إسلام ويب

شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب القضاءللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله بعباده أن شرع لهم القضاء لحل خصوماتهم، فيكف الظالم، وينصر المظلوم، وشرع سبحانه لهم شريعة يحكمون بها، وألزم الشرع الإمام بأن يختار قضاة ذوي كفاءة ودين وورع وعدالة، كل هذا لأجل أن تعم العدالة حياة المسلمين.

    1.   

    تعريف القضاء وحكمه

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب القضاء].

    تعريف القضاء

    القضاء يطلق في اللغة على عدة معانٍ:

    الأول: الفراغ من الشيء، ومنه قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200]، وقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ [النساء:103] .. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:10] أي: فرغتم منها وانتهيتم من أدائها.

    الثاني: الحكم والإيجاب والأمر بالشيء والتوصية، كما في قوله سبحانه وتعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] .

    الثالث: الإعلام، كما في قوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ [الحجر:66] أي: أعلمناه.

    الرابع: الشيء المحتم، كما في قوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ [سبأ:14] أي: أصبح أمراً محتماً لازماًعليه.

    الخامس: الخلق، ومنه قوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ [فصلت:12].

    أما في الاصطلاح: فهو قطع النزاعات وفصل الخصومات، وقيل: (بحكم الله) إضافة قيد.

    وعرفه بعض العلماء بقولهم: الفصل بين خصمين بحكم الله عز وجل. وهذا من أنسب التعاريف.

    مشروعية القضاء

    القضاء سنة متبعة، بها يحق الحق ويبطل الباطل، ولابد للمسلمين من قضاة يقومون بمصالحهم، يردعون الظالم عن ظلمه، ويعطون المظلوم حقه، وبذلك يتحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.

    وقد دلّ دليل الكتاب والسنة وانعقد الإجماع على شرعية القضاء، والعقل أيضاً يدل، قال تعالى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، وقال سبحانه تعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26] ، فأمر بالقضاء.

    والقاضي مستخلف على مصالح المسلمين؛ ليحرص على جلب المصالح لهم، ودرء المفاسد عنهم.

    وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين في قصة اختصام علي وجعفر، وكذلك قصة الزبير مع جاره، وكذلك أيضاً ولّى القضاة، كما بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً وأبا موسى الأشعري أيضاً رضي الله عن الجميع، وتولى القضاء من بعده الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة على الأمصار وعلى الأقاليم.

    وأجمع المسلمون على شرعية القضاء.

    والقاضي خليفة عن الإمام العام للمسلمين في هذا الأمر الذي يناط به، وهي أمانة عظيمة ومسئولية جسيمة.

    فمن عرف من نفسه الكفاءة والأهلية ولم يجد غيره، أو غلب على ظنه أنه يتعطّل هذا الحق إذا لم يله تعين عليه أن يطلب القضاء، وتعين عليه أن يصير قاضياً، كما قال تعالى: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وأما إذا وُجد غيره فإن السلامة مندوب إليها، وفعلها أئمة السلف، أنه إذا غلب الفساد في الناس وغلب على ظنه أنه لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً فالسلامة أفضل.

    قيل لـأبي قلابة الجرمي رحمه الله -الإمام الجليل فقهاً وحديثاً- عندما أكره على القضاء وفرّ، فقيل له: كيف وأنت الإمام وعندك العلم والدراية بالقضاء؟

    قال: إلى متى يسبح السبّاح في البحر؟ يعني: إذا عظمت الفتن أصبحت مثل الشخص الماهر القوي في داخل بحر، يسبح.. يسبح حتى يتعب ثم يسقط، وهذا لمن غلب على ظنه أنه لا يقوى على الفتن.

    وقال أبو حنيفة حينما دعي إلى القضاء: والله! لا أصلح، إن كنتُ صادقاً فقد صدقت، وإن كنتُ كاذباً فكيف تولي من يكذب؟! وكان هو وإياس مرشحين للقضاء، قيل: امتنع إياس وامتنع أبو حنيفة، فلما قال أبو حنيفة ذلك قال إياس : يا أمير المؤمنين! أتيت بإمام أوقفته على شفير جهنم حلف عليها يميناً يفتدي منها بكفارة، قال: أما وقد عرفت فقهها لا يقضي غيرك. وكان لدى إياس رحمه الله ذكاء.

    وقيل: لما قيل لـأبي حنيفة : لماذا لم تلِ القضاء وأنت أنت؟!! قال: إني لا أملك القلب الذي أقضي به عليك وعلى أمثالك. يعني: لا أملك الصرامة والقوة أن أنفذ الحق، فلذلك لا يمكن أن يكون القاضي قائماً بحق الله عز وجل إلا إذا كان حازماً، وصدق وبر واتقى الله عز وجل.

    القضاء فرض كفاية

    قال رحمه الله: [وهو فرض كفاية].

    وهو -أي: القضاء- فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

    1.   

    واجب الإمام في القضاء واختيار القضاة

    قال رحمه الله: [يلزم الإمام أن ينفذ في كل إقليم قاضياً].

    يجب على إمام المسلمين وولي أمرهم أن يختار القضاة للأمصار والأقاليم وفي الأماكن على حسب الحاجة، فيعين من هو أهل للقيام بهذه المصالح.

    والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث القضاة -وممن بعثهم علي رضي الله عنه- وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده اختاروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء وأرسلوهم قضاة في الأمصار والأقاليم، وهذا يدل على أنه ينبغي اختيار القاضي، ولعظم مسئولية القضاء لا يختار له كل أحد، بل ينبغي أن تتوافر فيه الصفات المعتبرة.

    قال رحمه الله: [ويختار أفضل من يجده علماً].

    لأن الله سيسأله عمن يختاره، وسيقف بين يدي الله ويسأل عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعما اختار لهم، إن نصح فقد نصح، وإن لم ينصح فإنه مسئول محاسب عن ذلك.

    إذاً: من واجب النصيحة أنه إذا وجد الناس على فضل بحث عن أفضلهم وأكملهم، وهذا مبالغة في النصيحة لعامة المسلمين، وكل من ولي أمراً من أمور المسلمين -حتى ولو كان مدرساً- وأراد أن يختار أحداً للقيام بمصلحة من المصالح فعليه أن يختار الأفضل، فهذه هي النصيحة التي هي الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) أن ينصح لعامة المسلمين باختيار الأفضل علماً -أن يكون عنده علم ودراية-؛ لأنه لا يمكن إحقاق الحق وإبطال الباطل إلا بالبصيرة، وهي النور الذي يقذفه الله في القلوب، لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [النساء:162] فالرسوخ والبينة طريقان لاستبانة الحق ومعرفته؛ لأن الجاهل بالحق لا يمكن أن يقضي به، فلابد أن يكون لديه علم.

    ويعرف علم الرجل بشهادة العلماء وبشهادة من هو أعلم بأن فلاناً عنده علم، فإذا شُهد له -أو عرف بالسماع عنه- أنه مبرز في علم القضاء فإنه يختار لذلك.

    [وورعاً].

    الورع أن يكون عنده انكفاف عن محارم الله عز وجل، فيدع ما لا بأس به خوفاً من الوقوع فيما به بأس، وإذا كان القاضي ورعاً عف عن أموال المسلمين، وكف عن أذيتهم بلسانه وعن أذيتهم بقوته وسلطانه، وكان أخوف ما يخاف من الله عز وجل أن يقف أحد منهم خصماً له بين يدي الله سبحانه وتعالى.

    وهذا الورع هو الذي يقف به في وجه الظالم لكي يكبحه عن ظلمه كائناً من كان، ويجد أنه بهذا الورع أقوى من القوي في قوته، ويجد أن الضعيف في عينه صار قوياً بهذا الورع، وأن القوي صار ضعيفاً.

    نماذج من القضاة القدوة

    القضاة من أئمة السلف رحمهم الله ودواوين العلم والصلاح سطروا المواقف العظيمة الجليلة الكريمة.

    فقد أثر أن المأمون لما جاء إلى المدينة ومعه الحمالون لمتاعه ما إن نزل واستقر حتى أتوا إلى قاضي المدينة؛ فما إن دخل إلى قصر عامله بالمدينة حتى جاءه رسول القاضي يقول له: إن القاضي يدعوك إلى مجلس القضاء، حضر خصوم لك. فما كان منه إلا أن بعث حاجبه، وقال له: إذا خرجت فمر الناس ألا يقوموا؛ فإني ماض إلى مجلس القضاء.

    فلما مضى إلى مجلس القضاء وجاء إلى مجلس القاضي فرشت له السجادة، فقال له القاضي: يا أمير المؤمنين! لا تترفع عن خصمك، -وخصومه هم الحمالون الذين كانوا يحملون متاعه لما جاء مسافراً من دار الخلافة إلى المدينة- فإما أن تفرش لك ولهم وإلا جلست معهم على أرض المسجد. فجلس معهم على أرض المسجد، فلما جلس معهم قال: ما خصومتهم؟

    قال: إنهم لم يأخذوا حقوقهم، فقال: إني قد أمرت وكيلي أن يدفع إليهم، قال: فلتدفع إليهم الساعة؟ قال: أفعل. فما كان من القاضي بعد أن انتهى هذا الأمر إلا أن ذهب وجلس وراء المأمون، فقال له: ويحك! ما الذي تفعله؟ قال: يا أمير المؤمنين! كنت في حق الله وقضيت، فالآن أبقى في حق أمير المؤمنين.

    وفي زمان الرشيد أثر عن أحد القضاة أنه كان من أصلح القضاة، فجاءته امرأة فقالت له: أنا بالله ثم بالقاضي من عم أمير المؤمنين عيسى بن موسى ، وكان له مكانته، قال: ما شأنك؟ قالت: إن أبي خلف لي بستاناً فكان بيني وبين أخوتي، فاشترى من إخوتي نصيبهم وساومني أن يأخذ حقي فامتنعت، فما زال بي حتى كان البارحة أرسل أعوانه فهدموا الجدار فأصبحت لا أعرف حقي من حق إخواني، فأنا بالله ثم بالقاضي.

    فكتب إليه: إلى عم أمير المؤمنين فلان بن فلان، تحضروا إلى مجلس القضاء أنت أو وكيلك، فقد حضرت امرأة تستعدي عليك. فلما جاء الكتاب إليه أخذته العزة بالإثم فغضب غضباً شديداً فنادى أكبر العلماء في قرية كانت في ضاحية فقال له: اذهب إلى هذا القاضي وقل له: نوليك القضاء حتى تقضي علينا؟! فقال له هذا العالم الموفق: أعفني من ذلك؛ لأنه يعرف أن هذا القاضي صارم لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال: أعفني من ذلك، قال: والله! لا يذهب غيرك. قال: أما وقد أقسمت علي فإني سأبعث بفراشي إلى سجن القاضي؛ لأنه يعرف أنه سيسجنه. فما إن جاء إلى القاضي وقال له: إن عم الخليفة يقول لك كذا وكذا، قال: بئس ما جئتني به، أوتحول دون الحق، وتعين على الباطل؟! اذهبوا به إلى السجن. قال: قد علمت، وقد سبقني فراشي. فكتب إليه مباشرة؛ لأنه رد الشرع وأهان القاضي فرد له بالإهانة: إلى فلان بن فلان حضرت امرأة تستعدي عليك، فلتحضر إلى مجلس القضاء بنفسك.

    بينما في المرة الأولى قال له: أنت أو وكيلك، فقال له هذه المرة: بنفسك.

    فما كان منه إلا أن ازداد غضبه ثم نادى تسعة من العلماء من أعيان البلد وأمرهم أن يذهبوا، فلما صلى القاضي العصر جاءوا حوله وتحلقوا لكي يساوموه في المصلحة وما تقتضيه المصلحة، فلما تكلموا قال: بئس ما جئتوني به، هل هنا أحد من فتيان الحي؟ فقالوا: أنا أنا، فقال: كل منكم يأخذ بواحد منهم ويذهب به إلى السجن. ثم كتب إليه: إما أن تحضر إلى مجلس القضاء وإلا ختمت القنطر، فوالله! لا خير فيَّ إن لم أقم الحق عليك وعلى غيرك.

    فلما مضى إليه الكتاب ما كان منه إلا أن غضب ولم ينظر في الكتاب ولم يقرأه.. ثم أمر بالباب أن يكسر وأخرج أولئك من السجن، فلما بلغ ذلك القاضي ختم القنطر، وإذا ختم القنطر لابد أن يذهب إلى هارون الرشيد ، فلما صلوا المغرب إذا به قد تهيأ أن يخرج، فخرجت القرية عن بكرة أبيها؛ لأن من نصر الحق نصره الله عز وجل، فصاح الناس، وسأل هذا: ما شأن الناس.. وهو جالس في مزرعته؟

    قالوا: إن القاضي ختم القنطر وهو يريد أن يذهب إلى أمير المؤمنين. قال: وما شأنه؟

    قالوا: لأنك لم تأت إلى مجلس القضاء. وكان يعلم أن هارون الرشيد رحمه الله لا تأخذه في الله لومة لائم، كانت له حسنات جليلة، فعلم أنه لو ذهب إليه سيهينه ويرده إلى مجلس القضاء، فما كان منه إلا أن ركب دابته ووقف للقاضي في طريقه قبل أن يخرج من القرية، فقال له القاضي: لا أرضى حتى يرجع كل من أخرجته؛ لأن هذا حق لله لست أنت الذي تخرجه. فردوا إلى مجلسه، فلما ردوا قال له: تذهب الآن مع المرأة وتدخل إلى المسجد. فمضى معها كما يمضي غيره من عامة الناس، ثم لما دخل القاضي وصلى الركعتين وجلس للخصومة جاء عم أمير المؤمنين فأراد أن توضع له الطنفسة، قال: تجلس على أرض المسجد ولا تجلس على بساطك وعلى فراشك، فأنت في مجلس خصومة.

    فقامت المرأة ورفعت صوتها، فقال لها بعض أعوان عيسى بن موسى : اخفضي صوتك. فقال لها القاضي: انطقي؛ فإن الحق رفع صوتك.. قولي ما عندك، فصاحت المرأة بقضيتها، فقال: ما تقول؟

    قال: أقول: قالت حقاً، قال: تبني جدارها الساعة، قال: أفعل، فقالت المرأة: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين وعن أمة محمد خير الجزاء.

    هذه النماذج العظيمة القوية بها يحق الحق، ولا يمكن أن يكون القاضي إلا إذا كان صادقاً وكان أهلاً، فإذا غلب على ظنه أنه يحق الحق ويبطل الباطل فحيهلاً.. وإلا فلا.

    ما يجب على الإمام أن يأمر به من يوليهم القضاء

    قال رحمه الله: [ويأمره بتقوى الله].

    أي: يأمر القاضي أن يتقي الله عز وجل؛ لأن أساس الأمور وصلاحها كلها في تقوى الله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً أو بعث سرية أمر وأوصى الأمير في خاصته ومن معه بتقوى الله عز وجل، فهي أساس ومنبع كل خير وبر.

    قال رحمه الله: [وأن يتحرى العدل وأن يجتهد في إقامته].

    أي: يوصيه أن يتحرى العدل حتى يعذر إلى الله عز وجل، ويقول: إني وليتك هذا الأمر فاتق الله واعدل؛ لأن الحكم قوامه العدل.. فالقوي ضعيف عندك حتى تأخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى ترد الحق إليه، وأن لا تأخذك في الله لومة لائم، وأن تتذكر معونة الله لك، وتأييد الله لك، وأنه لا يزال لك من الله نصير وظهير ما دمت تطلب الحق وتنشده؛ لأن القاضي إذا طلب الحق وتجرد للحق لا يزال معه من الله معين وظهير، ما لم تخن خائنة في قلبه والعياذ بالله.. فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، نسأل الله بعزته وجلاله ألا يزيغ قلوبنا.

    قال رحمه الله: [فيقول: وليتك الحكم أو قلدتك ونحوه ويكاتبه في البعد].

    الأولى صيغة قولية، يقول له: وليتك.. قلدتك.. هذه من الصيغ التي يوجهها الإمام العام -ولي الأمر- لمن يوليه القضاء؛ لأن القاضي نائب عنه..

    منفذ بالشرع بالأحكام له نيابة عن الإمام

    وما دام أن القاضي نائب عن الإمام، فلابد أن تكون هناك وكالة شرعية تكون باللفظ الصريح: وليتك.. قلدتك.. نصبتك، ونحو ذلك، أو أنت قاضي كذا.

    أو يكتب إليه ويصدر أمراً بتعيينه ونحو ذلك، فهذا يقوم مقام اللفظ.

    1.   

    مهام القاضي

    قال رحمه الله: [وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم].

    إذا كان القضاء في ولايات عامة وخاصة، يكون عاماً في الولاية عاماً في المكان، كأن يقول له: أنت قاضٍ على دولتي كلها، أي: جميع ما يتعلق بالقضاء راجع إليك، فهذه ولاية عامة في عموم العمل.. وهذه يطلقون عليها: (عموم النظر في عموم العمل) فجميع ما يتعلق بالقضاء يرجع فيه إلى هذا المولى.

    ويكون أيضاً: عموم في خصوص (عموم النظر في خصوص العمل) كأن يقول له: وليتك القضاء في الأنكحة وفي الرهون وفي البيوعات وفي الحدود وفي القصاص، وفي الوصايا وفي الأيتام.. ونحو ذلك عامة، في مدينة كذا أو كذا؛ فهذا يسمى (عموم النظر في خصوص العمل).

    أو يوليه (خصوص النظر في خصوص العمل) كأن يكون هناك قضاة في الوكالات يتولون كتابة صكوك الوكالات، وهناك قضاة يتولون الحدود، وآخرون يتولون الجنايات، يقول -مثلاً-: أنت وليتك قضايا القتل في مكة، أو في المدينة (خصوص النظر في خصوص العمل).

    إذاً: ولاية القاضي تكون خاصة وتكون عامة، وهذه من التشريعات الإسلامية، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) فاعترفت فرجمها، فولاه عليه الصلاة والسلام خصوص النظر في قضية خاصة معينة، وجعله قاضياً إن اعترفت، والاعتراف لا يصح إلا في مجلس القاضي وفي مجلس الحكم، (فارجمها) والرجم لا يكون إلا بحكم القاضي، فجعله قاضياً في قضية مخصوصة، وهذا من خصوص الولاية.

    قوله: (وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم، وأخذ الحق لبعضهم من بعض).

    كلما اختصم خصمان يفصل بينهما؛ لأنه مسئول عن هذا، سواء كانت الخصومات في الأموال أو كانت في الأنكحة، أو كانت في الحقوق العامة، أو كانت في الحدود ونحو ذلك، كل هذه يتولاها للعموم.

    قال رحمه الله: [والنظر في أموال غير المرشدين].

    كل قاضٍ ينبغي عليه أن ينظر من ولاهم على الأيتام وعلى القاصرين، وهم (النظار) فيستدعيهم ويسألهم ويعرف كيف يصرفون، وكيف يقومون، حتى يعلم صدق الصادق وكذب الكاذب، وخيانة الخائن، وأمانة الأمين، ويعرف هل هو فعلاً قائم بهذه الولاية.

    فكل من ولي قضاء أول ما يأتي ينبغي أن يستدعي هؤلاء ويسألهم، وقد نبه على هذا الأئمة رحمهم الله في كتبهم: كأدب القاضي للإمام الماوردي ، وابن أبي الدم من فقهاء الشافعية، وكذلك نبه عليه ابن فرحون في التبصرة، وغيرهم من الأئمة والفقهاء، وشيخ الإسلام أشار إلى هذا فهذه من مسئولياته وأمانته أن ينظر في أموال القصار -إذا كانت الولاية عامة- ويولي أوصياء عليهم، وكذلك يتفقد القائمين على أموال السفهاء ومن يتولى عليهم النظار، هل هم قائمون أم مقصرون؟!

    قال رحمه الله: [والحجر على من يستوجبه لسفه أو فلس].

    يوليه هذه الولاية وتكون ولاية عامة، ولاية الحجر على السفيه.

    قال رحمه الله: [والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها وتنفيذ الوصايا].

    إذا كان في مدينة يستدعي النظار على الأوقاف، ويسألهم عن أوقافهم، وهذه الأوقاف ماذا اشترط الأموات فيها؟ وماذا اشترطوا في هذه الأوقاف؟ وهذه مسئولية عظيمة ولا يمكن أن تستقيم الأمور إلا بها، وكيف نفذوا.. هل نفذوا شروط الوقف أم لم ينفذوا؟ هل هم متلاعبون؟ هل هم مقصرون؟ هل هم محتاجون إلى مساعدة أو معونة؟ حتى يستجلي جميع هذه الأمور، فكلها في رقبته، وهو مسئول عنها أمام الله سبحانه وتعالى، ولذلك ينبغي عليه القيام بها كاملة.

    قال رحمه الله: [وتنفيذ الوصايا].

    وكذلك هي.

    قال رحمه الله: [وتزويج من لا ولي لها].

    لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له).

    قال رحمه الله: [وإقامة الحدود وإمامة الجمعة والعيد، والنظر في مصالح عمله بكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها ونحوه].

    بالنسبة للجمعة ينصب شخصاً..فهذا المسجد تصلى فيه الجمعة، والمنطقة التي هو فيها يقول: لا يصلون إلا في مسجد واحد؛ لأن الأصل أن الجمعة لا تعدد، فله النظر في مساجد الجمعات، وكذلك تنفيذ الحدود.

    قال رحمه الله: [ويولى عموم النظر في عموم العمل].

    كما ذكرنا، قلنا: أنت المسئول عن القضاء في البلد كله، أو في الدولة كلها.

    قال رحمه الله: [ويولى خاصاً فيهما أو في أحدهما].

    كما ذكرنا.

    1.   

    ما يشترط في القاضي

    قال رحمه الله: [ويشترط في القاضي عشر صفات].

    أن يكون بالغاً عاقلاً ذكراً

    قال رحمه الله: [كونه بالغاً عاقلاً].

    لا يصح القضاء إلا إذا كان القاضي بالغاً؛ لأن الصبي لا ولاية له على نفسه فكيف يكون والياً على الغير، ومن هنا أمر الله عز وجل بالحجر على أموال اليتامى والقاصرين الذين هم دون البلوغ، فلابد أن يكون بالغاً.

    وأن يكون عاقلاً، فلا يصح قضاء المجنون.

    ذكراً بالغاً عاقلاً وهذه يتأهل بها للتكليف..

    وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل

    وتستحب فيه الجزالة وشرطه التكليف والعدالة

    أي: يستحب أن تكون عبارته جزلة واضحة، وأن يكون كلامه موجزاً.

    (وشرطه التكليف والعدالة) أي: يشترط أن يكون مكلفاً، فلا يصح أن يولي صبياً ولا مجنوناً.

    أن يكون حراً

    قال رحمه الله: [حراً].

    لأن المملوك كما قال تعالى: ضَرَبَ الله مَثلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [النحل:75].. هذا نص القرآن بين أن المملوك لا يقدر على شيء، والمملوك يتأثر بأحوال الناس وعظماء الناس، والغالب أنه يضعف ويجبن ويخاف، وهو مشغول بخدمة سيده، ولذلك لا يصح أن يولى القضاء، وهذا يزري بالقضاء وينقص من مكانته إذا ولي الضعفاء، فينبغي أن يولى القضاء من فيه قوة على إحقاق الحق حتى يردع السفيه عن سفهه، والظالم عن ظلمه.

    أن يكون مسلماً عدلاً

    قال رحمه الله: [مسلماً].

    فلا يصح أن يولى كافر، قال تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، حتى لو كانوا كفاراً من أهل الكتاب، وأرادوا أن نولي عليهم قاضياً لا نولي إلا مسلماً؛ لأن الله أمرنا أن نحكم بينهم بالعدل وبشريعتنا، فلا نولي قضاتهم وإنما نولي قضاة مسلمين، لكن لو كانوا يرجعون إلى قضاة فيما بينهم.. فهذا قدمنا أحكامه في أحكام أهل الذمة.

    وقوله: [عدلاً].

    ومن يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا

    العدل هو: الذي لا يفعل الكبيرة ولا يصر على الصغيرة، فيشترط أن يكون القاضي عدلاً؛ لأن العدالة تحمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فكما أنه يشترط في القاضي التكليف، كذلك يشترط فيه العدالة، فلا يجوز تولية الفاسق؛ لأن الفسق فيه إضاعة لحق الله عز وجل، ومن ثبتت خيانته في حق الله فإنه سيخون في حق المخلوق من باب أولى وأحرى، ومن هنا لا يولى الفاسق القضاء إلا في أزمنة خاصة يتعذر فيها وجود العدول، أو يكون فسقه خارجاً عن القضاء، يعني: لا يؤثر في قضائه، مثلاً: يشرب الخمر، لكنه من أصدق الناس، وعنده تحفظ ورعاية، لكنه مبتلى بشرب الخمر، فحينئذٍ يولى إذا كان هذا لا يؤثر في قضائه.

    فالشاهد من هذا: أن الفسق إذا لم يكن متعدياً للولاية فقد قرر الأئمة خاصة عند فساد الزمان أنه يجوز تولية أمثل الفساق.

    أن يكون سميعاً بصيراً

    قوله: [سميعاً].

    فلا يولى الأصم القضاء.. إذ كيف يسمع الخصوم؟! وكيف يسمع الحجج ويصغي إليها؟!

    قوله: [بصيراً].

    الأعمى اختلف فيه، والصحيح أنه يصح قضاء الأعمى إذا كان يميز الأصوات ولديه قدرة على القيام بحق الله عز وجل في قضائه، بل قد يكون أفضل من المبصر؛ فإن العمى عمى البصيرة، وكم من قضاة من العميان هم بكثير من غيرهم، مثل ابن عباس رضي الله عنه القضاء، فإذا كان أعمى عنده قدرة على القضاء فإنه يولى، هذا هو الصحيح، أما مذهب بعض العلماء من أنه لا يصح تولية العميان القضاء فهو قول مرجوح، وأشار إليه بعض العلماء بقوله:

    وأن يكون ذكراً حراً سلم من فقد رؤية وسمع وكلم

    فهذه من الشروط: أن يكون ذكراً فالأنثى لا تولى.

    حراً.. ألا يكون رقيقاً.

    سلم.. يعني: في عافية في سمعه فلا يكون أصم، وفي بصره فلا يكون أعمى، وفي كلامه فلا يكون أبكم.

    أن يكون متكلماً مجتهداً

    قوله: [متكلماً].

    متكلماً؛ لأنه كيف يحكم؟!

    قوله: [مجتهداً ولو في مذهبه].

    مجتهداً اجتهاداً مطلقاً أو اجتهاداً مقيداً؛ حتى يستطيع أن يعرف الحق وأن يميزه.

    1.   

    القضاء الخاص في مسائل خاصة (التحكيم)

    قال رحمه الله: [وإذا حكم اثنان بينهما رجل يصلح للقضاء نفذ حكمه في المال والحدود واللعان وغيرها].

    بعد أن بين رحمه الله الولاية العامة شرع في ولاية القضاء الخاصة في المسائل الخاصة، كما لو اتفق شخصان على أن يحكما شخصاً بينهما فإنه ينفذ حكمه، ولذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وكذلك أمر بالاحتكام إلى الحكمين في قضية نشوز المرأة، فإذا اتفقوا أن فلاناً يحكم بينهم فإنه يمضي حكمه، والأصل في ذلك ما ذكرناه من دليل الكتاب والسنة وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، كما فعل علي رضي الله عنه في قضيته مع معاوية حيث حكما أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عن الجميع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755921611