إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما زالت رحمات الله تتوالى على عباده حتى شملت البهائم، ومن رحمته جل وعلا بهذه البهائم أن ألزم مالكها بتبعات الملكية من أكلها وشربها ورعايتها، وقد ذكر الفقهاء تفصيلات وضوابط لما يجب على المالك من حقوق الحيوان المملوك، حتى ذكروا ضوابط ومقادير الحمل عليه والسفر به، وما يحكم على المالك عند العجز عن أداء حقوق البهائم التي تحت يده.

    1.   

    نفقة البهائم وأحكام رعايتها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل: وعليه علف بهائمه وسقيها وما يصلحها ].

    وجوب علف البهائم على المالك

    يقول رحمه الله: (وعليه) أي: يجب على المسلم أن ينفق على بهائمه، والدليل على ذلك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة التي عُذِّبت في الهرة، وهذا يدل على أنه لا يجوز للمسلم أن يحبس الحيوان، إلا إذا قام على رعايته وطعامه وما يحتاج إليه؛ لأنه إذا حبسه ومنعه من الرعي ومما فيه رفق به فقد عذّبه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان، والعكس بالعكس، فكما أن الإسلام نهى عن تعذيب الحيوان فقد رغب في الإحسان إليه، حتى أخبر صلى الله عليه وسلم في قصة المرأة الزانية أن الله غفر ذنوبها بشربة ماء سقتها لذلك الكلب، فدل هذا على أمرين:

    أولاً: مشروعية القيام على الدواب ورعايتها والإحسان إليها فيما تحتاج إليه من طعام وغيره.

    وثانياً: وهو عكسه، تحريم الشريعة للإساءة والأذية والتعذيب للحيوان والقتل له بدون وجه حق، ومن هنا قال بعض أئمة التفسير في قوله تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56] ، قال: من ذلك قتل الحيوان من غير ما حاجة.

    قال رحمه الله: [وعليه علف بهائمه] لعلف البهائم صورتان:

    إما أن يكون هناك مرعى يمكن للحيوان أن يخرج إليه ليرعى ويسوم فيه، فحينئذٍ الواجب عليه تمكين الحيوان من الرعي، وفي هذه الحالة لو أخرج الحيوان بنفسه أو أخرجه وكيله أو العامل عنده فقد برئت ذمته بهذا، لأن الحيوان من طبيعته وفطرته أن يأكل قدر حاجته، لكن الإشكال عند العلماء إذا أخرجه للرعي والسوم هل يجب عليه أن يترك البهيمة إلى أن تشبع غاية الشبع، أم أن الواجب قدر الكفاية، ثم ما فضل بعد ذلك فهو فضل؟

    قال بعض العلماء: الواجب أن يخرج بالبهيمة للرعي في حدود حاجتها، وفائدة الخلاف: أنه لو خرج يوماً وعنده ظرف ووقته ضيق وما استطاع أن ينتظر الحيوان حتى يصل إلى حد الشبع، فمكن الحيوان من الرعي إلى حدود الكفاية، أجزأه على القول الذي لا يشترط الكمال، ولم يخل من مسئولية على القول الثاني.

    والصحيح: أن العبرة بقدر الإجزاء، أعني: القدر الذي تحصل به كفاية الحيوان.

    إذا كانت ترعى البهيمة فلا يخلو الرعي من حالتين:

    الحالة الأولى: إما أن يكون قائماً بالكفاية على أتم الوجوه، بمعنى أنه يرتفق به الحيوان ويجتزئ به، فحينئذٍ لا إشكال.

    وإما أن يكون الرعي قليلاً كما يحصل في بعض أحوال الجدب، فإذا كان الرعي قليلاً وجب عليه أن يسد كفاية البهيمة من العلف، ولذلك لو كانت البهيمة تحتاج إلى رعي فرعت ثم بقي عندها عجز في طعامها فعلية تأمين هذا العجز، وهذا يختلف باختلاف الإبل والبقر والغنم، فالمقصود أنه لابد من تحصيل قدر الكفاية.

    وقوله: (عليه) يفهم منه الوجوب وهو محل إجماع، أعني أنه يجب على من ملك البهيمة أن يطعمها.

    وقد سبق أن بينا أن النفقة تجب: إما بسبب النكاح، أو بسبب القرابة، أو بسبب الملك، وهي هنا بسببية الملك، فنظراً لكونه مالكاً للبهيمة أمر بالنفقة عليها، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى، فالعبد كما أنه ينال منافع البهيمة ويملك رقبتها، فالواجب عليه أن يؤدي حق هذه البهيمة، وعليه علف بهائمه.

    الحالة الثانية: أن لا يكون هناك مرعى، فإذا لم يكن هناك مرعى وجب عليه أن يشتري للبهائم طعامها، وحينئذٍ ينظر: فهناك طعام من العلف، وهناك طعام من الحبوب، والعلف والحبوب فيها الغالي والرخيص، فحينئذٍ ينظر إلى حال الإنسان، فإذا كان غنياً قادراً فإنه ينفق على قدر ما يحصّل، فلا ينتقل ببهائمه إلى الطعام الرديء القليل الذي يضر بها، أو يجحف بها، بناءً على أنه يريد سد الكفاية، خاصة إذا كان غنياً، فقد أمر الله عز وجل الزوج أن ينفق على زوجته بقدر وسعه، فلما وسّع الله على الغني لزمه أن ينفق نفقة الغني ويحسن إلى بهائمه، ولا يضيق عليها.

    أما لو ضاق عليه الحال، وصعب عليه أن يشتري العلف الغالي، فإنه يطعمها من العلف الذي يحصل به قوام بدنها، فلو فرضنا أن علفها في اليوم الواحد يختلف، فالجيد منه بعشرين والمتوسط بخمسة عشر والرديء بعشرة، فإن كان العلف الرديء لا يضر بصحتها ولا يجحف بها، علفها من العلف الرديء، وهذا قدر وسعه وطاقته، فإن كان يضر بصحتها ولا يملك هذه القيمة؛ ففيه التفصيل الذي سنذكره، من أنه يؤمر ببيع بعضها والنفقة عليها بالمعروف.

    وقد بيّن رحمه الله أنه يجب عليه ذلك، والضمير في قوله: (عليه) يعود على المالك، وقوله: (عليه) يدل على اللزوم، أي: أنه أمرٌ على اللزوم وليس على التخيير.

    وجوب سقي البهائم على المالك

    قال رحمه الله: [وسقيها].

    في القديم كان الماء عزيزاً، وكان الناس يستقون من الآبار لأنفسهم ولدوابهم، وهناك آبار تردها البهائم.

    وهذا السقي سواء قام به الشخص نفسه، أو قام به عامله، أو من يوكله؛ فعليه أن يورد البهيمة في الأيام التي تحتاج فيها إلى السقي، وذلك يختلف: فالإبل أكثر صبراً من البقر والغنم، فيقدر الوقت الذي تحتاج فيه إلى السقي، ولا يجوز تأخيرها عن اليوم الذي ترد فيه.

    وهكذا لو كانت محبوسة عنده في البيت، فيجب عليه أن يتفقد طعامها وشرابها وأن لا يتكل على العامل، لأن البعض قد يتكل على عماله، وهذا لا يجوز على سبيل الإطلاق، بل الراجح: أن عليه بين فترة وفترة أن ينظر في بهائمه، وأن يتفقد هذا القيام على حوائج البهائم، وهذا أصل واجب على الموكِّل في كل من وكله، فإذا وكلت وكيلاً فلا تتكل عليه، بل عليك أن تباغته، وأن تأتي فجأة لتنظر كيفية رعايته لهذا الشيء الذي ائتمنته عليه، ولا تحسب أن توكيلك له يخليك من المسئولية والأمانة، فإن الوكيل عنك أمين -كما ذكرنا في باب الوكالة- وقد نزلته منزلتك، فلابد من أن يكون اختيارك له في محله، فقد يكون أميناً في حال، وقد يغتر بحسن ظنك فيه فيهمل ويقصر، والإنسان ضعيف.

    فالواجب على رب البهيمة أن يتفقد بهائمه بسقيها، ويسأل العامل: متى تسقي البهائم؟ ومتى تطعمها؟ ومتى تقوم؟ عليها، فإذا وجد أنه قائمٌ على الوجه المعروف برئت ذمته وخلصت.

    إذاً: طعام البهائم وسقيها واجب على المالك، سواء قام به بنفسه أو وكل عنه من يقوم بذلك، وليس كل ماء تسقاه البهيمة، وليس كل مورد تورد عليه البهائم؛ فإذا كان الماء كدراً وفيه القاذورات والأوساخ، أو يسقي البهيمة في أواني قذرة لا يهتم بتنظيفها ولا يبالي بحسن القيام عليها، فإنه مسئولٌ أمام الله عز وجل عن هذا التقصير.

    فالبعض لا يبالي، يقول: هذه بهيمة. ثم يطعمها ويسقيها في أي إناءٍ ولو كان قذراً، فالواجب عليه أن يتفقد الأواني التي تسقى فيها وأن يتعهد ذلك بالرعاية لأنها أمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته) فمن قام على البهائم في علفها وسقيها وتفقد ذلك فذاك، أو وكَّل غيره فلابد أن يذكره أنها أمانة ومسئولية، وأنه يجب عليه أن يحسن الرعاية على أتم الوجوه وأكملها حتى تبرأ ذمته.

    حق البهائم في كل ما يصلحها

    قال رحمه الله: [ وما يصلحها ]

    ومما يصلح شأن البهيمة: أنها في بعض الأحيان قد تحتاج إلى تنظيف بدنها بالغسل، أو إلى جز صوفها وشعرها، وأحياناً تقليم لأظفارها؛ لأنها تؤذيها أثناء مشيها، وأحياناً تحتاج إلى إصلاح في البدن نفسه إذا كانت مريضة أو عليلة، فعليه أن يتقي الله عز وجل فيها، وأن يقوم على رعايتها؛ فإن احتاجت إلى دواء أو علاجٍ قام على ذلك، وطلب من يعالج، لا يقول: هذه بهيمة والله يشفيها، بل إن هذه البهيمة نفس معذبة بالمرض والسقم، فيجب عليه أن يحسن إليها وأن يتعاهدها.

    وقوله: (وما يصلحها) يشمل إصلاح كل شيء في الشارة والهيئة، وما يصلحها في مسكنها، فمثلاً: إذا كانت البهيمة في مسكنٍ قذرٍ وخيم يضرها ويؤذيها ويضر بصحتها، فإنه يسأل أمام الله عن ذلك.

    وانظر حقوق الحيوان في الإسلام، وفقهاء الإسلام من فجر التاريخ الإسلامي يبينونها ويقررونها، حتى ذكروا كيف تسكن البهيمة، ولو نظرت في تفصيلات وكلام الفقهاء والعلماء رحمهم الله لتعجبت، وصدق الله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] فهذا دين كامل من أصله.

    فقد تكلم العلماء حتى على مسكن البهيمة، وفي فتاوى العلماء عندما يسألون عن هذا يقررون أنه لا يجوز تعذيب الحيوان لا في مسكنه ولا مطعمه ولا حاجته من دواء وإصلاح شارة وهيئة؛ حتى في المسير إذا سار بها فلا يعذبها ولا يرهقها، بل يريحها وقت الراحة ولا يحملها في الأسفار فوق طاقتها، بل حتى في الحضر، فكل هذا يدل دلالة واضحة على عظمة هذا الدين، ويدل دلالة واضحة على كماله ووفائه بحوائج الناس، حتى الحيوانات.

    وحينئذٍ لا تحتاج الأمة الإسلامية أن يأتي من يتبجح أمامها أو يذكرها من غفلة أو يعلمها من جهل؛ فعندها في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته الغراء التي جمعت محاسن الأخلاق ومكارم الآداب ما يغني عن ذلك، قال الله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:43].

    1.   

    ما ينهى عنه في حق البهائم

    قال رحمه الله: [وأن لا يحملها ما تعجز عنه ]

    أي: لا يحمل البهيمة فوق طاقتها، مثلاً: الركوب على البهيمة مشروع؛ ولذلك امتن الله على عباده بذلك فقال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ [النحل:7] .. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8] فجعلها ركوباً للإنسان، ولكنه لما أحل لنا ركوبها لم يحل لنا تعذيبها، ولا أن نحملها ما لا تطيق.

    فإذا أراد أن يركب البهيمة فينبغي أولاً أن تكون البهيمة مما يعد للركوب، كما في الخبر حينما ركب أحدهم بقرة فقالت: (إن الله لم يخلقني لذلك)، يعني: ما خلقني ظهراً للركوب، وكذلك الشاة ليست محلاً للركوب، لكن الخيل والبغال والحمير والنوق، وهذا الأصل -وهو جواز الركوب- تختص به بهائم.

    ثم نفس البهائم تختص بزمان وسِنٍّ تطيق فيه الركوب: فإذا كان من الإبل فأن تكون حقة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يركب عليها وأن يطرقها الفحل، كما تقدم في كتاب الزكاة، فإذا بلغت السن الذي يركب عليها ويحمل عليها ركبها وحمل عليها.

    ثم أيضاً في الحمل عليها يفصل، فيقال: لا يحملها ما لا تطيق بل بالمعروف، وهذا الأصل الذي هو جواز الحمل على الدواب محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، لكن بشرط أن لا يكون فيه تعذيب للحيوان، ويختلف ذلك من حيوان إلى حيوان، فهناك حيوانات تطيق الحمل أكثر فيحملها ما تطيق، وهناك حيوانات لا تطيق إلا القليل فيحملها على قدر طاقتها.

    قال رحمه الله: [ولا يحلب من لبنها ما يضر ولدها].

    قوله: (ولا يحلب من لبنها) يعني: من لبن البهيمة (ما يضر ولدها)، وهذه المسألة تسمى بمسألة ازدحام الحقوق؛ فالبهيمة فيها حق للمالك وحق للولد. هذا إذا كانت ولوداً وولدت واحتاج ولدها إلى اللبن فصار له فيه حق، وأيضاً ربها ومالكها يحلبها ليبيع الحليب أو ليشرب، ففي هذه الحالة هل نقدم حق المالك لأن يده يد أصل، أم نقدم حق الولد؟

    الجواب: إذا كان حلبك يضر بالولد لم يجز، والسبب في هذا: أن الولد لا يجد بديلاً والمالك يجد بديلاً، والولد لا يستغني عن حليب أمه والمالك يستغني عن هذا الحليب، وإذا ازدحمت الحقوق نظر إلى الأحق والأحوج، ولذلك نجد في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وقضاء الشريعة أنه ينص على الحق، فإذا كان ولد البهيمة يحتاج إلى هذا اللبن ولابد له منه ولا تستطيع أن تصرفه إلى ناقة ثانية، أو إلى بهيمة ثانية، خاصة الحرائر إذ فيهن شغف وتعلق بالوالدة عجيب، حتى إنه لو ماتت أمه ربما مات بعدها، لأنه لا يُقبِل على ضرع غيرها، وهذا موجود، فكما أن نفوس الآدميين تختلف أصالة وحناناً كذلك نفوس البهائم.

    فهذا الولد لو صرف إلى غير أمه ربما يتضرر بذلك، والمالك يمكنه أن يجد بديلاً؛ فقدم الأضيق والأحق، ولأن المالك مستفيد على طيلة زمانه والولد محتاج لزمان مخصوص، فيقدم الخاص الذي حاجته خاصة على ما هو عام يمكنه أن يرتفق في أي زمان غير هذا الزمان المحتاج فيه الولد إلى اللبن.

    واستدل العلماء رحمهم الله بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار) وهذا الحديث حسَّن بعض العلماء إسناده، لكن متنه صحيح بإجماع العلماء رحمهم الله، وأصول الشريعة كلها دالة على صحة هذا المتن، ومن هنا انبنت القاعدة الشرعية المجمع عليها، والتي تقول: الضرر يزال. فعندنا ضرر متعلق بهذا الولد لا يمكن إزالته إلا أن يرتضع من أمه، فحينئذٍ يقال بتقديمه من هذا الوجه.

    1.   

    ما يجبر عليه المالك في حق البهائم عند عجزه عن القيام بحقها

    قال رحمه الله: [فإن عجز عن نفقتها أجبر على بيعها].

    بعد أن بين رحمه الله الأصل وهو: وجوب النفقة على البهيمة، شرع في المسائل الطارئة، وقدمنا أن هذا من دقة العلماء رحمهم الله، ومن تسلسل الأفكار عندهم، فإنهم يذكرون الأصل ويذكرون ما خرج عن الأصل، وهو المستثنيات والأمور الطارئة.. فمما امتازت به الشريعة في أحكامها وتشريعاتها أنها لا تقف فقط عند الحكم، بل إنها تبين الحكم والأثر المترتب على الحكم، وما يطرأ مما يمنع من وقوع الأثر أو كمال الأثر أو يضر بالأثر، ولا شك أن العلماء رحمهم الله اعتنوا به، ولذلك بين المصنف ذلك بقوله: [فإن عجز].

    وعجز المالك أمر طارئ والأصل أنه ينفق، لكنه إذا عجز أو كان فقيراً لا يستطيع أن ينفق، فالحكم ما سيذكره المصنف رحمه الله.

    إجباره على البيع أو التأجير

    قال: (أجبر على بيعها).

    أي: أجبر على بيع بهائمه التي عجز عن الإنفاق عليها، وهذا هو الأصل. وقد اختلف العلماء رحمهم الله فيه على قولين مشهورين: فجمهور العلماء على أن المالك إذا عجز عن شراء العلف وقال: لا أستطيع، وليس عندي مال أنفق منه على بهائمي؛ فإنه يجبر على بيع بهائمه على التفصيل الذي سنذكره.

    وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه لا يجبر، واستدل بأن الحق للبهيمة، والحقوق في القضاء تقام حينما يطالب بها صاحبها، أما إذا لم يطالب بها صاحبها فلا يطالب بها غيره، والبهيمة لا يمكن أن تطالب بحقها؛ لأن القضاء في الإسلام حيادي لا يميل لأحد الخصمين، ولذلك لا يحكم على الخصم إلا إذا طلب خصمه.

    وهذا أصل، حتى إن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة لما ولي القضاء أراد اثنان من أصحابه أن يبينوا له فقه القضاء، فاختصما إليه وقال أحدهما: لي عند فلان كذا وكذا، فقال له: ما تقول؟ قال: صدق، فسكت المدعي، فقال القاضي: أعطه حقه، فقال صاحب الحق: ومن أمر القاضي أن يسأل خصمي أن يعطيني حقي. ثم قالوا: إنما أردنا أن نبين لك أن للقضاء فقهاً غير الفقه الذي تعلمته.

    وهذا أصل عند الجمهور، يقولون: من حيث الأصل فإن القاضي حيادي لا يميل لأحد الخصمين دون الآخر، فإذا حكمنا على رب البهيمة أن يبيعها فما هو مستند هذا الحكم؟ أين الدعوى؟ وأين ما يثبتها؟ الدعوى متعذرة لأن صاحب الحق وهو البهيمة لا يمكن أن تطالب بحقها، وإثباتها ممكن عن طريق الحسبة، بأن يشهد عليه جيرانه أو رفقاؤه، لكن الإشكال في أصل الدعوى، فالإمام أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعذر عندهم في هذه المسألة أن يحكم قضاءً، ولكنه يجب عليه ديانة أن يبيعها إذا عجز ولا يجب عليه قضاءً، وفرق بين الديانة وبين القضاء، فمعنى الديانة أنه مطالب فيما بينه وبين الله أن يبيعها، لكن لا يحكم عليه بذلك حكماً شرعياً قضائياً.

    والجمهور رحمهم الله قالوا: للسلطان ولاية عامة، وهذا أصل في الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: (فالسلطان ولي من لا ولي له) وهذه البهيمة لا ولي لها فهي كالمجنون إذا لم يكن له ولي، فحينئذٍ يتصرف السلطان بالولاية العامة، وهذا أصلٌ صحيح، وقول الجمهور في هذه المسألة أرجح وأظهر إن شاء الله وأولى بالصواب، وبناءً على هذا يجبر قضاءً على البيع.

    ثم إذا ترجح القول بالإجبار ففيه تفصيل: إن كان عنده بهيمة واحدة فحينئذٍ لا إشكال في أنه يجبر على بيعها، لكن الإشكال إذا كان عنده أكثر من بهيمة وعجز عن إطعام الكل، نقول له: بع بعضها بالقدر الذي تستطيع به أن تنفق على الباقية، فلو كان عنده مثلاً عشر من الغنم، ويمكنه أن يبيع رأسين يتمكن من خلالهما من النفقة على البقية، نقول له: بع الرأسين وأنفق على البقية.

    ثم إذا أجبر على البيع فلا يجبر على بيع كرائم ماله، وإنما ينظر إلى الأخف؛ لأن ما جاز للضرورة يقدر بقدرها؛ لأن المقصود أن ينفق على بهائمه، فلو بيعت الكريمة تضرر ببقاء غيرها مما هو دونها، وبناءً على ذلك لا يُجبر على بيع كل بهائمه. هذه المسألة الأولى.

    ثانياً: أنه لا يجبر على بيع كرائم ماله إلا في مسائل، وهو أن يكون كل ماله كريماً كما ذكرنا في الزكاة، وهذا أصل عام؛ فحينئذٍ يجبر على بيع الكريم، ويكون البيع بقدر الحاجة، أي: أن يباع من الرءوس على قدر الحاجة مما تحصل به الكفاية والقيام على نفقة البهائم الباقية.

    قال رحمه الله: [أو إجارتها]

    بعض العلماء يقول: لا يجبر على البيع إذا أمكنت الإجارة؛ لأن إبقاء اليد أولى من إلغائها، كما في قضاء داوود وسليمان عليهما السلام، فإن الله عز وجل أثنى على حكم سليمان وقدمه على حكم داوود؛ لأن سليمان عليه السلام أبقى يد الملكية في قصة الغنم الذي نفشت في غنم القوم.

    وبناءً على ذلك نقول: لو قلنا له: بعها. مع إمكان الإجارة فقد أزلنا يد الملكية جبراً، وإزالة يد الملكية جبراً خلاف الأصل؛ لأن الأصل أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفسٍ منه، فنحن لا نجبره على البيع متى لم يمكن الإيجار، لكن في بعض الأحيان قد تكون الإجارة أضر عليه من البيع، وهذا في أحوال خاصة، فقد تكون إجارتها تحتاج إلى قيام على علفها ومؤنتها، وقد تتعب من خلال إجارتها، فعلى كل حال ينظر القاضي، فإن كان الأخف ضرراً عليه أن يبيع بدأ بالبيع وقدمه على الإيجار مع أنه نقلٌ للأصل، وذلك لوجود ما ذكرناه، وأما إذا كانت الإجارة ممكنة فإنها مقدمة على البيع في الأصل.

    إجبار مالك البهيمة على الذبح

    قال رحمه الله: [أو ذبحها إن أكلت ].

    إن لم يمكن بيعها وإجارتها، أو عرضت للبيع فلم ترغب، وعرضت للإجارة فلم ترغب، أو كانت لا تؤجر مثلاً، ففي هذه الحالة قال بعض العلماء: يؤمر بذبحها إن كانت تؤكل؛ لأنه إذا ذبحها باع لحمها.

    وأولاً: إذا ذبحها قطع عنها العذاب؛ لأنها إذا بقيت تعذبت.

    وثانياً: ممكن عن طريق ذبح بعضها أن يحصل اكتفاء للباقي، وهذا أصل، أعني أن إتلاف البعض لاستبقاء الأغلب مشروعٌ شرعاً، ودليل ذلك قصة موسى عليه السلام مع الخضر، فإن الخضر عليه السلام كسر لوحاً من السفينة ليبقي السفينة، وحينئذٍ فذبح بعض البهائم من أجل أن يشتري العلف للبقية، أو ذبحها من أجل بيع لحمها لإطعام الباقية سائغ على هذا الأصل.

    وهذا يظهر في مسألة الأوقاف والتصرف في مال اليتيم بإتلاف بعضه، كذلك أيضاً في ذوات الأرواح جاء ما يقرر هذا الأصل، وذلك أن يونس عليه السلام لما كان في السفينة وتعرضت للغرق، واحتاجوا إلى أن يلقوا بشخص منهم، فساهم فخرجت القرعة على نبي الله يونس فرمي في البحر، وهذا أصل عند بعض العلماء، فيقولون: إنه إذا كان لا يمكن نجاة الكل إلا بهلاك البعض قدم بقاء الأكثر، وهذه لها مسائل تفصيلية وكلام طويل لعلماء الأصول، ومنها مسألة تترس الكفار بالمسلم، وفيها تفصيلات في ذوات الأرواح بالنسبة للآدميين.

    بالنسبة للحيوان هنا فإنه إذا أمكن ذبح البعض حتى يكفي الطعام للبعض الآخر جاز ذلك، وهذه لها أصول عامة حتى في الأرزاق؛ فذبح بعض البهائم التي يملكها من أجل أن يصبح الطعام كافياً للبقية، سائغ للأصل الذي ذكرناه، أو تذبح لأجل أن لا تبقى فتموت حتف نفسها؛ لأن موتها حتف أنفها يضيع حق المالك، وموتها بالذكاة يبقي استفادة المالك، فحينئذٍ يقال له: اذبحها؛ لأنه لو تركها تموت حتف نفسها تعذبت، فلا هو يستفيد ولا هي تستفيد، ولكن إذا ذكيت استفادت هي فاستراحت، ثم أيضاً هو استفاد بالانتفاع بلحمها، فهذا من حيث الأصول الشرعية سائغ.

    ذبح الرحمة وموت الدماغ

    وتفرعت على هذه المسألة مسألة قتل الحيوان للرحمة، وهي: إذا كان الحيوان قد أنفذت مقاتله، وتفرعت عليها المسألة المعاصرة في موت الدماغ، وهل يجوز سحب الأجهزة على المريض إكلينيكياً وسريرياً أو لا؟

    فهل هذه الحياة في حكم الحياة المستقرة، أو هل الحياة المنعدمة في حكم المستقرة؟

    اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة من أنفذت مقاتله، هل حياته حياة مستقرة أو في حكم العدم؟

    فبعض العلماء يقول: حياته مستقرة، وبعضهم يقول: حياته في حكم العدم، إذا قلنا: إن من أنفذت مقاتله كمن ضرب في مكان لا يشك أنه لو ترك سيموت، مثل البهيمة تصدم بالسيارة، وتقطع على أنها لو تركت دقائق ستموت، أو تسقط من مكان عالي وتدركها وهي ترفس فلو تركت ستموت، أو يأتي السبع فيفترسها فيبقى فيها شيء من الحركة، فهل هذه الحركة في حكم الحياة المستقرة وحينئذٍ إذا ذكيت جاز أكلها؟ أو هي في حكم العدم وحينئذٍ إذا ذكيت لا يحل أكلها؛ لأنها أنفذت مقاتلها فهي متردية أو مقتولة حتف نفسها ميتة؟

    فبعض العلماء يقول: إنها في حكم العدم، وإذا قيل: إنها في حكم العدم فإن الذكاة لا تؤثر، وظاهر الحديث أن الشاة التي بقر بطنها الذئب فكسرت المرأة الحجر وذكتها، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم أكلها؛ يدل على أن الحركة حياة، وحينئذٍ فما دام قلب المريض يتحرك فهو حي، وما دامت الحياة فيه فلا يجوز سحب الجهاز، ويكون حينئذٍ محظوراً.

    حتى ولو كانت حركة لا إرادية التي هي الحركة الأخيرة، وذلك استصحاباً للأصل؛ ولأن تشخيص الدماغ فيه اضطراب بين الأطباء، وحتى على تحديد هذا التشخيص لا يتيسر إلا في مستشفيات متقدمة، وهذا يخاطر بأرواح الناس.

    وهناك مبررات كثيرة ذكرناها في أحكام الجراحة، لكن الذي يهمنا هنا: أن الحيوان يقتل رحمة به على هذا الوجه؛ لأنه لو بقي دون إطعامٍ على الوجه المعروف تعذب، ولا يجوز تعذيب الحيوان، أما الآدمي فلا يجوز قتله، فلو أن إنساناً أصيب بالسرطان -أعاذنا الله وإياكم- وقطع الأطباء على أنه لا يعيش؛ فإنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتله، لأن الله حرم هذه النفس، وللمعاني المعتبرة شرعاً في ورود هذا البلاء عليه؛ لأن البلاء مقصود شرعاً، فالله أرحم به من خلقه، ولذلك يقول الله عز وجل: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].

    سبحان الله! كيف جمال هذا القرآن وعظمته؛ لأنه تنزيل من حكيم خبير كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، والله عز وجل يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29].

    أحد الأوجه في تفسير الآية: أن أنفسكم إخوانكم؛ وذلك مثل قوله: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] يعني على إخوانكم، فقيل معنى: (لا تقتلوا أنفسكم) أي: إخوانكم، فجعل المؤمن مع المؤمن كالنفس الواحدة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو...) والجسد الواحد نفس واحدة، فلما قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ عقب ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا فإذا تبجح أحد وقال: نريد أن نرحمه، فقد كذبه الله عز وجل، وقال: أنا أرحم بعبدي الذي ابتليته، وأنا أرحم بعبدي الذي أسقمت بدنه، وأنزلت به البلاء.

    ولذلك ليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه، هذا شيء بيد الله، يقف الأطباء عند إمكانياتهم وحدودهم التي يقفون عندها والباقي لله عز وجل مالك كل شيء وخالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.

    والطب له هدفان: الوقاية والعلاج، وإذا خرج عن هذين الهدفين فليس بطبٍ شرعي، ولذلك إذا قال: نقتله، فلا هو علاج ولا وقاية، فالقتل ليس بوقاية، فهذا ليس بطبيب! وليس هذا تخصصه، ولا من شأنه، وليس له أن يتدخل بين العبد وربه، فهو الذي ابتلاه وهو الذي يدبر أمره.

    وكذلك إذا وجدتهم يدخلون في هندسة وراثية أو غيرها فإنهم يكونون قد خرجوا عن مقصود الطب إلى العبث، فهذا عبث وتصرف في خلقة الله عز وجل التي خلق عليها العباد.

    والله شرع الطب دواءً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن شريك في السنن: (أنه جاءه الأعراب فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله، فإن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له دواء) فجعل الطب علاجاً للأسقام، وفي حكم العلاج الوقاية، وما عدا ذلك فليس بطب، فحينئذٍ قتل الرحمة ليس بعلاج ولا دواء.

    وإن قلنا في البهيمة: إنها تقتل؛ فإنما ذلك لأنه يستطاب لحمها، ويجوز أكله، من المشاكل الآن أنه من ذهب يبحث في مسائل فقهية فيما يسمى بالاجتهاد المقيد، وهو أن يأتي إلى مسألة ويجمع ما فيها ثم ينظر فيها ويخرج بخلاصة.. الواقع أن هؤلاء الباحثين الذين لا يعرفون مصطلحات العلماء ولا ضوابطهم يجنون كثيراً ببحوثهم، ولذلك ينبغي على طالب العلم ألا يتقبل البحوث الفقهية إلا ممن كان عنده دراية وخبرة بمتون العلماء وأساليبهم، ومصطلحات وضوابط أهل العلم في الحكم؛ لأنه في هذه الحالة سيتعرض للزلل بلا شك.

    فبعض الذين يبيحون قتل الرحمة يقولون: إن العلماء أجازوا قتل البهيمة، وذلك لأنها إذا بقيت تعذبت، فالبهيمة إذا جاز قتلها لأنها تتعذب فالآدمي أعظم حرمة! فانظر كيف يقيسون؟! فإذا قرر الأطباء أنه ميت ومتعذب ومتضرر بهذا المرض؛ فليسقوه داءً وليحقنوه حقنات ويقضوا عليه، وهذا القضاء أرحم به، ويقولون: عند الطبيب رسالة وهي رحمة المريض، فحينئذٍ ينبغي أن يرحمه بهذا العقار الذي يقضي عليه ويريحه، ثم يريح أهله من عناء التكاليف المادية والعناء النفسي لمتابعته، هذه مبرراتهم.

    فنقول لهم: إن العلماء رحمهم الله لما أجازوا قتل البهيمة قيدوها بما إذا أكلت، ومعناه: أنها إذا لم تؤكل صار ضرباً من الفساد، والآدمي لا يؤكل، فإذاً الذبح كان متعلقاً لإفادة الغير، وأما الآدمي فلا يذبح ولا يؤكل، فإذا ثبت هذا سنقول: إن هذا الفهم جاء عوره من عدم النظر لضوابط العلماء، ولذلك قال المصنف: (إن أكلت) يعني: إن كانت تؤكل، وهذا قول يدل على أنه لا يجوز ذبحها إذا كانت مما لا يؤكل.

    فلو كانت عنده بهيمة لا تؤكل كالحمار -أكرمكم الله- ففي هذه الحالة يقال له: أنفق عليه أو بعه أو أجره، لكن لا يؤمر بذبح الحمار لأنه لا يؤكل.

    1.   

    الأسئلة

    حكم ضرب البهائم في السباق أو الحرث

    السؤال: هل ضرب البهائم للإسراع في السباق أو المضي في الحرث والعمل أمر جائز، أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    ضرب البهيمة لتسرع أجازه جمهور العلماء رحمهم الله، والمنصوص في كتبهم الجواز إذا وجدت حاجة، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما ضرب البهيمة.

    وفي حديث جابر في الصحيحين قال: (كنت أسير على جملٍ فأعيى، فجاءني النبي صلى الله عليه وسلم فنخسه - وفي رواية - فضربه، فسار سيراً حثيثاً) حتى إن جابراً عجز عن أن يكبح جماح البعير، وهذا من معجزاته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فرواية: (فضربه) أشكلت عند العلماء على حيث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بهيمة ولا ضرب إلا في سبيل الله).

    وأجيب برواية: (فنخسه بقضيبٍ)؛ لأنها مفسرة، وراية: (فضربه) مجملة، والقاعدة: أن المجمل محمولٌ على المبين المفسر.

    فضرب البهيمة للإسراع يجوز عند الحاجة وبقدر الحاجة؛ بشرط ألا يكون تعذيباً للبهيمة، فأجاز العلماء الضرب لكن شريطة ألا يكون تعذيباً.

    لكن إذا أسرعت وجاء يزيد في سرعتها حتى ربما يتسبب بحادث، وفي هذه الحالة لو ضربها عذبها؛ لأن هذه غاية ما في البهيمة، فإذا ضربها ازداد في تعذيبها، وأصبح عندها عذاب السير والضرب، ففي هذه الحالة يمنع، لكن لو كان عنده ظرف يحتاج معه إلى أن يسرع لحاجة، والبهيمة نزلت عليها السكينة فعطلت مصالحه فاحتاج إلى ضربها، فله أن يضرب ولا بأس، لكن يضرب الضرب المشروع دون أن يكون على سبيل التعذيب.

    إذاً يفصل: إذا كان قد ضره سير البهيمة، وكانت البهيمة متلكئة وإذا ضربت سارت فهي التي جنت على نفسها، أما إذا كانت تسير سيرها وتقوم بواجبها، وليس عندها تقصير؛ فهذا يكون ضرباً للأذية والإضرار، ولا يجوز تعذيب الحيوان والإضرار به من هذا الوجه.

    والعلماء نصوا على جواز ضرب البهائم في الحدود التي يحتاج إليها؛ لأنه قد يتعطل الإنسان عن مصالحه، وقد يحتاج إلى ضرب البهيمة لأنها قد تؤذي وتضر ولا يكبح جماحها إلا بالضرب، فتضرب، وهكذا الآدمي شرع الله الضرب له عقوبة، وشرع الله عز وجل الضرب عقوبة لضياع حقوق الله عز وجل وضياع حقوق الآدمي (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فإذا أتلفت البهيمة ضربت حتى تكبح جماحها.

    وهكذا في بعض الأحيان يهيج بعض الدواب ولا ينتهي كبح جماحها إلا بالضرب، فتضرب، فعلى كل حال يجوز الضرب عند الحاجة، لكن بشرط أن يقدر بقدر هذه الحاجة، وبشريطة ألا يوجد أسلوب بديل يكبح هذا الجماح، أو يحقق المصلحة التي يرجوها الإنسان من ضربه للبهيمة، والله تعالى أعلم.

    الجمع بين جواز إشعار البهيمة وحرمة أذيتها

    السؤال: أشكل علي عدم جواز الإضرار بالأذية، مع أن الإشعار فيه إيلامٌ لها؛ فأرجو التوضيح أثابكم الله؟

    الجواب: الإشعار فيه خلاف بين العلماء، والمانع منه سببه هذا؛ لأنه يقال: فيه تعذيب للحيوان، وتعذيب الحيوان ممنوع، نقول: إن الأصل أن يكون السؤال: هل البهيمة مخلوقة لنفسها، أو مخلوقة لغيرها؟

    قال الله: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13] فهي مسخرة للآدمي، ولمصالح الآدمي، وتنقسم إلى مصالح في عقد نفسه ومصالح بينه وبين ربه، فالذي خلق البهيمة أذن له أن يشعرها، وهذا شيء بسيط جداً، والإشعار تطيقه البهيمة، لكن لو جئت تنظر إلى أن الإشعار عذاب لها فركوبك فوق البعير أعظم إيلاماً من الإشعار.

    ولو جئت تقارن بين إشعار البعير مع ركوبك عليه الشهر والشهرين والثلاثة لوجدت أن الإشعار ليس بشيء، فلا يدخل الإنسان الأغلوطات على السنة، فهي واضحة، وهذا التعذيب لا يأتي شيئاً أمام المصلحة الشرعية المترتبة على هذا الإشعار، من توحيد الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه جل جلاله، فالعبد وما ملك ملك لله، ولكن الله سبحانه يجعله يتقرب إليه بهذا، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37] يعني: الإخلاص والتوحيد.

    سبحان الله! يأمر بهذا وهو أغنى ما يكون عن خلقه: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني).

    فالشاهد: أن هذا إيلام بسيط جداً لا يأتي شيئاً أما المصالح التي تفعلها هذه البهيمة، وهذه هي السنة، وما علينا إلا أن نرضى بما شرع الله عز وجل، وليس للعقل مجال أمام النقل، فالنقل ثبت بهذا، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قلد هديه وأشعره صلوات ربي وسلامه عليه؛ فتبقى السنة كما وردت، والله تعالى أعلم.

    صفة الإقعاء المنهي عنه في الصلاة

    السؤال: ما صفة الإقعاء المنهي عنه في الصلاة، أثابكم الله؟

    الجواب: الإقعاء فيه صفات اختلف العلماء رحمهم الله فيها، لكن من صفاته: الصورة الأولى: أن ينصب القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض بين القدمين المنصوبتين. هذه صورة.

    الصورة الثانية: أن يجلس جلوس الكلب -أكرمكم الله- فينصب ساقيه مع الفخذ ثم يرد يديه إلى الخلف، مثل الكلب إذا أقعى وجلس، وهذه صورة شبه متفق على تحريمها، وغالباً ما يفعلها البعض من الجهلة إذا أراد يقوم من الركعة الثانية أو الرابعة، فإنه يرجع ثم ينصب قدميه ويديه وراء ظهره، مثل الكلب يرحمكم الله حينما يجلس ينصب قدميه ثم يقعي، فهذا الإقعاء محرم.

    وورد عن بعض العلماء أن من الإقعاء نصب القدمين وجعل الإليتين على العقبين، وهذا من الإقعاء؛ لكن هذا ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فلعه، فرُخِّص فيه، واختلفت أقوال العلماء: منهم من رخص فيه في التشهد، ومنهم من خصها فيما بين السجدتين، هذا بالنسبة للإقعاء الذي اختلف العلماء رحمهم الله فيه، والله تعالى أعلم.

    جواز التعزية بالعناق والمصافحة

    السؤال: ما السنة في التعزية، هل هي بالمصافحة، أو المعانقة، أو بوضع اليد على الكتف، أثابكم الله؟

    الجواب: التعزية تكون بالمصافحة، وتكون بالمعانقة، لورود السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصافحة هي الأصل، وذلك بأن تصافح أخاك وتسلم عليه ثم تعزيه.

    والمعانقة تكون من الرحمة، ولذلك قرر الأئمة رحمهم الله أن العناق ينظر في سببه، فإذا وجد له سبب فهو مشروع، وإذا لم يوجد له سبب فهو ممنوع، ومن هنا قرر الإمام البغوي رحمه الله في شرح السنة: أن العناق يجوز عند حصول فرح، كأن تهنئ أخاك المسلم فتضمه إليك وتعانقه، فرحاً بنعمة الله عز وجل وخاصة نعمة الدين والطاعة، ويكون أيضاً عند الحزن تضمه إليك من أجل أن تشعره بأخوتك بقوته، وتطفئ ما في قلبه، ويكون أيضاً عند السفر إذا أراد أن يسافر تلتزمه وتعانقه، وإذا قدم من سفر، وقال: على ذلك جرت السنة.

    أما حديث: (لا عناق إلا من سفر) أولاً: فيه ضعف، وثانياً: حسن بالطرق لكن المحققون من أهل الحديث ذكروا أن هناك اختلافاً في الألفاظ يؤثر في التحسين، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يستشكل هذا.

    وأجيب عن ذلك بأن هذا الحديث لا يعارض ما هو أصح منه، لأن قوله: (لا عناق إلا من سفر) جاء من باب أن الشريعة قد تطالب بالكمال، فالمعنى أن أكمل ما يكون العناق من سفر، وهذا موجود في الشريعة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا ربا إلا في النسيئة) وليس المقصود بأن ربا الفضل جائز، وهنا ليس المعنى أن غير العناق من السفر محرم، وكقوله: (الحج عرفة) والمراد المبالغة في الشيء، وهذا واضح.

    ويدل لهذا ما في الصحيحين من قصة كعب بن مالك رضي الله عنه: أنه لما نزلت توبته وجاء بعد صلاة الفجرة ودخل المسجد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقام لي أبو طلحة فالتزمني فحفظت له هذا، وهذا يدل على مشروعية العناق عند وجود الموجب والسبب.

    ومثل القيام للداخل والزائر، كلها إذا وجد السبب فلا بأس فيه ولا حرج.

    وهذه الأمور بعض الأحيان تأتي عفوية بدون أن يكون الإنسان قاصداً أن العناق لمعنى أو اعتقاد، ولذلك تجد في بعض الأحيان أنك لا ترى أخاً أو قريباً لا قدر الله أصابه كربة أو نكبة إلا وتضمه إليك، فأنت لا تستطيع أن تملك نفسك، فهذا شيء ينبعث من النفوس من أسباب الرحمة، والفرح والحزن، لكن يحذر مما كان فيه غلو أو تكلف.. الشخص يعانق وبعد عشر دقائق يأتي يعانق مرة ثانية، يعانق أول النهار ثم يأتي آخر النهار ويعانق، حتى تكون كالشغل، فهذا التكلف والمبالغة لا أصل له؛ لأنها تحظر ويمنع منها، أما عند وجود السبب الموجب فلا بأس أن تضم أخاك إلى صدرك.

    أما وضع اليد على الكتف: فاختلف فيه العلماء رحمهم الله، ومن مشايخنا المتأخرين وغيرهم من يراه بدعة؛ لأن الأصل المصافحة والعناق، وبعض مشايخنا رحمة الله عليه يفصل فيه ويقول: إن لمس الكتف إذا كان أثناء الحزن.. إذا رأيت أخاك اشتد بكاؤه وعظم، فأمسكت بكتفه تصبره أو تثبته فلا بأس به، أما الذي يحدث من الوقوف وكل واحد يمر ويمسك كتف الثاني فهذا لا أصل له عند الكل.

    لكن إذا كان واقفاً على القبر ووجدته حزيناً، فتمسك بعضده أو بساعده تذكره؛ لأنك بالقرص والمسك كأنك تذكره بالصبر، وتذكره أن يتعزى ويتجلد، وفي بعض الأحيان قد تكون يده في يدك فتضغط عليها، هذه الأشياء يراد بها التنبيه فقط.

    أما الذي يفعل من الوقوف فيأتي يمسك كتف هذا ثم كتف هذا، فلا له أصل، ماذا يفعل بالكتف، المصافحة فيها فضيلة المصافحة، ومعناها الشرعي، ولها أصل في السنة، وتتحات بها الخطايا، فهذا هو المنضبط، والحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه خير، وكذلك ترك هذه الأمور التي لا يسمح بكونها أموراً في شرع الله عز وجل، وإنما يجارون بها عاداتهم وتقاليدهم.

    وانظر إلى الأمر العجيب الغريب؛ فلو جئت إلى قوم يمسكون ويعزون بالأكتاف وقلت لهم: لا تفعلوا هذا. أنكروا عليك، فهذا يزيدها بدعة، لأن التشبث والتمسك بها والإصرار عليها يجعلها كالسنة، وكالأمر المعتقد فيه، وهذا ما يسميه العلماء بدلالة الحال؛ لأن الشخص في بعض الأحيان يأتي بدلالة الحال، وإن لم يقل: أنا أعتقد أنها سنة، لكن الإصرار والحرص عليها، وأنه لا يمكن أن يتركها؛ لا شك أنه يشكك في أمره.

    أما إذا كان واقفاً مع أخيه على القبر وتوفي والده أو قريبه، ثم أراد أن يسليه فأمسك بيده، أو رأى أن الحزن قد اشتد به، فشده كأنه يذكره بالله عز وجل، ويذكره بالصبر عند المصيبة، فهذا الإمساك لا بأس به ولا حرج، والله تعالى أعلم.

    ما ورد من الدعاء بين العلمين في الصفا

    السؤال: هل ورد بين العلمين دعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أثابكم الله؟

    الجواب: لا أحفظ في هذا شيئاً صحيحاً مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول بين العلمين: (رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم؛ إنك أنت الأعز الأكرم) وهذا استحبه بعض العلماء رحمهم الله لوروده عن السلف، وأشار إليه بعض الأئمة.

    ثم لا شك أن أدعية الصحابة رضوان الله عليهم من جوامع الدعاء، وبعضها قد تكون فيه سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي الصفا حفظ هذا عن عبد الله بن مسعود ، ولذلك استحب بعض العلماء هذا الدعاء.

    وكذلك استحب بعضهم الدعاء على الصفا بما كان من دعاء عبد الله بن عمر : (اللهم إنك قلت وقولك الحق: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم كما رزقتني الإسلام فأسألك أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني عليه). وهذا من أعظم الدعاء.

    وكان من دعائه كما في الصحيح: (اللهم حببني إليك، وحببني إلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وإلى خلقك، اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين)، وأشار إلى هذا شيخ الإسلام رحمه الله في شرح المناسك لوروده عن السلف، والصحابة وهم خيار سلف الأمة بعد نبينا صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين، والله تعالى أعلم.

    حكم الجمع بين الصلاتين إن كان سيصل قبل دخول وقت الثانية

    السؤال: هل يجوز للمسافر القادم إلى مكة جمع صلاة العشاء مع صلاة المغرب وهو يعلم أنه سوف يصل إلى مكة قبل العشاء، أثابكم الله؟

    الجواب: إذا كنت في السفر وأردت أن تجمع بين الصلاتين وأنت راجع إلى موطنك، فيشترط أن يدخل عليك وقت الثانية قبل وصولك إلى البلد، فإذا كنت راجعاً إلى مكة فيشترط أن يؤذن عليك أذان العصر وأنت في السفر، ولو قبل دخول مكة بدقائق، لأنه إذا أذن عليك الأذان وأنت في السفر وجبت عليك الصلاة ركعتين، وأما إذا أذن عليك بعد دخولك مكة، فقد وجبت عليك أربعاً وأنت قد صليت ركعتين.

    ومن هنا قرر العلماء والأئمة رحمهم الله أن شرط صحة جمع التقديم أن يستمر العذر إلى دخول وقت الثانية، فإذا لم يستمر إلى دخول وقت الثانية فإنه أذن لك أن تصلي الرباعية الأولى ركعتين ولم يؤذن لك بقصر الرباعية الثانية وهي العصر، ومن هنا كان لابد من دخول وقت الثانية والعذر باق، فإذا لم يدخل فإنه لا يصح الجمع، ويجب عليك إعادة صلاة العصر على أصح قولي العلماء رحمهم الله، وهو مذهب الجمهور، والله تعالى أعلم.

    اشتراط التتابع في الصيام في كفارة اليمين

    السؤال: هل يشترط التتابع في الصيام عن كفارة اليمين، أثابكم الله؟

    الجواب: في هذه المسألة قولان للعلماء، وجمهور العلماء على أنه لا يشترط التتابع؛ لأن الله تعالى أمر بصيام ثلاثة أيام فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89] فآية المائدة مطلقة، ولم تبين وجوب التتابع في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين، وذهب الحنابلة رحمهم الله إلى وجوب التتابع واستدلوا بقراءة عبد الله بن مسعود : (فمن لم يستطع فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فقالوا: إن هذا يدل على أنه يجب التتابع في صيام الثلاثة الأيام في الكفارة.

    وهذه المسألة أصولية؛ أعني: هل يجوز الاحتجاج بالقراءة الشاذة في إثبات الأحكام أو لا؟

    وإذا قلنا قراءة شاذة فليس فيها انتقاص للقراءة، لأن الوصف للأقوال والقراءات بالشذوذ المراد به عدم جريان العمل عليه، فالقراءة الشاذة لا يقرأ بها؛ لأنها نسخت في العرضة الأخيرة.

    وضوابط الشذوذ في القراءات معرفة: ومنها مخالفة اللغة، والرواية، وهذا أمر يقرره أئمة القراءات.

    أما من حيث الاحتجاج بالمتن فالأشبه أنه يصومها ثلاثاً متتابعات، ويحرص على التتابع فيها، وهذا أسلم، ويكون ورود العرضة الأخيرة بغير تقييد: (فصيام ثلاثة أيام) لا ينقض الأصل الذي جاء في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فهذه المسألة القول بالتتابع فيها قوي جداً، فيأخذ بها المسلم ويحرص على صيام أيام الكفارات متتابعات.

    لكن الإشكال الذي ينبغي التنبيه له، وتنبيه الناس عليه: أن بعض العوام يعتقد أنه إذا حلف في يمين أن عليه أن يصوم ثلاثة أيام مباشرة، والواقع أن صيام الثلاثة الأيام لم يوجبه الله سبحانه وتعالى إلا عند العجز، وكفارة اليمين جمعت بين التخيير والترتيب، فهي في خصالها الأولى وهي: عتق الرقبة، وأن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم تخييرية، إذا فعل واحدة من هذه الثلاث الخصال أجزأه، سواء قدر على غيره أو لم يقدر.

    وأما الخصلة الأخيرة: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ [المائدة:89] فتدل على وجوب الترتيب، واشتراط العجز، لأنه لما علقها بفقدان الاستطاعة دل على أنه لا يصح له أن يصوم الثلاثة الأيام إلا عند عجزه عما تقدم، فبناءً على ذلك يجب عليه أن يراعي الترتيب، فإذا صام الثلاثة الأيام وهو قادرٌ على إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؛ فإنه لا يصح صيامه ولا يجزيه، ويعتبر صيام نافلة، ويجب عليه أن يعتق إن وجد الرقبة، أو يطعم العشرة مساكين أو يكسوهم، وهذا محل إجماعٍ بين العلماء رحمهم الله، أعني أنه لا يجوز صيام الثلاثة الأيام متى قدر على واحدة من الثلاث الخصال: العتق أو إطعام العشرة المساكين أو كسوتهم، والله تعالى أعلم.

    حكم الدعاء بأمور الدنيا في مواطن إجابة الدعاء

    السؤال: ما حكم الدعاء في أمور الدنيا في مواطن إجابة الدعاء أثناء الصلاة، أثابكم الله؟

    الجواب: الدعاء بأمور الدنيا جائزٌ على أصح قولي العلماء، ولا بأس للمسلم أن يدعو بدفع مكروه دنيوي، أو تحصيل أمرٍ دنيوي في صلاته، خلافاً للحنابلة رحمهم الله، واستدل الحنابلة على المنع بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الصلاة لا يصح فيها شيءٌ من كلام الناس) قالوا: وأمور الدنيا من كلام الناس.

    واستدل الجمهور بالأحاديث الصحيحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من المغرم والمأثم) والمغرم الدَّين، وهو من أمور الدنيا.

    وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر دعائه: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) وهذا يشمل جميع ما فيه الخير من أمور الدنيا، ولذلك اعتبر من جوامع دعائه، فالصحيح أنه لا بأس أن يدعو.

    وأقوى الأدلة للجمهور على هذه المسألة، قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء)يعني بعد التشهد، وهذا عام، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، وليس هناك ما يدل على التخصيص، وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصح فيها شيء من كلام الناس) إنما جاء في مواضع الذكر المخصوصة؛ لأن صورة السبب قطعية الدخول في الحكم، فهذا ليس له علاقة بالدعاء لأن له أصلاً دل عليه، وإذا تعارض الأصل العام مع الأصل الخاص قدم الأول، وقوله: (ثم ليتخير من المسألة ما شاء)جاء بياناً لأصلٍ خاص وهو الدعاء، وأما قوله: (لا يصح فيها شيء من كلام الناس) فجاء على سبيل العموم، فيقدم هذا الخاص الوارد في أصل المسألة وهي الدعاء في أمور الدنيا، وهو الأشبه والأرجح إن شاء الله.

    ولكن من الحرمان أن يدعو الإنسان في الأماكن الفاضلة التي ترجى فيها الإجابة بالدنيا، ومنها الدعاء أدبار الصلوات، ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام: (أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، وأدبار الصلوات المكتوبة) فأدبار الصلوات أماكن ترجى فيها الإجابة، فيخصها الإنسان بالدعوات العظيمة، وأن تكون همته للآخرة، ولذلك عجب الله من قومٍ دعوا بالدنيا فقال: وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200].

    فالمنبغي أن الإنسان يتشوف إلى ما هو أعظم، ولا مانع أن يسأل الله في الدنيا الحسنة، وبذلك أقول: إنه ينبغي للمسلم أن يتخير لهذه الأماكن الفاضلة ما يناسبها من جوامع الدعاء وخير الدين والدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.

    صلاة المسبوق في الجنائز

    السؤال: فاتتني بعض التكبيرات في الصلاة على الميت، فوجدت الإمام في الدعاء، فكيف أتم الصلاة، وهل صلاة الجنازة تقضى، أثابكم الله؟

    الجواب: هذه المسألة فيها وجهان للعلماء مشهوران، فبعض العلماء يقول: إذا دخلت مع الإمام فإنك تعتبر بحاله، فإذا دخلت في تكبيرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وتسقط عنك الفاتحة، وإذا دخلت مع الإمام وهو يدعو، فإنك تدعو وتسقط عنك الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من حيث الأصل أقوى.

    وبعضهم يقول: إن صلاتك مع الإمام تعتبر فيها حالك، فتبدأ بقراءة الفاتحة ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو إن وسعت تكبيرة الدعاء، وهذا مبني على قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) فلما عبر عليه الصلاة والسلام بقوله: (أتموا) دل على أن صلاتك مع الإمام هي الأولى، وإذا كانت صلاتك مع الإمام هي الأولى فمعنى ذلك أنك لا تتقيد به، لأنك إذا أدركته في الركعة الأخيرة -من الظهر مثلاً- وهي الأولى بالنسبة لك؛ قرأت الفاتحة وسورة على هذا القول، وكذلك إذا أدركته في العشاء، فإنك تقرأ الفاتحة وسورة، ولكن لا تجهر لمكان المتابعة، لأنه لا تجوز المخالفة الظاهرة في القول والعمل.

    وبناءً على ذلك فالأمر مثلما ذكرنا: أن المذهب الذي يقول تدخل بحال الإمام، أشبه من حيث الأصل، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تختلفوا عليه) وبناءً على ذلك لو دخل مع الإمام على حاله كان أشبه، فإن ترجح عنده القول الثاني ودخل بأنه مبتدئ، فدخل بقراءة الفاتحة ثم كبر التكبيرة الثانية وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فله وجه.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756012842