إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب النذرللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • النذر أن يلزم المكلف نفسه بما لم يلزمه به الشرع، ولهذا الإلزام أحكام وأقسام بينها الفقهاء في كتبهم وتصانيفهم، مع بيان ما يترتب على الإخلال بالنذر من الكفارة، ومتى يكون هذا الإخلال واجباً أو محرماً أو مندوباً أو مكروهاً، وغير ذلك من الأحكام.

    1.   

    تعريف النذر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب النذر]

    علاقة النذر باليمين علاقة قوية، حتى إن الشرع سوى بينهما في حال الإخلال، وجعل كفارة النذر كفارة اليمين، وهذا يدل على قوة التلازم بين الأيمان والنذور، وكثير من العلماء ذكروا باب النذر مقروناً بباب اليمين، وهذا لشدة التلازم بينهما.

    والنذر هو: أن يلزم المكلف نفسه بما لم يلزمه به الشرع، ويكون في المعصية ويكون في الطاعة، ولكل حكمه، والأصل فيه الكتاب، حيث أثنى الله عز وجل على عباده فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا [الإنسان:7] والنبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم، كما في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأجمع العلماء على مشروعيته من حيث الجملة.

    قال رحمه الله: [لا يصح إلا من بالغ عاقل ولو كافراً]

    أي: لا يصح النذر إلا من بالغ عاقل، أي: مكلف؛ لأن التكليف بالعقل والبلوغ، فلا يصح نذر الصبي ولا يصح نذر المجنون.

    قوله: (ولو كافراً)

    الكافر يصح نذره؛ لحديث عمر بن الخطاب أنه نذر أن يعتكف ليلة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، وهذا يدل على صحة نذر الكافر.

    1.   

    أقسام النذر الصحيح

    قال رحمه الله: [والصحيح منه خمسة أقسام]

    إذا قلت: الصحيح. فمعنى ذلك: أنه تترتب عليه الكفارة عند الإخلال، أما إذا قلت: إنه فاسد أو لاغ. فهذا ليس له موجب وهو الكفارة. فقوله: (خمسة أقسام) هذا إجمال قبل البيان والتفصيل.

    القسم الأول: النذر المطلق

    قال رحمه الله: [المطلق: مثل أن يقول: لله عليّ نذر ولم يسم شيئاً فيلزمه كفارة يمين]

    قوله: (لله عليّ نذر) فيه وجهان في الانعقاد:

    والجمهور على أنه ينعقد.

    وحينئذٍ إذا لم يسم شيئاً يلزمه أن يكفر كفارة يمين، وفيها الزيادة في الحديث المشهور: (من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين)، وهي زيادة على الرواية الصحيحة، وهذه الرواية موجودة في السنن، والأصل في صحيح مسلم، وهذا يدل على أنه إذا لم يسم النذر، فإن عليه كفارة يمين.

    ووجه ذلك أنه قال: لله عليّ فحصل الالتزام، والصيغة موجبة للالتزام، ثم لم يبين شيئاً، فحينئذٍ تعلق به النذر، فلا وجه للإسقاط؛ لأنه التزم، ثم بعد ذلك يلزم بموجب النذر وهو الكفارة.

    القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب

    قال رحمه الله: [الثاني: نذر اللجاج والغضب: وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب]

    نذر اللجاج والغضب أن يكون الحامل عليه هو أن يغضب من شيء فينفر منه، لا أن حالته حالة الغضب؛ لأن الغضب الذي يسقط التكليف هو الذي يصل إلى حد الجنون، وقد بينّا أن صاحبه غير مكلف، أما هذا فيكون بالحمل على الشيء أو ترك الشيء، فيقول له: لله عليّ أن تفعل كذا أو تفعل كذا، فهذا يعتبر من نذر اللجاج؛ لأنه يحصل عند المراجعات وعند الخصومات بين الناس.

    [ فيخير بين فعله وبين كفارة يمين ]

    كما لو قال له: أعطني. قال: لله عليّ أن لا أعطيك. فحينئذٍ لو أنه رأى أن الخير أن يعطيه فله أن يعطيه، كما أنه لو حلف أن لا يعطيه فله أن يعطيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فقال العلماء: من نذر ورأى غيره خيراً منه فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، في الفعل أو الامتناع، سواءً حلف على أن يفعل أو أن لا يفعل.

    القسم الثالث: نذر المباح والمكروه

    قال رحمه الله: [الثالث: نذر المباح: كلبس ثوبه وركوب دابته فحكمه كالثاني]

    أي: لو أنه نذر لله عز وجل في لبس ثوب أو ركوب دابة، وحصل ما يوجب الحنث، فإن هذا النذر في المباحات بالإجماع، وكذلك لو قال: لله عليّ أن لا أركب الدابة، لله عليّ أن ألبس الثوب، لله عليّ أن أفعل كذا وكذا، فهذا في المباحات وهو من نذر المباح.

    قال رحمه الله: [وإن نذر مكروهاً من طلاق أو غيره استحب أن يكفر ولا يفعله]

    وهذا ما يندب فيه الحنث ويكره فيه الفعل؛ لأن النذر إذا كان بفعل واجب فيجب الوفاء به، ويحرم الحنث فيه، ومنه ما هو مندوب، يكره فيه الحنث، ومنه ما هو مكروه يندب فيه الحنث، وهذا مما يكره ويندب فيه الحنث، فلو أنه نذر على شيء مكروه فإننا نقول له: الأفضل أن تكفر. وقد تقدم تفصيل هذا في الأيمان.

    القسم الرابع: نذر المعصية

    قال رحمه الله: [الرابع: نذر المعصية: كشرب خمر، وصوم يوم الحيض والنحر، فلا يجوز الوفاء به ويكفر]

    اختلف العلماء في هذا النوع من النذر، وهو أن ينذر أن يفعل معصية أو يترك واجباً، وهذا يسمى: نذر المعصية بفعل المحرمات أو ترك الواجبات، فقال بعض العلماء: لا ينعقد أصلاً ولا كفارة فيه؛ لأنه لغو. ومن أهل العلم من قال: فيه كفارة، وهذا جار على الأصول وهو أقوى، وهو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، ولا يجوز له أن يعمل بذلك، فالمرأة فلا يجوز أن تصوم يوم حيضها؛ لأن هذا منهي عنه شرعاً، وكذلك صوم يوم النحر، كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد، فـلا يجوز له أن يصوم هذين اليومين وإنما يكفر.

    القسم الخامس: نذر التبرر

    قال رحمه الله: [الخامس: نذر التبرر مطلقاً أو معلقاً، كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه]

    كأن يقول: لله عليّ أن أصوم، لله عليّ أن أصلي، لله علي أن أعتمر، هذا نذر التبرر: وهو طلب البر والطاعة، فهذا مندوب، والرغيبة فيه والأجر فيه والمثوبة فيه، ولذلك يستحب الوفاء به والقيام به ويستحب أن لا يحنث فيه، ومن هنا هذا النوع من النذر مما يستحب فيه الوفاء ويكره فيه الحنث.

    وكذلك لو قال: لله عليّ أن أصوم الإثنين والخميس. وقال: ما رأيكم؟ نقول له: يا أخي! هذا النوع من النذر نذر بر وطاعة وخير فلا تحرم نفسك الأجر، وقد حملت نفسك على هذا الخير بحامل وبإلزام فابق على هذا الإلزام؛ لأنه أعظم لأجرك وأتقى لربك، فهذا النذر يعتبر الوفاء به مندوباً، وقيل: إنه هو الذي ورد الثناء عليه في قوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7] وليس النذر المعلق على المكروهات.

    قال رحمه الله: [كقوله: إن شفى الله مريضي أو سلّم مالي الغائب فلله عليّ كذا فوجد الشرط لزمه الوفاء به]

    قوله: (إن شفى الله مريضي). هذا النذر فيه وجه من الكراهة، وكذلك إن قال: إن سلمت بضاعتي؛ لأنه قد يعتقد أن البضاعة ما سلمت إلا بهذا النذر، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) بمعنى: أن النذر ليس هو الذي يؤثر في قضاء الله وقدره.

    فبعض الناس يظن أنه ما دامت تجارته في خطر إذاً ينذر، كأنه بهذا الفعل يجامل ربه، هذا معنى قوله: (لا يأتي بخير) إذاً: يجب أن لا يعتقد الإنسان بنذره كأنه يحمل -حاشا لله- الله عز وجل أن يسلم له بضاعته أو يشفي مريضه، فإن الله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، والله الغني ونحن الفقراء، فهذا الاعتقاد قد يحصل من بعض ضعاف النفوس، وهذا وجه كراهة النذر، وهو كون المرء يظن أنه بهذا النذر حصل له المطلوب، واندفع عنه المرهوب الذي لا يحبه ولا يريده، وهذا هو المعنى المذموم شرعاً.

    حكم من نذر الصدقة بماله كله أو أقل من الثلث

    قال رحمه الله: [إلا إذا نذر الصدقة بماله كله أو بمسمىً منه يزيد على ثلث الكل فإنه يجزئه قدر الثلث]

    إذا نذر أن يتصدق بماله كله فوجهان:

    قيل: إنه يقبل منه، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه حينما خرج من ماله، وخرج بعض الصحابة من مالهم.

    ومن أهل العلم من قال: من نذر أن يتصدق بماله كله، فإنه يتصدق بالثلث ويجزيه، ويسقط عنه الإلزام في الكل، وأخذوا هذا من حديث: (قال: يا رسول الله! إن من توبة الله عليّ أن أتصدق بمالي. قال: أمسك عليك مالك) قالوا: إن هذا يدل على أنه لا يتصدق بالمال كله.

    وقبل النبي صلى الله عليه وسلم من سعد الثلث كما في حديث الوصايا فقال: (الثلث والثلث كثير) ففرقوا بين الكثير والقليل فقالوا: يخرج الثلث، وظاهر السنة يدل على قبول خروجه من المال كله، خاصة إذا كان قوي الإيمان قوي الاعتقاد فلا بأس بذلك ولا حرج، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه ذلك.

    [وفيما عداها يلزمه المسمى]

    قوله: (وفيما عداها يلزمه ما سماه) أي: إذا كان أقل من الثلث كما لو سمى الربع أو سمى الثمن فإنه يلزمه أن يفي به.

    حكم من نذر صوم شهر

    قال رحمه الله: [ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع].

    من نذر صوم شهر فله حالتان:

    الحالة الأولى: أن يسمي شهراً بعينه، فيفوت بفوات أول يوم منه، فلو أفطر في أوله فحينئذٍ انتقض نذره ولزمته الكفارة، كما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهر ربيع الأول، فإذا هل هلال ربيع الأول لزمه أن يصوم الشهر كاملاً متتابعاً، سواءً كان ناقصاً أو كاملاً، فهذا المعين يتقيد به.

    الحالة الثانية: أن يطلق، فإذا أطلق يخير بين أن يصوم أثناء الشهر أو أن يصوم شهراً كاملاً، فلو أنه حلف أن يصوم شهراً فابتدأ ببداية شهر ربيع، وتبين أن ربيع ناقص أجزأه؛ لأن الشهر يكون ناقصاً وكاملاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (الشهر هكذا وهكذا).

    لكن إذا أراد أن يصوم أثناء الشهر فلابد أن يعد ثلاثين يوماً، وللعلماء وجهان:

    منهم من قال: إنه يصوم ثلاثين يوماً ولو متفرقة، إلا إذا قصد التتابع، وهذا أقوى مما اختاره المصنف رحمه الله أنه يلزمه التتابع.

    عدم لزوم التتابع لمن نذر صيام أيام معدودة

    قال رحمه الله: [وإن نذر أياماً معدودة لم يلزمه إلا بشرط أو نية]

    قال: لله عليّ أن أصوم عشرة أيام، أو لله عليّ أن أصوم عشرين يوماً، فإن شاء صامها متفرقة وإن شاء صامها متتابعة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756168207