إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [3]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من موجبات النفقة على شخص أن يكون المنفق من الوارثين، وتكون هذه النفقة بقدر ما يستحق من الميراث، ومن وجبت عليه نفقة شخص وجبت عليه نفقة من يعول؛ ولا نفقة عند اختلاف الدين إلا بالولاء أو الوالدين. وتلزم الوالد نفقة ولده، ومن ذلك أجر المرضعة، ولو طلبت أمه إرضاعه بأجرة المثل فلها ذلك، ولا يصح منعها لأنها أولى به.

    1.   

    إذا كان القريب الحاجب معسراً والمحجوب موسراً لم تجب النفقة على أحدهما

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن له ابن فقير وأخ موسر؛ فلا نفقة له عليهما ].

    تقدم أن الوارث يقوم بالنفقة على قريبه، وأن الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهو أقوى القولين عند أهل العلم رحمهم الله: أن النفقة تكون مقدرة على حسب الإرث، وأن هذا متفق مع أصول الشريعة؛ لأن الغنم بالغرم، فكما أنه ينال من مورثه قدر تلك الحصة فينبغي أن يتحمل من نفقته قدرها، والوارث له حالتان:

    الحالة الأولى: أن يرث فرضاً أو تعصيباً.

    والحالة الثانية: أن يكون محجوباً.

    وبناءً على ذلك شرع المصنف رحمه الله في تفصيل الحكم بكون الوارث ينفق على قريبه على حسب الميراث؛ إذ يتفرع على هذا الحكم أنه لو اجتمع شخصان أحدهما يحجب الآخر، فهل تجب النفقة عليهما بناءً على أنهما من الورثة من حيث الوصف العام، أم أننا نطبق قواعد الإرث ونقول: يحجب الأقرب الأبعد، فتجب النفقة على الأقرب ولا تجب على الأبعد؟

    والثاني هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، واستثنينا من هذا عمودي النسب، وبيّنا وجه الاستثناء وذلك في مسألة الجدة.

    وبيّن رحمه الله مثالاً على القريب الذي يحجب قريبه، فقال: [فإن كان له ابن فقير وأخ موسر] فاجتمع اثنان من الورثة أحدهما الابن والثاني الأخ، وكلٌ من الابن والأخ ميراثه بالتعصيب.

    لأن الإرث ينقسم إلى فرض وتعصيب، فأصحاب الفروض فروضهم مقدرة في كتاب الله عز وجل، وهي الستة الفروض المنصوص عليها: النصف، ونصفه وهو الربع، ونصف نصفه وهو الثمن، والثلثان، ونصفهما وهو الثلث، ونصف نصفهما وهو السدس، فمن كان يرث فرضاً وله النصف يتحمل نصف النفقة، فلو كان هناك فقير وله وارث وجبت النفقة على هذا الوارث، وإذا كان يرث النصف فإنه يجب عليه أن ينفق عليه نصف نفقته، ولو كان له وارث يرث الربع فكذلك، ولو كان له وارث يرث الثلثين أو الثلث أو السدس فكذلك، وقد تقدم ذلك في مسألة الجدة.

    واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما

    فالفرض في نص الكتاب سته لا فرض في الإرث سواهما البته

    نصف، وربع ثم نصف الربع والثلث والسدس بنص الشرع

    والثلثان وهما التمام فاحفظ فكل حافظ إمام

    هذا بالنسبة للفروض المقدرة، نجعل وجوب النفقة فيها على حسب قدر الإرث.

    وإذا كان تعصيباً يأخذ الباقي، إن كان معه ذو فرض حكمنا بوجوب النفقة عليه على قدر حصة ذي الفرض، ثم الباقي وهو الواجب بعد الفرض يكون للعصبة.

    فالأخ والابن من العصبة، والابن لو انفرد أخذ المال كله، والأخ لو انفرد أخذ المال كاملاً كما هو معلوم، فلو اجتمع ابن وأخ، وكان الابن فقيراً والأخ موسراً، فالسؤال: أن الأخ لا يرث مع وجود الابن، والأصل في النفقة أنها واجبة على الابن؛ لأن الابن يحجب الأخ.

    فالذين يرثون بالتعصيب العصبة من جهة الأصول وفروع الأصول، وأيضاً تكون من جهة الفروع، والعاصب يكون الأب وأباه وإن علا، والأخ الشقيق والأخ لأب، وابن الأخ الشقيق وابن الأخ لأب، والعم الشقيق والعم لأب، وابن العم الشقيق وابن العم لأب، فهؤلاء هم عصبة الإنسان القرابة الذين لو انفرد أحدهم أخذ المال كله، فلو مات ولم يترك إلا ابن عم شقيق فإنه يأخذ المال كله، فلو افتقر وليس له إلا ابن عم شقيق أوجبنا عليه جميع النفقة؛ لأنه عاصب لو انفرد أخذ المال كله.

    حتى لو اجتمع العصبة مع الغير مثل الابن مع البنت، فلو أن والداً افتقر وعنده ابن وبنت، فمذهب الحنابلة رحمهم الله أنه لو افتقر الأب وعنده بنت وابن ويحتاج إلى ثلاثين ريالاً، أوجبنا على الابن العشرين وعلى البنت العشرة، على قدر حصصهم من الإرث.

    وهناك مذهب يقول: إنه لا تجب على البنت النفقة، وإذا اجتمع الذكر والأنثى غُلب جانب الذكر، وهذا لحكمة من الله عز وجل، أن جعل الكسب والنفقة في الأصل واجباً على الذكور، وهذا هو أحد الأوجه عند الشافعي رحمه الله، لكن الصحيح أن الله تعالى قال: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] فأوجب نفقة الرضيع على الوارث، وجعل صفة الميراث مؤثرة في الإيجاب فقال: (وَعَلَى الْوَارِثِ)، فإذا كان الأمر كذلك وجب أن نجعل نصيب الوارث في النفقة على قدر نصيبه من الإرث.

    في مسألتنا هنا مثل المصنف رحمه الله بمثال، وهو: أن يجتمع اثنان من الورثة كلٌ منهما لو انفرد لوجبت عليه النفقة كاملة وهما الابن والأخ، وكلٌ منهما لو انفرد لأخذ المال كله، فلو مات وليس له إلا ابن ذكر فإن الابن يأخذ المال كله تعصيباً، ولو مات وليس له إلا أخ فإنه يأخذ المال كله تعصيباً، هنا يرد السؤال: إذا كان الابن -وهو الأقرب- معسراً وليس عنده قدرة على النفقة، والأخ -وهو الأبعد- موسراً وعنده قدرة على النفقة، فعلى من تكون نفقة الرجل؟

    إذا طبقت أصول الميراث فإن الابن يمنع الأخ من الميراث الذي يسمى في مصطلح الفرائض بالحجب، والحجب حجب نقصان وحجب حرمان، فحجب النقصان مثل الابن يحجب الزوجة حجب نقصان فيجعلها بدل أن تأخذ الربع تأخذ الثمن، لكن لا يحجبها بالكلية، وحجب الحرمان يمنع الوارث غيره بالكلية فلا يرث، والحجب بين الابن والأخ من حجب الحرمان؛ لأن العصبة تقدم بالجهة ثم القرب ثم القوة.

    فبالجهة التقديم ثم بقربه وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا

    فالعصبة يقدمون على هذا الترتيب، فالابن لو اجتمع مع الإخوة الأشقاء أو الإخوة لأب حجبهم حجب حرمان، وهنا النفقة واجبة في الأصل على الابن، ووجوده يمنع إرث الأخ فيسقط النفقة عن الأخ، فبعض العلماء يقول: ما دام أنه فقير ينتقل الحكم إلى الأخ؛ لأنه موسر، ويكون وجود الابن وعدمه على حد سواء.

    وفي الأصول الشرعية أنك إذا اعتبرت أصول الميراث فإنه يسقط وجوب النفقة عن الأخ لوجود الابن، ويسقط وجوب النفقة على الابن لكونه معسراً، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286] وقد ذكرنا أننا لا نحكم بوجوب النفقة على القريب إلا إذا كان قادراً، والابن غير قادر فتسقط النفقة عنه وعن الأخ.

    وفي هذا الحال إذا سقطت عن الوارث فإنها تنتقل إلى بيت مال المسلمين على تفصيل آخر، لكن من حيث الأصل فإن المصنف قصد من هذا المثال أن يبين أنه إذا اجتمع الوارثان وأحدهما يحجب الآخر، وكان الحاجب لم يتوفر فيه شرط وجوب النفقة سقطت النفقة عنهما: سقطت عن القريب الأقرب لكونه معسراً ولعدم تحقق الشرط فيه، وسقطت عن الأبعد لوجود الأقرب.

    1.   

    وجوب النفقة على الجدة إن أعسرت الأم

    قال رحمه الله: [ومن أمه فقيرة وجدته موسرة؛ فنفقته على الجدة].

    هذا من باب أنه يستثنى عموداً النسب؛ لأن النفقة متأصلة فيهما، فنفقة الفرع لازمة على الأصول، وقد بينا هذا وبينا دليله وإجماع العلماء على أن الولد يجب على والده أن ينفق عليه.

    في المثال السابق حجب الابن الأخ، وهنا الأم تحجب الجدة؛ لأن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إن وجدت، والجدة تدلي بواسطة الأم، والأم تحجب الجدة بالإجماع، وبناءً على ذلك لو كانت الأم فقيرة والجدة موسرة فنقول: ينتقل وجوب النفقة إلى الجدة، وهذا مستثنى من الأصل الذي ذكرناه؛ لأن عمودي النسب تجب عليهم النفقة على الأصل الذي ذكرناه، وهذا خاص بعمودي النسب، فيجب على الجدة أن تنفق على ذلك الولد.

    1.   

    النفقة على القريب المعسر وعلى من تلزمه نفقته

    قال رحمه الله: [ومن عليه نفقة زيد؛ فعليه نفقة زوجته].

    قرر رحمه الله النفقة، وبين على من تجب، وشرط وجوبها، وبيَّن إذا كانت تجب على الوارث ما الحكم عند ازدحامهم وحصول حجب من بعضهم لبعض.

    ثم شرع رحمه الله في مسألة تنبني على مسألة النفقة، وهذا كما ذكرنا من التسلسل في الأفكار والترتيب المنطقي، فإن الفقه الإسلامي يمتاز بالشمولية؛ وهو أنه لا يقتصر على بيان الأصول، بل يبين الفروع المبنية على الأصول، فالسؤال الآن:

    إذا وجبت النفقة على الوارث لوجود السبب الموجب في المورث الذي ينفق عليه وهو عجزه، فهل يختص إنفاقه على ذلك القريب نفسه فقط، أم أنه يلتحق بهذا القريب من لزمته نفقته وحاجته اللازمة الضرورية؟

    هذه المسألة مفرعة على الأصل الذي ذكرناه: هل أنت مطالب بالنفقة على القريب؟

    لو فرضنا وجود شخص مات وترك ابناً رضيعاً، وهذا الابن الرضيع ليس له وارث غير فلان فأوجبنا النفقة عليه، لكنه يحتاج إلى مرضعة، فهل نقول: يجب عليك أن تنفق على المرضعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]؟

    فهذا والد الطفل أوجب الله عليه النفقة، ثم بين حال موت الوالد فقال: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه إذا مات شخص وله قرابة وترك أولاداً واحتاجوا إلى النفقة عليهم والاسترضاع لهم؛ وجبت نفقة الرضاعة على القريب الوارث، فإذا كانت نفقة المرضعة واجبة على القريب؛ فهذا تنبيه من الشرع أن الأشياء اللازمة لهذا القريب الذي تنفق عليه لازمة عليك أيضاً بالتبع، ولا يقتصر الأمر على أن تنفق عليه فقط، بل إن من يعول ومن تلزمه نفقته يجب عليك أن تنفق عليهم بالمعروف، وهذا لأن الآية نصت على وجوب الاسترضاع على الوارث، مع أن الأصل يقتضي أن ننفق عليه.

    قال رحمه الله: [ومن عليه نفقة زيد فعليه نفقة زوجته كظئر لحولين].

    إذا كان هناك شخصان بينهما قرابة موجبة للنفقة، فالأصل يقتضي أن ينفق أحدهما على الآخر إذا كان معسراً، فلو كانت عنده زوجة وأولاد واحتاجوا للنفقة، فإنه ينفق عليهم أيضاً إذا كان ماله يسع ذلك، وقد ذكر المصنف رحمه الله في الأصل هذا فقال: [كالظئر].

    أي: وذلك كما أن الله أوجب علينا أن ننفق على الرضيع نفقة إرضاعه فقال: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] فأوجب على الوارث أن يعطي نفقة المرضعة، وهذا يقول به بعض العلماء، ويرى أنه يجب عليه أن ينفق على زوجه؛ ولأنه لو أنفق عليه ولم ينفق على زوجه لم يقم بحاجته ولم يسد له الحاجة، ولذلك فهو يحتاج النفقة عليه وعلى من تلزمه نفقته.

    قوله: (كالظئر لحولين) فائدة المتون اختصار المسائل وإدخال بعضها على بعض، والتنبيه على الفروع المبنية على الأصول، والتنبيه على الأصول التي ينبني عليها غيرها، ومن هنا تظهر قوة العالم والفقيه في صياغة المتن، والبعض لا يحسن فهم مقصود العلماء من هذه المتون، ولذلك يقول: إنها تخلو من الأدلة.

    والمراد من هذه المتون صياغة الأحكام المستنبطة من الأدلة؛ أما الأدلة فلها كتب متخصصة، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، ولذلك لما قال: (كالظئر) أشار إلى الأصل الذي بُني الدليل عليه، وهو النفقة على المرضع؛ فإن الله عز وجل أوجب على الوارث أن ينفق على المرضعة، فإذا نظر الفقيه في ذلك فهم أن الواجب أن تنفق على الرضيع، لكن لما كان ذلك لازماً له وضرورياً صار كالنفقة عليه.

    وأجاب بعض العلماء عن هذا الدليل وقال: إن الأصل أن تنفق بالطعام والكسوة، والاسترضاع نوع من الطعام، فهو لم يخرج عن الأصل، فأوجب النفقة عليك بالنسبة للقريب فقط، وأما من تلزمه نفقته فلا يوجب عليك نفقته، هذا اختيار بعض العلماء رحمهم الله، وهو من حيث الأصل أقوى، يعني: لا شك أن الأصل أن الواجب أن تنفق على الشخص نفسه.

    1.   

    لا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء

    قال رحمه الله: [ولا نفقة مع اختلاف دين إلا بالولاء].

    هذا الحكم وهذه المسألة نحتاجها بين المسلمين وغير المسلمين، كما كان يقع في البلدان الإسلامية، حيث يكون أهل الذمة فيسلم الذمي وقرابته تحت حكم الإسلام ويكون فقيراً، فلا نوجب نفقة مع اختلاف الدين، وتجب نفقة هذا المسلم الذي ليس له قريب مسلم من بيت مال المسلمين، ويصبح المسلمون هم أولياءه الذين ينفقون عليه، كما أنه لو مات ورثه بيت مال المسلمين.

    وهكذا تصان الحقوق في الإسلام، فليست بالدعاوى ولا بالتشهي ولا بالتمني، ولكنها حقائق مبنية على أصول، هذا مع أنه كان كافراً ثم أسلم ودخل بين المسلمين، فصار منهم وأخذ حكمهم وكأنه لبنة من هذا البناء.. له ما لهم وعليه ما عليهم، فيكون معهم كالجسد الواحد، فلو أنه افتقر أنفقوا عليه، ولو أنه مات وعنده مال رد إلى بيت مال المسلمين.

    لا يجب الإنفاق بين المسلم والكافر، ولو أن هذا الذي أسلم له قرابة كفار تحت حكم الإسلام كالذميين، فلما أسلم افتقروا وقالوا: هذا قريبنا فلينفق علينا، فلا يحكم المسلمون لهم بالنفقة، ويقولون: اختلاف الدين يمنع من وجوب النفقة؛ لأن اختلاف الدين يمنع من الإرث؛ لأن من موانع الإرث اختلاف الدين؛ فلا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: (أين تنزل غداً؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من دار؟)، وهذا الحديث أصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قرابته للإسلام، وأبى من أبى منهم، بقي عقيل وتأخر إسلامه، فورث الكفار من قرابته، وأخذ هذه الأموال وباعها، ثم أسلم عقيل فحاز خير الدين والدنيا، ولم يرث النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء القرابة الكفار.

    وفي الحديث الصحيح أنه قال: (لا يرث المسلم الكافر) فلا توارث بين المسلمين والكفار، لذلك يعتبر من موانع الإرث اختلاف الدين، قال الناظم:

    ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث

    رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين

    فاختلاف الدين يمنع الإرث والنفقة، لكن يستثنى من ذلك نوعان:

    النوع الأول: الولاء، فإن الرقيق ينفق عليه مولاه ولو اختلف الدين، والأصل فيه حديث الدارقطني ؛ استثنى الرقيق بوجوب النفقة ولو كان كافراً؛ لأنه معلوم أن السبب هنا بين السيد وعبده ليس كالسبب بين القريب وقريبه، ولذلك استثني.

    النوع الثاني: الوالدان، لو كان له والدان كافران هل ينفق عليهما أولا ينفق؟

    الصحيح أنه يجب عليه أن ينفق على والديه الكافرين، وهو اختيار مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأن النصوص التي وردت بالأمر بالإحسان إلى الوالدين وبرهما نزلت في الكفار: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] وليس من المعروف أن يكون غنياً ووالداه محتاجين فقيرين ولا ينفق عليهما، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء أن تحسن إلى أمها وأن تبرها.

    فالوالدان يستثنيان من هذا، فيجب على الولد أن ينفق على والديه ولو كانا كافرين؛ لأن النصوص وردت في الكفار، وهما مستثنيان من الأصل الذي ذكرناه.

    وبناءً على ذلك نقول: الوارث والقريب من غير الوالدين أوجبنا النفقة عليه لقوله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233] لكن الوالدين استثنيا من هذا، ولذلك يجب على الوالد لو انفرد تحمل النفقة كاملة، وكذلك أيضاً بالنسبة لوجود الكفر يجب عليه أن ينفق على والديه وأن يقوم بالإحسان إليهما:

    لأن النصوص التي أمرت بالإحسان إلى الوالدين في الأصل إنما نزلت في الكافرين.

    ولأن الوالد ذكراً كان أو أنثى له حق عظيم وفضل كبير، والله عز وجل لم يمنع الولد من رد هذا الجميل والمعروف؛ لأنه أنفق عليه حتى كبر وشب.

    فاستثني الوالدان لأمور: أولاً: لورود النصوص، وثانياً: لأن المعنى الموجود في الوالدين يخالف غير الوالدين من بقية الورثة.

    1.   

    وجوب الاسترضاع وأجرته على الوالد

    قال رحمه الله: [وعلى الأب أن يسترضع لولده ويؤدي الأجرة]

    بمعنى: أن على الوالد أن يطلب من يرضع ولده، وإذا طلب المرضعة فعليه أن ينفق عليها بالمعروف، لقوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] فأمر الله عز وجل المولود له وهو الوالد أن يقوم على نفقة ولده، وأن يتعهد حاجته إلى الرضاعة بالاسترضاع.

    فبين رحمه الله وجوب الاسترضاع على الوالد، وهذا مجمع عليه بين العلماء، لورود نص آية البقرة على وجوب الاسترضاع للولد، ولا يجوز للوالد أن يضيع ولده بحرمانه من الرضاعة؛ لأنه إذا حرم من الرضاعة فإنه يموت، وهنا ننبه على الوقت الذي يطلب فيه الوالد امرأة ترضع ولده.

    إذا كانت الأم موجودة وقالت: أنا أرضع ولدي فلا إشكال، فهي أحق بإرضاع ولدها، لكن الإشكال إذا ماتت الأم أو طُلقت وتزوجت من الغير، أو تحولت عن البلد التي هي فيه، أو كانت مريضة لا تستطيع الإرضاع؛ فحينئذٍ لو ترك الولد سيموت؛ لأنه لابد له من الرضاعة، لينشز بها عظمه وينبت بها لحمه.

    فإذا كان لابد له من الرضاعة فإن المسئول عن هذه الرضاعة في تكاليفها وطلب المرضعة هو الأب، فيجب عليه أن يطلب من يرضع هذا الصبي.

    وفي هذه الحالة يجب عليه أن ينصح، فقد يجد من المرضعات من هي أقل ثمناً وأقل كلفة، ولكنها أضعف، وقد يضر لبنها الصبي؛ فلا يجوز له في هذه الحالة أن يغلب مصلحة المادة على مصلحة الصبي، كما هو موجود الآن في زماننا في شراء الحليب الذي يحتاجه الطفل، إذا كان نوعاً رديئاً ونوعاً جيداً فيجب عليه أن ينصح ويتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن هذه النفس المحرمة أمانة في عنقه، وهو مسئول أمام الله عز وجل عنها، فيسترضع المرأة التي يحسن رضاعها.

    ولذلك كانوا يشددون في الرضاعة، وقد بينا في كتاب الرضاعة أن المرأة التي ترضع قد يفسد الولد بسبب لبنها من سوء أخلاقها، ولذلك نهى السلف كـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره من الصحابة من الرضاعة من الفاجرات؛ لأن الأخلاق تعدي.

    وينبغي عليه أن ينصح في هذه الرضاعة لعل الله أن يوفقه للقيام بحقه على أتم الوجوه فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] فأوجب على الوالد أن يدفع أجرة الرضاعة للمرضعة، وبين المصنف رحمه الله أن المسئول عن هذه النفقة هو الوالد.

    1.   

    حق الأم في الرضاع

    قال رحمه الله: [ ولا يمنع أمه إرضاعه ].

    أي: ولا يمنع الوالد أم الولد من إرضاع الولد، فلو قالت الأم: أريد أن أرضع ولدي؛ فهي أحق به وأولى.

    فلا يمنعها أن ترضع ولدها، ولو وجد الغير الذي سترضعه من قرابته أو من تتبرع ولو مجاناً، أو تزوج امرأة فقالت: أنا أرضع ولدك ولا أريد منك شيئاً، وقالت أم الولد: أنا أرضعه؛ فهي أحق وأولى ولا يمنعها إرضاع ولدها.

    حالات إلزام الأم إرضاع ولدها

    قال رحمه الله: [ ولا يلزمها إلا لضرورة كخوف تلفه ].

    أي: لا يجب على الأم أن ترضع ولدها إلا لضرورة، ومن أمثلة الضرورة: أن لا يقبل الولد ثدياً غير ثديها، بعض الأولاد تكون عندهم حساسية ولا يمكن أن يقبل غير ثدي أمه، وهذا من الله سبحانه وتعالى كما وقع لموسى عليه السلام: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12] فكلما جاءت امرأة لم يقبل ثديها.

    فإذا امتنع ولم يقبل النساء الموجودات وقالت أمه: لا أرضعه، فطلبها زوجها الذي هو والد الطفل فقال: أرضعي ولدكِ واتقي الله في ولدكِ، فقالت: لن أرضعه، فهنا يجبرها القاضي على إرضاعه؛ لأن إنقاذ هذه النفس المحرمة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذلك قال: (ولا يلزمها إلا لضرورة)، وهي أن يمتنع الولد أو لا يوجد من يرضع هذا الصبي غير هذه الأم، فيجب عليها أن ترضع هذا الصبي.

    حكم طلب الأم أجرة إرضاع ولدها

    قال رحمه الله: [ولها طلب أجرة المثل].

    أي: من حقها أن تطلب أجرة مثلها، فإذا أرضعته حولين، نظرنا لو أن مرضعة أجنبية أرضعت هذا الولد كم ستأخذ في الحولين؟ فنعطيها أجرة المثل، فلو طلبت أكثر من أجرة المثل لم يجب على الوالد أن يعطيها تلك الأجرة، وإنما تتقدر الأجرة بالمعروف.

    قال رحمه الله: [ولو أرضعه غيرها مجاناً].

    أي: أنها أحق بإرضاع ولدها، ولو أرضع الولد غيرها مجاناً، ولها أن تطلب الأجرة، ولو وجد من يقول: أنا متبرع بإرضاعه؛ لأنه لا شك أن مصلحة الولد في الرضاعة من أمه أعظم، والأم أنصح لولدها وأكثر محافظة عليه، ولذلك هي أحق، وإذا كانت هي أحق فلو وجدت امرأة وقالت: أنا أرضع لك ولدك مجاناً والولد يقبل ثديها، فقالت الأم: أنا أريد أن أرضعه فهي أحق، ونقول للوالد: أنفق عليها بأجرة مثلها.

    فلو قال: أنا عندي من يتبرع، نقول: وجود هذه المتبرعة لا يسقط حق الأم ولو طلبت الأجرة، ولذلك قال تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [الطلاق:6] فأمر الله عز وجل بإعطاء الأجرة للمرضعة، وقد صدر الآية بقوله: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233] فبين الله سبحانه وتعالى أن الوالدة ترضع ولدها وهي أحق للصفات التي فيها من كون لبنها أكثر نفعاً للولد واغتذاءً له، وكذلك هي أكثر نصحاً للولد وشفقة وعطفاً وإحساناً وبراً لولدها؛ فهذه كلها مصالح، فلذلك تقدم على غيرها.

    وفي قوله: (ولو) إشارة إلى خلاف مذهبي في داخل مذهب الحنابلة، فهناك من العلماء من قال: نعطيها الأجرة بشرط أن لا يوجد من يتبرع مجاناً، فإذا وجد من يتبرع مجاناً فإننا نقول لها: إن شئت أن ترضعيه بدون مقابل فلك الحق في ولدكِ، فإن قالت: أنا أريد الأجرة صرف إلى غيرها وليست بأحق، والصحيح ما ذكرناه.

    قال رحمه الله: [بائناً كانت أو تحته].

    أي: سواء طلقها وبانت منه أو كانت تحته، فحتى لو كانت تحته ثم قالت له: أريد أن أرضعه وآخذ الأجرة، فإن الحكم لا يختلف باختلاف حال الأم، فسواء كانت تحت الزوج أو لم تكن فهي أحق وأولى بولدها ولها الأجرة إن طلبت، لا يختلف الحكم بين كونها تحت الزوج أو بائنة منه.

    حكم منع الزوج الثاني إرضاع ولد الأول

    قال رحمه الله: [وإن تزوجت آخر فله منعها من إرضاع ولد الأول ما لم يضطر إليها].

    أي: وإن تزوجت آخر فقال لها: ما أريدك أن ترضعي ولدكِ من فلان؛ لأن الرضاعة تضر بالمرأة، وتؤثر على صحتها، وتؤثر حتى على الاستمتاع بها، ومن هنا لا يتدخل الزوج الثاني في حق الأول إلا إذا حصل الضرر عليه.

    وبعض العلماء قالوا: إنه ينتشي في ماء الثاني فيكون له الحق من هذا الوجه.

    ولكن الأشبه: أن هذا يؤثر عليه ويؤثر على صحة المرأة، ولذلك خفف على المرأة المرضع في الصيام، وأخذت أحكام الرخص في مسائل، وهذا يدل على أن الرضاعة تؤثر، وإذا كانت تؤثر وأسقط الله بها الحقوق فكذلك أيضاً بالنسبة لحقوق المخلوقين، فإذا قال الزوج الثاني: لا ترضعيه، فحينئذٍ له حق المنع.

    وإذا منعها نظرنا: فإن كان للصبي بديل صرف إلى البديل ولم تلزم الأم ولم يلزم الزوج، وإن كان لا بديل له فإنه يكون مضطراً ويسقط حق الزوج؛ لأن ضرر الابن أكبر، وهذا من باب المقارنة بين المفاسد؛ لأنه إذا تعارضت مفسدتان قُدمت المفسدة العظمى، فالطفل إذا لم يرتضع تضررت صحته وربما هلك، والزوج إذا أرضعت زوجته ضعفت مصلحته وصار النقص عليه نقص كمال في الاستمتاع، ونقص الضرورة المفضية إلى هلاك الأنفس فيه مفسدة فيه أعظم من نقص الكمال في الاستمتاع والشهوة، ولذلك يقدم حق الولد من هذا الوجه، فنقول: يجب عليكِ أن ترضعيه.

    فلو قال الزوج: لا أسمح لها بذلك. أُجبرت عليه وسقط حق الزوج، فلا تسمع له ولا تطيع؛ لأن هذا فيه إضرار بالنفس وتعريض لها للهلاك.

    1.   

    الأسئلة

    حكم التضييق على الأهل للنفقة على المحتاجين

    السؤال: من ضيق على أهله في النفقة لأجل ما يتعاهده من الصدقات وبذل الخير للمحتاجين، فهل يأثم في هذا التصرف، أثابكم الله؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد: فمن ضيق على من تجب عليه نفقته ينقسم إلى قسمين:

    إما أن يضيق في الحق الواجب، وإما أن يضيق في الكمالات، فإن ضيق في الحق الواجب فهو آثم شرعاً، ولا يجوز للمسلم أن يمنع أولاده وزوجته من حقوقهم في النفقة بناءً على الصدقات والتبرعات للغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله الصحابي فقال: (عندي دينار، قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي غيره، قال: أنفقه على أهلك) فهذا يدل على أن نفقة القريب أحق وأولى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثم أدناك أدناك) فيبدأ بالأقربين، وهم أولى وأحق، والنفقة عليهم واجبة، والنفقة على الغير إحسان وغير واجبة، فيقدم الواجب على غير الواجب.

    أما إذا كان التقصير في الكمالات، بمعنى: أنه رأى الغير محتاجاً فصرف الكمالات لأولئك المحتاجين، فهل الأفضل أن يصرف الكمال للقريب ويدخل السرور على قريبه وأولاده، أم الأفضل أن ينفق على البعيد؟

    هذه مسألة الذي يظهر فيها: أن الغريب إذا كانت النفقة عليه نفقة إنقاذ؛ بحيث إنه محتاج حاجة شديدة، فإن النفقة عليه أفضل من نفقة الكمال على القريب، والسبب في هذا: أنه ربما يكون الغريب محتاجاً حاجة قد يتعرض معها للحرام، فالمرأة قد تزني -والعياذ بالله- إذا افتقرت، والأولاد قد يضيعون، وربما هلكوا وماتوا من الجوع، فإذا كانت النفقة من هذا الجنس فهي الأفضل إن شاء الله؛ لأن جنسها في إنقاذ النفس واستبقاء الأرواح والمحافظة على العرض، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص.

    وعلى كل إنسان ينفق على الغريب أن تكون له نية، فإذا حسنت نية العبد أجره الله وجعل أجره على نيته، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يتصدق على الغني وهو لا يعلم بغناه، فجعل الله صدقته بحسن نيته عبرة للغني، فأثابه الله عز وجل عليها.

    فإذا كان قد أنفق على الغرباء والأجانب ممن ليسوا بأقارب له، وهو ينوي إنقاذ أنفسهم وحفظهم من الحرام أو تحبيبهم في الخير، كان بالوسيلة والنية أفضل وأعظم أجراً، لكن لو كانت النفقة على هذا الغريب من جنس الكمالات، وأولاده يريدون الكمالات فالنفقة على الأولاد وإدخال السرور على الأقرباء في الكمالات أفضل من إدخال السرور على غير الأقارب، بل حتى إدخال السرور على ابن العم القريب في الكمالات أفضل من إدخال السرور على الغريب، فمثلاً: لو احتاج إلى سيارة وعنده سيارة أو متاع أو ثياب زائدة يمكن أن يعطيها لقريبه ويمكن أن يعطيها لغير القريب.

    فالقريب سواء كان من الأقربين كأولاده، أو كان من الأبعدين كابن العم، فإن إعطاء الثوب له ولو كان من الكمالات أفضل من إعطائه للغريب ولو كان صديقاً، ولو كان خليلاً للإنسان ومحباً، فإن الإحسان إلى القرابة فيه أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة. والإحسان إلى الغريب مهما كان ففيه أجر واحد وهو أجر الصدقة، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لامرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها وأرضاها في الحديث الصحيح.

    وبناءً على ذلك ينبغي على المسلم أن يزن الأمور بميزانها، ولا شك أن تفقد الأقرباء والإحسان إليهم وتصديق معنى القرابة أمر مهم، فالإنسان دائماً يتفقد القرابة، وأول ما تفكر في بذل المعروف والإحسان يجب أن تنظر إلى من حولك من الأقرباء، حتى في أمور الدين والدعوة، مع أنها لا محاباة فيها ولا مجاملة، قال الله: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] أي: مر القريبين الأقربين. وهذا يدل على أنهم أولى الناس بخيرك وبمعروفك وبإحسانك؛ حتى الابتسامة التي تبتسمها والسرور الذي تدخله على المسلمين تقدم فيه الأقربين الأقرب فالأقرب، فإذا وجدت القريب حرصت على أن تكون على مراتب الكمالات التي تفعلها مع الغرباء، وأن تكون في أحسن وأجمل وأفضل.

    وانظر رحمك الله إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهو صديق الأمة يحسن إلى مسطح وهو ابن خالته وقريبه، ثم إذا به يفاجأ بـمسطح وهو أحد الذين قذفوا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فمع أنه أحسن إليه، ومع وجود القرابة تأتي هذه الإساءة العظيمة في طعنه في زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، فحلف أبو بكر أن لا يحسن إليه بعد ذلك؛ فأنزل الله عز وجل القرآن يعاتب أبا بكر رضي الله عنه: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] حتى إن أبا بكر رضي الله عنه بكى وقال: (بلى! والله نحب أن تغفر لنا).

    قريب يطعن في ابنته مع أنها أم المؤمنين رضي الله عنها، فاجتمعت جميع الحقوق من الناحية الدينية ومن الناحية الطبيعية الفطرية، ومع هذا كله ينزل القرآن بالإحسان إليه ورد المعروف كما كان، فأحسن أبو بكر رضي الله عنه ورد المعروف إلى مسطح ، فهذا يدل دلالة واضحة على عظيم أمر الرحم والقرابة.

    نحن ننبه على هذه الأمور لأنها عظمت، وسببها التفكك الأسري الذي يعيشه الناس، كثير من المشاكل والأضرار والمصائب سببها هذا التفكك الأسري، كان الناس في القديم في فقر وضعف وحاجة ماسة، ولكن رزقهم الله عز وجل من التواصل والتحاب والتعاطف وحفظ حق القرابة ما هون عليهم مصائب الدنيا كلها، والله إن الناس كانوا يعيشون بحالة لا يعلم شدة ما هم فيه إلا الله جل جلاله، ولكن ما لطف الله عز وجل بهم بشيء بعد الإيمان به وتوحيده مثل بر الوالدين وصلة الرحم.

    وانظر إلى كبار السن والرعيل الأول، تجد الواحد منهم عطوفاً شفوقاً على قرابته، ما إن يسمع أن قريباً له نزلت به نازلة إلا وجدته لا يهنأ له عيش ولا يرتاح له بال؛ ويسافر إلى المسافات البعيدة، فهذا التواصل والتعاطف والتراحم والتكاتف الذي كان بين الناس هو الذي رحم الله به أمرهم، فجعل ضيق عيشهم سعة، والهموم والغموم عليهم يسيرة، وكم من مصائب تنزل بالإنسان يدفعها الله بفضله ثم بصلة الرحم.

    لا يحسب الإنسان أن تفقد القرابة أمر هين، كثير من مشاكل اليوم سببها عدم الصلة، وتجد الرجل يقول لك: أنا في ضيق واكتئاب. وقد يكون قاطعاً لرحمه من حيث يشعر أو لا يشعر، ويكون هذا البلاء الذي نزل به إما بسبب أذية أو قطيعة لرحم، أو عدم زيارته لأعمامه وأخواله، هذا التفكك الذي يعيشه الناس أكثره بسبب عدم القيام بحقوق القرابة.

    ونحن نركز على هذه المسائل ونطيل في الجواب عليها لأهميتها؛ لأن كثيراً من مشاكل اليوم سببها ذلك، الآن لما تجد القريب تنزل به ضائقة دين، لا يستطيع أن يجد في قرابته من يساعده، فيذهب إليه ويريق ماء وجهه عنده، ويقول له: يا فلان أريدك أن تساعدني، فيجد أول من يقفل الباب في وجهه قريبه -والعياذ بالله- ويجده أول من يتهكم به ويستهزئ به ولا يصدقه فيما يقول له، مع أنهم في القديم ربما كان فيهم جهل لو قتل القريب جاءه ونصره مع أنه يعلم أنه ظالم؛ من شدة الحمية والعاطفة، صحيح أن هذا خطأ، لكن كانوا معهم في الخير والشر، وينصره ظالماً ومظلوماً، ويقف معه ويقدم له ما يستطيع من المال، هذا الذي رحم الله به الأمة.

    لا تحسب أن القليل للقرابة هين عند الله عز وجل، وقد يرفع القريب كفه إلى الله عز وجل فيدعو لك دعوة تنال بها سعادة لا تشقى بعدها أبداً؛ لأنه يدعو من قلبه، ويتمنى لك الخير من صميم فؤاده، ويرى أنك قد أحسنت إليه ووصلته.

    والله إن كثيراً من النفوس تتبدد أحزانها وأشجانها بالكلمة من القريب.. القريب تجده مريضاً مهموماً محزوناً، ما إن يلتفت ويجد قرابته حوله إلا تبددت أحزانه وذهبت أشجانه، ولا عليه بعد ذلك يذهب عنه الهم أو لا يذهب، تجده مديوناً معسراً ما إن يأتيه القريب ويجلس معه ويقول: أتمنى لو كان عندي مال أعطيكه، فما إن يقول له هذه الكلمة إلا وكأنه قضى له دينه.

    ما كان أحد يترك قريبه، بل يقف معه ويبذل له كل ما يستطيع، بل إن دعوة الإسلام كلها قائمة على التوحيد وعلى أداء الحقوق، فإذا أُدي حق الله عز وجل بتوحيده وإخلاصه أُديت حقوق العباد، وأول حق ركزت عليه نصوص الكتاب والسنة وتضافرت عليه واعتنت به أيما عناية بر الوالدين وصلة الرحم، حتى إن أبا سفيان لما سأله هرقل قال: بماذا يأمركم، قال له: يقول: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ويأمرنا بالبر وصلة الرحم.

    وأذكر حادثة غريبة وقعت قبل أشهر: كنت في السفر فوجدت رجلاً كبير السن، فاقتربت منه وسألني عن مكاني، وسألته من أين أنت، قال: أنا من بدر، رجل في آخر سنه فوق السبعين تقريباً، ويبيع تمراً، ولا يملك إلا القليل، وجالس في شدة الشمس يتعرض للمشقة، قلت: ما دمت أنت من بدر كيف جئت إلى هنا -كان قريباً من جدة- قال: هذا التمر الذي تراه أريد أن أبيعه وأذهب لأختي بمكة.. لديها أيتام وأريد أن أعطيها هذا المال، والله حينما نظرت إليه تأثرت من حاله وهيئته، ليست بحال الإنسان الذي يستطيع أن يقوم على نفسه، فضلاً عن أن يبحث عن أخته التي يريد أن يصلها، هكذا كان الناس، وهكذا يكون العيش.. تواصل.. تراحم.. تعاطف.

    وحدثني أحد كبار السن في المدينة، وهو من أصدق الناس وخيارهم رحمة الله عليه، يقول: عشت يتيماً فكان خالي يأتينا من أكثر من أربعمائة كيلو متر من المدينة، وكان يأتي بالهدايا، فقير معدم ما عنده شيء، لكن يأتي الأربعمائة كيلو هذه، لا يمر شهر حتى يزور أخته، ويدخل على أيتامها ويلاطفهم ويحسن إليهم ويقول لأخته: أسألكِ بالله لا تسقيني شيئاً من مال اليتامى، يعني: إذا جاء في ضيافتها لا يستطيع أن يشرب عندها فنجان القهوة، وهذا شيء كبير معروف بالعادات، وإنه لصعب جداً أن يدخل الإنسان ولا يأخذ ضيافته خاصة عند كبار السن والأولين، ولازال أُناس والحمد لله إلى الآن على الفطرة لا يرضى بهذا، ومع هذا يحرج أُخته مع أنه ما جاء إلا لصلتها والإحسان إليها، ولا يريد أن يأخذ لقاء الصلة حتى حقه الواجب، ويريد أن يحفظ لهؤلاء الأيتام مالهم.

    هكذا كان الناس وهكذا كان التعاطف، ما كان الناس يشتكون من الاكتئاب، ولا كان الخوف والرعب موجوداً بينهم، وما كان عندهم هذه الأمراض النفسية والعقلية؛ لأنهم ملكوا ما هو أعز وأكرم من التواد والتراحم، لكن ما إن تفككت الأسر وتشتت، وأصبح الإنسان لا يسأل عن قريبه ولا يسأل إلا عن نفسه التي بين جنبيه، حتى غير الله عز وجل عليهم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49].

    وما من أحد يغير ما به إلا غير الله حاله، ولا تغتر أنك طالب علم أو خطيب أو إمام، تفقد نفسك وحاسبها في هذا الرحم محاسبة شديدة، وبإذن الله ستجد أن كثيراً من الأمور تتيسر، وأن الله سيفتح لك من أبواب رحمته ما لم يخطر لك على بال، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الواصلين، وأن ييسر لنا ذلك، وأن يعيننا عليه، وأن يجعله خالصاً لوجه الكريم موصلاً لرضوانه العظيم، والله تعالى أعلم.

    حكم رفع الصوت بالقراءة في قضاء الصلاة الجهرية

    السؤال: هل يلزم المصلي رفع الصوت بالقراءة في قضاء ما فاته من الصلاة الجهرية، أثابكم الله؟

    الجواب: الجهر في الصلاة فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، من أهل العلم من قال: يجب الجهر في الجهرية، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ولأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقع بياناً لواجب، وبيان الواجب واجب.

    ومن أهل العلم من قال: الجهر والإسرار ليس بواجب، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه في صلاة الظهر أنه رفع صوته بالآية والآيتين، فجهر فيما يسر؛ فدل على أن الأمر فيه السعة، وبناءً على ذلك ينبغي على المسلم أن يحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يكون قضاؤه يحكي أداءه، فيجهر في الصلاة المكتوبة، فإذا قضى الفجر بعد طلوع الشمس يجهر في قراءته، وهكذا لو نام عن صلاة العشاء حتى ذهب وقتها، وسواء ذهب وقتها أو لم يذهب، إذا قضاها أو أداها في آخر وقتها منفرداً فإنه يجهر بقراءتها، والله تعالى أعلم.

    الفرق بين قاعدتي التعبد بالظن وعدم التعبد به

    السؤال: ما الفرق بين أن الله تعبدنا بغلبة الظن، وبين قاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه، أثابكم الله؟

    الجواب: الحقيقة ليس هناك اجتماع بين القاعدتين، فقاعدة غلبة الظن هي التي تعبد الله بها العباد، والإنسان إذا اعتقد شيئاً له أربعة أحوال:

    الحالة الأولى: أن يعتقد الشيء على وجه لا شك فيه ولا مرية البتة، وهذا يسمى باليقين كما يقول بعض العلماء: ( 100% )، فهو يعتقد مثلاً: أن الله واحد، فهذا الاعتقاد لا يدخله أي شك ولا مرية فيه، وهذا اعتقاد اليقين.

    الحالة الثانية: أن يكون اعتقاده للشيء غالباً وراجحاً، وهناك احتمال ضد هذا الاعتقاد لكنه ضعيف، وهذا يبدأ من (51% ) إلى (99%) فمثلاً: أنت تعلم أن الوالد إذا صلى العصر يرجع إلى البيت، فجاءك شخص وقال لك بعد صلاة العصر: الوالد موجود في البيت؟ أنت لم تر الوالد ولكن صليت العصر ثم جلست في المسجد، يحتمل أن الوالد رجع إلى البيت ويحتمل أنه لم يرجع، لكن الغالب أنه إذا صلى العصر يرجع إلى البيت، فأنت إذا قلت: الوالد في البيت، فإنه ظن غالب وخبر صادق؛ لأن غالب الظن أن يكون في البيت، هذا الغالب يجوز لك شرعاً أن تخبر به ولست بكاذب، بل لو حلفت وقلت: والله إنه في البيت لم تحنث؛ لأن الحلف على غلبة الظن مشروع.

    الحالة الثالثة: أن يكون الشيء مستوي الطرفين، مثلاً: الوالد بعد المغرب ربما يجلس في البيت وربما لا يجلس، وليس هناك حالة راجحة، فسُئلت: هل الوالد موجود؟ تقول: أشك، يعني: ما أدري أهو موجود أو غير موجود؛ لأنه تارة يكون موجوداً وتارة لا يكون موجوداً، وهذا الشك يسمى استواء الطرفين.

    الحالة الرابعة: أن يكون الظن مرجوحاً، وهو عكس الظن الراجح، فأنت حينما قلت في صلاة العصر: الوالد موجود في البيت، عندك احتمال أنه خارج البيت، فلو سألك شخص: الوالد خارج البيت؟ تقول: أظن، فظنك في هذه الحالة ضعيف وليس براجح، ولو سألك: أهو في البيت؟ تقول: نعم؛ لأنه ظن راجح.

    فهذه أربعة أحوال للظنون، ولا يتعبدنا الله بالأوهام، وهو الظن الضعيف، لأنها ظنون فاسدة ولا تبنى الشريعة على الظنون الفاسدة، وهذا قرره الأئمة، ومن أنفس من تكلم على ذلك الإمام العز بن عبد السلام حينما تكلم على مسائل الظنون في قواعد الأحكام، وبين أن الظنون الفاسدة لا يلتفت إليها، مثلاً: شخص قلت له: اذبح هذه الشاة، فذبحها وجاءك بها، يحتمل أنه ما ذكر اسم الله عليها، ويحتمل أنه أخطأ في الذبح، ويحتمل احتمالات كثيرة، لكن هذا الاحتمال ضعيف ومرجوح، فتلغي هذه الظنون، وتعمل بالظن الراجح، وتتقرب إلى الله عز وجل بالظن الراجح.

    فقس على هذه من المسائل الكثيرة، فقد تعبدنا الله بها حتى في استباحة الدماء والفروج، الآن لو أن شاهدين شهدا أن فلاناً قتل فلاناً، فإننا نحكم بالقصاص، مع أنه يحتمل أن أحد الشاهدين أخطأ، ويحتمل أنهما زورا الشهادة، لكن الظن الغالب أنهما إذا زُكيا وعدلا وعرفا بالضبط أنهما مصيبان، لكن يحتمل الخطأ، والظن مرجوح ولا عبرة فيه.

    حينما تسأل العالم ويفتيك في مسألة اجتهادية فإنه يفتيك على غالب ظنه، فيحتمل أن القول الذي اختاره مرجوح، لكن الله عز وجل أمرك بالرجوع إليه وأمرك أن تقبل حكم القاضي؛ لأن الغالب في ظنه هو هذا، وأنت تعمل بهذا الظاهر وأنت مكلف بهذا.

    وبهذا انضبطت أمور الدنيا، ولو كانت أمور الدنيا لا تسير إلا باليقين لدخل من الوسوسة والبلاء على الناس ما الله به عليم، فاستقامت أمور الدين والدنيا على ذلك، وبُنيت مصالح العباد دينية كانت أو دنيوية على هذا، الآن مثلاً: لما تركب السيارة وترى غالبها السلامة تمشي بها، لكن إذا كان غالبها الهلاك ورأيت فيها أعطال فلا تطيعك نفسك أن تخاطر، والطائرة مثلها: لولا أن الغالب السلامة ما جاز لأحد أن يركب بين السماء والأرض معرضاً نفسه للخطر، والباخرة لولا أن الغالب فيها السلامة لما جاز لأحد أن يركبها فيعرض نفسه للغرق، كل هذا مبني شرعاً على غلبة الظن، وبها استقامت مصالح العقلاء والحكماء واندرأت بها المفاسد، فالشريعة تتعبد بغالب الظن.

    مسألة: لا عبرة بالظن البين خطؤه، عدل وإنصاف، وقد تعبدك الله أن تعمل بهذا الظن الغالب، لكن لو ظهر لك أنه خطأ رجعت عنه؛ لأن الرجوع إلى الحق فريضة وليس بفضيلة فقط، مثلاً: لما يقول العلماء: لا عبرة بالظن البين خطؤه، فهذا في الحقوق، من أمثلته: شخص أعطاك ألف ريال ديناً، فقلت له: رددتها لك، قال: ما رددتها، مثل التجار يتعاملون كثيراً بهذا، كل يوم يأخذ ويعطي. فجاءه شخص ظن أنه أعطاه، فقال له: أعطيتك، قال التاجر: ما أعطيتني. اختصموا عند القاضي، من حقك أن تقول: والله أعطيته؛ لأن غالب ظنك أنك أعطيته، وبعد شهر أو شهرين أو سنة أو مائة سنة، تبين لك أنك أخطأت في هذا الظن، فحينئذ يجب عليك أن تقضي الرجل حقه، ونقول: لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه في حقوق العباد.

    من أمثلتها في حقوق الله عز وجل: مسألة الصوم، إن أكلت وأنت تظن أن الفجر ما طلع، ثم بعد ما أكلت أقيمت الصلاة، فأنت في المسألة الأولى في حق المخلوق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى)، فمذهب طائفة من العلماء أنه إذا بان لك الخطأ وجب عليك القضاء؛ لأنه إذا كان في حقوق المخلوقين يجب القضاء إجماعاً؛ فحق الله أولى أن يضمن، فنقول: ظنك أن الفجر لم يطلع يسقط عنك الإثم، وتبينك للخطأ يوجب عليك رد الحق، سواء كان لله أو للمخلوق.

    فللمخلوق تقضي الدين الذي عليك وللخالق تقضي ذلك اليوم؛ لأن الله تعبدك أن تصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأنت لم تصم صياماً تاماً كاملاً، فحق الله ينبغي أن يؤدى، ودين الله ينبغي أن يقضى، ولذلك قاس النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة، قال: (أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)، فأنت إذا تبين لك الخطأ في حق المخلوق فإنه تؤديه، كذلك في حق الخالق ما لم يرد النص بالاستثناء، فلا عبرة بالظن البين خطؤه.

    فنقول: قاعدة العمل بغلبة الظن؛ معمول بها في حال غلبة ظنك، وقاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه معمول بها بعد الاستبيان، فأنت تعمل بالأصل حتى يتبين لك خلافه، وبهذا تكون القاعدتان صحيحتين ولا إشكال فيهما، والله تعالى أعلم.

    عدد الرضعات الموجبة للتحريم

    السؤال: امرأة أرضعتني عدة مرات وهي لا تعلم العدد، وحاولت التذكر لكن دون جدوى، فهل أنا محرم لها ولبناتها، أثابكم الله؟

    الجواب: لا تثبت أحكام الرضاعة إلا إذا ثبت أنها أرضعتك خمس رضعات، فلا يجوز لك أن تعتبرها أماً من الرضاعة إلا إذا ثبت أنها أرضعتك خمس رضعات معلومات مشبعات، فإذا ثبت ذلك ثبت حكم المحرمية لها ولبناتها، وأما إذا لم يثبت ذلك، فإنه لا يجوز لك أن تحكم بثبوت الرضاعة، والله تعالى أعلم.

    حكم تغسيل الرجل لمحارمه

    السؤال: هل يجوز للابن أن يغسل أمه وأخته، أثابكم الله؟

    الجواب: الرجل لا يغسل المرأة إلا في حالة واحدة، وهي: أن الزوج يغسل زوجته والزوجة تغسل زوجها، وذلك على أصح قولي العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة رضي الله عنها كما في حديث السنن: (لو أنكِ متِ لغسلتكِ وكفنتكِ) وهذا يدل على أن الزوج يغسل زوجته، ولأن علياً رضي الله عنه غسل فاطمة رضي الله عنها ولم ينكر عليه الصحابة، والمرأة تغسل زوجها؛ لأن أسماء بنت عميس رضي الله عنها غسلت أبا بكر الصديق رضي الله عنه ولم ينكر الصحابة ذلك، فلا يجوز للرجل أن يغسل المرأة إلا في هذه الحالة، ولا يجوز للمرأة أن تغسل الرجل إلا في هذه الحالة.

    وأما الابن مع أمه فلا يغسلها، وهذا يفعله بعض العوام جهلاً منهم؛ لأن عورة الأم ينبغي للغاسل أن ينقي الفرجين، وهذا مع اتحاد الجنس أخف منه عند اختلاف الجنس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلى النسوة أن يغسلن بناته، فغسلت زينب رضي الله عنها وأرضاها أم عطية وغيرها من الصحابيات رضي الله عنهن، ولم يغسلها أحد من قرابتها الذكور، وكذلك بالنسبة للرجل لا يغسله النساء.

    وبناءً على هذا: لا يجوز للأخ أن يغسل أخته، وإنما يتولى النساء أمر النساء والرجال أمر الرجال، فإن توفيت امرأة بين رجال يممها ذو المحرم ثم كفنت، ويصلى عليها ولا تغسل، وهكذا الرجل إذا مات بين النساء ولا زوجة له وليس هناك رجل، فإن النساء تيممه ثم بعد ذلك يدرج في ثيابه ثم يصلى عليه، فلا يتولى النساء أمر الرجال ولا الرجال أمر النساء على التفصيل الذي ذكرناه في قول جماهير السلف والخلف، والله تعالى أعلم.

    سبل تحقيق العشرة الزوجية بالمعروف

    السؤال: العشرة بالمعروف تتعدى اقتصار الزوج على بذل الواجب في النفقة والرعاية فقط لزوجته، فكيف يمكن لي أن أحقق العشرة بالمعروف، أثابكم الله؟

    الجواب: العشرة بالمعروف من أعظم الدعائم التي تقوم عليها السعادة الزوجية، ومن أراد أن يحقق هذه العشرة فليقرأ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت سنته عليه الصلاة والسلام إلا امتثالاً للقرآن، وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يقدم أمراً ولا يؤخر غيره إلا بكتاب الله عز وجل، فمن أراد أن يكون معاشراً لأهله بالمعروف فلينظر إلى أوامر الله جل جلاله، وإلى ما ندب الله إليه من الإحسان والبر والصلة والعفو والصفح والتجاوز وحسن النية، وغير ذلك من الأمور التي تعين على سلامة العمل، وكذلك ينظر بعد كتاب الله إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يستلهم منها المواقف الجليلة والحوادث الجميلة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع حبه وزوجه، وكيف كان أبر الأزواج بأزواجه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

    والأصل أن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى الكمال ما لم يكن نقي الصدر.. الدعامة الأولى سلامة الصدر، ولذلك لن تجد إنساناً يستقيم على طاعة الله أو يهتدي فينال كمالات هذا الدين إلا بسلامة الصدر، وما إن يتغير قلبه ويكون فيه أي دخل أو درن من أدران الجاهلية إلا أثر على عمله وقوله، أهم شيء يبدأ فيه الإنسان سلامة صدره، ولذلك من دخل إلى بيت الزوجية سليم الصدر، نقي السريرة؛ فإن الله يبارك له في ظاهره، فمن أسر سريرة أظهرها الله في قوله وعمله، وظهرت في علانيته في معاملته. وانظر هذا مع الناس، فالشخص الذي يعاشر إخوانه من طلاب العلم أو غيرهم من الملتزمين أو المهتدين، وهو لا يفرق بين الأبيض والأسود والأحمر والأصفر والغني والفقير، سليم الصدر نقي الصدر تجده في أكمل ما يكون الأخ مع أخيه (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) وما تفسد القلوب إلا بمعصية الله، فإن دخلها الحقد والحسد واحتقار الناس وانتقاصهم، ودخلها سوء الظن والتهم ونحو ذلك، ساء كل شيء.

    فالرجل إذا دخل بيت الزوجية وهو يفكر أول ما يفكر أن زوجته نعمة من الله أنعم بها عليه، وأنه يحتقر نفسه، ويقول: من أنا حتى تأتيني هذه المرأة الصالحة، إذا كانت امرأة دينة أو على الأقل تحافظ على واجباته، يقول: الحمد لله الذي رزقني هذه المرأة على هذا الخير والاستقامة، وإذا كانت قريبة قال: الحمد لله الذي سخر لي من أصل به رحمي وأبُلها ببلاها، ودخل وهو نقي الصدر ويحس أنها نعمة أنعم الله بها عليه، وأن المنبغي عليه أن يحافظ على هذه النعمة، وينظر إلى هذه النعمة نظرة الصفاء والنقاء والمودة، كما أخبر الله عز وجل: (مودة ورحمة).

    فإذا دخل بسلامة الصدر والأسس التي تنبني عليها العشرة بالمعروف موجودة في قلبه وقالبه، بارك الله له في قوله وعمله، فهو إذا دخل إلى بيت الزوجية في أي ساعة يحس أن أي معروف أو أي عمل تقوم به المرأة لا يستوجبه عليها.

    فإذا دخل فوجدها طبخت طعامه، أكبر منها ذلك ورمى لها بالكلمة الطيبة، وقال: جزاكِ الله كل خير وبارك الله فيكِ، فدعا لها، وهي ردت له دعوته بالخير، وأكبرت منه إكبارها للمعروف فأحبته، وعرفت أن عنده الإنصاف وأنه سليم الصدر لها، ولكن العكس إذا دخل وهو يظن أنه يستوجب عليها الحق، وأنها كالأجيرة عنده، وأنها دونه، وأنها أحقر؛ جعل ينظر إلى نفسه نظرة الكمال وأنه يستوجب عليها، فعندها تسوء أخلاقه ويسوء قوله وعمله، ولذلك ثبت عن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم: أنه ما عاب طعاماً وضع بين يديه، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا لا يمكن أن يكون إلا حينما ينظر نظرة التواضع والإكبار من أهله وزوجه.

    المرأة الصالحة إذا نظر الإنسان إليها زوجة له والفتن تحيط بها من كل جانب، تذكر أن الله رحمه بهذه المرأة الصالحة، فكان أول من يعينها على صلاحها وتقواها لله عز وجل، يعينها بالكلمة الطيبة، بالابتسامة، بإدخال السرور، والله إن العبد يشتري رحمة الله عز وجل كما أنه راكع وساجد، بالابتسامة يبتسم بها في وجه أهله وزوجه، ولذلك حرص عدو الله إبليس على الدخول بينك وبين كل قريب، فيجعل الابتسامة حلال ومحبوبة وطيبة إلا إذا كانت للقريب منك، ويقول لك: لا تبتسم للزوجة، إنك إن ابتسمت إليها أفسدتها، ولا تفعل كذا وافعل كذا وكذا، فيصبح المعروف منكراً ويصبح الشر خيراً والخير شراً.

    كل هذا -نسأل الله السلامة والعافية- لسوء القلب، إذا دخلت بهذه الأسس وهي سلامة الصدر ونقاء الصدر، وأن تحس أن الله أنعم عليك بنعمة شكرتها، ودائماً إذا أحس الإنسان أن زوجته نعمة؛ شكر هذه النعمة، ولذلك يقول الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل:53].

    فإذا عرفت قدر الزوجة، وأن بنت الناس ما جاءت إلى بيتك لتهان، وأن حرمات المسلمين ما دخلت إلى بيتك لكي تذل، وإنما لتكرم ولتعز ولتحسن إليها وتقابل بالإحسان؛ عندها يجتمع شمل الزوج والزوجة.

    العشرة بالمعروف أقوال وأفعال، وإذا سلمت السرائر صلحت الظواهر، وزكاها الله جل وعلا المطلع على الضمائر، ولا يمكن أن تزكو علانية الإنسان أو يكون محبوباً بين الناس وهو خبيث السريرة أبداً، ولذلك قالوا: لا يسود حقود ولا حسود، لا يمكن أن تجد إنساناً يحسد الناس ويعطيه الله السؤدد، فلا يسود الناس حتى ولو كان مع أهله وزوجه، لا يمكن أن ينال السؤدد ولا ينال الكمال ولا العشرة بالمعروف إلا إذا كان سليم الصدر نقي النفس مهذب الأخلاق طيب المعدن، فإذا وفق الله له بسلامة الصدر رزقه العشرة بالمعروف.

    كيف تكون هذه العشرة؟

    اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، اقرأ هذه السيرة وحدك متأملاً متفكراً متدبراً، وانظر في كل حدث يقع بينه وبين زوجه، والله إن القصة الواحدة من قصص النبي صلى الله عليه وسلم -حينما كنا نتذاكر العلم- لأمضي فيها الثلاثة الأيام!

    اقرأها المرة بعد المرة بعد المرة، كلما تقرأها تجد فيها غير الذي كنت تراه من قبل، مما فيها من الخير والبركة والمواقف الجميلة، والمعاني الكريمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشهد من فوق سبع سماوات بكرم خلق هذا النبي صلى الله عليه وسلم عبثاً، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] فما نال هذه العشرة بالمعروف إلا بالخلق العظيم صلوات الله وسلامه عليه.

    ولن تستطيع أن تكون العشرة بالمعروف بينك وبين زوجك إلا إذا عظمت حرمات الله، وأخذت تنظر إلى الأسس التي أوجب الله عليك أولاً فتؤديها كاملة، وبعد ما تؤدي الواجبات تنتقل إلى الكمالات، ودائماً يوصى الإنسان أن لا ينظر إلى نفسه نظرة كمال، بل عليك أن تتهم نفسك بالنقص والتقصير حتى يكمل الله نقصك ويجبر كسرك.

    والموفق من وفقه الله، فسل الله عز وجل أن يعطيك، وأكثر من الدعاء وقل: اللهم إني أسألك حسن الخلق لأهلي وزوجي وللناس أجمعين، وسل الله عز وجل أن يحسن أخلاقك، وقل: اللهم كما حسنت خلقي فحسن خُلقي، وقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني شرها وسيئها لا يصرف عني شرها وسيئها إلا أنت).

    الوصية الأخيرة: مما يعين على العشرة بالمعروف: الإنصاف والعدل، فأي موقف تحس أنك أخطأت فيه فعليك أن تتراجع في نفسك وتستدرك في خطئك، وتخاف من الله عز وجل فيما يكون منك من التقصير، فإذا وفقك الله عز وجل لهذه الأسس: سلامة الصدر وقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنت الموفق؛ لأننا لو جئنا نتحدث كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاشر بالمعروف ما انتهى الحديث، ولكن نقول: قراءة السيرة. ثم إذا وفقت بعد ذلك إلى أنك دائماً لا تنظر إلى نفسك نظرة كمال، وإذا وقع منك الخطأ أصلحته؛ فإنه لا يزال لك من الله معين وظهير.

    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حسن الأخلاق، وأن يعيننا على ذلك؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756398684