

    هذه الشريعة جاءت بعقوبة لأخذ المال، وبعقوبة للوقوع في الزنا المحرم، وعقوبة السرقة قطع اليد، لكن من زنى وهو محصن، أي: بعد أن تزوج زواجاً صحيحاً يرجم بالحجارة حتى الموت؛ لأن هذا الفساد أعظم أثراً على المجتمعات من ذلك الفساد.

    اختلاط الأنساب، وضياع الأعراض، وانتهاك الحرمات أعظم فساداً عند العقلاء والشرفاء من ذهاب الدينارات والدولارات؛ ولذلك يقول لنا عليه الصلاة والسلام كما في سنن الترمذي : ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )، فساد عريض يوم يحال بين الشباب وبين الزواج، فساد عريض يوم يحال بين البنات وبين الزواج، فساد عريض جراء وقوع الناس في أنواع الموبقات وأنواع المحرمات.

    الفساد بتقطيع الأرحام

    من الفساد أيضاً: التولي في هذه الأرض لتقطيع الأرحام، ولتقطيع أواصل القربة، كما قال سبحانه وتعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]، كثير من الناس لا يعلم بأن من أعظم الفساد تقطيع الرحم، والتقصير في حق الأب والأم، التقصير في حق الأخ والأخت، التقصير في حق الجار لا سيما إذا كان قريباً، كل ذلك من مظاهر الفساد التي عدها الله ورسوله من أسباب اللعنة، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22].

    الفساد بموالاة الكفار

    من الفساد الذي حذر منه القرآن: موالاة الكفار ومحبتهم وتفضيلهم على المسلمين، ونصرتهم على أبناء الإسلام، محبتهم الظاهرة أو الباطنة، والتشبه بهم في ما هو من خصائصهم، فساد عريض يؤدي إلى ذوبان المجتمع الإسلامي في غيره من المجتمعات، يؤدي إلى ضياع العقائد والمفاهيم الإسلامية.

    موالاة الكفار: قال سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، إن لم يتول المؤمن المؤمن وينصر المؤمن المؤمن ويوالي إخوانه في الله، ويعادي أعداء الله، يحل في هذه الأرض فساد كبير، إنه كبير بحكم الله، كبير بقول الله، فساد كبير يوم ترى بعض المسلمين يقول: لولا هؤلاء لكنا لا نساوي شيئاً، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ[الكهف:5]، لولا ما قدمه لنا الغربيون نحن لا نساوي شيئاً، هذا ميزان من يزن الناس بالمنافع والمصالح الدنيوية.

    إن العبد المسلم -مهما كان سوءه، مهما كان فحشه، مهما كان تخلفه- أكرم عند الله عز وجل وأعظم قدراً من ملايين البشر إذا هم كفروا، واحد من عباد الله المؤمنين المسلمين أعظم عند الله من البشرية كلها إذا هي كفرت، إذا هي أشركت.

    1.   

    تصحيح التصورات الخاطئة عن الفساد

    نحن بحاجة أن نقيم التصورات الصحيحة للفساد، متى يكون الإنسان فاسداً؟ ومتى يكون الإنسان صالحاً؟ حتى نسعى في الإصلاح ومكافحة الفساد، علينا ألا ننجر إلى هذه المفاهيم الضيقة لمعاني الفساد والصلاح، وعلينا بعد ذلك أن نسعى جاهدين لدفع صور الفساد عن مجتمعاتنا، والله عز وجل أقام لهذا الدين ولهذه الأمة رجالاً يصلحون ما أفسده الناس، كما جاء في الحديث: ( لا خير فيكم إذا فسد أهل الشام )، لأن الشام آخر معاقل الإسلام التي بها يقاس قيام هذا الدين أو ضعفه.

    وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: من الغرباء يا رسول الله؟! قال: الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو الذين يصلحون إذا فسد الناس )، لكنهم يصلحون بهذا المعنى الشامل للإصلاح، إصلاح النفس بالعقائد الصحيحة والأخلاق السوية، وإصلاح العبادة لله، وإصلاح الأسرة، وإصلاح الابن وإصلاح البنت، وإصلاح العفة، وتجنب الحرام في المطعم أو المشرب أو الكلمة، حتى الكلمة عدها النبي عليه الصلاة والسلام وسيلة من وسائل الفساد العريض، قال عليه الصلاة والسلام كما في سنن الدارمي : ( ألا أنبئكم ما العضه! قالوا: بلى يا رسول الله! قال: النميمة التي تفسد بين الناس )، النميمة التي تفسد الأواصر، وتفسد الروابط، وتفسد القلوب، كلمة لا يدري الإنسان وزنها وقيمتها ينقل من فلان إلى فلان, كلمة قالها لكنه لا يتأمل في عواقب هذه الكلمة فتتنافر القلوب، وتتولد البغضاء بين عباد الله المؤمنين. النميمة تفسد بين الناس.

    نحن بحاجة أن نفهم الإصلاح بهذا المعنى الشامل، ونسعى في تحقيقه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يأخذ بأيدينا إلى كل خير، وأن يعصمنا من كل شر وضير.

    اللهم يا حي! يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة:201].

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756189352