إسلام ويب

أهمية الإخلاصللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الإخلاص له منزلة عظيمة في دين الإسلام، إذ هو شرط في قبول العمل، وبه يجبر النقص ويسد الخلل، ويبلغ المخلص أعلى المنازل ولو كان عمله يسيراً؛ بل يعطى المشركون به في الدنيا ما أرادوه؛ ولذلك حرص السلف الصالح على تحصيله أشد الحرص لعلمهم به وأهميته.

    1.   

    اصطفاء الله لأهل الإخلاص

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله! يصف الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى حال السابقين من هذه الأمة، فيقول: كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل، أي: كانوا يتعلمون النية ويهتمون بأمورها وحقائقها ومعرفة ما يكدرها، كما يهتم الناس بمعرفة أحكام العمل من حيث الصحة والبطلان.

    إنه حقيق بهذه النية أن يداوم الإنسان على تصحيحها، وحقيق بأمر كالإخلاص أن يكثر الناس من الحديث عنه.

    وموضوعنا في هذه اللحظات تذكير بأهمية الإخلاص وثماره، إخلاص العمل لله، وأن يكون سعي الإنسان في أمر الآخرة لوجه الله، هذا الذي من أجله أنزل الله الكتب، ومن أجله أرسل الرسل، وفي سبيله قامت سوق الجنة والنار، ومن أجله تقاتل المؤمنون والكفار، وفي سبيله انقسم الناس إلى أولياء لله محبوبين، وأعداء لله مبغوضين، إنه إخلاص العمل لله تعالى، لم يرسل الله عز وجل الرسل إلا لتصحيح النيات عند الخلق، قال سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، فجميعهم بعثوا لتحقيق هذه الغاية، إخلاص العمل لله تعالى.

    ومن أجله اختار الله عز وجل من اختار من أوليائه، فصاروا أحباباً له، مقربين منه، بسبب إخلاصهم ونياتهم، ومن فقدوا ذلك صاروا أعداءً له سبحانه وتعالى، يستحقون أشد العذاب.

    الإخلاص أيها الحبيب أمر شديد على النفس، لذا فهي بحاجة مستمرة إلى إعانتها بمدها بأسباب المجاهدة.

    1.   

    الإخلاص في كتاب الله وثماره

    حديثنا عن الإخلاص، موقفه في كتاب الله تعالى، أما في كتاب الله فقد أخبر سبحانه وتعالى أنه لم يأمر الناس بشيء إلا بإخلاص أعمالهم لله، بأن يقيموا هذه العبادة خالصة لوجه الله، ولا يريد منهم شيئاً وراء ذلك، قال سبحانه في كتابه الكريم: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وأخبرنا سبحانه وتعالى في كتابه بأنه أمر نبيه، كما أمر سائر الأنبياء بالإخلاص، وأمره بأن يعلن للناس بأنه امتثل ذلك الأمر، فأخلص العمل لله، فقال: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:11-12]، وقال: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14] يعني: امتثلت ما أمرني به، وقد أمر أولاً بالإخلاص، وبإخبار الناس بهذا، ثم أمره ثانياً بأن يعلن بأنه امتثل هذا حقيقة، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14]، وقال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5].

    أيها الإخوان! أخبرنا الله في كتابه الكريم أنه ما من خير من خير الدنيا أو من خير الآخرة إلا ويناله الإنسان بسبب الإخلاص، أول ذلك الخير: الذكر الحسن لهذا الإنسان بعد موته وفي حياته بقدر إخلاصه لله، قال سبحانه في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم:51]، خلد الله عز وجل له ذكره بسبب إخلاصه في عمله لله، وفي سورة يوسف يخبرنا سبحانه وتعالى عن سر قصة يوسف، ولماذا نجاه الله عز وجل مما وقع فيه من أنواع الفتن، فقال: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

    إنما صرف عنه ما صرف من كيد النساء ومكرهن، وثبته الله عز وجل على الحق والخير حتى يلقاه وهو راضٍ عنه بسبب إخلاصه في أعماله، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

    جاء الأسرى يوم بدر، وبعضهم له مال يفتدي به نفسه، وبعضهم ليس له شيء يفتدي به، وكان العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه من الأسرى، فافتدى نفسه، وافتدى ولد أخيه بمال كثير، حزن على ذلك المال، كما حزن لوقوعه في الأسر، فأنزل الله عز وجل قرآناً يتلى، يبشر فيه هؤلاء الأسرى أن من أصلح منهم قلبه لله وأخلص وجهته لله، فإن الله عز وجل سيعوضهم خيراً مما فقدوه، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفال:70]، لما أوجدوا هذا الخير في قلوبهم، فأخلصوا نياتهم لله، ووحدوا الله، وتوجهوا إلى الله، جاءهم الوعد الذي وعدهم الله، فما هي إلا سنوات يسيرة حتى أسلم العباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجاء وقت توزيع الغنائم، فحثى له النبي صلى الله عليه وسلم الذهب، فحمل شيئاً كثيراً منه، وأراد من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعينه على الحمل على ظهره، قال: أما هذه فلا. يعني: خذ من الذهب ما تقدر أنت على حمله، أما أن أساعدك على الحمل فلا، هذا وعد الله لمن أخلص قلبه لله، لمن وحد الله، لمن صحح نيته لله، قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70].

    وبنفس الطريقة وعد الله عز وجل المؤمنين يوم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية يريدون العمرة، ولما صدهم المشركون عن البيت، وبلغهم الخبر أن قريشاً قتلت عثمان سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، بايعوا رسول الله على الموت كما قال جابر: (كنا ألفاً وأربعمائة بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقاتل حتى نموت)، فأنزل الله عز وجل قرآناً يتلى، يعدهم فيه بعظيم الثواب وعظيم الخلف؛ لأنه علم ما في قلوبهم، قال سبحانه وتعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا [الفتح:18-19]، هذا وعد الله لا يتخلف، إذا علم في قلب عبده الخير فإنه يوصل إليه الخير، وكما قال الإمام أحمد رحمه الله في عبارته الشهيرة: ما دمت تنوي الخير فأنت بخير، كلما كانت نيتك صالحة متوجهة إلى الله تريد الخير وتقصده، فإنك بخير في دنياك، وبخير في آخرتك.

    1.   

    ثمار الإخلاص الواردة في السنة النبوية

    جاءت الأحاديث الكثيرة مبينة ثمار هذا الإخلاص إذا وجد في القلب.

    جبر النقص وتكثير القليل من العمل

    به يجبر الله عز وجل ما قد يكون من نقص الإنسان بسبب جهله، بسبب تفريطه، ويكثر سبحانه وتعالى اليسير بسبب نية صاحب العمل، ألا تتفكرون في امرأة بغي عاهرة زانية، ملأت سجلاتها بالسيئات والموبقات، لكنها في لحظة إخلاص، في لحظة توجهت بعملها إلى الله، فجعل الله عز وجل تلك الحسنة موجبة للمغفرة، وسبباً لدخول الجنة، امرأة بغي سقت كلباً بملء خفها ماءً، قال عليه الصلاة والسلام: ( فشكر الله لها وأدخلها الجنة ).

    يقول ابن تيمية رحمه الله: لا شك أنه قد قام في قلبها من الإخلاص لله ما جعل هذا العمل عظيماً عند الله، فهو عمل يسير لكن كبرته وعظمته النية، ولك في المقابل أن ترى الأعمال الكثيرة التي عملها أصحابها لكن بغير إخلاص، بغير نية صالحة، إنها كانت سبباً للوبال عليهم، جرتهم على وجوههم إلى نار جهنم.

    كلنا نحفظ الحديث المشهور: ( أول من تسعر بهم النار ثلاثة: رجل أنفق في أبواب الخير كلها، فلما سأله الله عن نعمة المال؟ قال: يا رب! ما تركت باباً تحب أن أنفق فيه إلا أنفقت فيه لك. قال: كذبت إنما أنفقت ليقال: جواد )، صحيح أنك أنفقت، ولكنك أنفقت ليقال: جواد، ( وقد قيل ثم يؤمر به، فيسحب على وجهه حتى يلقى في نار جهنم )، بعد كل تلك النفقات يسحب على وجهه حتى يلقى في نار جهنم، فانظروا الفرق بين هذا وبين البغي، أين مصيره؟ وأين مصير تلك المرأة البغي العاهرة الفاجرة؟ إنه لا فرق في المقامين والمآلين إلا بسبب ما قام في قلب صاحب العملين.

    النية كما قال السلف: رب عملٍ صغير عظمته النية، ورب عملٍ كبير حقرته النية.

    جاء في الحديث: (أن رجلاً خرج في الليل بعيداً عن أعين الناس، لا يريد أن يراه أحد، ولا أن يشعر بعمله مخلوق، خرج في الليل، قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضعها بيد امرأة بغي، فأصبح الناس يتحدثون، يقولون: تصدق الليلة على بغي، يهزءون من المتصدق، ويضحكون منه، وضع صدقته في غير محلها، فقال: لأتصدقن الليلة بصدقة، وهو مصر على أن تكون صدقته بالليل، لا يراه الناس، ولا يشعرون به، خرج في الليلة التالية، ووضع صدقته في يد سارق لا يدري بحاله، فأصبح الناس يتحدثون، تصدق الليلة على سارق، فأصر في الثالثة على نفس الطريق، وقال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فوضع صدقته في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني)، لكن الذي لا يضيع عنده العمل، كتب له هذا العمل ولم يضعه، (فأتاه آت وهو في النوم، قال له: أما صدقتك فقد تقبلت)، صدقتك لا تضيع؛ لأنك كنت تريد بها وجه الله، وبحسن نيتك يجبر الله عز وجل ما حصل فيها من قصور، أما صدقتك فقد تقبلت، فأما الغني فلعله أن يعتبر، وأما السارق فلعله أن يستعف، وأما البغي فلعلها أن تتوب، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، كل ذلك بحسن نية ذلك العبد.

    بلوغ أعلى المنازل

    لقد أخبرنا الله في كتابه أن أقواماً أدركوا أعلى المنازل بسبب نياتهم، لم يعملوا شيئاً، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء:100]، نزلت في رجل خرج مهاجراً، وبعد أن غادر مكة بمسافة يسيرة، أدركه الموت، فأنزل الله هذه الآية تخبر بأن الأجر قد كتب، وأنه قد سجل عند الله من المهاجرين، وإن لم يبلغ المدينة.

    قال عليه الصلاة والسلام في قصة ثابت، وهو أحد الصحابة الذين تجهزوا للغزو، فقد استعد له ونواه بقلبه صادقاً، لكن وافته المنية قبل أن يخرج الجيش من المدينة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( قد وقع أجره على الله )، وأغرب من ذلك أولئك النفر الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون منه أن يحملهم في الغزو، لا يجدون ما يركبون ولا ما يتجهزون، جاءوا وأعينهم تذرف الدموع لمفارقتهم الجيش، بقوا في المدينة، فلما غادر الجيش المدينة وهم في الطريق، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ( إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما نزلنا منزلاً إلا كانوا معنا حبسهم العذر )، كانوا معهم بنياتهم، وبلغوا أجور أولئك بمقاصدهم، وحبسوا بسبب العذر.

    وأبلغ من هذا قوله عليه الصلاة والسلام كما في الترمذي : ( إنما الدنيا لأربعة نفر )، الناس في هذه الدنيا على أربعة أصناف، لا خامس لها، ( رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعرف لله فيه حقاً، ويصل به رحماً، فهو في أعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت كما يعمل فلان، قال عليه الصلاة والسلام: فهو بنيته فهما في الأجر سواء )، ذاك بلغ المرتبة بعمله، وهذا أدركه بنيته.

    والثالث قال: ( ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو لا يعرف لله فيه حقاً، ولا يصل به رحماً، فهو بأخبث المنازل )، هذا قد ظفر بما ظفر من متع الدنيا، آتاه الله مالاً.

    أما الشقي الرابع قال: (ورجل لم يؤته الله مالاً، ولم يؤته علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت كما يعمل فلان -صاحب العمل السيء- قال: فهو بنيته، فهما في الوزر سواء)، النية تبلغ بك عند الله مبلغاً عظيماً، كما أنها تنزل صاحبها إذا فسدت إلى أدرك المنازل، إلى أسفل السافلين.

    الظفر بكل خير حتى للمشرك

    بالإخلاص ظفر الناس بكل خير، حتى المشركون الذين يعبدون مع الله غيره في حالات إخلاصهم يعطيهم الله عز وجل ثمرات هذا الإخلاص، قال سبحانه: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65]، لكنهم إذا دعوه مخلصين له الدين أعطاهم سبحانه وتعالى ما سألوا، قال: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].

    في خبر عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه في قصة إسلامه، القصة العجيبة، عكرمة كان من صناديد كفار مكة، لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً هرب مع مجموعة من المشركين، وركبوا البحر متوجهين إلى الحبشة، ولما هاجت الموج، واشتدت الريح اجتمع المشركون على سطح السفينة، وقالوا: تعلمون أنه لا ينجيكم في هذا المقام إلا الله، فقال عكرمة : إذا كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، ثم قال: لئن أنجيتني لأذهبن إلى محمد فلأضعن يدي في يده، ولأجدنه براً رحيماً، وأنجاهم الله بسبب هذه الكلمة: (إن كان لا ينفع في البحر غيره فلا ينفع في البر غيره)، فلما دعوا الله مخلصين له الدين نجاهم.

    فالإخلاص عواقبه حميدة، حتى إبليس لما أخذ على نفسه العهد بالإغواء والتزيين لبني آدم علم بأن الحصن الحصين الذي يتحصن به المؤمن من نزغاته ووساوسه إخلاصه لله تعالى، قال: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، عبادك أهل الإخلاص فإنه لا سلطان لي عليهم، ولا أقدر على إغوائهم، فما أجدر المؤمن، وما أحوجه إلى مراقبة نيته مساء صباح لتصح له هذه الأعمال ويفوز بخير الدارين.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    مجاهدة النفس لحملها على الإخلاص

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    إخوتي في الله! الإخلاص قريب عسير، يسير لمن يسره الله عز وجل عليه، ولكنه يحتاج إلى عظيم مجاهدة للنفس؛ ولذلك قال السلف: ليس شيء أشق على النفس من الإخلاص، ليس شيء مر على النفس وثقيل عليها، مثل أن تجاهدها على إخلاص العمل لله؛ لأن النفس تريد حظوظاً لها، والمخلص يريد أن ينزع منها هذه الحظوظ، ويجعل العمل كله لله، فهو منازعة للنفس لأخذ شهواتها، وتخليص العمل من شهواتها وجعله لله؛ ولذلك كان شاقاً يسيراً.

    لقد خاف من عدم الإخلاص أولياء الله المقربون، وأولهم العشرة المبشرون بالجنة، فكان الواحد منهم يخاف على نفسه النفاق، وقد سأل عمر رضي الله تعالى عنه حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبره رسول الله بالمنافقين، كان عمر يسأله بالله أن يخبره: هل ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، وما ذاك إلا لما يعلمونه من ضعف النيات، وما يعلمونه من احتياج النيات إلى مجاهدة وتصحيح وتقوية.

    1.   

    من دواعي الإخلاص وثمراته

    أيها الحبيب! من دواعي الإخلاص ألا تهتم بمدح المادحين، ولا تلتفت إلى ذام الذامين، لا تجعل معيارك رضا الخلق، رضوا عنك أو سخطوا، لا تجعل همك إرضاء المخلوقين، وجه وجهتك لله وحده، واصرف وجهك قبل الله عز وجل وحده، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22] (يسلم وجهه إلى الله) أي: يخلص وجهته لله، (وهو محسن) أي: في عمله، أن يؤدي العمل كما أراده الله، فهذا هو المستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، هذا هو الناجي بإذن الله تعالى.

    فعلامة الإخلاص ألا يبالي الإنسان بمدح المادحين، فلا يزيده المدح رغبة في العمل، كما لا يضره ذم الذامين ما دام يريد بعمله وجه الله، وهذا من أعظم ثمرات الإخلاص.

    1.   

    من ثمرات الإخلاص

    من أعظم ثمرات الإخلاص السكينة النفسية، الطمأنينة، الانشراح، أن يعيش الإنسان هادئ النفس، مستريح الضمير، كما قال الله عز وجل: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا [الزمر:29]، لك أن تتفكر في هذا المثال العظيم، رجل يريد أن يرضي أكثر من طرف، ويريد أن ينال رضا أكثر من شخص، كيف سيكون حاله؟ إن رضي عنه زيد سخط عليه عبيد، كيف سيكون قلبه؟ القلب شعاع والهم أوزاع.

    ومن في الناس يرضي كل نفس وبين هوى النفوس مدى بعيد

    لك أن تتفكر في حال هذا الإنسان، وفي حال إنسان آخر له شخص واحد يعمل من أجله، يمتثل ما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، فإن تحصيل رضا هذا الشخص الواحد سهل يسير على هذا الإنسان، وسيعيش هذا الإنسان مستقر البال، هادئ النفس؛ لأن له عملاً واحداً، لأن له وظيفة واحدة يريد أن يحققها، فإذا حققها أدى المطلوب، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [الزمر:29] أي: شركاء مختلفون، وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ [الزمر:29] أي: خالصاً لرجل، هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29].

    الناس لا يعلمون ما في الخير الذي وجههم الله إليه، الناس لا يعلمون ما في شرائع الله، وما في توجيهاته من البركة، من السعادة، من الطمأنينة، ولو علموا ذلك وامتثلوه لعاشوا حياة سعيدة في دنياهم وأخراهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29].

    لا يصعد إلى الله عز وجل من عمل ابن آدم إلا ما كان خالصاً لوجه الله، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وقليل بنية حسنة خير من كثير بنية سيئة.

    فالله الله في تصحيح النيات، الله الله في إخلاص الوجه لله، الله الله في إخلاص القصد لله، بصلاتك، بصيامك، بذكرك، بتعلمك، بصدقتك، بجميع ما تؤديه لله من أعمال الآخرة، الله الله في الإخلاص، فإنك إذا أخلصت ظفرت ظفراً عظيماً.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا حسن النية، اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين، اللهم فرج على المسلمين في كل مكان ما هم فيه يا رب العالمين! اللهم أعنهم ولا تعن عليهم، وكن لهم ولا تكن عليهم يا قوي يا عزيز!

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسباب الباعثة على الإخلاص

    إن الإخلاص عمل سهل يسير؛ لكنه يحتاج إلى قوة مجاهدة؛ ولذلك ينبغي للعاقل أن يأخذ بالأسباب التي تجعله مخلصاً، الأسباب التي توصله إلى الإخلاص لله، وأول هذه الأسباب وأهمها إخفاء العمل عن عيون الخلق، حاول بقدر استطاعتك أن يكون عملك بعيداً عن أعين الناس إلا الأعمال التي أمر الله بإظهارها، الفرائض التي شرع الله عز وجل إظهارها كالصلاة في جماعة، وصلاة الجمعة، وإخراج الزكاة الواجبة، والحج والعمرة، وما شاكل ذلك من الأعمال التي أمر الله بإظهارها، أما ما وراء ذلك من العمل فالخير كل الخير في أن يكون عملك بينك وبين الله، وكلما جاهدت نفسك على إخفاء عملك، كلما كان ذلك أدعى إلى إخلاصك، وأعون لك على تصحيح نيتك؛ ولذلك جاءت الشريعة بالترغيب بالعمل سراً وبعيداً عن أعين الناس، قال عليه الصلاة والسلام: ( أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة )، فأفضل الصلوات أن يصلي الإنسان في بيته إلا الفرائض فيصليها مع الناس في المسجد، وتقرءون القرآن وفيه المدح. أولاً: لمن أخفى عمله، الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، فيبدأ بالليل قبل النهار، وبالسر قبل العلانية، وما ذاك إلا لهذه الفضيلة، والتي إدراك سر العمل، وأن يكون عملك بينك وبين الله لا يشعر به مخلوق فتفسد عليك النية؛ لكن إذا اطلع الناس على عملك، وأثنوا عليك بعد إخلاصك، فإن هذا لا يضرك، و(تلك عاجل بشرى المؤمن)، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755899888