إسلام ويب

حقوق العمالللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كرمت شريعة الإسلام العمل والعمال أيما تكريم، حيث وضعت ضوابط الحقوق والواجبات في العمل لكل من العمال وأرباب العمل، كما حثت على صحة العقود وإعطاء الأجير أجره وإيفائه حقه، وعدم تكليفه ما لا يطاق من العمل، وهذا يدل على كمال الشريعة وسموها.

    1.   

    الأمور التي لأجلها استحق العامل التكريم

    الحمد لله رب العالمين, نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا [الأحزاب:36].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله, حديثنا اليوم بتعميم من وزارة الأوقاف عن حقوق العمال في الشريعة الإسلامية, كيفية التعامل مع العامل من منظور الإسلام, بمناسبة احتفاء العالم باليوم العالمي للعمال, العالم يكرم العمال بهذا اليوم, وحق لهم أن يُكرَّموا, ولكن الشريعة الإسلامية تكرمهم على الدوام, العامل يستحق التكريم لأمور:

    اختياره أطيب المكاسب

    أول هذه الأمور: أنه إنسان اختار أطيب المكاسب, فإن نبينا صلى الله عليه وسلم حث على أن يأكل الإنسان من كسب يده, فقال عليه الصلاة والسلام: ( خير كسب يكتسبه المرء كسب يده ), أو كما قال عليه الصلاة والسلام, فأفضل المكاسب ما يأكله الإنسان من كد يده, ومن عرق جبينه, ومن اختار هذا الطريق فيحق له أن يكرم, الأنبياء جميعاً عملوا, كان زكريا عليه السلام نجاراً, وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم راعياً للغنم, وقد سئل عليه الصلاة والسلام في آخر سني عمره: ( هل رعيت الغنم يا رسول الله؟ قال: وهل من نبي إلا وقد رعى الغنم, وقد رعيت الغنم لأهل مكة على قراريط ), على أجرة كان يأخذها منهم, فالعامل اختار الطريق الصحيح ليعف نفسه وأهله, فينبغي أن يكرم لهذا المعنى أولاً.

    قيامه بخدمة الناس ونفعهم

    ثم ينبغي أن يكرم لما يقدمه للآخرين من خدمات جليلة وأعمال نافعة, وإن كان المقصود من ورائها نفع نفسه؛ فتلك هي سنة الله في خلقه, أن جعل الناس بعضهم فوق بعض, فاوت بينهم في أرزاقهم, وفي عقولهم, وفي قدراتهم؛ ليتحقق للناس الانتفاع بعضهم من بعض, قال سبحانه: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32], ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً, لولا حاجة العامل لما رأينا الأبراج الشاهقة, والطرق المعبدة, والمصنوعات الحديثة, ولما لبسنا, ولا أكلنا, ولا تحققت منافعنا, تلك هي سنة الله في خلقه, جعل الغني بحاجة إلى الفقير, والفقير بحاجة إلى الغني, العامل بحاجة لرب العمل, ورب العمل بحاجة ماسة إلى العامل, لا يستغني بعضهم عن بعض, وأوجب لكل طرف منهما حقوقاً وعليه واجبات.

    1.   

    حق العامل في شريعة الإسلام

    والشريعة الإسلامية من مزاياها العظيمة أنها تجعل في مقابل الحق واجباً, فحينما نتكلم عن العامل؛ نتكلم عن إنسان له حقوق وعليه واجبات, وحين نتحدث مع رب العمل؛ نتكلم معه على أن عليه واجباً لكن لا ننسى أن له حقوقاً, فما من أحد إلا وله حق وعليه واجب, وإذا كان العالم يحتفي بأن يذكر بهذه الشريحة من الناس, حق العمال وما ينبغي أن يوفر لهم من الحقوق, فالمسلمون أولى الناس بأن يتواصوا بهذه الحقوق على منابرهم وفي صحفهم؛ فإن نبيهم صلى الله عليه وسلم قد دعا على أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع, جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه وصححه غير واحد من أهل العلم ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبه ديناً له) أعرابي كان له دين على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء بأخلاق الأعراب، ( وقال: يا رسول الله, أُحَرِّج عليك ) يعني: أجعلك في الحرج والضيق ( إلا قضيتني حقي, فقال له الصحابة: مه, أتدري من تكلم يا هذا؟ قال الرجل: إنما أطلب حقي, فقال لهم عليه الصلاة والسلام: هلا مع صاحب الحق كنتم ), ينبغي أن تقفوا مع صاحب الحق, بعيدين عن التأثر بأمور أخرى, ثم أرسل عليه الصلاة والسلام إلى خولة بنت قيس؛ لأنه ليس له في بيته ما يقضي به هذا الحق ( قائلاً: إن كان لك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنرد عليك, قالت: نعم يا رسول الله! فأرسلت إليه بالتمر, فقضى الأعرابي حقه ), جاء في الحديث: ( فأوفاه وأكرمه وأطعمه, فقال: هل أوفيت لك؟ قال: نعم يا رسول الله! وفى الله لك ), نعم وفيت, وفى الله لك, فقال عليه الصلاة والسلام: ( أولئك خيار الناس ), أي: الذين يوفون الناس حقوقهم, ( أولئك خيار الناس ), ثم قال مقولة سارت مثلاً: (إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع), أمة لا يأخذ الإنسان الضعيف فيها من غير كد ولا نصب, من غير أن يتعب, (لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع), فالأمة مطلوبة بأن تتواصى بأداء الحقوق التي عليها, كائناً من كان صاحب هذا الحق, ( هلا مع صاحب الحق كنتم ).

    إبرام العقود على هيئة صحيحة والوفاء بها

    نحن في هذه اللحظات نريد أن نذكر أنفسنا بحقوق الأجير, حقوق العامل, العامل له حق وعليه واجب, له حق في أن يوفى الأجر الذي تعوقد معه عليه, بعد أن أبرم العقد على هيئة صحيحة, وصورة واضحة, فالشريعة نهت عن الغرر في العقود, والغرر معناه: الجهالة, فأوجبت في عقد الإجارة أن يكون العمل معلوماً, وأن تكون الأجرة معلومة, فلا يجوز الدخول في العقود مع كونها تحفها الجهالة, فالجهالة سبب للنزاع, وسبب للوقوع في الظلم والطغيان, فنهى عليه الصلاة والسلام عن الغرر, وكانت هذه الكلمات قاعدة تشريعية عامة, نهى عن الغرر حتى يأخذ كل إنسان حقه من غير انتقاص, فهذا أول الواجبات لعقد الإجارة, أن يكون العقد موافقاً للشريعة من حيث الوضوح والبيان, فيدخل العامل العقد وهو يعلم ما الذي سيؤديه, وما الذي سيأخذه في مقابل ما يؤديه, ويدخل رب العمل العقد على هيئة يعلم ما الذي سيتقاضاه من العامل وما الذي سيؤديه إليه, فإذا تم العقد على هذه الصورة أوجب الله عز وجل بعد ذلك الوفاء بهذه العقود, فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1], فالوفاء بالعقد واجب شرعي, يحتمه عليك الشرع، ما دمت قد تعاقدت وجب عليك أن تفي, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1], والعقود جزء من الأمانات التي يسألنا الله تعالى عنها يوم القيامة, والأمانات كلها سنقف بين يدي الله للحساب عنها, ومن هذه الأمانات: العقود التي بيننا وبين الآخرين, عمالاً كنا أو أرباب عمل, فكل الأطراف مأمورة بالوفاء بالعقد, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].

    إعطاء الأجير حقه وعدم بخسه

    من هذه التشريعات المهمة: ألا يبخس أحد حقه, فإن الله عز وجل نهى عن البخس, قال: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85], ولذلك حرم في شرعه سبحانه وتعالى أن يغبن المتعاقد, وحرم أن يتعاقد مع أحد تحت حالة الاضطرار بما دون ما يستحقه, فلا يجوز لأحد أن يستغل محتاجاً فيتعاقد معه تحت الحاجة والاضطرار, عقد بيع, أو إجارة، أو غير ذلك, بدون ما يستحقه, فهذه عقود جاءت الشريعة بمنعها, والنهي عنها لما فيها من الظلم والجور على الآخرين, فلا بد أن يدخل المتعاقد العقد مختاراً, حرم الله عز وجل على الناس أن يأكل بعضهم أموال بعض, فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29], لا بد وأن تكون العقود محفوفة بالرضا, والرضا أمر قلبي لا يعلم إلا بما يدل عليه من الظاهر؛ ولهذا اشترط بعض الفقهاء في كثير من العقود الصيغة القولية, أن يتكلم العاقد حتى ينبئ عما في قلبه وضميره من الرضا, والصحيح أنه لا يشترط التلفظ في كل العقود, فإذا دلت القرائن على رضا المتعاقد فإن هذه القرائن تكفي لانعقاد العقد, لكن في الجملة لا يجوز البخس, ولا يجوز التعاقد مع أحد في حالة الاضطرار بما دون ما يستحقه, وهذا العقد وإن عقده عاقد فإنه لا يحل له ما يأخذه ويحاسب عليه بين يدي الله, لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29].

    إعطاء الأجير أجره عند حلول أجله

    من الأحكام المهمة في عقد الإجارة: أن يوفى العامل أجره إذا جاء الأجل, إذا حدد وقت لاستيفاء الأجرة, فلا يجوز بعد ذلك أن يؤخر عنه أجره, ولا أن يماطل في حقه, وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ), والمقصود بادروا بإعطائه حقه فور استحقاقه, ولا يجوز أن يماطل في هذا الحق, قال عليه الصلاة والسلام: ( مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته ), مطل الإنسان القادر على أداء الحق ظلم يبيح للناس أن ينالوا من عرضه, فيجوز للمظلوم أن يتكلم في عرضه بقدر مظلمته, ويبيح للحاكم أن يعاقبه ويحاسبه على هذا, يحل عرضه وعقوبته, فلا يجوز أن يؤخر عن حقه إذا جاء وقت سداد أجرته.

    عدم تكليف العامل غير ما اتفق عليه

    من هذه الأحكام المهمة أيها الإخوة: أن العامل لا يجوز أن يكلف فوق العمل المتعاقد عليه, فإنك لم تستبح منه يا رب العمل إلا ما تعاقدت عليه, فإن كان العقد بالزمن فلا يجوز لك أن تستوفي ساعات زائدة على الساعات المتعاقد عليها, وإن كان العقد بالعمل فلا يجوز أن تكلفه عملاً غير العمل المتعاقد عليه, فلا يجوز لأحد أن يأخذ من آخر إلا ما تم التعاقد عليه, وما عدا ذلك ظلم سيقف الإنسان بين يدي ربه ليُسأل عنه, فلا يجوز أن يكلف العامل فوق ما تعوقد عليه.

    عدم تكليف العامل ما لا يطاق

    ومن الأخلاق النبيلة في ديننا الحنيف: أن العامل لا يكلف فوق استطاعته, لا يكلف فوق قدرته, وإن تمكنت أنت بحكم القانون وبحكم الإجراء أن تستوفي حقاً زائداً فإنه لا يجوز لك أن تكلف العامل ما لا يطيقه, هكذا جاءت الشريعة, جاءت الشريعة بأحكام عامة للناس جميعاً ولمن يعملون على وجه الخصوص, قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16], حتى في تقوانا لله كلفنا بالاستطاعة, وأسقط علينا ما لا نستطيعه, والعامل كذلك, لا ينبغي أن يكلف فوق طاقته, ينبغي أن يرحم, وإذا كان لا بد من العمل وهو لا يطيقه, فليتخير الطريق الثاني, وهو فسخ العقد عند عجز العامل عن القيام بهذا العقد, لكن لا ينبغي أبداً أن يكلف الإنسان فوق طاقته, قال عليه الصلاة والسلام وهو يتكلم مع الصحابة عن العبيد, والعبيد شيء آخر, لون آخر, إنهم ملك اليمين, من جملة أملاك الإنسان, يبيعهم ويشتريهم, ويتصرف فيهم كسائر أملاكه, والأجير اليوم ليس كذلك, ومع هذا أوصاهم عليه الصلاة والسلام في العبيد بألا يكلفوهم ما لا يطيقون, قال: ( ولا تكلفوهم ما لا يطيقون, وإذا كلفتموهم فأعينوهم ), هذه أخلاق الإسلام, حينما يمتثلها الناس سترى الحب والوئام يسود بين الناس جميعاً, هذه أهم الحقوق التي ينبغي أن توفى للعامل, وإذا اقتضت العقود حقوقاً أخرى وجبت بهذه العقود, فإذا كان من حق العامل التأمين على الصحة, أو غير ذلك من الحقوق المتعاقد عليها, فإنها تصير حقوقاً لازمة بالعقد, فإن مقاطع الحقوق عند الشروط كما قال الخليفة الراشد عمر رضي الله تعالى عنه, والشروط أمر لا بد من الوفاء بها إذا كانت صحيحة لازمة, (وإن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج), فهذا النص يدل على أن كل الشروط تستحق الوفاء, فكل شرط صحيح تقره الشريعة وليس بباطل في نفسه ولا مفسد للعقد فإن الوفاء به لازم, كائناً من كان مشترطه، العامل أو رب العمل, فإذا أخل أحدهم بذلك الشرط فقد أخل بما يلزمه الوفاء به.

    هناك نماذج حسنة نصبها القرآن لنا أيها الإخوة نتحدث فيها عن الأجير والمستأجر, أمثلة قرآنية نصبها الشارع الحكيم هداية لأرباب العمل وللعمال؛ ليكون محل اقتداء واهتداء نتحدث عنها في الخطبة التالية.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    1.   

    أنموذج حسن للأجير والمستأجر

    الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! قص الله عز وجل علينا في كتابه في سورة القصص أنموذجاً للأجير والمستأجر, أما المستأجَر, العامل, فنبي الله موسى, أحد الخمسة أولي العزم من الرسل, ممن اختارهم الله من بين خلقه جميعاً, فهو أحد الخمسة المختارين, لكنه في هذا المثال عامل مستأجَر, يرعى الغنم, وأما المستأجر؛ فرجل صالح من أهل مدين, وليس بنبي الله شعيب على الصحيح من أقوال المفسرين, رجل صالح يستأجر نبياً من أنبياء الله ليرعى له الغنم, وهذا العقد جرى بين هذين الخيرين وهو يرسم لنا حال العامل المتقي المؤمن الذي يؤدي ما عليه ويزيد, ويرسم لنا حال رب العمل المتقي الخائف من ربه, الراحم لمن جعلهم الله تحت يده, فيقص علينا سبحانه وتعالى هذا المثل الرائع, في قول هذا الرجل الصالح كما حكى الله عز وجل عنه: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27], قال المستأجَر: قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28].

    أما رب العمل فقد وضح له العمل الذي سيؤديه, والأجرة التي سيتقاضاها, إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا [القصص:27], أي: زدت وتبرعت بسنتين, فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27], فضل وزيادة, وأما العامل فقد وضح أيضاً ما الذي سيفعل, قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص:28], فإنني سأوفي أي الأجلين أختاره, فليس لك بعد ذلك أن تطالبني بشيء زائد, ثم أشهد الله سبحانه وتعالى على هذا العقد, أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28], والله سبحانه وتعالى يأمرنا في كتابه بالعدل, ويندبنا ويحثنا على الإحسان, قال في سورة النحل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90], العدل: أن تؤدي الحق الذي عليك, هذا هو العدل الذي جاءت به شرائع الله, وأقرته الشرائع على اختلاف أزمانها.

    العدل: أداء الحق عليك: كنت عاملاً, أو رب عمل, إن كنت عاملاً فالعدل أن تؤدي العمل الذي ائتمنت عليه بأمانة, وألا تنقص منه شيئاً, وأن تحسن فيه غاية ما تستطيع من الإحسان، وإن كنت عاملاً فإنك مطالب بأن تحفظ حقوق الآخرين؛ ولذلك جاءت الشريعة بتضمين العمال, بتضمين الأجراء المشتركين مع أرباب العمل, ضمنتهم الشريعة باجتهاد كثير من فقهائها, وألزمتهم الحقوق حتى لا تضيع حقوق أرباب العمل, فإنهم ضامنون, ملتزمون بأداء هذه الحقوق على وجهها التام, وألزمت له بحقه، ورب العمل كذلك, هذا العدل الذي يأمر الله تعالى به أمر إلزام, إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل:90], ولكنه يأمر بشيء آخر فوق العدل, يأمر به أمر استحباب وندب, يدعو به إلى الفضائل وإكمال المكارم، فقال: وَالإِحْسَانِ [النحل:90], (الإحسان): ما زاد على الحق, أنت مأمور به على جهة الاستحباب, وهو من أعمال الخير التي تقربك إلى الله تعالى, فتتغاضى حين يخطئ العامل, وتتسامح معه فتزيده على حقه إذا احتاج, هذه أخلاق المحسنين, والله يحب المحسنين, تتغاضى وتتعامى عن بعض الزلل, ما دمت تعلم بأنه لا يريد الإفساد, فهذا من خلق الكرام, والله كريم يحب الكرماء, هذا في حق رب العمل, وأما الأجير فهو مطالب أيضاً بالإحسان, مأمور بالإحسان, يؤدي ما تعاقد عليه, ومأمور أمر استحباب أن يزيد, ويوفي العمل أكثر مما يطلب منه, وذلك يدعو إلى تبجيله وتوقيره والوفاء بحقه وفوق حقه؛ ولهذا كان نبي الله موسى خير مثل في هذا المثل القرآني, قال: ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص:28], وسُئل نبينا صلى الله عليه وسلم: ( أي الأجلين قضى موسى؟ فقال: قضى أطول الأجلين ), تعاقد على ثمان سنوات, فعمل في الرعي عشر سنوات, زاد سنتين متبرعاً محسناً؛ لأن الله يأمر بالعدل والإحسان, وأما رب العمل فقد أوضح جانب الإحسان في حقه, قال بعد أن تعاقد معه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27], أنا لا أريد أن أدخل عليك المشقة, ولا أوقعك في الضيق, ولن أكلفك ما يشق عليك ويعنتك, ووعده وعد آخر يتبين من خلاله أخلاق المحسن من أرباب العمل, سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27], في أخلاقهم, من الصالحين في معاملاتهم, وكان كذلك, هذا الإحسان حين يسود بين الناس؛ توفى الحقوق من غير شح, وتسود العلاقة التي يغطيها الحب والوئام بين الخلق, ويستوفي كل واحد منا منافعه من الآخر من دون شحناء ولا بغضاء, ومع هذا كله فأنا أعلم أنه في كثير من الأحيان يقع العمال في أنواع من المظالم لأرباب العمل, أعلم الكثيرين من صالحي عباد الله من أرباب العمل, الذين يخاف الواحد منهم أن يظلم العامل بوزن الذرة, ومع ذلك تجد العامل لا يرعى حق الله تعالى فيما تعاقد عليه, ولا حقوق المخلوقين, ومع وجود هذه النماذج السيئة إلا أنني أيضاً أحث إخواني لا سيما القطريين أن يشكروا نعمة الله عليهم, أن جعلهم مطلوبين لا طالبين, وأن جعل بلادهم مقصودة, وأهلها مقصودين, يضرب الناس المسافات البعيدة ليعملوا على هذه الأرض, فهذه نعمة أخرى إن كانوا لا يقدرونها فالواجب عليهم أن يتنبهوا لها, أن تخدم وأنت على أرضك, وأن تنتفع وأنت في بلادك وبين أهلك وعشيرتك, وأن يؤمن لك رزقك وأنت في ديرتك ووطنك, هذه من أعظم نعم الله عز وجل عليكم, ومن أقل الشكر لهذه النعم: الإحسان إلى خلق الله تعالى, وأن تتجاوزوا إذا ظُلمتم, فإن هذا من الأخلاق النبيلة التي يعد الله تعالى عليها بالثواب الحسن؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( ألا أدلك على أحسن الأخلاق ), أو كما قال, ثم قال: (أعط من حرمك, وصل من قطعك, واعف عمن ظلمك ), إذا كنت يا رب العمل مظلوماً في يوم ما؛ فإن ثوابك لن يضيع, وكل إحسان تقدمه لن يذهب سدى, وعليك أن تكون مدركاً أنك تمثل لكثير من العمال صورة الإسلام, ومثالاً للمسلمين, ولقد رأينا كثيراً من العمال يخرجون من بلاد المسلمين بعد سنوات عديدة, وهم يتسخطون على الإسلام وأهله؛ لأنهم لم يجدوا خلقاً حسناً مع واحد تعاقدوا معه.

    نحن في حاجة أيها الإخوة أن نوفي الحقوق عن طيب نفس، وأن نزيد عليها عملاً بالإحسان, متيقنين أن ذلك يعود علينا بالبركة والنماء, في صحتنا, في أبداننا, في أموالنا, في بلادنا؛ فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام, يا أرحم الراحمين, اغفر لنا ذنوبنا كلها, دقها وجلها, وأولها وآخرها, وسرها وعلانيتها,

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه, وافتح للموعظة قلبه وأذنيه, أنت ولي ذلك والقادر عليه, اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين, واخذل الكفرة والمشركين, أعداءك أعداء الدين, اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين, اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين, اللهم انصر المستضعفين في سوريا يا أرحم الراحمين, اللهم انصر المستضعفين في سوريا يا أرحم الراحمين, اللهم انصر المستضعفين في سوريا يا أرحم الراحمين, اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً, ومن كل ضيق مخرجاً, ومن كل بلاء عافية, اللهم أعنهم ولا تعن عليهم, اللهم أعنهم ولا تعن عليهم, اللهم أعنهم ولا تعن عليهم, اللهم تول أمرهم, انصرهم بنصرك, وأمددهم بجندك, يا قوي يا عزيز, اللهم عليك بعدوك وعدوهم فإنهم لا يعجزونك, خذه أخذ عزيز مقتدر يا قوي يا عزيز! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا, وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا, وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا, واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير, واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755819239