إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الحضانة [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ترتكز الحضانة على حفظ الصغير عما يضره في دينه أو دنياه، فإذا أراد الحاضن أن يسافر ويأخذ المحضون معه ففي هذه الحالة لابد من مراعاة الأحكام والشروط التي تتعلق بهذه المسألة، كما أن المحضون تنتهي حضانته عند أجل معلوم بينه الفقهاء رحمهم الله، وذكروا تفصيلات ما للحاضن وما عليه.

    1.   

    أحكام سفر الحاضن بالمحضون

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً].

    شرع المصنف رحمه الله في بيان بعض المسائل والأحكام التي تترتب على الحضانة، وهذه المسائل تكثر فيها الخصومات والنزاعات بين قرابة الولد المحضون من والد ووالدة أو حاضر من القرابة، فيختلفون فيمن يتولى حضانة الطفل.

    وقد بين المصنف الشروط التي ينبغي توافرها، وبعد ذلك رتب أولياء وقرابة الطفل المحضون، ثم شرع بعد ذلك في جواب سؤال مفترض: وهو أننا إذا علمنا من هو الأحق بالحضانة، وفوجئنا أنه يريد أن يسافر بهذا المحضون أو يخرج به، فما الحكم؟

    وهذه المسألة على صور:

    منها ما يتعلق بسبب الخروج والسفر، ومنها ما يتعلق بالمسافة التي يريد أن يخرج إليها هذا المسافر، ومنها ما يتعلق بحال الشخص أثناء السفر، هل هو مأمون أو غير مأمون؛ وكذلك أيضاً حال الطريق التي يريد أن يسلكها أثناء السفر، وحال البلد الذي يريد أن ينزل فيه.

    ومن هنا يتبين فضل الله عز وجل على علماء الفقه الإسلامي حيث لم يطلقوا الأحكام دون نظر إلى صفات مهمة تؤثر في أصل المسألة.

    فالحضانة في أصلها قائمة على الحضن والرعاية والصيانة، فالذي يتولى الحضانة يقوم على حفظ الصغير عما يضره في دينه ودنياه، وهذا الأمر الذي هو الأساس لا بد أن يرتبط بالصفات والأحوال التي يتم بها السفر، وبالجهة التي يسافر إليها، والشخص الذي يتولى السفر به.

    ومن هنا ضبط المصنف رحمه الله مسألة السفر بضوابط: أولاً: إذا أراد الزوج أو الزوجة السفر فلا إشكال إذا كان سفرهما إلى نفس البلد، أو ينتقلون من مدينة إلى مدينة آمنة، ويكون الاثنان مع بعضهما، وحينئذٍ لا تقع خصومة غالباً؛ لأنه إذا انتقل به الوالد أو الوالدة سيكونان مع بعضهما، أو على الأغلب في حالٍ قريب من حال البعض، إلا أن من أهل العلم من يقول: الأب أحق به على كل حال؛ لأن السفر خطر، ويعظم ضرره ويكثر شره، فلا أمانة إلا بالله ثم بالوالد؛ لأن الوالد أقدر على الحفظ والصيانة من الوالدة، والله عز وجل وصف النساء بالضعف، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إني أحرّج حق الضعيفين: المرأة واليتيم) ، فالمرأة ضعيفة في أصل خلقتها وتكوينها الفطري، ومن هنا يقولون: إذا أرادا أن يخرجا فالأصل أن تكون الحضانة للوالد وحينئذٍ يكون أحق بهذا الولد.

    وبناءً على هذا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصغير لأمه: (أنت أحق به ما لم تنكحي)، فينتزع الولد عند السفر من الأم، ويعطى إلى الأب في حال السفر، حتى يصلا إلى المدينة أو القرية أو المكان المراد، ثم يُرَدُّ الولد إلى أمه.

    إذاً: هذا الحكم في حال السفر إذا كانا مسافرين إلى بلدٍ واحد، لكن إذا كانا مسافرين إلى بلدين مختلفين؛ هل الأحق به الوالد أم الأم؟

    نص النبي صلى الله عليه وسلم على أن الأم أحق بولدها ما لم تنكح وتتزوج؛ لأن الأم تحفظ الصغير وتقوم على شئون تربيته وإصلاح حاله حتى يميز، لكن إذا سافرت به، فإن الوالد يرفض ذلك، فنقول: هل نرده إلى أبيه أو نبقيه مع أمه؟

    بعض العلماء يقول: إنه يبقى مع أمه؛ لأن الأم هي الأصل، والقاعدة تدل على استصحاب الأصل والأصل أنه عند أمه، فيستصحب الأصل، واستصحاب الأصل دلّت عليه الأصول الشرعية، وهو مسلك في الفقه الإسلامي لا إشكال فيه.

    والذين قالوا: يكون عند الأب؛ قالوا: إن استصحاب الأصل شرطه أن لا يرد عارض يوجب الانتقال عن هذا الأصل، والعارض هنا: أن الأم ضعيفة ولا تقوى على حفظ الولد، وعليه فينتقل إلى الوالد.

    والمصنف رحمه الله ضبط المسألة حين اشترط أن يكون السفر آمناً، وبناءً على ذلك: إذا كان مخوفاً، فمن أهل العلم من قال: السفر المخوف يكون المرد والمعوّل فيه على الله ثم على الأب، وهذا القول تدل عليه الأصول، فإن الأب أقدر على حفظ الولد وعلى صيانته، وأيضاً فكلهم متفقون على أن الأنثى إذا عقلت واستغنت عن والدتها وجب ردها إلى أبيها حتى يزوجها، وكأن الأب أقدر على حفظ العرض من الأم، فإذا كنا قد اتفقنا أنه في حال اكتمال عقل المرأة بعد السابعة تدفع لأبيها، فكذلك هنا.

    فإذاً: قولنا إن الأب أحق من حيث الأصل أقوى للعارض؛ لكن حق الأم جاء في النص: (أنت أحق به ما لم تنكحي) ولم يفرق، من كونها في حضر أو سفر.

    ومن هنا يقول بعض العلماء: أنا أستمسك بالأصل، وهو أن السنة دلت على أن الأم أحق به ما لم تطرأ طوارئ، سواء كانت في السفر أو أثناء السفر أو المدينة المسافر إليها.

    وإذا قلنا إن الحضانة ترد إلى الأب إذا كانت الأم تريد أن تسافر، فإن كان الذي يريد أن يسافر هو الأب فلا إشكال، وهو البقاء على الأصل، وهو أن الطفل عند الأم، والحقيقة أن هذا القول هو أعدل الأقوال: أعني أن نبقى على الأصل في الحضانة، ولكن إذا كان السفر مخوفاً واحتيج إلى رعاية وصيانة فإننا نرد الولد إلى والده؛ لأنه أقدر على حفظه وصيانته، حتى ينتقل إلى المكان الذي ينتقل إليه ويعود الأمر إلى ما كان.

    بالنسبة للسفر هناك سفر لضرورة أو واجب ديني مثل السفر للحج أو للعمرة، فمثلاً: لو أن القاضي قضى بانتقال الولد إلى والده وثبتت الحضانة للوالد، وقد تزوجت الأم ونكحت، ثم أراد الأب أن يسافر إلى الحج أو العمرة، فعلى الأصل الذي قررناه فإنه يسافر، ونقول: إن الولد يرجع إلى أمه؛ لأن السفر فيه خطر وضرر على الولد، وليس بمتعين خروج الولد، وهذا إذا كان السفر لحاجة دينية واجبة.

    أما الواجب الدنيوي مثل أن يحتاج الوالد أن يسافر لعلاج مريض والولد في كفالته وحضانته، فهل يسافر به أو يتركه؟

    نقول: يبقيه عند أمه؛ لأن العلة التي كنا نقول: إن الأم لو كانت هي التي تحضن الطفل وأرادت أن تسافر والسفر مخوف، فإننا نرده إلى أبيه، والسفر من حيث هو مخوف وفيه ضرر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السفر عذاب، وهو على الصغار أشد عذاباً وأعظم بلاء، وبناءً على ذلك نقول: يوضع الولد في هذه الحالة عند أمه وتقوم على رعايته.

    إذاً: بين المصنف رحمه الله حال السفر إذا كان الطريق آمناً، أما إذا كان مخوفاً وأحدهما مسافر والآخر غير مسافر فإنه يكون الحق للذي لا يسافر؛ لأنه ألزم للأصل الذي ذكرناه، ولأن الحضانة شُرِعت للصيانة والحفظ، والخروج يفوت ذلك، فوجب بقاء المحضون عند الحاضن غير المسافر.

    وقوله: [وإن أراد أحد أبويه سفراً طويلاً] لماذا قال المصنف: وإن أراد أحد أبويه ولم يقل: وإن أراد الحاضن؟ نقول: الحضانة هي صيانة الصغير وحفظه والقيام على شئونه ورعايته، لكن هذا الحق يرتبط به حق آخر للوالد أو الوالدة إذا حُكِم به لضده.

    فمثلاً: الأم إذا ثبتت لها الحضانة وقضى القاضي أنها أحق بحضانة الولد، وكانا في نفس المدينة أو نفس القرية وليس هناك خروج، فالوالد يتولى تعليم الولد ورعايته وإطعامه وشرابه، وتتولى الأم مرضه وسقمه، فلو أنه مرض أو أصابته علة أو آفة فإنه ينقل إلى الأم، وإذا اصطلحوا على أن الأم تأتيه وتمرضه في بيت والده فلا إشكال.

    فالأم أحق به في حال المرض حتى ولو كان الحاضن الوالد؛ لأنها أقدر على هذا الشيء، وانظر كيف أن علماء الإسلام ينظرون إلى الأشياء التي تؤثر وتحقق المصالح وتدرأ المفاسد، فالحضانة المقصود بها تحقيق مصلحة الصبي ودرأ المفسدة والشر عنه، فحيثما وجد السبب الموجب لتحقيق هذا الأصل فإننا معه، سواء مع الوالد أو مع الوالدة.

    فإذا ثبت أن الطرف الآخر له حق، فحينئذٍ إذا أراد أن يسافر أحدهما ضاع حق الآخر؛ لأننا إذا قلنا: إنه يريد أن يسافر إلى بلد لا يوجد فيه الآخر، فلو أن الأب حكم له القاضي بأنه حاضن، وأراد أن يسافر بابنه إلى الخارج لسياحة أو نزهة، فإن الأم ستقول: أنا أتضرر بخروج ولدي وأخشى على الولد، والعكس لو قضى القاضي للأم أنها أحق وأخذت صغيرها، فأرادت أن تسافر به ولو لصلة رحم أو زيارة قرابتها، يقول الوالد: أنا أريد أن أرى ابني، وأخشى على ابني من هذا السفر، فلها الحق في الحضانة ما دامت مقيمة، أما إذا أرادت أن تخاطر بالطفل فلا.

    إذاً: هذه هي المسألة، ولذلك تدور أقوال العلماء وتفصيلاتهم حول تحقيق مصلحة الصبي ودفع الضرر عنه.

    إذاً: علينا أن نلزم السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأم أحق، والتفصيل الذي ذكرناه بالأصول الشرعية في ترتيب المستحق للحضانة، ثم إذا طرأ أي طارئ يتحقق به الضرر أو تزول به المصلحة ويحصل في ذلك شر على الصبي، ونظرنا في سببه، فإنه يجب منع ذلك السبب سواءً كان سفراً إلى بلدٍ آمن أو بلد غير آمن، أو كان الطريق مخوفاً أو الشخص نفسه الذي يسافر مخوفاً، فكل هذا ينظر فيه القاضي؛ ولذلك ترد هذه المسائل إلى القضاة للنظر في الأصلح والأفضل للصغير، وهو الأسلم.

    ومن هنا كان الأصل الشرعي أن يُنظر إلى مصلحة الصبي، فنحن لا نضبطه بهذه الأوصاف كقاعدة كلية، ولكن نقول: إنه متى كان السفر يترتب عليه الضرر للصغير والمسافر أحد الوالدين وجب بقاء الصبي مع الذي لا يسافر، وأما إذا كان السفر غالبه السلامة أو يؤمن على الصبي من ضرره أو ضرر البلد الذي سيسافر إليه والشخص الذي يسافر معه، فحينئذٍ لا إشكال أن الحاضن يبقى حقه في الحضانة.

    حكم استصحاب المحضون في السفر الطويل

    وقوله: [سفراً طويلاً].

    هنا سؤال: إذا كانت الأم حاضنة لولدها فأرادت أن تخرج إلى غير سفر، فمثلاً: حصلت مناسبة في ضاحية المدينة، فهل من حقها الخروج؟ نفس الشيء لو كان الحاضن هو أبوه ثم وقعت مناسبة في ضاحية المدينة أو أطراف المدينة، فهل من حقه أن يخرج به؟

    قال المصنف: (سفراً)، ويشترط في السفر أن يكون طويلاً، فيخرج ما كان في الحضر؛ لأنهم في الحضر أشبه بالمكان الواحد أو بالمدينة الواحدة، وحينئذٍ فلا إشكال، لكن مع هذا لا يجوز للوالد ولا للوالدة أن يخرجا بهذا الصغير إلى مكانٍ فيه ضرر، كأن يخرجا إلى أطراف المدينة وفيها السباع والهوام، وفيها مثلاً المزارع والآبار، فقد يسقط الصبي في بئر، وقد يتعثر في شيء.

    فإذاً: مسألة السفر ليست هي التي ينحصر فيها الضرر فقط، فالواجب شرعاً على الوالد أو الوالدة: أنه متى ما أدرك أن خروجه بهذه الصغيرة أو هذا المحضون فيه ضرر، فعليه أن يرده إلى الطرف الثاني كي يتولى حفظه ورعايته، هذا هو الواجب شرعاً؛ صيانة لحق الصبي المحضون ونصيحة له، وهذا هو الواجب على الوالدين، أما من لم ينصح لولده فلا خير فيه؛ لأن أولى الناس بأن ينصح لهم هم أقرب الناس من الإنسان.

    وقوله: [إلى بلد بعيد ليسكنه].

    أي: كأن يريد أن ينتقل، فيتضرر الطرف الثاني، فالأم تريد أن ترى ولدها، والوالد يريد أن يرى ولده، وبعض العلماء يقول: ننظر في البلد الذي تزوج فيه، فمن كان فيه فهو أحق، وبعضهم يقول: ننظر إلى أخف البلدين وأكثرهما أمناً.

    والحقيقة أن هذه المسألة إذا نظر فيها القاضي ووجد أن هناك ضرراً على الصبي في سفره منعه، وإن كان الضرر في إقامته أمر بسفره لانتقاله مع من يسافر بشرط أن يكون محافظاً عليه، فقد يكون بقاء الصبي فيه ضرر، مثل ما يقع في بعض الأمكنة، حيث يدخلها فساد في أخلاقها، فهذا ضرر ديني، أو يدخلها فساد في صحتها من انتشار الأضرار والأمراض ونحو ذلك، فهذا فساد دنيوي، أو يكون فيها فقر وشدة مئونة، فأراد أن يتحول إلى ما هو أرفق، فهذا كله ينظر فيه القاضي إلى ما فيه مصلحة المحضون.

    وقوله: [ وهو وطريقه آمنان ].

    أي: أما إذا كان الطريق مخوفاً فلا؛ ولذلك يقول بعض العلماء: إذا كان الطريق مخوفاً فالحق للمقيم، فلو أن زوجاً وزوجة اختلفا في الولد، وقضى القاضي أنه للزوجة، فإذا أرادت الزوجة أن تسافر في طريق مخوفٍ رد الولد إلى والده، وقيل لها: سافري وحدك، أو اجلسي مع ولدك، وهذا عين العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ لأن المراد حفظ الطفل، والصبي بريء ولا يحمل تبعة غيره؛ ولذلك إذا كان الطريق مخوفاً كأرض مُسبعة، أو أرضٍ فيها هوام، أو يريد أن يركب به البحر والبحر هائج، أو يركب بوسيلة خطرة فيخاطر بها، فلا يجوز.

    وهذه مسائل تساهل فيها كثير من الناس إلا من رحم الله، فاليوم الناس بين إفراط وتفريط، فتجد حتى الآباء قد يتقصد الواحد منهم أذية الأم وجرح مشاعرها وإخافتها وإقلاقها وإزعاجها، ويبحث عن أي شيء يسيء إلى أهل زوجته، ويزعج هذه الزوجة المسكينة الضعيفة بأخذ ولدها إلى الأسفار أو الأمكنة المخيفة، وقد يستخدم ذلك لأغراضٍ يريدها لنفسه، وحتى مثلاً لو أنه طلقها فقد يحتال ليكون الولد عند أمه أو عنده، وبعد ذلك يضغط عن طريق الولد حتى يرد الزوجة إليه.

    وهذا كله من الظلم: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، وإن لله ليملي للظالم ولكن لا يهمله، وويلٌ للظالم إذا نزلت به نقمة ربه، فالله سبحانه وتعالى عزيزٌ ذو انتقام وهو بالمرصاد، لا تخفى عليه خافية، وبالأخص مسائل الوالدة وولدها؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين أمٍ وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)، وهذا في بيع أمهات الأولاد، ومع أن للرجل حق البيع والملكية، ومع هذا ضرب الله هذا الوعيد.

    ومن هنا ينبغي أن ينتبه الوالد إلى أن أذية الأم وإضرارها بولدها ظلم عظيم، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب المثل في عظيم رحمته سبحانه وتعالى بين للناس بالتمثيل الذي لا يقصد به التشبيه، جاءت المرأة بالسبي تصيح ولهى على ولدها حتى رأته، فلما أخذته ضمته ضَمة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا، قال: والله أرحم بعباده من هذه بولدها)، فجاء بأعظم شيء في هذه الدنيا حناناً ورحمة وشفقة وهو حنان الأم وعاطفتها تجاه الولد، وهذا الأمر تظافرت به نصوص الكتاب والسنة، فاستغلال هذه العاطفة بالسفر بمحضون، أو استغلال هذه العاطفة لإقلاق الأم وإزعاجها بأخذ المحضون في الأماكن المخيفة وتعريضه للخطر؛ لا شك أنه من أعظم الضرر والأذية، والله يقول بعد الطلاق: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237] فإذا حصل الطلاق والفراق بين الزوجين فليذكر الزوج فضل زوجته وفضل أهلها، والزوجة تذكر فضل زوجها وفضل أهله.

    كذلك أيضاً استغلال أهل الزوجة لحكم القاضي بأنهم أحق بالولد من منعهم الوالد من رؤية ولده وأذيته إذا جاء يرى ولده، والتضييق والتشويش عليه، والأعظم من هذا والأدهى والأمر أن يسيء الوالد أو الوالدة إلى الولد بتكريهه للطرف الثاني، ويغرس في قلبه كراهيته وعقوقه لوالده وتمرده عليه والعكس، فالوالد يغرس في ولده الكراهية لأمه، فيحاول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، سواء كان بالأساليب القولية أو الفعلية تنفير هذا الضعيف المسكين وإبعاده عن والدته، وكل هذا من الظلم، ولا شك أنه من خيانة الأمانة.

    فإذا كانت الأم عندها ولدها فعليها أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى يحصي عليها ما تقوله وتشهد به، فلذلك لا يجوز أن تملأ قلوب الذرية الضعيفة من الأبناء والبنات غيظاً على الوالد، فاستغلال الحضانة لأذية الطرف الثاني ظلمٌ عظيم، وقد انتشر هذا الأمر بين الناس إلا من رحم الله، وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس على هذا الموضوع المهم الذي غفل عنه الكثير، واستغلال الحضانة للأذية والضرر وقطع الرحم والظلم للأطفال والتضييق عليهم، والجبروت بالتسلط من الآباء على أبنائهم، فمنهم من يحبس الولد ويضربه ضرباً شديداً، أو يفزعه ويقلقه حتى لا يصل إلى أمه.

    أقول: إن الأمر تعدى إلى ما هو أسوأ وأعظم مما رأيناه وعرض علينا من خلال فتاوى الناس وأسئلتهم، إلى درجة أن الولد ليكره والدته، وسحر الولد حتى يكره أباه وقرابته، وإلى الله المشتكى، فإذا نزع الدين من القلوب فلا تسأل عن حال صاحبه، ولكن: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، وإن الله يستدرج الظالم حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر، فالعبد عليه أن يحذر من عقوبات الله، ومن أخذات الله وسطواته عز وجل، فيحذر مثل هذه الأمور التي يجاوز فيها قدره، ويتعدى فيها حده، فيظلم الظلم المبين، فإن من أعظم الظلم بعد الشرك بالله عز وجل: عقوق الوالدين، فإذا كان الحاضن يستغل الحضانة لعقوق الوالدين، والحاضنة تستغل الحضانة كذلك، فلماذا الحضانة؟ الحضانة أصلها التربية والرعاية والتنشئة على الخير والصلاح والبر، وإذا بها على العكس تماماً.

    ومن هنا: على الآباء أن يتقوا الله في أبنائهم وبناتهم، وعلى الأمهات أن يتقين الله عز وجل، وليعلموا أنها أمانة، وأن العبد يوم القيامة تصور له الأمانة فيرمى في نار جهنم، ويقال له: أدّ أمانتك، فينزل إلى قعر نار جهنم، حتى إذا صعد إلى أعلاها ردت عليه ثانية فيرجع والعياذ بالله، فهو يتقلب في دركات الجحيم من عذابه حتى يؤدي أمانته.

    وهذا على قدر الأمانة التي يضيعها، فما بالك بأعظم الأمانات بعد توحيد الله وهو بر الوالدين، إذا كان ربى ولده وربت الأم ولدها على بغض أبيه والنفرة منه وأذيته وإضراره، وإعطائه المغريات حتى يكرهه منذُ نعومة أظفاره، نسأل الله السلامة والعافية، فيربى بطريقة حقد وهو جاهل مسكين، على كراهية والده أو العكس، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيذنا من منكرات الأخلاق وشأن أهل النفاق، وأن يرزقنا الأمانة، وأن يعيذنا من الخيانة فإنها بئست البطانة!

    الواجب النظر إلى مصلحة الصبي ومصلحة الصبية وما يتحقق به درأ الشر عنهما، فيقضي القاضي بما هو أرفق وأصلح، فحضانته لأبيه، كما ذكرنا؛ لأنهم غلبوا الجانب الأقوى، فإذا كان يريد أن يسافر إلى بلد يسكنه والطريق آمن فإننا نحكم بأن الحضانة للوالد كما اختاره المصنف رحمه الله؛ لأن الرعاية والصيانة من الوالد أقوى، فإن كان هو المسافر فإنه سيحفظه، ولا ضرر على الصبي، وإن كان هو المقيم فلا إشكال، ولكن الأمر يرجع إلى حال الشخص المحضون.

    بعض الأحيان يكون الوالد في شغل وهم وغم، ويكون معتنياً بالدنيا وقد أخذت الدنيا مجامع قلبه لا يلوي فيها على ولد، ولا يفكر فيها في تنشئته ومصلحته، وكل هذه أمور ينبغي أن تربط بالقاضي فينظر فيها الأصلح، والفقهاء رحمهم الله حينما ينصون على مثل هذه المسائل فيقصدون ذلك عند انتفاء الموانع وعدم وجود الدوافع، لترجيح إحدى الكفتين للوالدة أو الوالد.

    حكم سفر أحد الأبوين لحاجة أو سكنى بمرافقة المحضون

    وقوله: [ وإن بعد السفر لحاجة ].

    مثل السفر من المدينة إلى مكة للحج أو العمرة، فهي حاجة دينية، أو أراد أن يسافر من المدينة إلى الرياض للتجارة.

    وقوله: [ أو قرب لها ].

    أي: للحاجة، ولما قال: للحاجة خرج السفر بدون حاجة مثل النزهة والسياحة، فهذا يمنع، ويبقى الولد عند الشخص المقيم منهما على الأصل الذي قرره المصنف رحمه الله.

    فإذا كان يريد أن يسافر لغير حاجة كالنزهة مثلاً ويريد أن يأخذ الولد معه، فلا يأخذه؛ لأن السفر خطر عليه وسواء بعد السفر أو قصر.

    وقوله: [ أو للسكنى ].

    كأن يريد أن ينتقل فيسكن في موضع بعيد عن الموضع الذي كان فيه، فيحكم به في هذه الصور للأم، لأن الأم هي الأحق في الأصل، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت أحق به ما لم تنكحي)، ولأن هذا الخروج يضر بالولد عند اختلاف الأحوال، وانتقاله يضر بمصلحة الولد.

    ومن هنا يبقى في البلد والمكان الذي هو فيه، ولا يخرج الولد.

    فحينما يريد أبوه أن يسافر لعمرة نقول له: اذهب إلى العمرة واترك الولد عند أمه، أو أراد أبوه أن يسافر للتجارة نقول له: اذهب إلى تجارتك واترك الولد عند أمه، وهذا فيما إذا قضى القاضي بأن الحضانة للوالد.

    أما إذا كانت الحضانة للأم، فنقول: يبقى الحكم كما هو، لكن إذا كان عند الأب وأراد أن يسافر للحج والعمرة وقال: أنا أريد أن أحج وأريد الولد أن يذهب معي. نقول: لا. بل يبقى عند أمه، فهي أحق وأولى؛ لأن مصلحة الصبي أن لا يسافر، وهذا إذا كان دون التمييز؛ لأن الصبي إذا ميز خُيّر بين والده ووالدته، والمرأة ترجع إلى أبيها.

    1.   

    سن تخيير المحضون بين أبويه

    وقوله: [فصل: وإذا بلغ الغلام سبع سنين عاقلاً خُير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما].

    هذه مسألة التخيير إذا بلغ الغلام سبع سنين، ولما قال المصنف: الغلام، خرجت الجارية، والحضانة تستمر إلى سبع سنين، وإذا بلغ الغلام والجارية سبعاً، فالجارية التي هي البنت ترد إلى أبيها إذا كانت الأم هي الحاضنة.

    فمثلاً: طلق رجلٌ امرأته وعندهم بنت، فقضى القاضي بأن البنت لأمها، فبقيت عند أمها تربيها وتقوم على شئونها والأب يصرف عليها حتى بلغت سبع سنين، فبعدها تدفع إلى أبيها؛ لأن الأب أقدر على حفظ البنت، وصيانتها مما يضرها في عرضها، وهي أحوج في هذه الحالة إليه، وأيضاً هو أولى بتزويجها، لأنه وليها، فترد البنت إليه، ومن هنا ذكر المصنف الغلام؛ لأن البنت إذا بلغت السبع رُدت إلى أبيها، وتحديد السبع السنين مبني على سن التمييز.

    وهناك سن للتمييز وسن للرشد والعقل الذي هو البلوغ، وهو أن يكون بالغاً سن الحلم، فأما سن التمييز فهو السن الذي يميز فيه الصبي الأمور، وبعض العلماء يضبطها بالعدد، فيقول: سبع سنين، وبعضهم يضبطها بالحال، فيقول: أن يفهم الخطاب ويحسن الجواب، فمثلاً لو قيل له: ماذا تفعل؟ يقول: أفعل كذا وكذا، نقول للذي يفعل: لماذا تفعل؟ يقول: أفعل من أجل كذا.

    فإذا فهم الخطاب وأحسن الجواب، فإنا نحكم بتمييزه ولو لم يبلغ سبع سنين؛ لأن الأطفال يختلفون، وهذا القول لا شك أنه صحيح، فإن الأطفال يختلفون فهماً وإدراكاً، ولذلك كان الضبط بالحال له وجهُ، لكن لما جاءت السنة بالأمر بالصلاة لسبع، صار أصلاً غالباً أنه لا يصل إلى سبع إلا وقد ميز، والاستئناس بالمشروع والوارد أفضل وأولى، والأصل أن نقدم الوارد على غير الوارد، ومن هنا صارت السبع ميزاناً، وقد مرت بنا مسائل كثيرة في العبادات والمعاملات ربط العلماء بها الحكم بالسبع سنين.

    فبين المصنف رحمه الله أن سن التمييز هو السبع، والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختلف الرجل مع زوجه والحديث صحيح على شرط مسلم (خير النبي صلى الله عليه وسلم الغلام، وأمر أباه أن يجلس في ناحية وأمه في ناحية، فقال له: هذا أبوك وهذه أمك اختر أيهما شئت، فاختار أمه) وهذا بالنسبة للغلام الذكر، فيبقى مع من يختار منهما، وحينئذٍ قضى العلماء رحمهم الله بهذا الحكم، وأجمعوا على مسألة التخيير.

    وانظر سمو منهج هذه الشريعة الإسلامية في المحضون، فإنه إذا كان دون الإدراك ودون التمييز ينظر إلى مصلحته والأرفق والأعدل به، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمه أولى به؛ ولذلك قضى النبي صلى الله عليه وسلم وقضى الصحابة رضوان الله عليهم أن الأم أحق، فقال عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق بها ما لم تنكحي).

    وعمر بن الخطاب في قصته المشهورة لما فصل القضية في الرجل الذي اختطف ولده من عند جدته وأمه، فاشتكته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: ريحها وحضنها أطيب له منك، يعني: من الوالد؛ لأنه في هذه الحالة أحوج ما يكون إلى اليد الحانية والأم المشفقة، فجعل الأصل في حضانة الصغير أن تتولاها الأم، ثم بعد ذلك إذا ميز الصبي فلا يكره على والدٍ ولا على والدة.

    فهذه هي الحرية المعقولة، المنضبطة المبنية على أسس سليمة صحيحة، فيخير؛ لأن هذا من الوحي، وهي الحرية المبنية على الحق الذي قصه رب العالمين الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين، ففصل الله عز وجل بهذا، فيقال له: اختر أيهما شئت: إن اختار الوالد فيكون مع والده، وإن اختار الوالدة فيكون مع والدته.

    ولو أنه غير هذا الاختيار، فاختار الأسبوع الأول أن يكون مع الوالد، فقال: أريد أبي فيرجع إلى أبيه، وإذا قال: أريد أمي فيرد إلى أمه ولا يكره، ولا يضيق عليه، ويجعل الأمر على الشيء الذي يرتاح إليه الطفل، فإذا كان يرتاح للوالد والوالدة حرص كلٌ منهما على الإحسان إليه والملاطفة به، خاصة من بعد السبع السنين، فهو يحتاج إلى شيء من الإحسان والبر حتى يعقل الأمور ويميز، فإذا وصل إلى سن الرشد، فلا إشكال حينئذٍ، ومن هنا قضى العلماء رحمهم الله بالتخيير، لكن هذا التخيير له أصول؛ كأن يكون منضبطاً، فإذا اختار الوالد من أجل العبث واللعب منع من ذلك.

    ومن هنا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن صبيّ أنه خيره القاضي، فقال له: هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت، فاختار أباه، فقضى القاضي أنه لأبيه، فقالت المرأة الموفقة العاقلة الحكيمة: يرحمك الله أيها القاضي، سله لماذا اختار أباه؟ فسأله القاضي: فقال هذا الصبي: إن أمي تبعث بي إلى المعلم فيضربني، وأما أبي فيبعثني إلى الأولاد فألعب معهم، فقال القاضي: هو لأمه؛ لأنه إلى الآن لم يميز وأصبح تخييره قائماً على الهوى، وتبين أن الوالد لا يريد مصلحته، فإذاً: ليست القضية قضية حرية منفردة؛ لأن الصبي لا عقل عنده، ولم يصل إلى سن الإدراك، فإذا كانت المصلحة في بقائه عند أمه أبقاه؛ لأن أمه ستعلمه، قالوا: وإنما لم يخير لأن الوالد عليه أمانة التعليم والرعاية للولد، فضيع هذه الأمانة، حتى أن الأم صارت هي التي تقوم على تعليم الولد.

    ونسأل الله السلامة والعافية من أمور تتقرح لها القلوب، لو أن الإنسان يسمع أقضية الناس وفتاويهم لتقرح قلبه مما يسمع ويرى من إهمال الآباء لحقوق الأولاد، يتزوج الرجل وينجب، ثم يبحث عن الثانية والثالثة، ويطلق السابقة ولا يبالي بأولاده ولا ينظر إليهم.

    إنما المهم أن يشبع شهوته وغريزته دون التفات إلى هذه الحقوق وإلى ما فيه مصلحة الولد، فهذه أمانة ومسئولية عظيمة، فالتخيير شرطه أن لا يكون فيه ضرر على الولد، فإذا كان فيه ضرر على الولد رجع إلى الأصل، فإذا كانت الأم عُرِفت بصلاحها واستقامتها وعنايتها وضبطها للولد وكانت بيئة الوالد فيها إفساد وإضاعة ومجون وهوى، فحينئذٍ للقاضي أن يتدخل.

    فيختار جمعٌ من العلماء والأئمة والمحققين: أن الشرع ينظر إلى التخيير فيما فيه مصلحة الولد كما ذكرنا، لكن شريطة أن تكون منضبطة بالأصول الشرعية، إذ لا يعقل أن نقول: يقضي القاضي بأنه لأبيه، وأبوه يفسده، ولا يمكن أن نقول: إن القاضي يقضي بحكم الله عز وجل بما فيه ضرر للولد وفساد، فالتخيير ضبطه بعض العلماء بشرط ألا يكون موجباً لضرر على الولد في دينه أو دنياه.

    حكم بقاء المحضون عند من لا يصونه ولا يصلحه

    وقوله: [ولا يقر بيد من لا يصونه ويصلحه]

    أي: حتى ولو قضى القاضي واختار أباه؛ ثم إذا بالولد تردت أخلاقه وساءت أموره، فأصبح والده في شغله وتجارته، وكان الولد أولاً عند أمه ترعاه وتحفظه وتصونه وتعلمه الأخلاق الفاضلة وتقوم على شأنه، فشهد الشهود أنه حينما كان عند والدته كانت أحواله مرضية مستقيمة طيبة، وعندما ذهب عند والده فسدت أخلاقه وأحواله، فحينئذٍ إذا أثبتت الأم هذا بالبينة أو أثبت قرابتها ذلك قضي برجوعه إلى أمه، ولا يقر ولا يترك عند من يفسده ولا يصونه بل يهمله ولا يحافظ عليه.

    من أحق بالمحضونة بعد السبع

    وقوله: [وأبو الأنثى أحق بها بعد السبع]

    أي: من جهة صيانة العرض، ولأنه أقدر من الأم التي قد لا تستطيع أن تدفع عن ابنتها الضرر، وهو أحق من جهة الولاية في تزويجها، ومن هنا فإن العمل عند أهل العلم رحمهم الله على أن البنت تنتقل إلى أبيها بعد السبع.

    وقوله: [ويكون الذكر بعد رشده حيث شاء].

    هذه المرتبة الثالثة، وهذا غير التمييز بالقضاء الذي قضيناه في الحضانة، فإنه إذا ميز يخير، فإذا وصل إلى سن الرشد فإن أراد أن يكون عند والده أو والدته أو يكون مستقلاً، فالأمر إليه، لكن يجب عليه أن يبر والديه، ويكون قريباً منهما وأن لا يبتعد عنهما؛ خاصة إذا كانا بحاجة إليه، ولا يجوز سفر الولد إلا بإذن والديه إذا كان معهما في المدينة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد).

    ومن هنا أجمع جماهير السلف والخلف رحمهم الله على أنه لا جهاد إلا ببر الوالدين، وأنه يجب استئذان الوالدين ما لم يكن جهاده فرض عين، وهي الثلاثة الأحوال التي تقدمت معنا في باب الجهاد، فحينئذٍ لا يستأذن الوالدين ويسقط إذن الوالدين؛ لأن الدفاع في هذه الحالة دفاع عن الوالدين، لكن لا يجوز للإنسان أن يضيع حق والديه خاصة عند المشيب والكبر، والوالد يحتاج إلى قرب ولده منه، والوالدة كذلك تحتاج، فلا بد أن يكون قريباً منهما، وأن يحسن إليهما ويبرهما.

    وقوله: [والأنثى عند أبيها حتى يتسلمها زوجها] ولذلك فإن الوالد أقدر على حفظ العرض، وهو أحق من جهة الولاية على عقد النكاح، ومن هنا فإن العمل عند أهل العلم رحمهم الله والفتوى على أن البنت تكون عند والدها ولا تكون عند والدتها في هذه السن.

    1.   

    الأسئلة

    حكم بقاء المحضون عند الأب نهاراً إذا كانت الحاضنة الأم

    السؤال: إذا خير الغلام بين أبويه فاختار البقاء عند أمه، فهل من حق والده أن يجبره على العمل معه نهاراً؟

    الجواب: إذا قضي بالحضانة للأم فالنهار يكون عند الوالد يعلم الولد ويربيه، وسواء علمه العلوم التي يستفيد منها لنفسه، كما كان في القديم حيث لا مدارس تأخذ الأطفال والأولاد، وإنما كانوا في المساجد وحلق الذكر، فيأخذه أبوه من عند أمه ويذهب به إلى شيخ يحفظه أو يعلمه، وكانت مسئولية الأب في النهار، وهذا نص عليه أهل العلم رحمهم الله: أنه يتولى تعليمه والذهاب به إلى من يعلمه ويقوم على تأديبه ودلالته على الخير.

    كذلك يعلمه الصنعة، أي: إذا نضج أو اختار أمه وهو في السابعة، فحينئذٍ يحتاج إلى تعليم صنعة، خاصة في القديم فقد كان الولد يحتاج لتعلم صنعة حتى يستطيع أن يقوم على أمره بعد استقلاله عن والديه، فيأخذون ويعلمونه صنعة من الصنعات بعد التاسعة أو العاشرة على حسب قدرته وطاقته للعمل.

    فإذاً: المنصوص عليه عند العلماء: أن الوالد يتولى أمور ولده في النهار تعليماً وتهيئة لظروف الحياة والمعيشة، وأما في الليل أو بعد انتهاء العمل أو بعد انتهاء التعليم، فإنه يرده إلى أمه وتقوم على شأنه، وهذا بالنسبة لمسألة الحضانة.

    أما الأم فهي أحق به في الليل والنهار، لكن في النهار لا بأس أن يأخذه الوالد من أجل تربيته وتعليمه ما ينفعه، والله تعالى أعلم.

    حكم زيارة الأم أولادها إذا كانت سيئة الأخلاق

    السؤال: إذا كانت الأم سيئة الأخلاق فهل لها الحق في زيارة بناتها، علماً أن الأب يخاف على بناته؟ أثابكم الله.

    الجواب: على كل حال، لا يستطيع أحد أن يفرق بين الأم وولدها، الأم لا بد أن ترى أولادها، ولابد أن تمكن من زيارة أولادها، أما سيئة السمعة أو سيئة اللسان، فشرها على نفسها، ولا يوجد أعظم من الشرك، وقد جاءت أم أسماء رضي الله عنها وأرضاها إلى بيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تبرها وتحسن إليها وتكرمها.

    وليس هناك أعظم من قول الله عز وجل: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [لقمان:15] (جاهداك) أي: أنهم بذلوا غاية الجهد، عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، وليس هناك أعظم من حق الله عز وجل، وليس هناك ذنب ولا فساد ولا ظلم أعظم من الشرك، ومع ذلك: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، فإذاً: لا يستطيع الإنسان أن يتدخل في هذا الحق الذي أمر الله عز وجل به.

    نحن لا نقول: تجلس البنات بطريقة تفسدهن الأم، ولكن الناس يبالغون في أوصاف الأشياء طلباً لأحكامٍ توافق آراءهم وأهواءهم، لا يريد الأم أن تدخل البيت، وهو يريد أن يأخذ بذلك حكماً شرعياً ينسب إلى شرع الله عز وجل ودين الله، هيهات! نقول له: تعال، ما الذي تخشى؟ يقول: أخشى أن تفسدهن، نقول: إذا جاءت الأم فاجلس في ناحية البيت واسمع ما تقول، هل تفسدهن أو تأمرهن بشيء، أو تجلس معها امرأة تثق بها، هناك مائة حل موجود، لكن أن تبطل الأصول وتهدم القواعد الشرعية لقضايا عينية، ولأسباب موجبة للاستثناء من هذه الأصول، نحن نقول: هذه عوارض تعالج بما يندرئ به الشر ويتحقق به الخير.

    والأم إذا أرادت أن تزور أولادها فتمكن من زيارة أولادها، ثم إذا كان هناك ضرر فتمكن بطريقة لا ضرر فيها، وحينئذٍ أخذ الوالد حقه، فصان ولده، وأخذت الأم حقها فرأت أولادها وبروها وأحسنوا إليها، والعجيب: أنك تجد الأم من شر خلق الله، في إساءتها وإضرارها، ولكنها إذا رأت أولادها وحاول أولادها يحسنون إليها أو يحتوونها، فإنه يخف شرها ويندرئ بلاؤها، فإن كثيراً من الأمور والشرور تندرئ إذا تعقل الإنسان وعالج السيئة بالحسنى، ولكنَّ كثيراً من الشرور تعظم وتتفاقم إذا أطفئت النار بالنار، فالأم تمنع من أولادها فتزداد حقداً وسوءاً وشراً.

    والغريب أن الإنسان إذا أنصف وأعذر، هان عليه كثير من الأشياء.

    أذكر ذات مرة أن أناساً اشتكوا من امرأة جاءت مع ولدها وهو مصاب بحادث، وإذا بها سيئة مع من معها ومن بجوارها، والكل يشتكي منها، وشاء الله عز وجل حينما جئت من العمل فسمعت وسلمت على الإخوان هناك من باب الزيارة، ففاتحوني في الأمر واشتكوا، فقلت لهم: يا إخوان! اتقوا الله في هذه المرأة، المرأة تخرج عن طورها وتسوء أخلاقها تحت ضغوط وظروف، هذه امرأة ولدها له تقريباً تسعة أشهر بين الحياة والموت، وقع عليه حادث فأغمي عليه، فشلت أطرافه كلها، وما استطاع أن يحرك شيئاً.

    وأيضاً قطعت المرأة هذه البحار كلها من أجل أن تعالجه مع زوجها، ثم رماها زوجها وأهمل ولدها؛ وهذه بعض الظروف التي لاقتها هذه المرأة، ولو مرت هذه الظروف على رجل لانهدت عزيمته وخارت قواه، فكيف بامرأة؟ فقلت: يا إخوان لا يصلح هذا، ليست هذه هي الطريقة التي تعالج بها الأمور، الإنسان عندما ينظر إلى شر غيره أن يبحث عن أسباب ذلك.

    الولد تجده يفعل الأمور التي لا تفعل، لكن حينما تفتش عن أسباب قد تكون تافهة تعالجها فتستقيم الأمور، وكم من أناسٍ يخرجون من عقولهم وأطوارهم بظروفٍ وضغوط معينة، فهل هناك أم سيئة الأخلاق مع ولدها؟ الغالب لا، فلابد أن يوجد شيء لا معقول؛ لأنها خرجت عن العقل والفطرة، فلا بد من وجود شيء قاهر يقهرها حتى أنها خرجت عن هذه الفطرة، وهذا في الغالب.

    ولذلك ينبغي أن تعالج الأمور، وهذا هو شأن الرحماء والعقلاء والحكماء، وبالأخص أهل العلم وطلاب العلم والمفتون ونحوهم، فلا يستعجلون في إصدار الأحكام، فقد يأتي الشخص للقاضي ويتظلم، ويذكر كثيراً من الصفات الشنيعة، وقد يأتي للمفتي وقد هيأ كثيراً من الأسباب، الزوج يشتكي من زوجته أنها تفعل وتسب وتشتم، وقد يكون هو السبب في السب والشتم والأذية والإهانة والإضرار، ارجع إلى الوراء واسأله كيف كان يعاملها، وكيف كان يأخذ ويعطي معها، وسوف تجد لماذا خرجت هذه المرأة عن طورها!

    وكثيراً ما نجد السائل يعطيك صورة بشعة للطرف الثاني من أجل أن يصل إلى غرض معين تحت حكم الله عز وجل ورسوله وهيهات! فعلينا أن نتقي الله عز وجل وأن نعدل.

    ثانياً: المبالغة في الأوصاف في المسائل، فقد يقول لك مثلاً: هذه أم شريرة أو أم سيئة أو أم كذا أو أم كذا، كثيراً ما يمر بي بعض الأشخاص ويقول: فلانٌ شرير، أقول له: ماذا عرفت من شره، فيظل يتذكر، مما يدلك على أنه يريد غرضاً معيناً، ويجلس يبحث، ثم إذا جاء يقدم لك بدأ يقدم لك شيئاً ليس بذاك.

    قال الإمام الشافعي رحمه الله: حضرت قاضياً جاءه رجل فطعن في الشاهد، فقال له القاضي: لا أقبل حتى تبين بماذا تجرحه؟ فقال له: أنا أعلم الذي يجرح من الذي لا يجرح، قال له: لا أقبل جرحك حتى تبين لي، قال: رأيته يوماً يبول قائماً، قال له: وما شأنه أن بال قائماً، قال: إنه إذا بال قائماً لطخ ثوبه وقدميه وصلى بغير طهارة، ثم قال له القاضي: هل رأيته فعل ذلك؟ قال: لا، قال: اسكت رحمك الله، ليس هذا جرحاً، بل هذا اختلاق الأشياء وتركيب بعضها على بعض، وهذا هو مصداق قوله تعالى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ [الأنعام:43].

    إذاً: ليس هناك شيء يهذب الإنسان مثل العدل، ولا يمكن أن يكون العدل من الإنسان في الحكم على الغير إلا بالخوف من الآخرة، فالشخص الذي عنده خوف من الآخرة هو الذي يعرف كيف ينصف إذا حكم أو قوم، بل إنك تجده أبعد الناس عن الكلام في الناس، ومن أسلمهم وأعفهم لساناً وأطهرهم جناناً وذلك من توفيق الله عز وجل.

    فالمقصود: أن الحضانة لا يمكن أن يحال فيها بين الأمّ وأولادها، والواجب على الأزواج أن يتقوا الله عز وجل في زوجاتهم.

    وأذكر ذات مرة قضية قريبة من هذا: وهي أن أمّاً مُنعت من زيارة بناتها، وفعلاً كانت شريرة وذات بأسٍ شديد، وشاء الله في يوم من الأيام أن جاءني أحد أقاربها واشتكى لي، وكان عاقلاً حكيماً منصفاً، فقلت: ما بها؟ قال: القضية كذا وكذا، فأراد أن يتدخل في الموضوع، فجيء بقرابة الزوج وكان الزوج معهم، فقال الزوج: هذه لا يمكن أن تدخل بيتنا ولا تزور أولادها، هذه تفسد وتفعل كذا وكذا، فقلت لهم: كم مرة زارت أولادها؟ فذكروا أن لها سنوات وكنت أظن أنها قريبة، فتبين أن لها سنوات وأنها جاءت مرات وكرات فمنعت، فسألتهم حينما تأتي تزور ماذا تفعلون؟ وإذا بها أمور لا تمت إلى الإسلام بصلة، إهانة وإذلال وإضرار وتضييق بطريقة عجيبة جداً، وكل هذا لا يرونه، لكن ينظرون أنها سيئة الأخلاق، لا ينظرون أنه ضيف نزل بيتهم وأنه ذو رحم: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، ويوجد فضل وقرابة بين الأسرتين.

    فالشاهد: قلت: أريد والد الزوج على انفراد، وهذا أمر أوصي به دائماً في حلول المشاكل الزوجية أنها لا تحل بالعلن، بل تجلس مع كل شخص على انفراد، فقلت له: أتخشى الله والدار الآخرة، وتعلم أنك ستقف بين يدي الله، وخوفته بالله وبالدار الآخرة، وقلت له: أنت مسئول أمام الله؛ لأني أعلم أن له قوة على ولده وسلطة على البيت والأسرة، فقلت له: نعم، هناك أخطاء من أم الأولاد نظرتم إليها، ولكن أنتم عندكم أخطاء، والإنسان العاقل دائماً يبحث عن أخطائه عند الغير، فأخذت أبين له، والمقصود: أني قلت له: الآن تسمحون لها بزيارة أولادها ولكن بطريقة كذا وكذا، وطبعاً مرت بهم ثلاثة أسابيع تقريباً وما جاء بعد شهر ومن فضل الله سبحانه وتعالى صلحت الأسرتين وحسنت الأحوال، وأصبحت الأم كأحسن ما أن تراها في خلقها وهي تدخل البيت، وكلهم مجمعون على أنها كانت شريرة تؤذي وتضر.. فالشاهد أنها حينما أكرمت وأعطيت حقوقها، ووضعت في مكانتها، استحت وكسرت عينها، وأصبحت تقلل من شرها رويداً رويداً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، والله تعالى أعلم.

    السنة في الإطالة في سنتي الفجر والمغرب

    السؤال: هل من السنة الإطالة في سنتي الفجر والمغرب أم التخفيف؟

    الجواب: السنة في صلاة رغيبة الفجر، أنها تخفف، قالت أم المؤمنين عائشة : (لا أدري أقرأ فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب أو لم يقرأ) من خفة الركعتين؛ فالسنة أن لا يطيل في رغيبة الفجر.

    أما بالنسبة للمغرب: فوقتها بين الأذان والإقامة، فالسنة يكون وقتها ضيقاً، ولا يتوسع فيه لأمرين:

    أولهما: أنه يُخشى فوات الفضيلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبادر بصلاة المغرب، فإذا أخر عن الناس الإقامة فوّت عليهم هذه الفضيلة، والواجب على الإمام أن ينصف المأمومين، وأن يحرص على أن تكون صلاته على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكمل والأتم والأفضل.

    وثانيهما: أنه ربما أخر الإقامة، وأضر بالناس معه، لأنهم في الغالب يأتون من شغل من أعمالهم، فيريدون أن يستريحوا ويستجموا أو يكون صائماً يريد أن يفطر، فالأرفق بالناس في المغرب هو التخفيف، وهو يشمل قضية المبادرة بالإقامة، ومن هنا جاء الأثر عنه عليه الصلاة والسلام أن يجعل بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والمتوضئ من وضوئه.

    إذا ثبت هذا فمعناه أنه ليس هناك وقت لإطالة سنة المغرب، فالسنة التي قبل المغرب وقبل الفجر لا يطوّل فيهما، أما السنة البعدية فإذا أراد أن يطيل فيها فلا بأس بذلك.

    أما السنة القبلية فقد ثبت فيها حديث صحيح: (صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين)، فالأفضل فيها ما ذكرنا، فالإمام يبادر بالإقامة ولا يطيل في هاتين الركعتين، لكنهما ليستا من السنن الرواتب، أما بعد المغرب فلو أراد أن يصلي الراتبة فله أن يطيل ما شاء ما لم يدخل وقت العشاء كما عند بعض العلماء؛ لأنه السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)، فإذا أراد أن يطيل فليطل، لكن السنة الفعلية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يحفظ عنه التطويل، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب العمل ويتركه توسعة على الأمة، واجتزاءً بالأقل، لكن إذا أحب أن يطيل فلا بأس ولا حرج وليس هناك مانع، ولا يقال: هذا لا يجوز، أو هذا: بدعة أو محرم؛ لأن الأصل جوازه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا غربت فصلّ، فإن الصلاة حاضرة مشهودة)، وهذا يدل على التوسعة ولا بأس في ذلك، هذا بالنسبة لمسألة الإطالة.

    أما رغيبة الفجر فإن النص فيها وضحٌ جلي، أن يخففها الإنسان والله تعالى أعلم.

    النصح لطلاب العلم

    السؤال: أنا شابٌ أحببت طلب العلم وأرجو من الله أن يوفقني فيه، ولكن مشكلتي هي أنني أحياناً لا أحب أن أنصح إخواني في طلب العلم، بل ربما أعلم أن هناك شاباً يحب طلب العلم فلا أنصحه ببعض ما يحتاجه المبتدئون، وكل هذا خوفاً أن يكون أفضل مني، أو يتقرب إلى الله أكثر مني، وأنا أعلم أن هذا ليس من أخلاق طالب العلم؟ فأرشدوني أثابكم الله.

    الجواب: هذا بلاء عظيم، والشخص إذا حُرم إفادة الغير بالعلم فليعلم أن بركة علمه قد محقت، فالعلم ما قام إلا على نفع المسكين؛ لأن العلم تبليغ رسالة وأداء أمانة، فإذا أراد الله بعبده السعادة والخير بعد الهداية شرح صدره للعلم، هذه أول نفحات الله عز وجل بعد الهداية، أن يشرح صدره للعلم.

    ثانياً: إذا وفقه الله لمحبة العلم والرغبة فيه يسر له من يوثق بدينه وأمانته من أجل أن يتعلم، فيكون علمه صواباً وحقاً فلا يذهب يجثو على ركبتيه عند أئمة الضلال، الذين لا علم عندهم أو عند المتعالمين أو نحو ذلك.

    ثالثاً: إذا وفقه الله عز وجل لشهود مجالس العلم، وضبط أقوالهم انشرح صدره لهذا العلم، وأحب ما يقولون وما يعملون، فإذا وفق لهذه المرتبة حمل هم العمل بما علم، فيفتح الله عز وجل عليه باب العمل، فلا يتعلم كلمة في مجلس إلا طبقها، ولا سمع نصيحة إلا التزمها وانتقل إلى أهله وولده وهو كاملٌ بتكميل الله عز وجل له في نفسه، فإذا أراد الله عز وجل أن يسعده ويوفقه ويجعل علمه نعمة عليه في الدنيا والآخرة، رزقه نشر هذا العلم.

    إذاً: علمٌ ثم عملٌ ثم تعليم، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، فذكر أنهم هدوا الغير لما اهتدوا، فهم مهتدون في أنفسهم هداة لغيرهم رحمة من الله عز وجل، رحمهم الله في أنفسهم ثم رحم بهم خلقه وعبيده، فإذا كان الإنسان أنانياً والعياذ بالله، ولا يحب أن ينشر الخير لإخوانه، فهذا بلاء.

    وأوصيك بأمور: إما أن يكون هذا البلاء جاء بسبب ذنب، فالإنسان قد يلتزم ويهتدي وعنده من أدران الجاهلية ما لم يتطهر منه، فعلى العبد أن يسأل الله أن يطهر قلبه، قال الله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة:41]، فقد تكون الهداية كاملة وقد تكون ناقصة.

    والهداية الناقصة: أن يلتزم ولكن عنده أدران وظلمات في قلبه من الجاهلية من الغل والحسد والبغضاء وسوء الظن بالمسلمين ومحبة تتبع عثرات الناس، تجده شاباً ملتزماً، لكنه مولع بأذية الناس، نسأل الله السلامة والعافية، فهو التزم بذكر القبر والنار، لكنها لم تهذب سلوكه ولم تقوم طريقه ومنهجه، فينطلق والعياذ بالله بأدران الجاهلية، ولذلك تعجب حين ترى إنساناً صالحاً ديناً، ثم ترى منه أذية الناس والإضرار بهم؛ لأنه أسلم قالباً ولم يسلم قلباً.

    ومن أهم ما ينبغي على الإنسان أن يبدأ بقلبه وسماع العقيدة بحق وصدق، لا بكذب وتنميق وتضخيم وتحت غرور أنه عبدٌ صالح، وأنه قد اتبع الصحابة رضوان الله عليهم، كان الرجل منهم يخاف النفاق حتى حين تقبض روحه، من شدة الخوف والوجل والإحسان في العمل، فالإنسان عليه أن يهذب سلوكه، فقد يكون والعياذ بالله ملتزماً ولكن بقيت عنده هذه الآفة، وهذه يعرفها من يعرفها، فمن كان مبتلى بهذا البلاء فعليه أن يسأل نفسه: ماذا كان عنده قبل التزامه وهدايته؟ فإن كان يعرف لنفسه هذا، فليعلم أنه أسلم ولم يسلم قلبه للإسلام تاماً كاملاً.

    ثانياً: قد يكون بعيداً عن هذا وليس عنده آفات، قد يكون عبداً صالحاً مستقيماً ولكن ابتلي بهذا البلاء من الله، قد يبتلى بسبب عقوق والديه أو قطيعة رحمه أو همزه للناس، أو تتبع عثرة الدعاة، أو الكلام في أهل الخير أو الصلاح، فابتلاه الله بفتنة، وخذها قاعدة: أن فتن الدين لا تأتي إلا بسبب ما يكون بين العبد وربه في القلب: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].

    يكون الإنسان كأحسن ما تراه ملتزماً، ثم فجأة يتتبع عثرات العلماء والدعاة الأموات أو الأحياء أو ينتقصهم أو ينظر إليهم نظرات، فينكسه الله عز وجل بسبب ذلك: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، كان مهتدياً صالحاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، ثم أصبح والعياذ بالله خارجاً عن قوله، فاغتر بنفسه، وتعالى على عباد الله أو احتقر خلق الله عز وجل.

    فهذا موسى عليه السلام، لما قال: أنا أعلم، عتب الله عليه من فوق سبع سماوات وهو كليم الله، ولكن قال الله له: إن بمجمع البحرين من هو أعلم منك، وهو نبي يقول الله له: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144]، ويقول الله في تشريفه: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، لما جاءت حاجة معينة حصل فيها ما حصل؛ عتب الله عليه من فوق سبع سماوات، فكيف بمن يركب على ظهور الناس أو تحصل منه زلة، فلا تأمن من الله عز وجل أن يبتليك، فهذه ابتلاءات تأتي في القلوب بسبب الذنوب، ومن أعظم ما يفتح على العبد الملتزم الهادي الصالح من البلاء بعد حق الله عز وجل حقوق العباد، ولذلك فاحذر وأنت في طلب العلم أن تنتقص أحداً أو تتكلم في أحد أو تذم أحداً، أو تحمل في قلبك غلاً على أحد من أولياء الله عز وجل.

    عليك أن تنتبه وتحذر من ذلك أتم الحذر؛ لأن هذه الفتن التي يحرم بها الإنسان بركة العلم وقبول العلم والانتفاع بالعلم كثيرٌ منها بسبب الظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه ظلمات، فالقلب لا يمكن أن يستنير، والنور محله القلب، فاتقوا الله يجعل لكم فرقاناً فالنور الذي في القلوب يطمس، وإذا كان الإنسان لم يهذب نفسه سلبه الله عز وجل البركة في عمره وقوله وعمله، فالحذر من الذنوب.

    فلذلك أدعوك: إذا كان هذا الأمر قد جد عليك وطرأ، أن تتفقد نفسك ماذا قلت، وماذا عملت، فلعل مسلماً ظلمته أو آذيته فحرمت الخير بسبب أذيته، فتسأله أن يسامحك وتتحلل من مظلمته وتبتعد عن إساءته.

    وأوصيك أخي بأمر لا أظن أن هناك فرجاً ومخرجاً أعظم منه، وهو دعاء الله سبحانه وتعالى، بأن تشتكي إلى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن تتوكل على الحي الذي لا يموت حتى ينزع ما في قلبك، فإن هذا بلاء عظيم، إن لم يتداركك الله برحمته؛ فإنه شيء يخشى منه عليك ألا تبقى لك بركة في علمك.

    إذا أحد يريد أن يتعلم هذا العلم دون أن يوطن نفسه على بذله للناس وللخير بالوجه الذي يستطيع، لا يكون إنساناً أنانياً طالب علم ولا معلماً، فلا أنت حينما تعلم شيئاً تعطيه لأخيك وتدله، ولا طالب علم أيضاً من حيث إنك أناني تريد الشيء لك وحدك أو نحو هذا، فهذا أمر عليك أن تحذره قدر المستطاع، وتطلب العلم أنى وجدته، وتحرص على نفع المسلمين.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755954872