إسلام ويب

ضُربت عليهم الذلةللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • وصف القرآن اليهود بأن الذلة ملازمة لهم أينما ثقفوا، فهي مضروبة عليهم كما تضرب أطناب الخيام، ولا تنزع عنهم إلا بشيئين: الأول: دخولهم في الإسلام، والثاني: استقواؤهم بالناس. وما نلاحظه هذه الأيام من تغطرس اليهود إنما هو لاستقوائهم بغيرهم.

    1.   

    صدق خبر الله

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! يقول الله تعالى في كتابه العزيز: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]، في هذه الآية القصيرة يخبرنا سبحانه وتعالى عن وصف كلامه الذي أنزله على رسوله، والذي نقرءه مساء صباح، يخبرنا سبحانه وتعالى عن وصف هذه الكلمات في هذا الكتاب وفي غيره من الكتب، فقال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ[الأنعام:115]، التمام يعني: بلوغ الشيء أقصى غاية في الحسن، وكلام الله تعالى في كتابه: إما أخبار يخبرنا سبحانه وتعالى بها عن أمور ماضية أو أمور مستقبلة، وإما أحكام يأمر سبحانه وتعالى وينهى، وكلا النوعين من الكلام قد بلغا الغاية في الحسن.. كيف بلغا الغاية في الحسن؟

    يقول العلماء: ماذا يقصد الناس من المخبر حين يخبرهم؟ ألا يقصدون منه ويطلبون منه أن يكون صادقاً معهم؟ هذا هو مطلوب الناس من المخبر حين يخبر، ومطلوب الناس من الحاكم حين يحكم أن يكون عادلاً، فهذان المقصودان من الكلام، الصدق حين الخبر، والعدل حين الأمر والنهي، حين الحكم.

    وكلام الله تعالى في كلا النوعين بلغا الغاية في الحسن، فإنه سبحانه وتعالى الصادق في أخباره، وهو سبحانه وتعالى العادل في أحكامه، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، تمت كلمات الله من جهة الصدق فلا يمكن لأحد أبداً أن يأتي بخبر أصدق من خبر الله! هكذا قال الله لنا في كتابه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء:122] ، أي: لا أحد أصدق من الله في قوله، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87] ، أي: لا أحد أصدق من الله في حديثه.

    فالله عز وجل أصدق من قال، وأصدق من تحدث، وكلماته تمت في الصدق، فلا مبلغ للصدق أعلى من المبلغ الذي بلغته كلمات الله.

    وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا [الأنعام:115]، وتمت عدلاً أيضاً، فإنه إذا حكم يحكم بالعدل، فلا يقدر أحد أن يأتي بحكم أحسن من حكم الله، ولا يقدر أحد أن يأتي بحكم أعدل من حكم الله، تمت في العدل فبلغت الغاية فيه، ولذلك يقول لنا ربنا في كتابه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا [المائدة:50]، أي: لا أحد أحسن من الله حكماً، لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

    ثم أخبرنا سبحانه وتعالى بخبر آخر فقال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، أي: لا يستطيع أحد أن ينقض هذا الكلام، فالكلام الذي يجيء به الله، والأحكام التي يشرعها الله لا يستطيع أحد أن ينقضها فيأتي بخلافها ويثبت أن فيها خللاً، أو يثبت أن فيها ريباً، أو يثبت أن فيها جوراً، لا يقدر أحد على هذا، لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

    فلا يقدر أحد كائناً من كان أن يثبت أن في أخبار الله تعالى ريباً، أو في أخبار الله تعالى شكاً، أو أن أخبار الله تعالى لا توافق الواقع، لا يقدر أحد كائناً من كان على إثبات هذا، وهذا ما نطق به الكتاب العزيز في أول آياته في أول المصحف، نقرأ وصف الله لهذا الكتاب: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2]، ليس فيه شك، وليس في أخباره ما يتطرق إليه الشك.

    1.   

    وصف اليهود في القرآن

    هذه المقدمة أردت بها أن تكون مقدمة بين يدي حقيقة من حقائق القرآن نقرءها ونمر عليها مساء صباح, وهي ما أخبر الله تعالى به في كتابه عن أمة اليهود وما هو حالها، هذه الأمة التي عصت الله، واعتدت على أنبياء الله، وحرفت دين الله، وعادت رسل الله، وبغت في الأرض الفساد، هذه الأمة ماذا يقول عنها القرآن فيما يقول؟

    ضرب الذلة على اليهود

    يقول سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:112] ، هذا خبر من أخبار الله في كتابه، كيف نقابله؟ كيف نؤمن به؟ كيف نصدقه؟

    يخبرنا سبحانه وتعالى بأن هذه الأمة ضربت عليها الذلة، فقال: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ [آل عمران:112]، وانظر إلى تعبير القرآن كيف أخبر الله عن الذل الذي نزل باليهود، ليس ذلاً عارضاً جاءهم فترة ويرتفع عنهم، ليس ذلاً عارضاً جاءهم بسبب ظرف طارئ ثم يرتفع بارتفاع ذلك الظرف، أبداً، إنه ذل دائم، ذل ملازم لهم لا يرتفع عنهم إلا بأحد سببين.

    أخبر تعالى عن إحاطة الذل بهم بهذا المثل العظيم فقال: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [آل عمران:112]، فشبه الذل بالخيمة لأن الخيمة هي التي تضرب، يقال: ضرب الناس خيامهم، أي: ثبتوا خيامهم، فالذل ضرب عليهم ضرباً، وأحاط بهم من جميع جهاتهم، فلا يجدون منه منفذاً ولا مسلكاً كإحاطة الخيمة بالساكن فيها، كما تحيط الخيمة بمن دخلها من جميع جوانبه، فكذلك الذل أحاط بهذه الأمة, ونزل بها من جميع جوانبها.

    أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمران:112]، يعني: في أي مكان وجدوا، وفي أي زمان وجدوا، فإن هذا الذل مصاحب لهم، مرافق لهم، لا يرتفع عنهم، إلا في حالين: إذا عرض لهم أحد أمرين فإنه يرتفع عنهم هذا الذل: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، بسبب من الله تعالى، أو بسبب من الناس.

    الحال الأول: بسبب من الله: يعني: أن يدخلوا في دين الله، وأن يعتصموا بحبل الله، فإذا اعتصموا بحبل الله وتمسكوا بعروة الله الوثقى، ودخلوا في الإسلام صاروا أعزةً بعزة الإسلام، كما قال عمر رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، هذه العزة هي التي تنالها أمة اليهود إذا دخلوا في دين الله واعتصموا بحبل الله، وآمنوا برسول الله، واتبعوا دين الله ارتفع عنهم ذلك الذل، وغشيتهم عزة الله لعباده المؤمنين.

    والحال الثاني: وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ[آل عمران:112]، بسبب من الناس، حين يستنصر اليهود بالناس ويستقوون بالناس فإنهم يظهرون للناس في موقف العزة، يظهرون للناس في موقف التعزز، وهم في الحقيقة إنما يمارسون البغي والطغيان، هم في الحقيقة يمارسون الاعتداء والظلم وليس العز؛ لأن العز لا يدعو صاحبه للتكبر والظلم، العز لا يدعو صاحبه للبطش والتجبر على الضعفاء والمساكين، ليس عزاً! ولكنه البغي والطغيان.

    لكن هذه القوة وهذا التمكن لا يحصل لهم بذوات أنفسهم، ليس شيئاً نابعاً منهم هم، لا بقوتهم الروحية، ولا بقوتهم الدينية، ولا بقوتهم العسكرية، إنما بالقوة التي يستمدونها من الناس، بالقوة التي يتذرعون بها ويتقوون بها في الناس.

    ونحن جميعاً سمعنا الناطق الرسمي باسم حكومتهم يتكلم بعد هذه الأحداث ويقول: القوة الكبرى معنا، القوة الفاعلة معنا، صحيح أنهم يبطشون ويتجبرون ويقتلون ويظلمون لكن الحقيقة أنهم لا يعتمدون على مجرد قوتهم، إنهم يعتمدون على حبل الناس.

    هذا الحبل أيها الإخوة! حبل قد يمتد طويلاً وقد يقصر، ومن الناس الذين يشاركون فيه؟

    الناس أنواع، والتاريخ اليهودي يقول: إن اليهود تمنعوا وارتفع عنهم الذل في أحقاب متفاوتة من التاريخ بحسب أنواع من الناس، دخلوا في عز الإسلام يوماً ما، وحماهم الإسلام والمسلمون، ورفعوا عنهم الذل والضيم الذي تعرضوا له من أمم النصارى التي تدافع اليوم عنهم وتحميهم.

    ورأينا نحن في اللافتات التي رفعها الأتراك وهم يتظاهرون لنصرة غزة كتبوا على لافتاتهم حمتكم سفننا عام 1400م واليوم أنتم تقذفون هذه السفن؟ هذه السفن العثمانية حمتهم في يوم ما، وذهبت بهم إلى شط الأمان، وابتعدت بهم عن مواقع الردى والهلاك والموت، حماهم العثمانيون في يوم ما، يوم كان يبطش بهم النازيون، يوم كان يحرقهم من حرقهم، ويستبيح دماءهم وأعراضهم وأموالهم، حماهم المسلمون، وكان حبل الله لهم هو حبل قوة الإسلام.

    اليهود يكفرون النعم

    وتقلبت الأيام وامتد لهم حبل آخر، حين ضعف المسلمون، وهي عادة اليهود دائماً يقابلون أعظم النعم بأعظم الإساءة، هذه عادتهم التي قررتها هذه الآية، أعظم نعمة أسديت إليهم, أكبر نعمة ساقها الله إليهم: نعمة الأنبياء، نعمة الهداية إلى الدار الآخرة، نعمة الهداية إلى الجنان الخالدة، إذا أتاهم النبي يدلهم على الله ويعرفهم بهدي الله، ويسوقهم إلى جنة الله أي نعمة أعظم من هذه النعمة؟

    يقابلونها بأعظم الإساءة، يقتلون هذا النبي، يزهقون دم هذا النبي، يقتلون في اليوم الواحد آلافاً مؤلفة، كما في كتب التاريخ، في يوم واحد قتلوا سبعين ألف نبي, كما يذكر هذا المؤرخون، يقتلون الأنبياء، هي عادتهم، يكافئون النعم بألوان من النقم، ويكافئون المحسن بأعظم أنواع الإساءة.

    وهذا ما فعلوه مع المسلمين، المسلمون الذين حموهم وأنجوهم وساندوهم هم اليوم بلاء، وهم اليوم نقمة على هذه الأمة التي أسدت لهم ما أسدت من الخير، هذه الدولة العثمانية حمتهم في يوم ما، ولكنهم يقابلون ذلك الجميل بهذه الإساءة.

    وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران:112]، لما ضعف المسلمون استقوى اليهود بغير المسلمين على المسلمين، كافئوا المسلمين بأعظم الإساءة واستقووا عليهم بعدوهم.

    نحن اليوم بحاجة أن نفهم سنن الله في الكون، سنن الله في المجتمعات، سنن الله في الذل والعز، اليهود ليسوا أمة عزة، اليهود ليسوا أمة قوة، اليهود كتب الله عليهم الذلة, فهم مشتتون في الأرض, مفرقون في الأصقاع, كتب الله عليهم المسكنة كما قال المفسرون: ألزمهم الذل الظاهر والباطن، الذل في قلوبهم والمسكنة في ظواهرهم.

    ولذلك قال العلماء: لا تجد يهودياً يحب أن يظهر للناس بأنه غني إلا ما شذ وندر؛ لأن الله طبع المسكنة في قلوبهم، هذه سنة الله وعقاب الله الذي جرى على هذه الأمة، لكن لهذا الكون سنن تحكمه، لهذه المجتمعات قوانين تجري وفقها.

    عدوان اليهود وعصيانهم

    سن الله عز وجل سنناً كونية للناس، ولذلك أخبر سبحانه بأن اليهود إنما نزل بهم ما نزل من الذل، وطبع عليهم ما طبع من المسكنة بسبب أعمال عملوها، قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ[آل عمران:112]. ثم أجمل الأسباب كلها، فقال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:112].

    أنت ماذا تفهم حين تقرأ قول الله تعالى مذيلاً لهذه الآية بهذا القانون العام: ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران:112]، إنما ضرب عليهم الذل بسبب عدوانهم، إنما كتبت عليهم المسكنة بسبب عصيانهم، فمن عصى الله واعتدى على أمر الله لا بد أن يصيبه نصيب من الذل قل أو كثر.

    وليس هذا خاصاً باليهود، فإن الله كتب الذل على كل من خالف أمره، كتب الذل على كل من عصى أمره ونهيه، هذه سنة الله في المجتمعات، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة, وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ).

    هذه الأمة يجري عليها هذا القانون حين تعصي الله، حين تتعدى على حدود الله، حين تعطي ظهرها لدين الله، يكتب الله عز وجل عليها من الذل بحسب هذا العصيان، بقدر هذا التنكر والتنكب لدين الله يكتب عليها من الذل بقدره، وإلا فما معنى مليار وثلث المليار لا يستطيع أحد منهم أن ينصر مجموعة من المسلمين محاصرين في مكان لا يصلهم الطعام ولا الشراب ولا الدواء، ما معنى هذا الذل؟ إنه ليس ثم إلا عقاب إلهي نزل على هذه الأمة وذلك بسبب عصيانها، بسبب اعتدائها، هذه الأمة انصرفت إلى دنياها.

    1.   

    سبب تسلط اليهود على المسلمين

    اليوم نحن نعاني مشكلة حقيقية، اليوم أكثر المسلمين -إلا من رحم الله- يجعلون قضية فلسطين قضية الأقصى قضية بيت المقدس الأرض المباركة التي كلفنا بحمايتها، التي نقل الله عز وجل السلطان عليها من أيدي الأمم السابقة إلى هذه الأمة في أعظم مراسيم، نقل إليها نبيه وأحضر الأنبياء جميعاً وجعل هذا الرسول صلى الله عليه وسلم إماماً لهم ليخبرهم بأن القيادة انتقلت إلى هذا الرسول وإلى أمته، وإلى أن الولاية على هذا المسجد انتقلت لهذه الأمة.

    هذه البقعة التي كلفنا الله الدفاع عنها والحماية لها والذب عنها، اليوم كثير من المسلمين لا تعنيهم هذه القضية وإن عنتهم فإنها تعنيهم في سطوح الاهتمامات، فيما زاد وفاض من اهتماماتهم، لكن أين الاهتمامات؟ كل واحد منا مهتم بدنياه، كل واحد منا همه بطنه، همه راتبه، همه كيف يعيش آمناً سالماً في وطنه، بين أهله، بين أولاده.

    لما انصرف المسلمون إلى دنياهم كتب الله عز وجل عليهم هذا الذل، استمع إلى هذا الحديث جيداً، وهو في أصدق الكتب وأثبتها بعد كتاب الله، في صحيح البخاري يروي لنا أبو أمامة رضي الله تعالى عنه حديثاً, وقد مر فرأى آلة الحرث في بيت من البيوت, رأى الحديدة التي تحرث بها المزرعة, فقال وهو ينظر إلى آلات الحرث يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تدخل هذه بيتاً إلا أدخل الله عز وجل فيه الذل )، هذه الآلات إذا دخلت بيت دخل معها الذل على أهل هذا البيت، ما معنى هذا الحديث؟ الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، يقول العلماء: عندما ينصرف الناس إلى الدنيا.. إلى الحرث.. إلى المزارع وينسون الاستعداد للقيام بالمهمات الكبيرة، إقامة الحق، إقامة الخير، نشر الفضيلة، الدفاع عن المستضعفين، إقامة حكم الله على هذه الأرض، هذه وظيفة المسلم، وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30].

    المسلم خليفة الله على هذه الأرض يقيم دينه، وينصر شرعه، يحكم بالعدل، وينصر المستضعف، ويأوي المسكين، وينشر الفضيلة، وينهى عن الرذيلة حتى يسعد هذا الكون بدين الله، هذه وظيفة المسلم، لما ينصرف المسلم عن هذه المعاني النبيلة، عن هذه الاهتمامات الكبيرة ليصبح همه كيف يأكل! وماذا يأكل، وماذا يلبس، وماذا يركب، وأين يسكن، وماذا يخطط غداً من مشاريع؟ لما تنصرف كل الاهتمامات إلى هذا, وننسى ذلك الدور الذي أنيط بهذه الأمة، هنا يدخل علينا الذل من أوسع الأبواب، (لا تدخل هذه بيتاً إلا أدخل الله عز وجل عليه الذل).

    وفي الحديث الآخر الذي نحفظه ونردده جميعاً يقول عليه الصلاة والسلام: ( إذا تبايعتم بالعينة )، وهي نوع من أنواع التحايل على الربا بقصد الإكثار من المكاسب، وتكثير الأرصدة من دون مبالاة، وإنما الأهمية في كيف نحصل على الدرهم والدينار، ( إذا تبايعتم بالعينة, ورضيتم بالزرع, وأخذتم أذناب البقر, سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم )، ذل يفرض عليكم، وهذا الذي نعيشه اليوم، حتى من كان عنا بعيداً عن أراضي المعارك والحروب، يعيش ألواناً من الذل في كلامه، في تصرفاته، في أي شيء يريده يعيش ألواناً من الذل، ضرب عليكم الذل, ( وسلطه عليكم لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ).

    هذه سنة الله يا إخوان! نحن نعيش ذل النعم، ولا يمكن أن يتغير الحال بين عشية وضحاها! ليس هناك حلول سحرية كما يتصور البعض، هناك قوانين كونية ينبغي أن نسير وفقها حتى نصل إلى ما أخبرنا الله عز وجل عنه.

    في مقابل تلك الكلمة التي أخبر فيها سبحانه بأنه ضرب الذل على اليهود، في مقابلها كلمة أخرى في كتاب الله، وهي: أن الله كتب العزة للمؤمنين، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] ، العزة كتبها الله للمؤمنين، فأين العزة؟

    قال بعض المفكرين: إذا أردت أن تسأل أين العزة فسل ما هو الإسلام؟ وأين المسلمون منه؟ إذا رأيت الإسلام الحق الذي جاء به محمد, ورأيت المسلمين مستمسكين به قائمين بأركانه وشعائره حينها لك أن تتساءل، إذا رأيت الحال على خلاف ما أخبر الله، لكن الله أخبر عن عز لأهل الإيمان، فإذا نقص إيمانهم نقص عزهم، وإذا زال إيمانهم زالت عزتهم.

    نحن نعيش ألواناً من الذل بحسب ما نعانيه من الانصراف عن دين الله، والانصراف للاهتمام بالدنيا والمطالب السفلى والهمم الدنيئة، وإذا راجعنا ديننا، إذا أصلحنا ما بأحوالنا سيغير الله عز وجل الوضع.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه, إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    الرغبة في الإصلاح ونصرة المستضعفين في فلسطين

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! ينبغي أن نكون واقعيين في تفكيرنا ورغبتنا في التغيير إذا كنا نطمع للتغيير، الواقعية تقتضي أن يصلح الناس أحوالهم أولاً فيما بينهم وبين ربهم، أن يصلح الناس حالهم مع دينهم، هذا ليس تخديراً للمشاعر، وليس تثبيطاً للهمم، لكنه الحديث عن السر الحقيقي وراء عزة المسلمين، إذا أردنا العزة فأول الخطوات لهذه العزة: أن نبدأ بإصلاح ديننا، أن نراجع ديننا، ومن هذه الأمة المسلمة إلا أنا وأنت! من هذه المجتمعات إلا أسرتي وأسرتك! من هذه الشعوب وهذه الدول إلا حينا والحي المجاور لنا!

    نحن الذين نشكل هذه الأمة الكبيرة, فإذا أخذنا على عواتقنا فعلاً همّ الإصلاح, وبدأ كل واحد منا يصلح نفسه، ويصلح بيته، سنجد أن حالنا ومجتمعنا يتغير لا محالة، وهذا والله واجب يتعين علينا الأخذ به، لأن هذه تكاليف كلفنا بها.

    نحن بحاجة أن نصلح أنفسنا في تصوراتنا وعقائدنا، في أخلاقنا، في عباداتنا، في تعاملنا، في تربية أبنائنا وبناتنا، نحن بحاجة أن نصلح أنفسنا، وهذا الإصلاح جزء وسبب من أسباب النصر والتمكين الذي يريده الله عز وجل لأمة الإسلام.

    أيها الإخوة! نحن مع هذا يثبت لنا الواقع كل يوم أننا نقدر أن نفعل شيئاً، ومن أعظم الدروس التي رأيتها أنا في هذه الأحداث الأخيرة, والتي استفدناها أن هذه الأمة.. أنا وأنت نستطيع أن نقدم الكثير لقضايانا الكبيرة، قضية فلسطين وشعب غزة الذين قد كان العالم قارب على نسيانهم, فلا يتحدث عنهم إلا لماماً، مجموعة من الناس من هذه الأمة ركبوا الأخطار وقدموا أنفسهم في سبيل الله, مات منهم من مات، نسأل الله لهم المغفرة والرحمة، وجرح منهم من جرح، وضرب منهم من ضرب، لكن أين النتيجة؟

    العالم كله يتحدث اليوم عن الظلم الواقع على غزة، والمتكبرون المتغطرسون يستحون فيضطرون إلى أن يتكلموا بغير الكلام الذي كانوا يتكلمون به بالأمس إلا من شذ منهم. واليوم كثير من حبل الناس الذي كان حبلاً لليهود يوشك أن ينصرم وأن ينقطع عنهم.

    اليوم كثير من الناس ينادون بنصرة المستضعفين في غزة، وهذه ثمرة لجهد المقل، هذه ثمرة لجهد بسيط قام به أفراد حملوا هذا الهم في لحظة من لحظات حياتهم، وقرروا أن يذهبوا إلى إخوانهم، جمعوا لهم التبرعات، وجمعوا لهم المؤن، وذهبوا وهم يعلمون خطورة هذا الفعل، وقد سمعنا غير واحد وهم يتكلمون على الشاشات ويقولون: نحن نعلم بأننا سنهاجم، لا نتوقع أن نقتل لكن نتوقع أن نهاجم.

    أيها الإخوة! هذا الفعل يدلنا على أن هذه الأمة لا تزال تستطيع وتقدر على أن تقدم ما تقدم، هذه الاستطاعة بحسب ما يقدر عليه الإنسان، الله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ، ويقول سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].

    لكن ما هي هذه القدرات التي آتاك الله؟ ما هي هذه الاستطاعة التي أنت تقدر عليها؟ ألا تقدر على أن تشغل نفسك على الأقل في داخلك، في همك، في أحاسيسك، ألا تستطيع أن تشغل نفسك بهم هذه القضية والدعاء لأهلها والاستنصار لهم من رب النصر والعزة؟ ألا تستطيع أن تدعو لهم في صلاتك؟ هل تتذكرهم أنت في جوف الليل الآخر؟ هل تتذكرهم وأنت في سجودك؟ هل فكرت يوماً أن تدعو لهم؟ هذا نوع من النصر لا تستبطئوه ولا تستصغروه!

    ورد في الحديث الصحيح أن ثلاثة من المسلمين وهم: الوليد بن الوليد ، سلمة بن ربيعة ، و هشام بن عياش أسلموا ورجعوا إلى مكة، ولما علم بهم أهل مكة أسروهم جميعاً، فوجدوا فرصة للفرار والهلاك, فخرجوا من مكة هاربين, فلما أبلغ النبي عليه الصلاة والسلام عن خبرهم, وأنهم في الطريق إلى المدينة فارين هاربين, وأن الكفار يطلبونهم ويجرون وراءهم، فما هو موقف النبي عليه الصلاة والسلام من قضية بهذا الصغر؟ الذي نحن لا نبالي به، لا نبالي بالأسرى الذين وزعوا على سجون العالم! وربما لا نسأل عنهم ولا نفكر فيهم، وهؤلاء ثلاثة.

    يقول جابر رضي الله تعالى عنه: ( لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركوع صبيحة خامس عشرة من رمضان قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد ، و سلمة والثالث )، في كل صلاة يدعو لهم، وظل عليه الصلاة والسلام يدعو لهم في صلواته حتى صبيحة يوم العيد، ثم توقف ولم يدع عليه الصلاة والسلام, فقال عمر : (يا رسول الله! ما لك لم تدع لفلان وفلان وفلان؟ -على خلاف العادة- قال عليه الصلاة والسلام: أوما علمت بأنهم قد وصلوا )، وصلوا بحمد الله، وصلوا بسلامة الله، هذا مظهر من مظاهر النصر، أن تعيش أخي قضية أمتك، وأن تفكر فيها أثناء ليلك، وأثناء نهارك.

    نحن قادرون أيها الإخوة! كل في مكانه وفي مركزه قادر على أن نؤثر في مجرى هذه الأمور ولو بالشيء اليسير, لكن لا شك ولا ريب أنه مع المدى يقطع الحبل الحجر، ولا نركن إلى السنن الكونية فقط، لا نركن إلى السنن الإلهية فقط التي أجراها الله عز وجل في باب الأسباب، كما لا نركن أيضاً على كوننا مسلمين ونركن إلى الدعاء وحده، وقد قال بعض الحكماء, وهو رأى بعض الناس يتداوون بالدعاء وحده ولا يستخدمون الأدوية، فقال: لو كان مع الدعاء شيء من قطران.

    ينبغي لنا أن نجمع بين الأسباب بنوعيها، نعتمد على إيماننا فنصلح أحوالنا الدينية، ونعتمد على ما نقدر عليه من الأسباب المادية، والله عز وجل ناصر دينه لا محالة، ومتم كلمته لا محالة، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام في الحديث العظيم: ( لا يبقى بيت مدر ولا وبر )، يعني: في حاضرة أو بدو، ( إلا أدخله الله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل، عز يعز الله به الإسلام، وذل يذل الله -عز وجل- به الشرك).

    لا بد أن يدخل الإسلام كل بيوت الأرض من مدر أو وبر، إما أن يعزهم الله بالإسلام، وإما أن يذلهم الله عز وجل بالإدانة والخضوع وجريان أحكام الإسلام عليهم كرهاً، ( بعز عزيز، أو بذل ذليل ) .

    لكن هذه السنة الكونية التي جرت -سنة الابتلاء- لا بد من العمل بها، قال الله في سورة محمد وهي التي يسميها المفسرون: سورة القتال: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وإلا لو شاء لذهب بهم بنفخة, كما فعل بالأمم السابقة، (ولكن ليبلو بعضكم ببعض).

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل الشرك وحزبه.

    اللهم يا قوي يا عزيز! اللهم يا قوي يا عزيز! اللهم يا قوي يا عزيز! عليك بأعداء الإسلام فإنهم لا يعجزونك.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756014483