إسلام ويب

الفرح بصيام عاشوراءللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الفرح سلوك نفسي طبع عليه الإنسان، فينبغي أن يفرغ في مواضعه الصحيحة، وأعظمها الفرح بطاعة الله ونصرة دينه وأوليائه؛ ولذلك شرعت عبادات فرحاً وشكراً لله تعالى عند حصول نعمة ما، كصيام يوم عاشوراء الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من فرعون وجنده.

    1.   

    الفرح بالدين ومنزلته

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    الفرح برجوع النبي من الغزو وسلامته

    أيها الإخوة المسلمون! روى الإمام الترمذي رحمه الله في سننه، و ابن حبان في صحيحه، وصححه العلامة الألباني رحمهم الله جميعاً، عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف -أي: رجع- جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله! إني نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنتِ نذرت فاضربي، وإلا فلا، فجعلت تضرب بالدف -يعني: بدأت تضرب بالدف- فدخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه وهي تضرب، ثم دخل علي رضي الله تعالى عنه وهي تضرب، ثم دخل عثمان رضي الله تعالى عنه وهي تضرب، ثم دخل عمر فجعلت دفها تحت استها من ورائها -يعني: أخفت الدف من ورائها وجلست عليه-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، كنت جالساً فكانت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ودخل علي وهي تضرب، ودخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت ألقت دفها).

    هذا الحديث العظيم فيه بيان مسألة عظيمة، وهي أن الفرح بدين الله تعالى قربة من القرب التي يتعبد الإنسان بها لله، ويتقرب بها لله، فهذه الجارية السوداء نذرت أن تضرب بالدف، وضرب الدف ليس قربة ولا طاعة، وغاية ما فيه: أن يكون من المباحات في بعض الأحيان، ومع ذلك قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كنت نذرتي فاضربي، وإلا فلا )، قال العلماء: الدف ليس من المسائل التي يتعلق بها الوفاء بالنذر، ولكن لما اتصل بضرب الدف الفرح بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلامته من غزوته صار قربة من القرب، فأمرها النبي عليه الصلاة والسلام بأن تفي بهذا النذر، فالنذر لا يوفى به إلا إذا كان طاعة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه )، فلا يوفى بالنذر إلا إذا كان قربة، وهذه المرأة تقربت إلى الله تعالى بهذا العمل الجليل، وهو الفرح بنعمةٍ دينية من نعم الله عليها، وهي عود الرسول صلى الله عليه وسلم سالماً، فشأن العقلاء الفرح بالدين أعظم من فرحهم بالدنيا.

    فرح العقلاء بالنعم الدينية

    وكل الناس يفرحون بتحصيل شيء من متاع الدنيا الزائل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه حين تعرضوا له يريدون المال فقال: ( أبشروا وأملوا ما يسركم )، فهذا شأن الناس جميعاً، يفرحون بعرض الدنيا ومتاعها.

    ولكن الفرح الأعظم عند العقلاء بنعم الله الدينية، الدين الذي به تحصل سعادة الدنيا، وبه تتم سعادة الآخرة، فالفرح به أعظم الأفراح، ولهذا أمرنا الله عز وجل بالفرح به، ولم يأمرنا بالفرح بشيء إلا بدين الله تعالى وفضله علينا به، فقال في سورة يونس: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] بفضل الله يعني: القرآن الذي ذكره قبل هذه الآية: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ [يونس:58] أي: بما شرعه لهم من دينه: فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، خير من الدنيا وما عليها، بل لا نسبة أبداً بين نعمة الله في دينه، وبين نعمة الله فيما يعطيك من أعراض الدنيا، نعمة الدين إذا وهبت لك فقد فتحت أمامك أبواب السعادة، سعادة الدارين، إذا أعطيت الدين فقد أعطيت حياة الخلود في النعيم، فلا نسبة بين النعمتين، ولذلك كان العقلاء يفرحون بدينهم أعظم من فرحهم بدنياهم، وجاء في الحديث: ( من سرته حسنته، وساءته سيئته، فهو المؤمن )، وكمال الإيمان مع كمال العقل حين يكون فرح الإنسان دائراً مع مقاصده الأخروية، فإذا حصلت الحسنة فرح بها، وإذا حصلت السيئة ساءته واغتم بها، حتى يحدث منها توبة، فهذا هو شأن المؤمن الفرح بفضل الله: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

    كما أن العقلاء في المقابل يعدون مصيبة الدين أعظم من مصائب الدنيا، فلا نسبة أبداً بين مصيبة الإنسان في دينه، ومصيبته في دنياه، فإن الدنيا لو أصيب بها وتفلتت من بين يديه فإنه ينجبر بغيرها، أما الدين فإن مصيبته لا تنجبر، ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ).

    الفرح بالدين؛ بسلامته، بكماله، بتمامه، بالاستقامة عليه من أعظم النعم التي يفرح بها المؤمن.

    1.   

    الفرح بصيام عاشوراء

    نحن في يوم عاشوراء نستقبل موسماً من مواسم الأفراح بنعمة من نعم الله الدينية، جاء في الحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، نجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى؛ شكراً لله فنحن نصومه، فقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق وأولى بموسى منكم )، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بصيامه على جهة الندب والاستحباب.

    تتابع الأمم على صوم عاشوراء

    يوم عاشوراء توارثت أمم الأنبياء صيامه لنعمة الله عز وجل الدينية فيه من عهد نوح كما جاءت بذلك الأخبار والآثار، فقد جاء في الحديث أنه اليوم الذي استوت فيه سفينة نوح على الجودي، يعني: يوم كتب الله فيه النجاة لـنوح وقومه، فصامه نوح، وتتابعت الأمم على صيامه، وورثت قريش صيام هذا اليوم من دين إبراهيم، فإن قريشاً كانت تصومه في الجاهلية قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وصامه معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، ولما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه فسألهم عن سر صيامهم، فأخبروه بالمناسبة التي تخصهم، وهي أن الله كتب فيه أيضاً نجاة موسى عليه السلام، فصامه شكراً لله، فصاموه هم شكراً لله تعالى على تلك النعمة، فتتابعت الأنبياء كما جاء في الحديث أن اليهود والنصارى يصومونه، وهذا يدل على أن عيسى صامه عليه السلام، وأن أمة نصرانية صامته أيضاً مع نبيها، فتتابعت أمم الأنبياء على صيام هذا اليوم، ليس لشيء إلا لما أحدث الله عز وجل فيه من نعمه عليهم في دينهم، فصامه نوح شكراً، وصامه موسى شكراً، وصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه شكراً، وقال: ( نحن أحق وأولى بـموسى منكم ).

    صيام عاشوراء بنية الشكر

    هذا اليوم العظيم عنوان على مقابلة نعم الله عز وجل الدينية بالشكر، فالدين يحتاج منا إلى شكر، وكذلك الهداية والاستقامة، هذا الدين الذي سقنا إليه بغير طلب منا ولا فعل، بل من الله علينا، فخلقنا، وأوجدنا مسلمين، من آباء وأمهات مسلمين بغير طلب منا ولا كد، بغير بحث منا ولا تعب، هدانا الله عز وجل إليه من غير نصب منا، فكنا أولى الناس وأحرى الناس بأن نشكر الله عز وجل على عظيم نعمته، والله في كتابه أرشدنا إلى أن نقابل نعمه الدينية بالشكر، كما أن الواحد منا يستشعر عظيم فضل الله عليه حينما يرزق بعض الريالات، أو حينما يرزق الولد، أو حينما يمن عليه بالعقارات، أو بمنصب أو جاه، فيستشعر كبير النعمة عليه، فيشكر بلسانه، ويشكر بقلبه، ينبغي لك أيها الإنسان أن تستشعر عظيم نعمة الله عليك في دينك، في هدايتك، في استقامتك، في كونك من هذه الأمة المرحومة من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا الشعور والفرح بالنعمة يدعو النفس إلى الانبساط والراحة، والإكثار من فعل الخيرات، شكراً لله تعالى على هذه النعمة.

    والله في كتابه يرشدنا إلى أن نقابل دينه بالشكر، فبعد أن أمرنا بالوضوء، وبالاغتسال من الجنابة، وبين أنه يريد بهذه الأحكام أن يطهرنا، فقال: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6]، وهنا جمع لنا بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن، فتغسل أعضاءك لتتنظف، وفي الوقت ذاته تنظف نفسك من الذنوب والخطايا، فإذا توضأت فغسلت وجهك سقطت مع الماء كل خطيئة وقعت عليها عيناك، وإذا غسلت يديك نزل مع آخر قطر الماء كل خطيئة بطشتها يداك، وإذا غسلت رجليك نزل مع آخر قطر الماء كل خطيئة مشت إليها رجلاك.

    والغاية المطلوبة أن تقوموا لله تعالى بشكر هذه النعمة الجليلة (لعلكم تشكرون)، وبعد أن أخبرنا بفرائض الحج، وما شرعه الله عز وجل فيه من العبادات والنسك، أخبرنا بأنه شرع ذلك من أجل أن نشكره سبحانه وتعالى، وبعد أن بين لنا كفارة اليمين، وكيف نتحلل من هذه الكفارة، ونترك الإثم أخبرنا بأنه شرع ذلك أيضاً من أجل أن نشكر فقال تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:89]، فنحن بحاجة أن نستشعر حاجتنا إلى المزيد من الدين، المزيد من الاستقامة والهداية، وهذا لا يجلب إلا بشكر النعمة السابقة: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، والعقلاء يفرحون حين يمن الله عز وجل عليهم بالحسنة، ويساءون ويغتمون حين يقعون في الزلة والسيئة، فالدين بحاجة إلى شكر، وصيام يوم عاشوراء عنوان على هذه العبادة العظيمة، وقد صامه الأنبياء شكراً لله.

    شكر الله على إهلاك فرعون ونجاة موسى يوم عاشوراء

    في يوم عاشوراء ضرب الله عز وجل لنا الأمثال، وأبان لنا مصارع الطغاة والظالمين، منهم فرعون الأرض، الذي وصل إلى رتبةٍ لم يدعها أحد قبله ولا بعده حيث قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى[النازعات:24]، فادعى بطغيانه وجبروته أنه رب وليس رباً فقط، ولكنه الرب الأعلى، وإنما ذاعت هذه الأكذوبة، وانتشرت، وصدقها من صدقها من المغفلين حين وقع الناس تحت سلطان الخوف والجور، فمن لم يصدقه ويقر له بما قال ذبح أو قتل، وهكذا أمضى على الناس أكذوبته: أنا ربكم الأعلى، ويخرج على الناس ويقول لهم: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، ولا يجرؤ أحد من الناس، مع أنهم كلهم يعلمون ذلك، لكن لا يجرؤ أحد أن يقول بفيه: لا، لا يجرؤ أحد أن يقول له: فمن يملك الشام، ومن يملك اليمن، ومن يملك المغرب، إذا كنت أنت الرب الأعلى، لا يجرؤ الناس على مقابلة أكاذيبه وأطروحاته المزيفة المتناقضة؛ لأنهم تحت سلطان القهر والسيف، يقول لهم: أنا ربكم الأعلى.

    ولما جاء وقت الهلاك، واقتربت ساعة الصفر، الساعة التي يريه الله عز وجل فيها ذلته وهوانه، اضطربت عليه الأمور، واختلطت عليه الأحوال، وخرجت وسائل إعلامه بتقارير متضاربة مختلفة، خرج عليهم فرعون بعد أن خرج موسى خارجاً ببني إسرائيل فاراً من مصر، وأرسل في مدن وقرى مصر من يجمع الناس ويحشرهم من أجل إدراك موسى وقومه: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ [الشعراء:53-54]، هذا كلامه: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ)، شرذمة ضعيفة، وهكذا تقول وسائل إعلام الجبابرة: من أنتم كما قال بعض المتجبرين، ويقولون: ما هم إلا نسبة يسيرة، فلماذا الخوف؟ ولماذا الوجل؟ ولماذا الفرق؟ ولماذا تقابلون هذه الفئة القليلة الضعيفة بهذا النكال كله، ولماذا تستبيحون الدماء والحرمات، إذا كانوا لا يضرونكم، لكنه الاضطراب والخوف والقلق الذي تحتوي عليه نفوس الجبابرة مهما أبانوا لك عزهم، ومهما حاولوا أن يظهروا للناس قوتهم، قال لهم فرعون: إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:54-55].

    ثم تناقض في الموقف ذاته فقال: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:56]، مع أنهم قلة قليلة، مع أنهم فئة لا تستحق أن ينظر إليها، إلا أننا في غاية الخوف والحذر منها: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:56]، ومع أنه يرى الهلاك أمام عينيه، ويرى المصير المحتوم الذي سيلجه لا محالة، رأى البحر ينفلق فيمشي بنو إسرائيل مع موسى في طريق يبس لا تبتل أقدامهم، والبحر عن يمينهم وعن شمالهم، والطائفة الواحدة كالجبل العظيم، كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ))[الشعراء:63]، رأى هذه الآية أمام عينيه، وهو يعلم يقيناً أنه عدو لـموسى ، وأن مصيره مخالف لمصير موسى ، ولكنه الغرور والأنفة عن التراجع إلى الحق، وأبى إلا أن يدخل مصير الهلاك بقدمه، وأبى إلا أن يسوق نفسه بنفسه إلى الهلاك، فأمر جنده بأن يلحقوه، ودخلوا إلى ذلك المكان، وكانت النهاية.

    وهكذا يبين الله عز وجل للناس كيف يفعل بالظالمين، يخرجهم من قصورهم، يخرجهم من جنانهم، يخرجهم من ملكهم وعزهم بفعله سبحانه وتعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، ثم قال بعد ذلك: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشعراء:57] أي: أخرجهم الله من الجنات والعيون والزروع، والمقام الكريم؛ ليلقوا حتفهم في مكان الذلة والهوان، ليكون عنواناً على سلطان الله، وآية على قدرة الله، فإن الله عز وجل لا يغالب.

    أين المفر والإله الغالب والمجرم المغلوب ليس الغالب

    فنجى الله عز وجل المستضعفين المساكين بحوله وقوته، فإنه إذا أمد طائفةً بنصره لم تقدر طوائف الأرض جميعاً على هزيمتها: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]، وإذا حل بالإنسان الخذلان من الله لم يستطع أهل الأرض جميعاً على نصرته، وإذا نصره الله لم يقدر أحدٌ على ضره: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، نصر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبا بكر في حال الضعف، في حال الخوف، وأدركته قريش برمتها تريد قتله، وبذلت الجوائز النفيسة، مائة من الإبل لمن يجيء برأس محمد، لكنه نصر الله الذي إذا نزل فلا يقدر أحد على دفعه: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ[آل عمران:160].

    وفي التاريخ عبرة وعظة للإنسان مع نفسه، لمن أراد أن يتعظ أو يعتبر.

    هذا اليوم نجى الله عز وجل فيه هذا النبي الكريم، ونجى من قبله نوحاً، فصامه صلى الله عليه وسلم شكراً لله على هذه النعمة العظيمة، ونحن مطالبون على جهة الندب والاستحباب أن نقتدي برسولنا صلى الله عليه وسلم، فنصومه شكراً لله على إتمام دينه، ونجاة أنبيائه، وإتمام فضله بإتمام نعمته السابغة.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    العبادات في يوم عاشوراء

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين:

    إخوتي في الله! ومن الأحداث في عاشوراء كما تعلمون جميعاً: أن جعله الله عز وجل يوماً لمقتل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه ظلماً وعدواناً، فاستشهد الحسين رضي الله عنه في هذا اليوم، ويأسف ويحزن كل مؤمن لمقتله، فهو ممن فرض الله عز وجل علينا حبه، فحبه إيمان، وبغضه نفاق، نحب في الله من أحبه، ونبغض في الله من أبغضه وقاتله، ولكن شريعتنا لم ترد بفعل شيء بسبب مقتل الحسين، وإنما وردت بصومه لما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فيسن صوم هذا اليوم كما فعل رسول الله.

    والسنة أن يصوم الإنسان فيه يوماً قبله أو يوماً بعده، مخالفاً صوم اليهود، فهكذا قال عليه الصلاة والسلام: ( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر )، وقال في رواية الإمام أحمد : ( صوموا يوماً قبله، أو يوماً بعده )، فتحصل المخالفة بصيامه مع صيام يومٍ قبله، أو صيام يومٍ بعده.

    وأكمل المراتب: أن يصوم الإنسان ثلاثة أيام، فيصوم عاشوراء، ويصوم يوماً قبله ويوماً بعده، فهذه أكمل المراتب.

    وأدناها: أن يصوم يوم العاشر وحده.

    والوسطى: أن يصومه ويصوم يوماً معه، إما قبله وإما بعده.

    وهذا اليوم أيها الأحباب كان كما قال ابن عباس في صحيح البخاري : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يومٍ يفضله على غيره إلا هذا اليوم )، يعني: يوم عاشوراء، فكان رسول الله يتحرى صيام هذا اليوم لما جعل الله فيه من الفضل، فإن صيامه يكفر ذنوب سنة كاملة، فهذه دعوى إلى التكفير، دعوى إلى محو الذنوب السيئة خلال العام، يمحو الله به ذنوب سنة كاملة، وهو في هذا الزمان أيسر وأسهل ما يكون، فالنهار قصير، والجو بارد، ووافق زمن الشتاء الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( غنيمة المؤمن، طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه )، في زمن الشتاء يسهل على الناس الصوم، فالبدار البدار إلى المسابقة إلى الخيرات.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفقنا لكل خير، وأن ييسر لنا سبل مرضاته بمنه وكرمه، اللهم يا حي يا قيوم! برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة:201].

    اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، وأولها وآخرها، وسرها وعلانيتها.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756016377