إسلام ويب

فضل الصدقةللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الصدقة من أعظم أعمال البر في رمضان، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع الناس إلى ذلك لأسباب متعددة، وتعد الصدقة من الأعمال التي تتضاعف عند الله، وتطهر صاحبها من البخل وغيره من الأمراض الباطنة، لكن ينبغي على رب المال أن يتعلم أحكامها حتى يكتمل أجره وثوابه.

    1.   

    معالم في الصدقة والإنفاق

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ‏

    سبب كون رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود الخير من الريح المرسلة

    أيها الإخوة في الله! روى الإمامان البخاري و مسلم رحمهما الله في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه كل ليلة فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة )، هذا الحديث العظيم يبين لنا الترابط بين الصدقة والصيام، بين الصدقة والقرآن، بين الصدقة وهذا الزمن الفاضل شهر رمضان، الجود والصدقة محبوبان عند الله في سائر الزمان، إلا أنهما في هذا الزمان أشرف وأحب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفه ابن عباس ( كان أجود الناس في سائر أيامه، ولكنه صلى الله عليه وسلم إذا دخل رمضان كان أجود بالخير من الريح المرسلة ) (الريح المرسلة) يعني: الريح المطلقة، التي تهب على كل مكان، فتعم بخيرها كل ما تقع عليه، وهكذا كان رسول الله أسرع بالخير في شهر رمضان من الريح المرسلة، فخيره عام للناس جميعاً.

    كان أسرع ما يكون بالخير في شهر رمضان لأسباب وعوامل:

    أول هذه الأسباب: مدارسته للقرآن، فمدارسته لـجبريل في ليالي هذا الشهر الفضيل للقرآن تورث في نفسه مزيداً من أحوال الغنى، وهذا حال من قرأ القرآن بتدبر وإمعان، فإن القرآن يورث للنفوس غنى، ويحثها على الإقبال على الخير والتقديم للصالحات.

    وثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة في هذا الشهر؛ ليتخلق بأخلاق الله، ويتشبه بأفعال الله، فإن الله عز وجل ينعم على عباده في هذا الشهر ما لا ينعم عليهم في غيره، فأحب عليه الصلاة والسلام أن يتشبه بالله في هذه الأخلاق، وأن يجري على عادة الله في الكرم والجود، فكما أنه يتكرم ويجود على العباد في رمضان بما لا يتكرم عليهم في غيره، فأحب عليه الصلاة والسلام أن يجود في رمضان بما لا يجود في غيره، وفي رمضان يؤدي الإنسان هذه العبادة العظيمة عبادة الصيام، فتورثه معرفةً بأحوال الفقير، تذكره أمعاء بطنه بحاجة الجائع، ويذكره لظى أحشائه بحاجة الظمآن إلى شربة الماء، فيجره ذلك إلى الإنفاق والصدقة.

    الصدقة عنوان على الإيمان باليوم الآخر

    الصدقة ركن ركين من أركان هذا الدين وقد جعلها سبحانه وتعالى عنواناً على الإيمان باليوم الآخر، ففي غير موضع يربط سبحانه وتعالى في كتابه بين الإحسان إلى الناس وبين الإيمان باليوم الآخر، وفي غير موضع من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يربط بين النجاة من أهوال يوم القيامة وبين الصدقة وفعل المعروف إلى الناس، وقد وصف سبحانه وتعالى المكذبين بالدين بأنهم يدعُّون اليتيم، ولا يحضون على طعام المسكين، فأوضح صفاتهم، وأجلى مظاهرهم، فالذين لا يؤمنون بيوم الدين صفاتهم أنهم لا يحبون الصدقة، ولا يتحاضون عليها، بل ينهرون الفقير والمحتاج، ويقابلهم أهل الإيمان، فأهل الإيمان وصفهم الله عز وجل بصفات مقترنة بالنفقة، فأهل الهداية هم في أول المواطن من كتابه سبحانه وتعالى التي يتكلم فيها عن الفلاح في الدارين، وقد ربط بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1-3]، هؤلاء هم المفلحون كما أخبر سبحانه وتعالى في آخر الآيات، الفلاح في الدارين، بأن ينال الإنسان ما يحب، وينجو مما يكره، فسبيله أن يترفع الإنسان عن خصاصة نفسه، وسبيله أن يترفع الإنسان عن أدواء نفسه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

    الصدقة تطهير للإنسان من داء البخل

    شرع الله عز وجل الصدقة، وتصدق هو سبحانه وتعالى على العباد قبل أن يشرعها، شرع سبحانه وتعالى الصدقة ليتطهر الإنسان من هذه الأدواء الخبيثة القاتلة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ( وأي داءٍ أدوى من البخل )، ليس هناك مرض فتاك، مرض هادم للنفس وهادم للدين مثل البخل، فالبخل يفتك بدينك، وصحيح أن البخيل الشحيح الممسك يتمتع بالمال أياماً أو ساعات أو سنين، لكنه لا يدري ما يعقبه هذا التمتع من ألم وحسرات في الدار الآخرة، حسرات فوت الثواب والأجر، وحسرات العقاب إذا فرط في الواجب، فليس هناك داءٌ قاتل داءٌ مهلك لهذا الإنسان ولدينه مثل داء البخل، وأي داء أدوى من البخل؛ ولذلك دعا سبحانه وتعالى العباد بألوانٍ من الدعاء، وبأصناف من الترغيب، وصرف الآيات في كتابه العزيز، وتحدث عن الإنفاق والنفقة في عشرات المواضع من كتابه العزيز، يحث الناس على الصدقة.

    محبة الله للمتصدقين

    وأخبر عليه الصلاة والسلام بأنه سبحانه وتعالى جواد يحب الأجواد، كريم يحب الكرماء، هذه أخلاق الله، فالكرم من أحب صفاته إليه.

    ومن أحب صفات العباد إليه: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف:88]، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وفي مواطن عديدة يخبر سبحانه وتعالى عن محبته لهذا الصنف من الناس، ووعدهم سبحانه وتعالى بأنه يخلف عليهم كل ما أنفقوه، قل ذلك المخرج أو كثر، فإن النفقة إذا خرجت من يد العبد وقعت في يد الله، (فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله)، كما يربي الإنسان الصغير من النعم، فينمو ويكبر على يديه، فإن الصدقة يتناولها الله وتكبر عنده سبحانه وتعالى وتعظم.

    بعض ما ورد في فضل الصدقة من أحاديث

    قال عليه الصلاة والسلام لـعائشة لما ذبحوا في بيته شاةً فتصدقوا ببعضها، وبقي شيء منها في البيت يؤكل، سأل عائشة قال: ( ماذا بقي؟ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها )، يعني: تصدقنا بجميعها، ولم يبق لنا إلا الكتف، فقال عليه الصلاة والسلام: ( بقيت كلها إلا كتفها )، (بقيت كلها)، فهذا هو الباقي على الحقيقة ( يقول ابن آدم: مالي! مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت )، إذا تصدقت فإنما تقدم لنفسك، وإن الحياة لا تنقطع بالممات، فالموت انتقال إلى حياة أدوم وأطول، الموت انتقال إلى حياة أوسع وأوفر، والمتصدق إنما يقدم لنفسه، ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟! قالوا: ما منا من أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه! قال: فإن مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر )، فهذا هو المال الحقيقي الذي ينتفع به الإنسان، وحقيقة المنفعة أن تقدم لنفسك، وكما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة )، فالذين يفعلون المعروف في الدنيا هم الذين يُفعل لهم المعروف في الآخرة، والجزاء من جنس العمل، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( ما من مسلمٍ يكسو مسلماً ثوباً على عري إلا كساه الله من خضر الجنة، وما من مسلم يطعم مسلماً على جوع إلا أطعمه الله من ثمار الجنة، وما من مسلم يسقي مسلماً على ظمأ إلا سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم )، لنفسك تقدم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147]، إنما تمهد لنفسك، وتقدم لنفسك، ويأتي العبد يوم القيامة كما أخبر عليه الصلاة والسلام في ظل صدقته، ( المرء في ظل صدقته يوم القيامة ).

    الصدقة برهان على إيمان العبد وتصديقه بوعد الله

    الصدقة أيها الإخوان! عنوان الإيمان، عنوان التصديق بوعد الله، فإن الله عز وجل وعد على الخلف، ونصب ملكين على بابين من أبواب الجنة: ( أما أحدهما فيقول: من يقرض الله اليوم فيضاعف له غداً؟ وأما الآخر فيقول: ما أنفق عبد من نفقة إلا أخلف الله عليه )، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    إن الإيمان بهذه الوعود برهانه ودليله الصدقة؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم : ( والصدقة برهان )، الصدقة برهان عملي على الإيمان، فإن الإنسان لا تجود نفسه بإخراج ماله وهو أحب المحبوبات إلى النفس إلا إذا أيقن بأن وراء هذا المال ما هو أنفع، إلا إذا أيقن بأنه سيجني بهذا المال لذةً هي أعظم من لذة المال: ( والصدقة برهان )، ( الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار )، هكذا قال عليه الصلاة والسلام، نحن في أشرف الأزمان، وفي أحب الأزمان التي يتصدق فيها؛ ولذلك جاء في سنن الترمذي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة؟ فقال: صدقة في رمضان ). فأفضل الصدقات أن يتصدق الإنسان في رمضان.

    الصدقة عنوان على شرف نفس صاحبها

    وشرفاء النفوس وكبار النفوس يطمحون إلى الإحسان إلى كل أحد، وفي كل زمان، ولكنهم في هذه الأزمان أحرص على الخير كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل، فمن كبرت نفسه وعلت همته فتجده حريصاً على الإحسان إلى الخلق؛ ليظفر بعد ذلك بإحسان الله عز وجل إليه، وشرفاء النفوس تسابقوا إلى الإحسان إلى الخلق قبل أن يعرفوا الشرع، وقبل أن يعرفوا الثواب الذي أعده الله عز وجل للمحسنين والمتصدقين.

    كان حاتم الذي خلد الله عز وجل له ذكر الكرم، مع كفره وشركه، إنما فعل الله عز وجل به ذلك جزاءً له في هذه الدنيا على ذلك الإحسان إلى الناس، كان كما روي عنه في تاريخه إذا بقيت لقيمات في يده لا يجد أحداً يأكلها رماها على الرمل للنمل، وقال: إنهن جارات، لنا جارات يحتجن إلى الأكل، لنا جارات يحتجن إلى اللقمة، هكذا علت النفوس، ولما علت النفوس جاءت الشريعة مكملة لهذه الأخلاق الفاضلة، متممة لهذه السجايا الحسنة، فندب الشرع أبناءه وحملته إلى التصدق بأنواع الصدقات، وأجل هذه الصدقات عند الله قدراً، وأكثرها ثواباً، وأعظمها نفعاً: أن يؤدي الإنسان الصدقة الواجبة، الصدقة المفروضة، كما قال سبحانه في الحديث القدسي: ( وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه )، فأفضل ما يتصدق به الإنسان ويرجو ذخره وثوابه ويرجو به الفوز والفلاح والنجاة أن يخرج زكاة ماله، أن يخرج الصدقة الواجبة، فهي أرفع الصدقات وأعلاها منزلة، ( وما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه )، فهي ثالث أركان الإسلام، وأحب الصدقات إلى الله وقد توعد الله عز وجل من بخل بها كما وعد سبحانه وتعالى من جادت نفسه بها: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، ومنها: أن يخرج زكاة ماله طيبة بها نفسه)، رافدة عليها كل عام، إذا حال الحول أخرج الزكاة بطيب نفس، أخرج الزكاة وهو يرجو الثواب والأجر، فهذا موعود بأشرف الهبات، إنه موعود بسعادة الدنيا وطمأنينتها وحلاوتها، ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان )، وهو موعود بأعلى الدرجات عند الله في الآخرة.

    1.   

    مآل البخيل في الآخرة

    وفي المقابل هناك صنف آخر بَخل واستجاب لداعي النفس، وسكن وخضع لداعي الهوى، فأمسك هذا المال وهو لا يدري ما العاقبة؟! بخل بهذا المال وهو لا يدري ما هي الخاتمة؟! وحقه أن يقرأ القرآن ليرى ما وعد الله عز وجل المانعين للزكاة، فقد ذكر سبحانه وتعالى آيتين في كتابه فيهما من الوعيد ما ينخلع له القلب، ويطير له الفؤاد، فيهما من الوعيد ما يروع الإنسان فلا ينام بعده، يقول سبحانه وتعالى في الآية الأولى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34-35]، أرأيتم كم هو الفرق بين من يكنز في هذه الدنيا وبين من يكنز في الدار الآخرة؟! إنه إذا جاء يوم القيامة صفحت له أمواله صفائح من نار، وتكوى بها مواضع جسده المتفرقة، ويؤتى بها من العذاب من جهاته المتفرقة، فيكوى بها جبينه، ويكوى بها ظهره، ويكوى بها جنبه، فلا تترك جهة من جهات جسده إلا وأتته تلك الصفائح وعذب بها، وهكذا أخبر عليه الصلاة والسلام في تفسير هذه الآية بهذا النوع من العذاب، إذا كان يوم القيامة صفحت له أمواله صفائح من نار، فكويت بها جنوبه وظهره وجبينه، ولا يزال كذلك حتى يقضي الله عز وجل بين العباد في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم بعد ذلك العذاب أشد وأدهى، وفي آية أخرى في آل عمران يخبر سبحانه وتعالى عن نوع آخر من الوعيد: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ[آل عمران:180]، لا تحسبه حسبة خطأً، لا تظن أن إمساك الواجبات، والشح في الفرائض، ومنع ما أوجب الله خيراً لنفسك، لا تظنه إكثاراً لمالك: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]، سيطوقون به يوم القيامة، كيف سيطوقون؟ بينها لنا صلى الله عليه وسلم بأنه (ما من صاحب مالٍ لا يؤتي منه زكاته إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان)، (شجاع) يعني: حية عظيمة، (أقرع) يعني: لا شعر على الرأس لكثرة السموم، فإن كثرة السموم أودت بالشعر وأهلكته، و(له زبيبتان)، يعني: له نطفتان سوداوان فوق العينين لشدة الإيحاش، ولإعظام الخوف له زبيبتان، (يطوقه، يأخذ بلهزمتيه) -يعني: بشدقيه- يجر اللهزمة حتى يوصلها إلى القفاء، ويفعل بالثانية مثلما فعل، فهو يعاني ألماً شديداً مع ألم الوحشة، يعاني عذاباً أليماً مع شدة الرعب والخوف، (ويقول له: أنا مالك، أنا كنزك وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[آل عمران:180]، إنما تترك كل ما بيدك والله عز وجل هو الوارث، إليه تنتهي كل هذه الأموال، وأنت منتقل عنها لا محالة، إما أن تنتقل هي عنك، وإما أن تنتقل أنت عنها، لن تخلد في هذه الدار، ولن تصطحب هذه الأموال معك، ستخرج بتلك الرقعتين، بتلك الخرقتين التي يلف بهما الجسد، وتقدم على عملك وحيداً فريداً: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180].

    أيها الإخوة! حثنا سبحانه وتعالى على الصدقة والإحسان؛ لما في الإحسان من خير وبر لهذا الإنسان، فالإنسان إذا أحسن إنما يحسن لنفسه، وإذا نفع إنما ينفع نفسه، وإذا تصدق إنما يتصدق على نفسه، وقد جاء في الحديث: ( أن الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة للملائكة بعدما أتوا بعبدٍ ليس له كثير عمل من الأعمال الصالحة، إلا أنه كان يبايع الناس في السوق فكان يتجاوز عنهم، ينظر المعسر ويتجوز في السكة، فقال الله عز وجل لهم: تجاوزوا عنه فنحن أحق بالتجاوز )، نحن أحق بأن نتجاوز عمن تجاوز مع عباد الله، ونحن أحق بأن نحسن إلى من أحسن إلى خلق الله، فمن أحسن إنما يحسن لنفسه، ومن بخل فإنما يبخل عليها، هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    فقه الإنفاق

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! وفي باب الإنفاق والصدقة نحتاج إلى فقه الإنفاق، أن نتفقه كيف ننفق؟ فإن النفقات يتفاضل أجرها بسبب فقه أصحابها ووضعها في مواضعها، والله أرشدنا إلى هذا النوع من الفقه في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ[البقرة:215]، جاءوا إليه يسألونه عن الشيء الذي ينفقونه، ماذا ينفقون؟ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:215]، سألوه عن الشيء الذي ينفقونه فأجابهم سبحانه وتعالى في المكان الذي ينفقون فيه، أرشدهم إلى ما هو أهم وهو موضع الصدقة والإحسان، وهذا أمر لا بد أن يرعاه المسلم، وأن يضعه في موضعه، لا سيما الصدقة الواجبة، (الزكاة)، فقد جعل الله عز وجل لها مصارف لا تجزئ صاحبها إلا إذا وضعت فيها، كما قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ[التوبة:60]، هكذا فرض الله، فقسم سبحانه وتعالى الزكاة بنفسه، ولم يكل صرف الزكاة إلى ملكٍ مقرب، ولا نبي مرسل، بل بين المصارف وحددها، فلا تجزئ الزكاة إلا إذا وضعت في مصارفها، وعلى الإنسان أن يتثبت في صدقته عموماً، وفي زكاته خصوصاً.

    التثبت في إيصال الصدقة إلى محلها

    لقد مدح الله أقواماً إذا أنفقوا أنفقوا مع التثبت، فقال سبحانه وتعالى في سورة البقرة: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:265]، ما أجمل هذا المثل، مثل الله عز وجل من ينفقون بهذين الوصفين، مثلهم سبحانه وتعالى بمن يملك بستاناً وجنة بربوة في مكان مرتفع من الأرض، يتمتع بالهواء العليل، فتطيب فيه الثمار، تلك الربوة يصيبها المطر وإن لم يكن مطراً غزيراً، وكان مطراً خفيفاً، فتؤتي أكلها ضعفين، فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ[البقرة:265]، والله عز وجل يضاعف الصدقات لمن يشاء، بهذين الوصفين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، إنهم إذا أنفقوا إنما يريدون بإنفاقهم وجه الله، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الإنسان، وهو يتحدث عن أهل الجنة أنهم: يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8-9]، بهذا الوصف ينال الإنسان أعلى المراتب عند الله أن تنفق ولو كانت زكاةً واجبة، أن تنفق الزكاة وتخرجها من مالك وأنت تنتظر ثوابها عند الله، تبتغي ما عند الله، هكذا ينبغي للمسلم أن يعمل أعماله كلها، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ[البقرة:265]، ولها معنيان: المعنى الأول (تثبيتاً من أنفسهم): أن أنفسهم لكمالها ولشرفها ولحبها للخير أصبحت محبةً للخير، تثبتهم على الخير، بل وتؤزهم إلى الخير أزاً، فهي نفس مطمئنة تؤمن بما عند الله، ترجو ثواب الله، فإذا جاء الشيطان إلى الإنسان يحاول أن يوسوس له ويزين له البخل، دفعته هذه النفس المؤمنة، وثبتته إلى الصدقة، ثبتته عليها ودفعته إليها، فهي تثبته وتساعده على الخير، وما يصل الإنسان إلى هذا إلا بالمداومة والاستمرار، ودوام المجاهدة للنفس، فكلما جاهدها يوماً ارتقت مرتبة، هذا المعنى الأول.

    والمعنى الثاني: (وتثبيتاً من أنفسهم) يعني: أنهم يتثبتون في مواطن الصدقة، أين يضعون الصدقة؟ وقد ندب الله عز وجل في آخر سورة البقرة الناس إلى أن يضعوا الصدقة في مواطنها التي يرتجى بها النفع، فقال: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:273]، أي: حبسوا في سبيل الله، فلا يستطيعون الخروج للضرب في الأرض، وطلب المعاش والرزق: لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا[البقرة:273]، فهؤلاء هم أولى الناس بأن يتصدق عليهم، وهم أهل الحاجة الذين يتعففون عن السؤال، ويظهرون للناس الغنى، فيحسبهم الجاهل بأحوالهم، الجاهل ببواطن أمورهم، أغنياء من التعفف؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ( ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، واللقمة واللقمتان، يقوم فيسأل الناس فيعطى ما يسأل، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه، ولا يتفطن له فيتصدق عليه )، هكذا ينبغي للمسلم أن يحرص على أن يضع الصدقة في مواضعها.

    الصدقة من مال حلال

    وينبغي مع هذا كله أن تكون الصدقة من مالٍ حلال، فإن الله عز وجل لا يتقبل من الصدقة إلا ما كان من كسبٍ حلال، ويخطئ كثير من الناس حين يضربون في أنواع المكاسب الحرام، ويوهمهم الشيطان بعد ذلك أنهم إذا تصدقوا بنسبة أو أخرجوا جزءاً فقد أحسنوا صنيعاً، وقد آتوا معروفاً، وأخطئوا وكذبهم إبليس وغرهم بوعوده الباطلة، فإن الله لا يقبل إلا طيباً، هكذا قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يقبل إلا طيباً )، ( إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن )، إن الله لا يقبل الخبيث، إنما يقبل سبحانه وتعالى ما طاب، ويروى عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه رأى رجلاً شاباً سرق تفاحة وذهب وتصدق بها، فلما سأله عن هذا الصنيع قال وهو يبرر هذا الفعل سرقتها فكتبت علي سيئة، وتصدقت بها فكتبت لي عشر حسنات، فأنا رابح تسع حسنات، قال: أخطأت، سرقتها فكتبت عليك سيئة، وتصدقت بها فلم يتقبل الله عز وجل منك، إنه من الحساب الخاطئ أن يظن الإنسان أنه باكتسابه وبإكثاره من الأموال الحرام، وأنه سيخرج جزءاً منها قد أحسن صنيعاً، فإن الله عز وجل لا يخادع، فالمال الحرام سبيله الوحيد لتتخلص من تبعته، سبيله الوحيد لتنجو من مساءلة الله تعالى وعقابه، طريقه الوحيد لتنجو من مغبته، ومن ألم حسرته في الدار الآخرة، أن تخرجه جميعاً ليس بنية الصدقة، ولكن بنية التخلص من الحرام والتوبة، فإن الله لا يتقبل من الصدقات إلا ما طاب.

    إننا عندما نتحدث عن الصدقة نتحدث عن صدقة يخرجها الإنسان من طيب ماله، من حلال ماله، مما حبب إلى نفسه، يخرجها وهو يرجو ثوابها عند الله، فهؤلاء هم المتصدقون، أما كُسّاب المال الحرام فإنهم إن تابوا وأحسنوا فإن الله عز وجل يحب التوابين، ويحب المتطهرين، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتائب حبيب الرحمن، فهو مجزي على توبته، مثابٌ على ندمه، مثاب على تخلصه مما بيده من الحرام، مثاب على ذلك كله، ولكننا إذا تحدثنا عن الصدقة نتحدث عن باب آخر.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    اللهم يا حي! يا قيوم! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحدٍ فيها شيئاً يا أرحم الراحمين.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاجعل كيده في نحره، وأشغله في نفسه، واجعل تدميره في تدبيره يا قوي! يا عزيز! اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! أعنهم ولا تعن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، وامكر لهم ولا تمكر عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756175794