إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب موانع الشهادة وعدد الشهود [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لابد من اكتمال العدد المطلوب شرعاً في الشهادة؛ فلا يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة ذكور عدول، وفي بقية الحدود والقصاص وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يطلع عليه إلا الرجال غالباً تقبل فيه شهادة رجلين، ومن الأموال أو ما يئول إلى الأموال تقبل شهادة رجل وامرأتين أو شهادة رجل ويمين المدعي، وتقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، ولا يثبت قود ولا مال بشهادة المرأة، وفي السرقة تقبل شهادة المرأة في المال دون الحد.

    1.   

    مقدمة في بيان النصاب في الشهادات ومواضع شهادة الرجل والمرأة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ فصلٌ: ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة ]:

    من عادة العلماء رحمهم الله عند بيانهم لأحكام الشهادة، أن يبينوا النصاب المعتبر في شهادة الشهود، وذلك أن النصوص في الكتاب والسنة اعتنت بذلك، فبين الله سبحانه وتعالى اشتراط العدد، كما سنذكره في الآيات الكريمات في سورة البقرة، وسورة النساء، وسورة النور، وكذلك سورة الطلاق، وبينت السنة أيضاً اشتراط العدد، كما في حديث الأشعث رضي الله عنه في الصحيحين، وغيره من الأحاديث الأخر.

    فهذا كله يدل على أن الشهادة ينبغي أن تكون كاملة النصاب، وقد اختلفت أحكام الشريعة بحسب اختلاف مضمون الشهادة، فتارة يكون النصاب أربعة كما في شهادة الزنا، حيث نص الله سبحانه وتعالى على اشتراط أربعة شهود، وقد بينا ذلك في باب حد الزنا، وبين العلماء رحمهم الله أن الزنا مبنيٌ على الستر وعدم الحرص على الفضيحة، لما يترتب على ذلك من البلاء، فرأت الشريعة -وهي شريعة رحمة- الستر ما أمكن، ولكن في الحدود المقبولة، ومن هنا اشترط وجود الأربعة.

    وكذلك أيضاً ربما كان النصاب دون ذلك؛ كالشاهدين في سائر الحقوق، وسنبين مثل الحقوق المالية، والحدود التي هي من غير الزنا، فإنه يكفي فيها شهادة الشاهدين، وكذلك أيضاً هذا النصاب الذي هو المركب على العدد واختلفت فيه أحكام الشريعة: فتارة تمحض بالذكور، كما في الشهادة على القصاص والحدود أو القود والدماء، وتارة يكون بالنساء مع الرجال، كما في الشهادة على الأموال وما يئول إلى الأموال.

    وفي بعض الصور ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على عدم اشتراط التعدد، كما في قبوله عليه الصلاة والسلام لشهادة المرضعة، وكذلك قبوله لشهادة خزيمة بن ثابت رضي الله عنه وحده.

    وبناءً على هذا ونظراً للاختلاف والتعدد لا بد من وضع أصول شرعية يبني عليها القضاء الإسلامي أحكامه في الشهادات، فيشترط العدد فيما اشترطت فيه الشريعة العدد، ويتمحض هذا العدد بالذكور فيما نص الشرع على اختصاص شهادة الذكور فيه، ويتمحض بالإناث، أو يشترك الإناث والذكور فيما رخص الشرع فيه بالشهادة على هذا الوجه.

    أيضاً هناك شيئاً آخر وهو: انضمام حجة من غير الشهود إلى شهادة الشهود، كما في انضمام اليمين إلى شهادة الشاهد، وهنا الشريعة نزلت اليمين منزلة الشاهد، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقضائه في الشاهد مع اليمين، وهذا نوعٌ آخر، فلما كانت الشهادة تتعدد وتختلف أفرد المصنف رحمه الله في هذه المسألة فصلاً خاصاً يبين فيها أحكام التعدد.

    1.   

    شهادة أربعة شهود ذكور في الزنا

    قال رحمه الله: [ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة].

    وهذا لنص الله عز وجل في آية النور: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، وفي هذه الآية مسائل:

    المسألة الأولى: أن دعوى الزنا لا تقبل مجردة، وهذا محل إجماع، ما لم يقر المدعى عليه بدعوى الزنا أو يعترف.

    المسألة الثانية: أن الزنا لا يثبت حده إلا بأربعة شهود، فلو شهد ثلاثة، حتى ولو كانوا من الصحابة؛ ردت شهادتهم، وهذا يدل على عظم أمر الزنا، وقد خاطب الله بهذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما هم فيه من العدالة وتزكية الشرع لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني)، ومع هذا لا يُقبل إلا أربعة شهداء.

    المسألة الثالثة: أن هذه الشهادة خاصة بالذكور دون الإناث، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال في شهادة الأموال:وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282]، فذكر البدل عن الرجال، وهو شهادة النساء، فلو كان الزنا يقبل فيه شهادة النساء لبينه الله عز وجل، ومع ذلك لم ينص على شهادتهن في هذا الحد.

    المسألة الرابعة: أن الله تعالى أمر بأربعة شهداء في حد الزنا، ونصت الشريعة على أن شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل، وهذا نص آية البقرة كما في آية الدين، فإذا ثبت هذا فمعناه: أنه لا يجوز لنا أن نقبل ثمان نسوة في حد الزنا، فإن هذا خلاف ما نص عليه القرآن، ولذلك فجماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على عدم قبول شهادتهن في الحدود وفي الدماء؛ للأصل الذي ذكرناه، وقد تقدم بيان العلة وأنها الضعف الموجود في خلقة المرأة، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].

    والأصل في قبول شهادة الشاهد غلبة الظن بصدقه، وغلبة الظن بحفظه للقضية، فإذا كان عند الشاهد عوارض من الضعف وعدم القدرة على التحمل؛ فحينئذٍ يؤثر هذا في الشهادة، وهذا من رحمة الله بالأمة وتيسيره عليهم.

    كذلك أيضاً قوله تعالى: بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:4]، مطلق وجاء ما يقيده بالشهداء العدول كما قال تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، وقال في آية الدين: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، وقد تقدم هذا.

    1.   

    قبول شهادة رجلين على من أتى بهيمة

    قال رحمه الله: [ ويكفي على من أتى بهيمة رجلان ]:

    أي: يكفي في الشهادة على من أتى بهيمة رجلان، وينزل منزلة الزنا اللواط والعياذ بالله! وإن قلنا: إنه يأخذ حكم الزنا فلابد من شهادة أربعة، ومذهب جمهور العلماء رحمهم الله والأئمة على أن اللواط يثبت بشهادة شاهدين، وأما إتيان البهيمة فإنه ليس بحد، وإنما تقتل البهيمة لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتلها، وهذا الأمر بقتل البهيمة إتلاف للمال، ولذلك قبل فيه شهادة شاهدين، وبالنسبة للفاعل يعزر، فليست هناك عقوبة لمن أتى البهيمة كحد، ومن هنا لم ترتق إلى حد الزنا، فليست بحد كامل كحد الزنا، وعلى هذا خفف في نصابها، ورجعت إلى الأصل في الحدود، فيقبل فيها شاهدان، كما يقبل في السرقة وشرب الخمر ونحو ذلك من الحدود، فإذا قبل في الحدود شاهدان، فلأن يقبل في التعزير من باب أولى وأحرى، والحكم هنا تعزيري، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمهم الله.

    1.   

    قبول شهادة رجلين في بقية الحدود دون الزنا

    قال رحمه الله: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً؛ كنكاح وطلاق ورجعة وخلعٍ ونسب وولاءٍ وإيصاءٍ إليه يقبل فيه رجلان]

    قوله: (ويقبل في بقية الحدود) كحد شرب الخمر، فإذا شهد شاهدان أنهما رأيا شخصاً وهو يشرب الخمر، أو يتعاطى المخدرات، فحينئذٍ تكفي شهادتهما، وهكذا بالنسبة للسرقة، فلو رآه شخصان وهو يسرق فإن شهادة الشاهدين كافية لإثبات حد السرقة، وهذا تحديد وتأقيت من الشرع، فلا يشترط أكثر من اثنين في بقية الحدود إلا الزنا فأربعة من الشهود؛ لأن الله عز وجل قال في غير الزنا: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، فأصبح أصلاً عند جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على أن قبول الشهادة بالتعدد، وهذا ما يسميه العلماء: بالتقدير الشرعي، وفي الشريعة التقدير يكون على صور:

    الصورة الأولى: أن يمنع الزيادة ويجيز النقصان المقدر شرعاً.

    الصورة الثانية: أن يمنع النقصان ويجيز الزيادة.

    الصورة الثالثة: أن يمنع النقصان والزيادة.

    فهذه الصور الثلاث هي أصل في التقدير الشرعي، فإذا جاء التقدير الشرعي عليها فإنه يلزم المكلف بها على نفس الطريقة التي ذكرناها.

    فالصورة الأول: وهي أن التقدير يمنع النقصان ويجيز الزيادة فمثل: عشر رضعات معلومات يحرمن، ونسخن بخمسٍ معلومات يحرمن، فالرضاع فيه حدٌ وتقدير شرعي، بحيث لو أرضعت أكثر من خمس رضعات ثبت الرضاع، ولكن إذا أرضعت أقل من خمس رضعات فإنه لا يكفي.

    كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) فحد الخمس من الإبل، فما زاد فالزكاة ثابتة فيه، ولا يمنع الزكاة ما زاد وإنما يمنع الزكاة النقص، فالزيادة لم تمنع والنقص يمنع.

    وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة)كما في الصحيح، فلا يمنع الزيادة ولكنه يمنع النقصان في إيجاد الزكاة، فهذا تقدير شرعي يمنع أن يحكم بوجوب الزكاة فيما نقص عن هذا القدر، ولكننا نجيزها فيه إذا زاد. وكذلك أيضاً قد يمنع النقص في أشياء كثيرة، كما في المقدرات الشرعية من الأنصبة في الأموال وغيرها من الوارد في الشرع تحديده.

    وأما الصورة الثانية: وهي أن التقدير يمنع الزيادة ويجيز النقص على عكس الأول، فمثلاً: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثلاثاً، فحينئذٍ يجوز للمكلف أن يتوضأ مرة ومرتين وثلاثاً، ولكن لا يجوز له أن يزيد فيغسل العضو أربع مرات، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث السنن وهو صحيح: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم)، فهذا التقدير بالثلاث يمنع الزيادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد هذه الثلاث، وكذلك لما رخص عليه الصلاة والسلام بالخمسة الأوسق في بيع الرطب بالتمر -وقد تقدم معنا في البيوع- حد عليه الصلاة والسلام في هذه المعاملة الربوية الحد بخمسة أوسق، فحينئذٍ تمنع الزيادة عن خمسة أوسق، فلا يرخص للمسلم فيما زاد على خمسة أوسق، ولكنه لو أراد أن يأخذ بالرخصة فيما دونها فلا بأس ولا حرج، فما نقص مأذونٌ به وما زاد ممتنع، وهكذا بقية المقدرات في الزيادة.

    والصورة الثالثة: وهي أن التقدير يمنع الزيادة والنقص، فيلزم المكلف بالعدد الوارد، ولا يجوز له أن يزيد عليه ولا يجوز أن ينقص منه، كما في حد الزنا، قال تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، فالمائة جلدة هذه لا يجوز لأحد أن يزيد عليها في حد الزنا، ولا يجوز له أن ينقص منها؛ لأنها مؤقتة مقدرة، لا يجوز أن يعطل حد الله عز وجل فينقص منها سوطاً وجلدة واحدة، ولا يجوز أن يظلم المجلود فيزيده بجلدة زائدة على هذا المقدر شرعاً.

    وكذلك أيضاً حد القذف، قال تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، فإنه لا يجوز لأحد أن يزيد على الثمانين جلدة، ولا يجوز أن ينقص منها.

    أما حد الخمر فقد تقدم معنا، فإن زيادة عمر رضي الله عنه على الأربعين أربعين أخرى ليست من الحد، وإنما هي زيادة تعزيرية جاءت بسبب خاص، وهو: انهماك الناس في الخمر، ثم إن نفس الخمر اشتبه فيه الصحابة هل هو محدد أو غير محدد؟! لأن علياً رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدده، يعني: لم يقدره بمقدار معين. وقد قال أنس : كان يؤتى بالشارب فمنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه، فهذا لا يكون داخلاً في الأصل على الوجه الذي ذكرنا، وقد تقدم شرح هذه المسألة في حد الخمر، وبينا خلاف العلماء رحمهم الله في الزيادة على الأربعين.

    وقد تكلم العلماء على هذه الأنواع، وممن فصل فيها الإمام السرخسي رحمه الله في المبسوط، والأصل عند العلماء في المقدرات هو هذا، فإذا قال الله وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282] دل على أنه لا يجوز لنا أن ننقص عن شاهدين، هذا هو الأصل، وإلا لما كان لذكر الشاهدين معنى وفائدة؛ لأنه لو كان يقبل أقل من الشاهدين لما ضيق الله على عباده، ولقال: استشهدوا شاهداً من رجالكم، ولكنه لما قال:وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282] دل -كما ذكرنا في المقدرات- على أنه من المقدرات التي تجوز الزيادة فيها، أي: لك أن تُشْهِدَ على مالك خمسة أو ستة أو عشرة، كأن تخاف أن يموت بعضهم، أو أن ترد شهادة بعضهم، فتحتاط فتشهد أكثر من شاهد، ولكن أقل من اثنين لا يقبل منك من حيث الأصل العام. وهذه الآية -آية الدين التي في سورة البقرة- جاءت كأصل في الشهادة في الحقوق، ولذلك يعتمد عليها العلماء، وقد ردوا بها قول من يقول: إنها تقبل شهادة الواحد؛ ولذلك لم نجد من النبي صلى الله عليه وسلم قضاءً وحكومة وخصومة قبل فيها شهادة الواحد المجردة إلا في مسائل خاصة، منها: قبوله شهادة المرأة المرضعة، كما في حديث عقبة بن الحارث في الصحيحين مع أم يحيى بنت أبي إهاب رضي الله عن الجميع، فقد كان نكحها ثم جاءت أمة وقالت: إنها أرضعتهما، فقال عقبة: إنها كذبت، فقال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!)، والسؤال: هل هذا حكم، أم قضاء، أم خصومة، أم أنه فتوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    هذا هو الإشكال، ولذلك لم تجر على سنن القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يحكم بحكم القضاء ويفصل بحكم القضاء، وتارة يفصل بالفتوى، وقد بينا هذا وفصلناه، ولذلك لم يقوَ الدليل على معارضة النصوص الصريحة القوية في أن البينة لابد فيها من اثنين غالباً.

    وقد جاء من حديث الأشعث بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (اختصمت أنا ورجل في بئر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال الرجل: إنها بئري، فقال صلى الله عليه وسلم للأشعث : شاهداك أو يمينه) والحديث في الصحيح، فما قال له: ائتني بشاهد، أو ائتني بأي شيء يدل على أن البئر حقك، بل قال: (شاهداك أو يمينه) فخيره بهذا، فدل على أن العدد في الشهود مقصود، وأنه لا يقبل ما قل عن ذلك، إلا إذا كان معتضداً باليمين، فيما دل الشرع على جواز الشهادة مع اليمين، وسنبينه إن شاء الله.

    إذا ثبت هذا فلا بد من التعدد، وقال بعض السلف: إنه يمكن أن تقبل شهادة الواحد، واحتجوا بحديث أم يحيى الذي ذكرناه، والجواب عنه معروف، ومما احتجوا به أيضاً قبول النبي صلى الله عليه وسلم لشهادة الشاهد على رؤية الهلال، فقد قال رجل: إنه رأى الهلال، وهو من حديث بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال ! قم فأذن بالناس) يعني: للصوم، قالوا: وهذا يدل على أن شهادة الواحد كافية.

    وهنا مسألة نحب أن ننبه إليها في الجواب عن هذا الدليل:

    أولاً: من ناحية السند فيه ضعف.

    ثانياً: أن هناك شيئاً اسمه: الشهادة، وهناك شيئاً اسمه: الخبر، وهناك شيئاً اسمه: الرواية، فالرواية: معرفة النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابي، أو عمن بعدهم، وهذا لا يشترط فيه التعدد بإجماع العلماء من حيث الأصل، إلا في المسائل التي تعم بها البلوى، وقد اختلف الجمهور مع الحنفية، والمسألة معروفة في الأصول، لكن من حيث الأصل نقبل خبر الواحد إذا جاءنا بنقل العدل عن مثله فإننا نقبل روايته، ولا يشترط في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون عن أكثر من واحد، ولذلك قبل العلماء الحديث الغريب برواية الواحد، كما في حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، والعزيز والمشهور فيما جاء من الأخبار، واعتمدوا الصحة والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون الراوي ممن تقبل روايته، فباب الرواية لا يشترط فيه التعدد وجهاً واحداً.

    الباب الثاني: باب الخبر: وهو أن يكون خارجاً عن حكم القضاء، فيأتي الإنسان ويخبر عن شيء، كأن جئت تصلي فسألت شخصاً: هل أذن لصلاة العصر أو لم يؤذن؟ فقال لك: لقد أُذن، فهنا تقبل خبر الواحد إذا وثقت بقوله، أو دخلت إلى قرية أو مدينة فيجب عليك أن تسأل أهلها عن القبلة، ولا يجوز لك أن تجتهد ولو كنت مسافراً، ما دمت قد نزلت وبإمكانك السؤال؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فتأتي إلى رجل ظاهره الخير، أو رجل تعرفه، أو صديق لك، وتقول له: أين جهة القبلة؟ فإنه سيقول لك: هكذا، فهذا خبر للواحد وتقبله، وتعمل به في الديانة، وتتعبد الله عز وجل به، لكنه من باب الخبر لا من باب الشهادة، فهذا يسمى: خبر، ولا يسمى: شهادة.

    وكذلك أيضاً لو جئت تصلي على فراش، وشككت هل هذا الفراش نجس أو طاهر؟ فقلت: يا فلان! هل هذا الفراش طاهر أو نجس؟ فقال لك: الفراش طاهر، فصدقت قوله، وتعبدت الله عز وجل بهذا القول، وصليت على الفراش، لكنه من باب الخبر، وليس من باب الشهادة.

    فالمسألة في ثبوت رمضان أحد الوجهين عند العلماء في الجواب عن الحديث: أنها جاءت عن طريق الخبر ولم تأت عن طريق الشهادة، ولذلك نقبل خبر الطبيب العدل، والمفتي يبني على قول الطبيب، فمثلاً: لو جاءك سائل وقال: أنا أريد أن أعمل عملية جراحية فهل يجوز أن أعملها أو لا؟ فتقول: أولاً: من شروط جواز العملية الجراحية أن تكون هناك حاجة إلى فعلها، وليس هناك بديل غيرها؛ لأن الضرر فيها عظيم.

    ثانياً: أن يغلب على الظن سلامتك، إذاً الحاجة والسلامة من الذي يشهد بها؟ يشهد بها الطبيب الموثوق به، لكن هذه الشهادة جاءت على سبيل الإخبار، وما جاءت على سبيل الحكم والقضاء، فليس فيها فصل خصومة ولا قطع نزاع، إنما جاءت على سبيل الديانة والتعبد لله عز وجل، فالمفتي يبني عليها ويعتد بها.

    لكن هذا كله لا يعترض به على ما ذكرناه؛ لأن باب الشهادة باب خاص، وقد عظم الله عز وجل أمر الشهادة، فلذلك لا تقبل إلا على الصورة الواردة، وهي شهادة الرجلين العدلين أو ما يقوم مقام هذه الشهادة مما سما الله عز وجل بالقيود والضوابط الواردة.

    فهنا ذكر المصنف رحمه الله من تقبل فيه شهادة الرجلين، فبين أن شهادة الرجلين تقبل في الحدود من غير الزنا؛ لأن الله عز وجل نص على الزنا بالأربعة ولم ينص على غيره، فحينئذٍ بقي غيره على الأصل.

    وكذلك تقبل في الأموال شهادة رجلين، مثاله: اختلف رجلان فقال أحدهما: بعتني هذا البيت بمليون، فقال: ما بعتك بيتي، فاختصما، فشهد الشاهدان على أنه باع، فحينئذٍ ثبت البيع وقضى القاضي به إذا كانت الشهادة مستوفية للشروط. أو قال له: وهبتني هذه السيارة، فقال: بل بعتكها، فقال: بل وهبتني، فنقول للذي يدعي الهبة: هل عندك بينة؟ فجاء بشاهدين أنه وهبه وقبض الهبة بشروطها المعتبرة، فحينئذٍ يحكم القاضي بثبوت الهبة.

    كذلك أيضاً الإشهاد في الإجارة والشركات والمضاربات، وجميع المعاملات المالية، والاعتداء، فلو أنه قال: فلانٌ سبني، ورفعه إلى القاضي وجاء وقال: فلان شتمني، وأنا أريد القاضي أن يعزره لأجل هذه الشتيمة التي شتمني بها، حيث قال لي كذا وكذا، فالقاضي يسأل الخصم: هل شتمته؟ فقال: ما شتمته، فحينئذٍ يقول القاضي للمدعي: ألك بينة؟ فإذا قال: نعم، وجاء بشاهدين على أنه شتمه بما ذكر للقاضي، فعلى القاضي أن يحكم بثبوت هذا ويعزره.

    إذاً: في الأموال تقبل فيها شهادة الرجلين، وهذا الأصل أن شهادة الرجلين مقبولة في الحقوق عامة إلا ما استثناه الدليل.

    وقد احتج العلماء رحمهم الله على ذلك بقوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، وهذا على الأصل؛ لأن الأصل أن تقبل شهادة الرجلين، وقال تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2]، وهذا في آية الطلاق، فدلت على اشتراط التعدد واشتراط العدالة، وهذا في الشهادة على الرجعة، وبناء على ذلك قالوا: يثبت الطلاق ويثبت النكاح، والطلاق نقل العصمة، والنكاح تثبت به العصمة، والرجعة إلى العصمة تقبل فيها شهادة الرجلين؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، ولما قال: (ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ) ولم يذكر النساء؛ دل على اختصاصها بالرجال دون النساء.

    ومن هنا من حيث الأصل فيما فيه الحقوق الشخصية تختص الشهادة بالرجال دون النساء، وأما بالنسبة للحقوق المالية التي ورد فيها شهادة النساء بدلاً عن الرجال، كما في آية الدين، فقالوا: إنه تقبل فيها شهادة النساء مع الرجال، كرجلٍ وامرأتين، وشهادة النساء منفردات كأربع نسوة، فحينئذٍ تقبل فيه شهادة النساء مجتمعات وأيضاً مع الرجال، ومنفردات مستقلات دون وجود رجل.

    والسبب: أن آية البقرة في الحقوق المالية ذكر الله عز وجل فيها شهادة النساء، وآية الطلاق في الحقوق الشخصية التي في الطلاق لم يذكر الله النساء بدلاً عن الرجال، ومن هنا فرق العلماء بين الحدود والجنايات وبين الأموال من هذا الوجه؛ لأن الله عز وجل لم يجعل بدلاً، ولما كان الأصل في شهادة النساء الضعف والنسيان: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282] فلا يقبل إلا ما ورد النص باعتداده.

    قبول شهادة رجلين في القصاص

    قوله: (والقصاص)

    أي: والقصاص كذلك لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين بالصفات التي ذكرناها، وأن يكونا سالمين من القوادح والموانع التي تمنع من قبول شهادتيهما، فلو أن شخصاً ادعى على شخص أنه قطع يده، فإننا نقول للمدعى عليه: أقطعت يده؟ فإن أنكر فحينئذٍ نقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: عندي بينة، وأحضر شاهدين عدلين مستوفيين للشروط، فحينئذٍ نحكم بثبوت القصاص إذا كان قطع يده عدواناً.

    مثال آخر: لو أن شخصاً ادعى أن أباه قتله فلان عمداً عدواناً، فأتينا بالمدعى عليه وقلنا له: هل قتلت فلاناً؟ فأنكر، فنقول للورثة أبناء القتيل: أعندكم بينة؟ فإن قالوا: نعم، وأقاموا شاهدين عدلين مستوفيين للشروط خاليين من الموانع؛ فحينئذٍ نحكم بثبوت القصاص على القاتل.

    إذاً: القصاص يثبت بشهادة رجلين مستوفيين للشروط، سواء كان القصاص في النفس مثل القتل، أو كان في الأطراف بالشروط التي ذكرناها في ثبوت القود في الأطراف.

    قبول شهادة رجلين فيما ليس بعقوبة ولا مال ويطلع عليه الرجال

    وقوله: (وما ليس بعقوبة ولا مال).

    ما ليس بعقوبة ولا مال مثل النكاح، فليس بعقوبة ولا مال، والطلاق ليس بعقوبة ولا مال، وكذلك الرجعة، كأن يقوم شخص ويطلق امرأته طلقة، وكانت الطلقة الأولى، وأراد أن يراجعها، فهذا ليس بمال وليس بعقوبة، فحينئذٍ تقبل فيه شهادة الرجلين العدلين، كما نص الله عز وجل على ذلك.

    وقوله: (ولا يقصد به المال).

    أي: لا يئول إلى المال، وسيأتي هذا النوع الثالث.

    وقوله: (ويطلع عليه الرجال غالباً) ما كان من هذا الصنف ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: يطلع عليه الرجال غالباً، بمعنى: أنه يقع أمام الرجال، مثل: النكاح، فإنه يجتمع ولي المرأة مع الزوج، وغالباً في محضر رجال، والطلاق نفس الشيء، وهذا يطلع عليه الرجال غالباً، فالرجل عندما يطلق امرأته غالباً يعلم صديقه وأخوه وقريبه، ولذلك إذا كانت الأمور التي يشهد بها من جنس ما يطلع عليه الرجال غالباً؛ فإنه يقبل شهادة الشاهدين من الرجال العدول على الصفة التي ذكرناها في الشهادة.

    وقد أراد المصنف رحمه الله أن يحترز من النوع الذي تقبل فيه شهادة النساء، وهو الذي لا يطلع عليه الرجال غالباً، فقال رحمه الله: (غالباً)، وإلا فالنساء قد يطلعن على النكاح ويطلعن على الطلاق، لكن لما قال: (غالباً)، فمعناه: أن هذا الشيء الذي ذكره قد يطلع عليه النساء.

    وقوله: (كنكاح).

    النكاح الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، وأكثر ما يوجد بين الرجال، وقد يقع بين النساء ولكن الحكم للغالب، ولماذا نقول: يطلع عليه الرجال غالباً، ويطلع عليه النساء غالباً؟ لأنه إذا كان يطلع عليه الرجال غالباً أجريته على القاعدة العامة، وجعلته تحت حكم الشريعة في الشهادة، في كون الشهادة تختص بالذكور، وتكون بالعدلين بالصفة التي ذكرناها، فإن خرج عن هذا إلى كونها تختص بالنساء، فهذا يسمونه: الخاص، والخاص لا يقدح في الأصل العام، وهذا الفقه أن تعرف ما جرى على الأصل فتطرد الدليل العام فيه، وذلك مثل قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، فلما خص الله عز وجل الشهادة بالاثنين، وجعلها متعددة وجعلها خاصة بالرجال، ولم يذكر لها بدلاً من النساء، فعلمنا حينئذٍ أن هذا النوع يختص بالرجال، ووجدنا من صفاته الذي يكون وصفاً مناسباً للشرعية في الحكم، لما نظرنا الصفات وجدنا هذا الشيء غالباً في الرجال، ولذلك يكون جارياً على الأصل بقبول شهادة الرجلين فقط.

    أما إذا أصبح هذا الشيء واقعاً بين النساء، ويقل اطلاع الرجال عليه، مثل العيوب الموجودة في النساء التي لا يطلع عليها الرجال غالباً، وحينئذ إذا صارت الأمور التي تختص بالنساء كالعيوب الموجودة للمرأة ونحو ذلك مما يحتاج إلى اطلاع النساء، أو يطلع عليه النساء غالباً، فمعناه: أنها حالة خاصة؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع، فحينئذٍ تستثنى؛ لأنك لو قلت: لا أقبل إلا الرجال؛ لأوقعت الناس في حرجٍ عظيم، ولضاعت الحقوق، وهذا خلاف شرع الله عز وجل، ولأصبحت المرأة تتبذل حتى ينظر الرجل إلى بكارتها وثيوبتها، فلأن ينظر الجنس مع اتحاد الجنس أخف من أن ينظر الجنس مع اختلاف الجنس، وهذا هو شرع الله أن يعطي كل شيء حقه وقدره.

    لكن هذا الاستثناء لا يعتبر قاعدة عامة، ومن هنا ضبطوه بقولهم: أو ما لا يطلع عليه إلا النساء غالباً؛ لأنه إذا كان من جنس ما لا يطلع عليه إلا جنسٌ مخصوص، فحينئذٍ يحتاج الناس عند الإشهاد عليه إلى هذا الغالب، فإذا ألزمتهم بغير الغالب -وهو الرجل- أحرجتهم، والله يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وإذا كان هذا الشيء من جنس النساء، وأدخلت الرجال على النساء أحرجتهم، والله عز وجل يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وضيقت عليهم والله عز وجل يريد أن ييسر: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] فهذا هو وجه تفسير العلماء وتفريقهم بين ما يطلع عليه الرجال وما يطلع عليه النساء، ثم ضبط بالغالب؛ لأن الحكم للغالب، وإلا فقد يوجد اطلاع الرجال على هذه الأشياء في النادر، كالطبيب مثلاً عندما يطلع وينظر إلى بكارة المرأة وعدمها، كما لو اشتكت امرأة من ألم فاضطر أن ينظر إلى فرجها، فنظر فعلم أنها بكر، ثم بعد ذلك حدثت حادثة في نفس اليوم بعد خروجها واحتيج إلى شهادته، فقال الزوج: هي ثيب من أسبوع، وهذا قد كشف عليها بالأمس ورأى واطلع وقال: إنها لا زالت بكراً، وهذا النادر لا يناط بحكم الشهادة، فهذا وجه تخصيص العلماء رحمهم الله والفقهاء للمسألة بالغالب.

    وقوله: (وطلاق).

    كذلك الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، ولا يمتنع أن يطلع عليه النساء، فالطلاق يثبت بشاهدين من الرجال، ومثاله: قالت المرأة: إنها زوجة، وإن فلاناً توفي ولم يطلقها، وهي تستحق الميراث، فأقام ورثة الميت شهوداً على أنها مطلقة، وأنها بانت من مورثهم قبل وفاته، فنحكم بذلك ونعتبرها مطلقة، ولا حق لها في الميراث، إذاً يثبت الطلاق بشهادة الشاهدين العدلين المستوفيين للشروط، دون وجود موانع فيهما.

    وقوله: (ورجعة).

    كأن يقول: هذه زوجتي وقد راجعتها، ولذلك أطلب من القاضي أن تفسخ نكاحها من هذا الرجل، فقالت المرأة: ما راجعني، وأنا مكثت حتى خرجت من عدتي وتزوجت، وعندي شهود أني اعتددت، وأني ما تزوجت إلا بعد انتهاء العدة، فجاءت بالشهود وأثبتت أنها نكحت بعد انتهاء العدة، وجاء بالشهود على أنه راجعها في اليوم العاشر قبل حيضتها الثالثة، ما بين الثانية والثالثة، أو بين الحيضة الأولى والثانية، فحينئذٍ نحكم بالرجعة، وأنها زوجة للأول وليست زوجة للثاني، ونفسخ نكاح الثاني، إذاً تثبت الرجعة بشهادة الشاهدين.

    وقوله: (وخلعٍ).

    أي: لو قال: إنه خالع زوجته، وقد تقدم معنا أنه إذا ادعى أنه خالع المرأة، وادعت المرأة أن زوجها طلقها، فتسعى لإثبات حق لها، أو دفع ضرر عن نفسها، كأن تقول المرأة: إنك طلقتني وليس لك علي المهر، فقال: لا، بل خالعتك، فاختصم مثلاً هو وامرأته التي كانت في عصمته، وكلهم متفقون على أنه حصل فراق، لكن السؤال: هل حصل الفراق بالخلع فيجب عليها أن ترد له المهر، أم حصل الفراق بالطلاق وليس له شيء؟

    فهي تقول طلقني، وهو يقول: خالعتها، لم أطلقها، فلما اختصما جاء بشاهدين عدلين على أنه خالعها، وأن الذي وقعت به الفرقة هو الخلع وليس الطلاق، فاستحق أن يطالبها بالمهر، وحينئذٍ نحكم بثبوت حقه في ذلك بناءً على وجود شهادة شاهدين عدلين.

    وقوله: (ونسبٍ).

    كما لو قال: إنه الابن الوحيد لفلان، ويستحق ميراثه، فلما ادعى ذلك أنكر العصبة، كإخوان الميت، وقالوا: ليس له ذرية، وليس له ولد، وأنت لست ولداً له، فقام وجاء بشاهدين عدلين عند القاضي مقبولي الشهادة، فإنه لا مانع من قبول شهادتهما، ويُحكم بكونه ابناً لهذا الميت ويستحق الميراث، ويحجب بقية العصبة، إذاً يثبت النسب ويثبت ما يترتب على النسب بشهادة العدلين.

    وقوله: (وولاءٍ).

    كذلك إثبات الولاء يكون بشاهدين عدلين؛ لأن الولاء تترتب عليه أحكام شرعية، قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمته كلحمة النسب)، وهو أحد الأسباب الموجبة للإرث، فلو أن مولى أعتقه فلان من الناس، فتوفي هذا المولى، فإن مولاه يرثه إذا لم يكن له وارث لا بالفرض ولا بالتعصيب، أو مثلاً كان يعني: هذا المولى هو المسلم الوحيد، فأعتقه في حياته، وهو مثلاً سيده، فلما أعتقه أصبح ثرياً وغنياً، فتوفي هذا المولى وليس معه أحد من ورثته، فإن المال سيذهب إلى بيت مال المسلمين؛ لأن بيت المال يرث من لا يورث، ففي هذه الحالة جاء سيده وأقام دعوى على أنه مولاه، وأنه يستحق المال بحكم أنه مولى من مواليه، فنقول له: أثبت ذلك، فجاء بشاهدين عدلين، فحينئذٍ له ذلك ويحكم بذلك المال له.

    وقوله: (وإيصاءٍ إليه).

    كذلك الوصية، وقد تقدمت أحكامها، كأن يقول: أوصى لي فلان بربع التركة، أو أوصى لي بهذه المزرعة، أو أوصى لي بهذه العمارة، فكذبه الورثة وقالوا: ما أوصى له، وهو رجل أجنبي، أو رجل غريب غير وراث، فقال له القاضي: ألك بينة؟ فأحضر شاهدين وشهدا، فحينئذٍ حكم بالشاهدين له.

    وقوله: (يُقبل فيه رجلان).

    أي: نقبل الرجلين؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، وهذا هو الأصل، وقال سبحانه وتعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، وقال صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو يمينه)، وكما قلنا: لابد من كونهما شاهدين عدلين بالصفة التي تقدمت في الشهود.

    ما تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال

    قال رحمه الله: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه رجلان، أو رجلٌ وامرأتان، أو رجلٌ ويمين المدعي].

    قوله: (ويقبل في المال وما يقصد به) أي: ما يقصد به من الأموال، أو ما يئول إلى المال، فبعضهم يقول: يقصد به المال، وبعضهم يقول: يئول إلى المال، فيشهد في ذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، والدليل على ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة:282]، هذا الأصل أن الرجل يريد أن يكتب ديناً لآخر عليه، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الحق -وهو الدين- يثبت بشهادة الشاهدين، فبين كيف تكون كتابة أو توثيق هذا الدين وهذا الحق، وذلك بكتابته وصفة الكاتب وما ينبغي على الكاتب، وما ينبغي على المملي.

    وبعد هذا قال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282] أي: أن يملي الشخص ويكون ذلك بحضور شاهدين يشهدان على ما يقر به ويكتب، وبعض العلماء يقول: الحجة في الشاهدين، تعظيماً لأمر الشهادة على الكتابة، فإن الكتابة بذاتها ليست حجة؛ لأن الخطوط تتشابه والخطوط تزور، وإنما الحجة جاءت في الشاهدين، ومن هنا كانت الآية أصلاً في قبول الشهادة، فلما كان صدر الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ [البقرة:282] هذه الآية في الحقوق المالية صارت أصلاً، ومن هنا قالوا: يقبل في الأموال الشاهدان.

    ثم قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282]، فدل هذا على أن الحقوق المالية يُقبل فيها شهادة النسوة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكر النساء إلا في هذا النوع من الحقوق، وقد ذكر الحدود وذكر الجنايات ومع ذلك لم يثبتها إلا بشهادة الذكور، فدل على اختلاف الحكم، كما مشى على ذلك وجرت عليه جماهير السلف والخلف من حيث الجملة.

    إذا ثبت هذا فإن الأموال يقبل فيها الشاهدان الرجلان، أو الرجل والمرأة بنص القرآن، ثم يرد السؤال: هل قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ [البقرة:282] تنبيه على البدلية من كل وجه؟ بمعنى: أنه يمكننا أن نقبل أربع نسوة منفردات؛ لأن المراد أن شهادة النساء تحل محل الرجال، بغض النظر عن كونهن منفردات أو كونهن مجتمعات مع الرجال، وهذا هو مسلك الجمهور على أنه يمكن أن تقبل شهادة أربع نسوة في الدَّيْنِ، فلو أن رجلاً له على رجل مائة ألف ريال، وخاف أن يأتيه الموت، فأشهد اثنتين من أخواته واثنتين من زوجاته على هذا الحق الذي عليه، صح؛ لأن هذا الحق يثبت بشهادة النساء منفردات وبشهادتهن مجتمعات مع الرجال.

    هناك من قال: لا تقبل شهادة المرأة إلا مع الرجل، والصحيح أنها تقبل شهادة النساء، سواءً اجتمعن أو انفردن في الحقوق المالية.

    وقوله: (كالبيع).

    أي: لو باعه بيتاً فإن له أن يشهد رجلين أو يشهد رجلاً وامرأتين، أو يشهد أربع نساء.

    وقوله: (والأجل).

    كذلك أيضاً إشهاد الرجال مع النساء في التأجيل، أي: كون الدين مؤجلاً أو معجلاً في الحقوق المالية.

    فمثلاً قال له: بعت البيع نقداً، فقال: لا، بل بعتني إلى أجل، والأصل في البيع أن يكون نقداً، لكن إذا ادعى أنه باعه إلى أجل، وقال القاضي للبائع: أبعته إلى أجل؟ فقال: لا، أنا بعته نقداً، فحينئذٍ نقول لهذا: ألك بينة على أنه باع إلى أجل؟ فإن قال: نعم، وجاء بشاهدين من الذكور أو برجلٍ وامرأتين فإنه يصح؛ لأن التأجيل هنا المراد به إثبات حق المال، فالشهادة فيه راجعة إلى الأموال، فتثبت في البيع تأجيل البيع وعدم تأجيله.

    وقوله: (والخيار فيه ونحوه).

    أي: يجوز إشهاد الرجال والنساء في الخيار في البيع.

    وقوله: (رجلان أو رجل وامرأتان) هنا لم يذكر الأربع النسوة، وهذا بناءً على ما اختاره بعض العلماء: أنه لا تقبل شهادة النساء منفردات، والصحيح: أنها تقبل شهادتهن منفردات في الحقوق المالية؛ لأن الله بين أن شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، وعلى هذا فتقبل شهادة الأربع مقابل الرجلين.

    والدليل الثالث الذي يُقبل في شهادة الأموال وما يئول إلى المال: شهادة الشاهد مع اليمين، مثل: أن يقوم شخص ويقترض من شخص مائة ألف، وحضر هذا القرض شخصٌ واحد، ثم توفي المقترض، فجاء صاحب الدين إلى الورثة وقال: لي على أبيكم مائة ألف، فقالوا: لا نعترف لك بذلك، أعندك حجة أو كتابة فنقبل منك، فهو لم يخبرنا أن لك عليه مائة ألف؟ فاشتكى إلى القاضي، فقال له القاضي: ألك بينة؟ قال: نعم، لي رجل واحد يشهد، وهذا الشاهد مستوفٍ للشروط، حينها قال القاضي: تحلف معه اليمين، وتستحق ما ادعيت، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح: (أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد مع اليمين)، وهذا عن أكثر من عشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت عنهم هذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهر ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد في مسنده ومسلم وغيره رحمة الله على الجميع، فهذا يدل على ثبوت سنة الشاهد مع اليمين، ويقول جمهور العلماء رحمهم الله: إنه يقبل الشاهد مع اليمين، ونعتبر قول الشاهد مع اليمين أصلاً بقبول الشهادة، وإذا اعتبرنا جنس الشاهد فإنه يقبل شهادة المرأتين مع اليمين؛ لأن المرأتين قائمتان مقام الرجل؛ ولأن الله أنزل المرأتين منزلة الرجل، وحينئذٍ يكون جنس الشاهد مع اليمين المراد به من اعتد بشهادته، بغض النظر من كونه من الرجال أو من النساء.

    قبول شهادة النساء فيما يخص النساء

    قال رحمه الله: [وما لا يطلع عليه الرجال غالباً كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه تقبل فيه شهادة امرأة عدل].

    هذا لما قدمنا من وجود الحرج، فإن أمور النساء الخاصة الغالب أنه لا يطلع عليها إلا النساء، وقد أخذوا هذا من حديث أم يحيى بنت أبي إهاب رضي الله عنها وأرضاها، وقد بينا ما في الحديث، لكنه أصل في أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل خبر المرأة، ولذلك بين رحمه الله هذه الأمور، فقال: (كعيوب النساء تحت الثياب كالبكارة والثيوبة)، فإثبات بكارة المرأة وثيوبتها يحتاج إلى اطلاع على الفرج، وهذا الاطلاع من الجنس أخف من اطلاع غيره، ولذلك فالمرأة الثقة المعروفة بالأمانة والتحفظ يمكن أن تطلع وتخبر القاضي بما اطلعت عليه. وهل هذه شهادة لها حكم أم أنها شهادة أهل الخبرة استثنيت لوجود الحاجة كما يقول العلماء؟!

    حكم قبول شهادة الرجل فيما لا يطلع عليه إلا النساء غالباً

    قال رحمه الله: [ والرجل فيه كالمرأة ].

    أي: لو أن هذا الشيء الذي لا يطلع عليه إلا النساء شهد به رجل كالطبيب فتقبل شهادته، بمعنى: أننا عندما نقول: إنه لا تقبل فيه إلا شهادة امرأة، ليس على سبيل الحصر، وإنما الأصل أن يتولى هذه الأمور النساء، لكن لو حصل أن رجلاً اطلع عليه لجاز له أن يشهد.

    حكم ثبوت القود والمال بشهادة النساء أو شاهد ويمين

    قال رحمه الله: [ومن أتى برجلٍ وامرأتين أو شاهدٍ ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قودٌ ولا مال].

    بينا في الدرس الماضي: أن هذا مبني على أن ثبوت المال مفرع على ثبوت القود، فمثلاً: جاء بشاهد وأراد أن يحلف اليمين معه على أن فلاناً داس أباه بالسيارة عمداً عدواناً، فهذا قتل عمد لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين عدلين، ففي هذه الحالة إذا لم يثبت القصاص لا تثبت الدية، فلا يقول قائل: نسقط الدية؛ لأن القتل قتل عمد يجب القصاص، فالشريعة تنظر إلى الدعوى، بحيث لو أن الدعوى جاءت على هذا الوجه فحينئذٍ لا نقبل إلا شهادة رجلين عدلين بالصفة المعتبرة بالشهادة، فإذا لم يقمهما لم نحكم له.. صحيح أن هناك مالاً، لكن هذا المال وهو الدية مفرع أو مبني على ثبوت القود؛ لأن أولياء المقتول يخيرون كما قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقاد وإما أن يودى)، فجعل الدية بدل القود، فإذا لم يثبت القود لا تثبت الدية، وهذا معناه: أن يأتي المال مشتركاً مع غيره لا على سبيل البدلية، فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا يقبل فيها شهادة ويمين؛ لأنه لم يتمحض فيها قصد المال، وإنما جاءه مبني على ثبوت ما يشترط فيه شهادة الرجال وحدهم، فلا يقبل فيه الشاهد مع اليمين، ولا يُقبل فيه شهادة النسوة منفردات أو مجتمعات مع الرجال.

    شهادة النساء في السرقة يوجب المال دون الحد

    قال رحمه الله: [ وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع ].

    إذا شهد في السرقة ثبت القطع وثبت ضمان المال، ولكن هذا الثبوت لضمان المال ليس مركباً على ثبوت القطع، ولذلك يثبت الحقان: أولاً: القطع الذي هو حقٌ الله عز وجل. ثانياً: المال الذي هو حق للمخلوق؛ فإذا كان حق الله لم يثبت؛ فإن حق المخلوق يثبت؛ لأنه إذا قال: سرق مالي، فالرجل يحتاج أن يرد له ماله، وحينئذٍ فحقه ثابت، فانفصل حق المال عن حق الحد، فإذا انفصل فإنه حينئذٍ يثبت المال، ونقول له: لا نثبت حد السرقة بشهادة النساء؛ لأن هذا النوع من الشهادات لا يثبتها، ولكن يجب عليه أن يضمن المسروق؛ لأن المال يثبت بهذه الشهادة.

    ثبوت العوض في الخلع بشهادة النساء مع الرجال

    قال رحمه الله: [ وإن أتى بذلك في خلعٍ ثبت له العوض ].

    قوله: (وإن أتى بذلك في خلع) الخلع يثبت فيه المهر، فإذا أثبت أنه خالع المرأة - كما تقدم معنا في المثال- فهو أثبت أنه خالعها بشهادة رجل وامرأتين، فإننا نقول: إن هذا يثبت المهر ولا يثبت الخلع.

    ثبوت البينونة بمجرد دعواه الخلع

    قال رحمه الله: [ وتثبت البينونة بمجرد دعواه ].

    أي: إذا ادعى الرجل أنه خالع امرأته فإننا حينئذٍ نحكم بثبوت البينونة؛ لأنه اعترف بأنها ليست زوجة له، وأنه قد فارقها، والخلع طلاق، وهذا من الفوائد التي تترتب على أن الخلع طلاق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756241699