إسلام ويب

شرح زاد المستقنع كتاب الإيلاء [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله عز وجل أحكام الإيلاء في كتابه لأهميتها وما يترتب عليها من الحقوق الشرعية، كما ذكر الفقهاء تلك الأحكام وبينوها وفصلوا فيها، ومنها أن الإيلاء لا يصلح من المجنون ولا من المغمى عليه، ولا من العاجز عن الوطء، ومنها أن للإيلاء صيغاً، فتارة يكون بالتأبيد، وتارة بأكثر من أربعة أشهر، وتارة بأمر يبعد حصوله، وتارة بطلب شيء أو حدوثه.

    1.   

    بيان من لا يصح منهم الإيلاء

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فقد شرع المصنف رحمه الله في بيان الأمور التي يُحكم فيها بعدم الاعتداد بالإيلاء؛ ومنها: الجنون؛ لأن الإيلاء ينعقد باليمين، ويمين المجنون لا تنعقد، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة.. وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) .

    فدل هذا على أن المجنون لا يصح إيلاؤه، وهذا محل إجماع بين العلماء، فلو قال من جُن لزوجته: والله لا أطؤك سنة، فإنه لا ينعقد اليمين، ولا تترتب عليه أحكام الإيلاء.

    المجنون

    قال رحمه الله: [لا من مجنون].

    أي: لا يصح الإيلاء من مجنون، والجنون: مأخوذ من جن الشيء إذا استتر، ومنه سمي البستان جَنة؛ لأنه يستر من فيه؛

    وذلك لأن ظلال الأشجار والزروع تمنع من رؤية الغير لمن هو تحتها، فسمي الجنون جنوناً؛ لأنه يغطي العقل ويغيبه.

    والمجنون ينقسم عند العلماء إلى قسمين:

    إما أن يكون جنونه مطبِقاً؛ فلا إشكال.

    وإما أن يكون الجنون متقطعاً؛ فإن كان متقطعاً حُكِم بما ذكرنا حال الجنون، وحُكِم بالتكليف حال الإفاقة.

    المغمى عليه

    قال رحمه الله: [ومغمى عليه].

    أي: ولا يصح إيلاء المغمى عليه، وقد تقدم أن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيه:

    فبعض العلماء رحمهم الله يقولون: المغمى عليه مكلف.

    ومنهم من يقول: المغمى عليه ليس بمكلف، وهو في حكم المجنون، وقد تقدمت معنا مسائل عديدة في كتاب العبادات والمعاملات تتفرع عن هذا الخلاف، وأن الصحيح والأقوى: أن المغمى عليه في حكم المجنون، ولذلك لا يصح إيلاؤه، ولا تنعقد الأحكام المترتبة على وجود العقل مع مسلم.

    العاجز عن الوطء

    قال رحمه الله: [وعاجز عن وطءٍ لِجَبٍّ كامل أو شلل]:

    الإيلاء -كما ذكرنا- أن يحلف الزوج اليمين على أنه لا يطأ زوجته المدة المعتبرة للإيلاء، التي هي أكثر من أربعة أشهر، وهذا الحلف يتضمن الإضرار بالزوجة كما ذكرنا وبينّا، وإذا ثبت أنه يضر بالزوجة فالشريعة قصدت دفع الضرر، فإذا كان الشخص عاجزاً عن الوطء أصلاً، فهذا لا يتحقق فيه السبب الذي من أجله حُكِم بالإيلاء؛ لأنه عاجز عن الوطء أصلاً، فمثله ليس بممتنع على وجه فيه ضرر.

    والشريعة تحمِّل القادر، وهذا غير قادر، ولذلك قال رحمه الله: (وعاجز عن وطء)، فلا يصح الإيلاء من عاجز عن وطء؛ وهو الذي لا يستطيع وطء زوجته.

    وقوله: (لِجَبٍّ) أي: لسبب قطع العضو؛ فليس عنده عضو.

    وقوله: (لِجَبٍّ كامل) أي: إذا كان العضو مقطوعاً قطعاً كاملاً، فلو قال: والله لا أطؤك سنة. فإن هذا أمر غير موجود فيه أصلاً، فحلفُه وجودُه وعدمُه على حد سواء.

    لكن أن يكون قادراً مستطيعاً للوطء ويقول: والله لا أطؤك، فهنا كان هذا من ظلم الزوج للمرأة؛ لكن إذا كان مقطوع العضو وقال: والله لا أطؤك، فهذا وجودُ اليمين وعدمُه فيه سواء.

    ومفهوم قوله: (كامل) أنه إذا كان المقطوع بعض العضو، فالشريعة تفرق بين إزالة العضو كاملاً وبقائه كاملاً، وقد

    نص العلماء رحمهم الله على أنه إذا بقي من العضو ما يمكن معه الوطء، فهذا ظالم، وحلفه اليمين يتحقق به الظلم، ولذلك يؤمر بالفيء والتكفير عن يمينه، وإلا طلق عليه الحاكم.

    وقوله: (أو شلل) أي: شلل في عضوه؛ لأنه لا يستطيع أن يجامع أصلاً، أعاذنا الله وإياكم.

    1.   

    صيغ التعليق في الإيلاء

    قال رحمه الله: [فإذا قال: والله لا وطأتك أبداً، أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر، أو حتى ينـزل عيسى، أو يخرج الدجال، أو حتى تشربي الخمر، أو تسقطي دينك، أو تهبي مالك ونحوه فمولٍ].

    قوله: (فإذا قال: والله لا وطأتك أبداً):

    ذكر الله عز وجل أحكام الإيلاء في كتابه لأهميتها، وما يترتب عليها من حقوق شرعية، وهذا الإيلاء يفتقر إلى وجود صيغة ولفظ، وهذا اللفظ تارة يكون بذكر الأشهر أو المدة التي يتحقق بها الإيلاء، وتارة يعلق على صفة يتحقق بها ويوجد بها ما يوجد في التعليق على مدة الإيلاء، وتارة يكون بألفاظ محتملة.

    ولذلك درس العلماء والأئمة رحمهم الله ألفاظ الإيلاء، وعلينا أن ندرك أن هذه الأمثلة الغريبة حينما يسمعها الإنسان ويستغرب منها، ليست القضية هي المثال نفسه، إنما القضية أصل المثال، وهذا هو الذي ينبغي على من يدرس الفقه.

    صيغة التأبيد

    وعلى طالب العلم أن ينتبه إلى أن الزوج إذا علق امتناعه عن وطء زوجته فإما أن يعلق على التأبيد ويقول: والله لا أطؤكِ أبداً، أو والله لا أطؤكِ الدهر كله، أو والله لا أطؤكِ عمري وحياتي ومدة بقائي.. فهذا كله يتحقق به الإيلاء؛ لأنه متضمن لمدة الإيلاء وزيادة، فتتحقق به مدة الإيلاء، وهي أكثر من أربعة أشهر.

    وهذه يسمونها: صيغة التأبيد، أي: لم يجعل حداً من الزمان أو مدة من الزمان.

    والفرق بين المؤقت والمؤبد: أنه لو أقت بمدة معينة كأن يقول: والله لا أطؤك خمسة أشهر، أو لا أطؤك سنة، فيمكن أن تقول الزوجة: أنا سأصبر عليك سنة، وسأصبر عليك خمسة أشهر، لكن لو قال: والله لا وطأتك الدهر كله، أو لا وطأتك عمري، أو لا وطأتك أبداً، أو لا أطؤكِ ولن أطأكِ أبداً، فكل هذه تدل على أنه لا يريد التأقيت وإنما يريد تأبيد الامتناع.

    تعليق الإيلاء على مدة تزيد على أربعة أشهر

    قال رحمه الله: (أو عين مدة تزيد).

    وهذه فائدة قراءة المتون الفقهية: أنها تربي في طالب العلم ملكة التركيز والتسلسل، فتعرف من الأشياء في بعض الأحيان مقابلة بعضها لبعض، فحينما يقول: والله لا وطأتك أبداً، فهذا تأبيد، وإذا عين مدة، فنفهم أنه ضد الصورة الأولى.

    لكن لو قرأت الأمثلة مجردة، فإنك لا تستطيع أن تدرك الخبايا والمقاصد التي وضع العلماء من أجلها هذه الأمثلة، فهو عندما قال: (أو عين مدة)، فحينئذٍ تفهم أن (أو) هنا للمقابلة، وأن قصده أن يأتي بصورة وهو يريد أن يقابل؛ لأنه لو اقتصر على قوله: والله لا وطأتك أبداً، أو لا وطأتك الدهر، لظن ظان أن الإيلاء لا يقع إلا إذا كان مؤبداً؛ ولذلك قال رحمه الله: [أو عين مدة تزيد على الأربعة الأشهر]، فمدة الإيلاء إما أن تزيد على أربعة أشهر، أو تكون أقل من أربعة أشهر، أو تكون أربعة أشهر، فهذه ثلاثة أحوال: والله لا أطؤكِ شهراً، والله لا أطؤكِ أربعة أشهر، والله لا أطؤكِ خمسة أشهر أو سنة.

    الحالة الأولى: إذا قال: والله لا أطؤك شهراً أو شهرين أو ثلاثة، فهذه أقل من مدة الإيلاء باتفاق العلماء رحمهم الله، وجماهير السلف والخلف على أنه لا يكون إيلاءً، إلا أن بعض السلف يقول: يكون إيلاءً، وهو قول شاذ، والذي نص عليه القرآن أن الإيلاء لا يقع إلا بالمدة المعتبرة وهي أكثر من أربعة أشهر.

    الحالة الثانية: أن يقول: والله لا أطؤكِ خمسة أشهر، أو أربعة أشهر ويوماً، أو أربعة أشهر وأسبوعاً، فحينئذٍ ذكر مدة الإيلاء، وشبه متفق عليه عند العلماء رحمهم الله أنه إذا زاد على أربعة أشهر فإنه مولٍ.

    الحالة الثالثة: أن يذكر الأربعة الأشهر بنفسها فيقول: والله لا أطؤكِ أربعة أشهرٍ، فهذه اختلف فيها العلماء رحمهم الله على قولين، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور أن الأربعة الأشهر وحدها ليست بمدة الإيلاء، وأنه لابد أن يزيد في إيلائه على الأربعة الأشهر؛ لأن الله يقول: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227].

    ووجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى جعل الأحكام المترتبة بما بعد الأربعة الأشهر، ولم يجعلها دون الأربعة الأشهر على تمامها وكمالها، فدل هذا على أن الأربعة الأشهر وحدها لا تكفي ما لم يزد عليها، فلو حلف وقال: والله لا أطؤكِ أربعة أشهر؛ فإنه مباشرة بعد انتهاء الأربعة الأشهر ستنحل اليمين، فلا وجه لإيقاف القاضي له.

    وهذا وجه مذهب الجمهور رحمهم الله: أنه في تمام الأربعة الأشهر لا يكون مولياً، وأنه لابد في الإيلاء من ذكر مدة أكثر من أربعة أشهر.

    وعلى هذا ذكر المصنف رحمه الله أنه يُشترط في المدة المعتبرة في الإيلاء أن تكون أكثر من أربعة أشهر، فقال: (أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر)، سواءً كان بالأشهر كأن يقول: لا أطؤكِ خمسة أشهر، أو ستة أشهر، أو عاماً أو سنة، أو سنتين أو ثلاث سنوات.. أو نحو ذلك.

    تعليق الإيلاء على أمر يبعد حصوله

    قال رحمه الله: [أو حتى ينزل عيسى، أو يخرج الدجال].

    الآن فهمنا أن الصورة الأولى للتأبيد، والصورة الثانية للتأقيت.

    وقوله: (حتى ينزل عيسى أو يخرج الدجال) هذه أمثلة أخرى غير الأمثلة التي كنا فيها، وهي أن يعلق الإيلاء على أمر يبعد حصوله، بحيث يغلب على الظن أنه سيجاوز الأربعة الأشهر.

    قال بعض العلماء: هذه الثلاث الصيغ إذا تلفظ بها انعقد الإيلاء؛ لأن الغالب أن هذه الأشياء لها أمارات وعلامات يغلب على الظن أنها لا تقع إلا بعد أربعة أشهر، بمعنى أنها تزيد على الأربعة الأشهر، هذا ما اختاره بعض العلماء والأئمة وبعض المحققين مثل الإمام ابن قدامة رحمه الله وغيره.

    وبعض العلماء يقول -وهو الأوجه الأقوى-: إنه لا يكون إيلاءً بمجرد التلفظ، وإنما ينتظر مضي المدة التي هي الأربعة الأشهر، فإذا تمت المدة وزادت على الأربعة الأشهر فحينئذٍ يقع الإيلاء، بمعنى: أننا لا نعلم؛ لأن هذه أمور غيبية، فقد يكون خروج عيسى عليه السلام بعد أسبوع أو بعد شهر، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو وحده العليم، ولربما جاءت أمارات الساعة تلو بعضها والله على كل شيء قدير، وهو يحكم ولا معقب لحكمه، ولذلك لا نستطيع أن نقول: إنه إذا ذكر هذه الأشياء يكون مولياً مباشرة.

    والذي يظهر -كما اختاره بعض أئمة السلف رحمهم الله-: أنه ينتظر إلى أن تمضي مدة الأربعة الأشهر، ثم بعد ذلك يحكم بكونه مولياً.

    والفرق بين القولين: أن القول الأول يعتبره مولياً بمجرد صدور هذا الأمر منه، والقول الثاني لا يعتبره مولياً حتى يستتم الأربعة الأشهر ويتحقق أنه قد ذكر مدة يعتد بها للإيلاء.

    وقوله: (أو يخرج الدجال)، هذه الأشياء ذكرها العلماء كأمثلة على ذكر ما يستبعد وقوعه ويغلب على الظن وقوعه بعد مدة الإيلاء.

    تعليق الإيلاء على طلب شيء أو حدوثه

    قال رحمه الله: [أو حتى تشربي الخمر].

    ذكرنا التأقيت والتأبيد في الزمان، لكن الذي معنا هنا هو التعليق على حدوث شيء أو طلب شيء، وهذا فيه تفصيل:

    فتارة يعلق على أمر بيد المرأة أن تفعله.

    وتارة يعلق على أمر خارج عن إرادة المرأة، كأن يقول: لا أطؤكِ حتى يأتي أبي، أو لا أطؤكِ حتى أسترد مالي.. ونحو ذلك.

    أو يعلق على أمور مستحيلة، سواء طلب من الزوجة أو غيرها.

    ولذلك شرع المصنف رحمه الله في هذا النوع من التعليق فقال: (أو حتى تشربي الخمر) والعياذ بالله! قالوا: فإذا علق على فعل من المرأة فينقسم إلى قسمين:

    إما أن يعلق على فعل مباح، أو يعلق على فعل محرم.

    وإذا علق على فعل مباح بيد المرأة أن تفعله فلا يخلو أيضاً من ضربين:

    إما أن يعلق على فعل مباح تتضرر المرأة بفعله، وإما أن يعلق على فعل مباح لا تتضرر منه المرأة ولا مشقة عليها في الفعل.

    كأن يقول لها: والله لا أطؤكِ حتى تفتحي الباب، أو والله لا أطؤك حتى تقفلي الباب، فهذا أمر مباح، ويمكنها أن تقوم به دون وجود مشقة أو ضرر عليها.

    فهذا النوع قالوا: ليس بإيلاء أصلاً؛ لأن هذا أمر بيد المرأة، وقد أصبح الشيء بيد المرأة؛ فإذا أرادت الوطء قامت به، وإن لم ترد فهذا أمر يرجع إليها، قالوا: فلا يقع به الإيلاء؛ لأنه ليس فيه ضرر، وليس بالأمر الممتنع الذي يتحقق به الإضرار بالزوجة.

    أما إذا علق على فعل مباح تتضرر المرأة به وتجد فيه المشقة والعناء، فكأن يقول لها: والله لا أطؤكِ حتى تسقطي دينكِ عليّ، أو حتى تسقطي مؤخر الصداق، أو حتى تتنازلي عن حقكِ في كذا وكذا.

    والحقوق المالية لاشك أن المرأة بإمكانها أن تفعل، وهو مباح لها شرعاً أن تسامح زوجها، ومن حقها أن تعطيه المال، ولكن إذا كان بدون رضى منها فهذا فيه إضرار وفيه أذية ومشقة، وهو من الأنواع التي يقع بها الإيلاء.

    وأما الحالة الثانية: وهي أن يعلق على فعل محرم على المرأة، مثل قوله -والعياذ بالله-: حتى تشربي الخمر أو تزني، فهذا أيضاً يتحقق به الإيلاء؛ لأنه علق على أمر محرم، فيجعل الضرر على المرأة، والضـرر على المـرأة في هـذا وارد.

    وأما إذا طلب منها أمراً ليس بيدها أن تفعله، كأن يقول لها: حتى تصعدي إلى السماء -كما ذكر العلماء- أو حتى تقلبي الحجر ذهباً.. أو نحو ذلك، فقال رحمه الله يبين هذه الصور: (أو حتى تشربي الخمر) أي: أن يعلق الزوج امتناعه عن وطء زوجته على فعلها لمحرم من شرب خمر أو زنىً أو غير ذلك -والعياذ بالله- فهذا إيلاء.

    وقوله: (أو تسقطي دينكِ) أي: يعني تتنازلي عن الديون التي لك علي، أو تسقطي دينك عن أبي أو أمي، أو عن الناس، أو عن قرابتي.

    وقوله: (أو تهبي مالكِ ونحوه)، نحو الشيء ما كان مثله أو قريباً منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا) أي: مثله أو قريباً منه.

    والحاصل: أن المصنف رحمه الله يقول: إذا طلب منها فعلاً مباحاً فيه ضرر عليها، أو طلب منها فعلاً محرماً شرعاً، فهذا كله يتحقق به الإيلاء، لكن فيه ضرر على المرأة.

    وقوله: (فمولٍ)، أي: يحكم بكونه مولياً.

    1.   

    الواجب على المولي إذا انتهت مدة الإيلاء

    قال رحمه الله: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه ولو قناً، فإن وطأ ولو بتغييب حشفة فقد فاء، وإلا أُمر بالطلاق، فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ].

    قوله: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه].

    بعدما بين المصنف رحمه الله الصيغ التي يتحقق بها الإيلاء، والأشخاص الذين يصح منهم الإيلاء؛ شرع في الأحكام المترتبة على الإيلاء.

    فإذا قال رجل لزوجته: والله لا أطؤكِ سنة، فعند جمهور العلماء أنه يوقف بعد مضي المدة المعتبرة للإيلاء، وحينئذٍ يطلب منه القاضي ويقول له: أنت بالخيار بين أمرين:

    إما أن تكفر عن اليمين؛ لأنه قال: والله لا أطؤكِ سنة، أو تطلقها.

    والسبب في هذا: أن المرأة -كما ذكرنا- لا تصبر أكثر من هذه المدة، ولذلك لما استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والناس أشاروا عليه، وقيل: إن ميمونة أشارت عليه رضي الله عنها وقالت: إن المرأة تصبر عن زوجها الشهر والشهرين، وتصبر الثالث على مضض، ولكنها في الرابع في الغالب لا تستطيع أن تصبر. فهذا يدل على الحكمة العظيمة التي من أجلها جعل الله هذه المدة.

    فإذا مضت الأربعة الأشهر، وقد أقسم بالله، فاليمين تمنع، والزوجة تطالب، ولا يمكن أن نلغي اليمين؛ لأن اليمين يمين شرعي منعقد، فحينئذٍ بينت الشريعة الحكم وهو أننا نقول له: كفر عن يمينك وراجع زوجتك.

    وهذا عين العدل والإنصاف؛ فإما أن يكفر عن يمينه ويراجع زوجته، ويعود إلى زوجته ويفيء، وإما أن تطلق عليه؛ لأن هذا ليس من المعروف، والله قد أمر بعشرة النساء بالمعروف.

    ومن هنا إذا مضت المدة فقد بيّن المصنف رحمه الله أنه يُوقف ويطالب منه الرجوع والفيء، قال تعالى: فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:226-227]، فرتب الله في الآية على الإيلاء حكمين شرعيين:

    أحدهما: أن يفيء الرجل ويرجع إلى زوجته، فيقال له: كفر عن يمينك، على أصح أقوال العلماء رحمهم الله؛ لأنه يمين شرعي منعقد.

    الثاني: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ [البقرة:227]، فإذا قال: لا أريدها، ولا أريد أن أرجع إليها، وما حلفت هذا اليمين من فراغ؛ بل أنا أكرهها ولا أريدها، فيقول له القاضي: طلقها وإلا طلقتها عليك.

    فشرع المصنف رحمه الله في تأكيد هذا فقال: (فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه)، فإذا حلف اليمين مثلاً في أول محرم، فننتظر محرم وصفر وربيع الأول إلى انتهاء ربيع الثاني، ثم من حق المرأة أن ترافعه إلى القضاء؛ لكن لو جاءت ترافعه في محرم أو في صفر أو في ربيع الأول، أو قبل تمام ربيع الثاني، فليس هذا من حقها، إنما يكون الإيقاف وطلب الفيء أو التطليق بعد تمام المدة.

    ولو أن المرأة رضيت وقالت: لقد حلف عليّ خمسة أشهر، وأنا أريد أن أصبر، فإنها تصبر ولا حرج عليها، وهذا حقها.

    وبناءً على ذلك يوقف بعد تمام الأربعة الأشهر -هذا الحكم الأول- ثم يخير بين الفيء وهو الرجوع إلى زوجته وبين تطليقها.

    وقوله: (ولو قناً) القن: هو العبد (ولو) هنا إشارة إلى خلاف في المذهب، والمصنف رحمه الله يختار أن الحر والعبد في الإيلاء على حد سواء، وهذا هو الصحيح؛ لعموم قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [البقرة:226].

    الإيلاء من المطلقة رجعياً

    وفي الحقيقة كان المنبغي التنبيه على مسألة -ونحن لا نستدرك على المصنف رحمه الله؛ لأن المصنف يذكر الأمهات وهذا من حقه، لكن نريد أن ننبه على مسألة مهمة- وهي: أننا نحتسب المدة من صدور لفظ الإيلاء؛ بشرط أن لا تكون المرأة مطلقة طلاقاً رجعياً، فمثلاً: زيد من الناس آلى من امرأته وهي مطلقة الطلقة الأولى، فنقول: إنها في حكم الزوجة، كما تقدم معنا، وبناءً على ذلك يُلحق بها الإيلاء، فإذا قال: والله لا أطؤكِ خمسة أشهر، فإننا ننتظر، فإذا صدر منه في منتصف محرم، فمعنى ذلك أنه في منتصف جمادى يحق للمرأة أن ترافع وتطالب على الأصل، لكن الواقع بخلاف هذا؛ فالمطلقة رجعياً لا يبحث في مسائل الإيلاء منها إلا إذا راجعها الزوج قبل نهاية العدة، فلو راجعها وكان قد آلى منها أثناء العدة فحينئذٍ يرد الإشكال.

    فلو أنه وقع منه لفظ الإيلاء في منتصف محرم -كما ذكرنا- وراجعها في أول شهر صفر؛ فحينئذٍ تحتسب مدة الإيلاء من بداية مراجعته لها إذا كان قد راجعها في آخر محرم الذي هو بداية صفر، فإننا نضيف شهراً ونحتسب الإيلاء من بعده؛ وذلك لأنه في هذه الحالة من بعد إرجاع الزوجة يكون من حقه أن يطأ ويتأتى مطالبته بالوطء.

    وبناءً على ذلك تتضرر الزوجة بعد الرجعة، ولا تضرر في حال كونها رجعية، فإن هذا لا يترتب عليه حكم إلا اعتبار أن الإيلاء منعقد من حيث الأصل، فقال العلماء رحمهم الله: إنه إذا آلى منها وكانت رجعية، فأن مدة الإيلاء تحتسب من بداية الرجعة.

    حصول الفيء بالوطء

    قال رحمه الله: [فإن وطأ ولو بتغييب حشفة فقد فاء].

    يشترط في اعتبار المدة التي هي الأربعة الأشهر أن لا يقع فيها جماع، أو أن لا يقع فيها وطء، فلو وطأ أثناء الأربعة الأشهر ولو مرة واحدة فقد حنث في يمينه ويلزمه التكفير، ويسقط حق المرأة في مطالبتها برجوعه عن اليمين؛ لأنه إذا وطأ ولو مرة واحدة فإنه يحكم بارتفاع اليمين ووجوب الكفارة عليه؛ لأنه حلف في يمينه وقال: والله لا أطؤكِ خمسة أشهر، فجلس الشهر الأول والشهر الثاني، وفي الشهر الثالث وطأها مرة واحدة، ولذلك قال رحمه الله: (فإن وطأ).

    وإذا قلنا بأن الوطء يلغي الإيلاء ويوجب التكفير فيرد السؤال: ما هو الحد المعتبر للوطء؟

    الأصل عند العلماء والأئمة رحمهم الله: أن الوطء يحكم به بتغييب الحشفة؛ وهي رأس الذكر كما ذكرنا، ويترتب على هذا ما لا يقل عن ثمانين حكماً شرعياً ومنها هذه المسألة.

    وبناءً على ذلك: فإن حصل منه وطء لامرأته بتغييب الحشفة أو قدرها من المقطوع -كما تقدم معنا- سقط الإيلاء ووجب عليه التكفير، وتعتبر فيئة منه ورجوعاً عن اليمين.

    إذا امتنع من الفيئة أمر بالطلاق وإلا طلق عليه الحاكم

    قال رحمه الله: [وإلا أمر بالطلاق].

    قوله: (وإلا أمر) أي: يقال له: طلق، فإذا قال: لا أطلق ولا أرجع لزوجتي، فحينئذٍ يرفع إلى القاضي ويشتكى به، فإذا اشتكته امرأته إلى القاضي طالبه بالقضاء وقال له: ارجع إلى زوجتك، وكفر عن يمينك وأتِ الذي هو خير، فإذا قال: لا. فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، فأصبح لا يريد أن يطلق، ولا يريد أن يكفر عن يمينه، فحينئذٍ يطلق القاضي عنه، ويكون من حق القاضي أن يتولى الطلاق، على خلاف عند العلماء، والصحيح أنه ينـزل منـزلته؛ لأن هذا من الظلم والإضرار، وقد بين الله عز وجل أن من حق الزوج هذه المدة، وإذا جاوزها التقط حقه، فإذا لم يفئ فإنه غير معاشر بالمعروف، فمن حق الحاكم والقاضي أن يطلق عليه.

    قال رحمه الله: [فإن أبى طلق حاكم عليه واحدة أو ثلاثاً أو فسخ].

    الحاكم: هو القاضي ومن في حكمه ممن ينصب لفض المنازعات وقطع الخصومات على الوجه الشرعي، وتكون أهليته على الوجه المعتبر، وتتحقق فيه الأهلية المعتبرة شرعاً.

    فالقاضي إذا نظر حال الزوج مع الزوجة ووجده ظالماً مؤذياً مضراً، وأنه قد تعدى حدود الله، ولا مصلحة في رجوع المرأة إليه، فإن من حقه أن يطلقها عليه بالثلاث، وقد ذكرنا أن جماهير السلف والخلف على أن الثلاث بلفظ واحد ماضية، وبينّا هذا وبينّا وجهه ودليله.

    فمن حق القاضي أن يطلق ثلاثاً لكي يمنعه أو يحول بينه وبين هذه المرأة التي آذاها وأضر بها، وكذلك من حقه أن يطلق الطلقة الأولى والثانية، فلو نظر أن من المصلحة أن يطلقها طلقة واحدة طلق طلقة واحدة، وهكذا لو كان الزوج قد طلق طلقتين وبقيت له طلقة واحدة، وجاء القاضي وأمر الزوج بالتطليق فلم يطلق، وأمره بالفيء فلم يفئ؛ طلق عليه الطلقة فكانت ثالثة، وسواء طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً.

    وقوله: (أو فسخ) أي: يقول: فرقت بينكما، وفائدة الفسخ أنه لا يمتلك الزوج إرجاع الزوجة إلا بعقد جديد، ولذلك بعض العلماء يرى أن الطلاق هنا طلاق غير رجعي ولو كان طلقة واحدة؛ لأنه لو كان طلاقاً رجعياً لأمكن أن يقول: راجعتك، وتبقى المرأة في الضرر.

    والصحيح أنه طلاق رجعي، وذلك لأن الحكم أن من حق القاضي أن يطلق أو يفسخ، فإن نظر المصلحة في الطلاق طلق، وإن نظر المصلحة في الفسخ فسخ، وإذا رأى أن يطلق فإن شاء طلق الطلقة الأولى، وإن شاء طلق الطلقة الثانية، وإن شاء طلق الطلقة الثالثة، ولو طلق عليه الطلقة الأولى والمرأة صارت رجعية فقال الزوج: راجعتك، فحينئذٍ أيضاً يحتسب له بحكم الإيلاء، ويوقف مرة أخرى ويقال له: إما أن تفيء وإما أن تطلق، وهذا هو اختيار جمع من العلماء رحمهم الله.

    والسبب في هذا: أن المرأة مظلومة ومتضررة، ولا شك أنه إذا راجعها ولم يطأها فمعنى ذلك أنه يريد رجعتها من أجل الإضرار بها، والله يقول: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231] .

    فبيّن أنه ظالم وأنه معتدٍ لحدود الله، فمن حق القاضي أن يمنعه، فلو طلق عليه الطلقة الأولى فراجعها مباشرة فاشتكته إلى القاضي وقالت: ما رجع إليّ ولا فاء، فأمره القاضي بالرجوع فأبى، فيقول له: طلقها، فإذا قال: لا أطلقها، ففي هذه الحالة له أن يطلق عليه الطلقة الثانية، وكذلك لو راجعه بعد الثانية فله أن يطلق عليه الطلقة الثالثة، فله أن يصدرها مفرقة وله أن يصدرها مجتمعة؛ لأن الأمر عائد إلى النظر في مصالح الخصوم، والقاضي له حق النظر في مصالح الخصوم وله أن يفسخ.

    ولماذا يلجأ إلى الفسخ؟ يلجأ إلى الفسخ إذا رأى أن الرجل يريد الإضرار، وأنه ليس من مصلحته أن يستخدم هذا الإضرار، فيفسخ نكاحها حتى يبعدها عن هذه المشاكل باحتمال أن يعود إليها، فيمكن أن يوجد زوج عنيد، ويعلم أن المصلحة أن تعود له زوجته، لكنه لا يريد أن يعيدها، ففي هذه الحالة لو أنه أعادها له بطلقة واحدة رجعية ربما فاتت الثلاث تطليقات بالإيلاء؛ فحينئذٍ يلجأ إلى الفسخ، فتحتسب له طلقة واحدة أفضل من أن تحسب له ثلاث طلقات، وهذا يرجع إلى فقه القاضي ودرايته بحال الخصومة.

    فالعلماء رحمهم الله نصوا على هذا؛ لأن مقصود الشريعة دفع الضرر عن الزوجة بوجه لا يتضمن أيضاً الضرر على الزوج، ما لم يكن الزوج متسبباً في إدخال الضرر على نفسه؛ لأنه هو الذي حلف، وهو الذي صدر منه اليمين.

    قال رحمه الله: [وإن وطأ في الدبر أو دون الفرج فما فاء].

    بعد أن بيّن رحمه الله أن الوطء يرفع اليمين، بيّن أنه لا يعتد بوطء غير شرعي وهو الوطء في الدبر، وهذا من كبائر الذنوب، ومن الأمور المحرمة، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلامٌ نفيس في بدائع الفوائد وغيره من كتبه كعادته رحمه الله، فقد بيّن أموراً عجيبة -والعياذ بالله- في وقوع الزوج في هذا الأمر المحرم وهو إتيان الزوجة من الدبر؛ أنه يفسد الزوجة، ويفسد القلب ويظلمه -نسأل الله السلامة والعافية- وله العواقب الوخيمة على المرأة وعلى الزوج.

    ولذلك فإن هذا النوع من الوطء محرمٌ شرعاً، ولا يُعْتَدُّ به، فلو حصل وطء به فإنه لا يعتبر فيئاً، ولا يُسْقِط حكم الإيلاء.

    1.   

    مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء

    قال رحمه الله: [وإن ادعى بقاء المدة أو أنه وطأها وهي ثيب صُدِّق مع يمينه]:

    شرع رحمه الله في بيان مسائل القضاء المترتبة على باب الإيلاء، وقد تقدم معنا في مسائل المعاملات أن العلماء رحمهم الله من عادتهم أن يذكروا مسائل القضاء في آخر كل باب على حدة فيما يختص به من المسائل.

    فهنا عندنا مسألة وهي: إذا وقع الإيلاء وجاءت المرأة بعد أربعة أشهر واشتكت، قلنا: إن الوطء يقطع حق المرأة ويزيل حكم الإيلاء، فإن قال الرجل: وطأتها، وقالت المرأة: نعم. وطأني، فحينئذٍ لا إشكال، وقد ثبت عندنا أنه حصل وطء، ويعتبر الوطء فيء ورجوع.

    لكن الإشكال لو قال: وطأتك -يخاطب زوجته أمام القاضي- وطأتك خلال مدة، فليس من حقكِ أن تخاصميني، فقالت: ما وطأني وما حصل وطء، وأنكرت الوطء، فهل نصدق الزوج أو نصدق الزوجة؟

    للعلماء وجهان في هذه المسألة:

    فمن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأنه يبقي حكم النكاح -وهذا هو الأصل- ولا نصدق الزوجة؛ لأنها تدعي أمراً يئول بالنكاح إلى ارتفاعه؛ لأنه ربما رجعت المسألة إلى الطلاق.

    وبناءً على ذلك: قالوا: إنه يُصَدَّق الزوج؛ لكن هذا التصديق مبني على مسألة التهم، وفي مسائل التهم إذا صُدِّق القول مع التهمة فإنه يطالب باليمين التي تسمى عند العلماء في القضاء -كما سيأتينا إن شاء الله في باب القضاء- بيمين التهم، ويمين التهمة تقوي جانب الخصم على خصمه، قال الناظم:

    فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتُضِي

    أي: باليمين يعتبر القول الذي يعارضه غيره مع وجود التهمة؛ لأنه يحتمل أن تكون المرأة صادقة وأنه ما وطأها.

    والسبب في الخلاف: أن بعض العلماء يقول: تصدق الزوجة؛ لأن الأصل عدم وجود الوطء؛ لأنه قال: والله لا أطؤك، فالأصل أنه ما وطأ لأن عنده يميناً تمنعه من الوطء، فقالوا: نصدق الزوجة ونقبل قولها ونطالب الزوج بالفيء أو التطليق.

    ومن أهل العلم من قال: نصدق الزوج؛ لأن المرأة في ادعائها أنه لم يطأ تدعي أمراً خلاف الأصل، مما يوجب رفع النكاح كما تقدم معنا.

    فهذا وجه الخلاف بين القولين، ولكل قول وجهه.

    قال رحمه الله: [وإن كانت بكراً وادعت البكارة وشهد بذلك امرأةٌ عدلٌ صُدِّقت].

    الخلاف الأول: إذا كانت ثيباً، وهي التي لا علامة فيها ولا أمارة تميز وجود الوطء وعدمه، لكن إذا كانت بكراً فهناك علامة تؤكد أو ترجح، ولذلك قالوا: قد يقع جماع البكر دون افتضاضٍ لبكارتها، وهذا أمر نادر، والشرع لا يبني الحكم على النادر؛ لكن بعض العلماء لا يعتد بهذا الوطء.

    وعلى كل حال قالوا: إذا ادعت بأنه لم يطأها وكانت بكراً والبكارة موجودة؛ لأنه ربما تكون المرأة قد أزيلت بكارتها قبل النكاح، وليس زوال البكارة يدل على أن المرأة فاسدة في كل الأحوال؛ لأنه ربما زالت بكارتُها بسبب قفز أو بسبب غير الوطء، وهذا أمر ثابت طبياً.

    ولذلك فمسألة وجود البكارة وعدمها قرينة أو مرجحة، لكنها لا توجب القطع ولا توجب الثبوت من كل وجه، وهي ترجح جانب المرأة، فلو أنها قالت: ما وطأني، وأنا بكر، كامرأة عقد عليها زوج وهي بكر ثم حلف أنه لا يطؤها ومكن من الدخول ثم حلف أن لا يطأها، فاشتكته إلى القاضي بعد أربعة أشهر فقالت: ما وطأني، وقال الرجل: بل وطأتها، فقالت المرأة: تزوجني وأنا بكر ولا زالت بكارتي موجودة، فقيل للرجل: ماذا تقول؟ قال: لا أزال مصراً على قولي، وفي هذه الحالة ينتدب القاضي امرأة أو طبيبة شرعية يوثق بقولها شرعاً للنظر والتأكد مما ذكرت، فإن وجدت البكارة كما هي فلا إشكال، لكن الإشكال أن هذا كان موجوداً في زمان الأولين حين يتعذر إعادة البكارة، لكن في زماننا يمكن إعادة البكارة؛ ولذلك فهذه المسائل بعضها يحتاج إلى نظر وتحرير، وهو مختلف في الحكم باختلاف الأزمنة.

    وهذا النوع هو الذي يسميه العلماء: تغير الفتوى بتغير الزمان، وليس المقصود بتغير الفتوى -كما يظنه البعض- التلاعب بالنصوص الشرعية، والدعوة إلى الأمور المحرمة كمسائل السفور ونحوها تحت غطاء تغير الفتوى بتغير الزمان.. هذا لا يصدر من إنسان عالم قرأ نصوص الكتاب والسنة، وفكر في دين الله وشرع الله.

    لكن قد توجد أمور تقتضي تغير الأحكام بتغير الأزمنة؛ ومنها هذه المسائل، فإن العلماء حكموا بأنها أمارة ودليل ربما يستأنس به، لكن في زماننا يمكن رتق غشاء البكارة.

    وهذا النوع من الجراحة لا أشك في حرمته شرعاً، فلم أجد نصاً في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم يبيح هذا النوع من الجراحة، مهما ادعي من الادعاءات، حتى ولو أن المرأة اغتصبت وأوذيت بالباطل، فليس من حق الطبيب أن ينظر إلى فرج المرأة، ولا أن يستبيح الإيلاج، ولا أن يستبيح اللمس، وليس من حق حتى المرأة مع المرأة؛ لأن الفرج هو العورة المغلظة المشدد في حرمتها.

    فإذا قالت: إنها ستعيدها، بناءً على أن هذه المرأة اغتصبت، بقي حق الزوج، فكيف يدخل على امرأة يظنها بكراً، وتعامله معاملة البكر، ويعطيها مهر البكر، فأين حق الزوج؟

    وهذا اختلال في النظر، ولذلك فإن بعضهم -أصلحهم الله- يفتي بمسألة رتق غشاء البكارة تحت العواطف وتحت المبررات، مع أن هذا أمر من ناحية شرعية ليس له مبرر فيما ظهر لي بعد دراسة هذه المسألة والنظر في أدلة من يجيزون هذا النوع من الجراحة.

    ولا أشك أن هذا النوع من الجراحة المحرم لا يجوز للطبيب ولا للطبيبة أن يقوما به؛ لأنه ليس هناك مبرر شرعي للقيام به، وكل ما في الأمر أنه إذا اعتدي عليها واغتصبت، فإنه إذا جاء من يخطبها فإن الله أمرنا بأن ننصح ونبين فنقول له: إن أردت أن تسترها فأنت مأجور، ولا شك أن من فعل ذلك له عند الله عظيم الأجر وعظيم الثواب، إذا احتسب وقصد من ذلك مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإن الله يأجره.

    فيطلع على الحقيقة، ويبيّن له أن المرأة صالحة وأنها مستقيمة، وأنها اعتدي عليها، أو يثبت ذلك بالوسائل الموجودة في زماننا ثم يعرض الأمر عليه، فإذا ارتاحت نفسه واطمأنت أن يحتسب الأجر عند الله، وأن يطلب من الله عز وجل أن يخلف عليه في مصيبته، فهذا فضل وخير منـه، والله يأجره على ذلـك، وإذا لم يرد فلا بأس، أما أن يرتق غشاء البكارة، ويدل الرجل على المرأة على أنها بكر، فلا يجوز.

    ثم إن هذا النوع من الجراحة فتح -والعياذ بالله- باب الفساد، فتجد المرأة لا تبالي أن تقدم على الحرام تحت طمأنينتها أن غشاء البكارة يمكن رتقه، فإبطال هذا النوع وقفل بابه لا شك أنه يقفل باب مفاسد كثيرة وشرور عظيمة.

    فمنع هذا النوع كلية والحيلولة بين الطبيب من الناحية الشرعية ومن الناحية العرفية يمنع المفاسد المترتبة؛ لأنه لو وجد عذر لبعض فئات من المجتمع، فإنه لا يوجد العذر في الفئة الثانية التي ربما تقع في الحرام حقيقة، ثم تدعي أنها اغتصبت أو أنه فعل بها هذا بدون حق.

    فالشاهد: أن مسألة ادعاء البكارة من المسائل التي تحتاج إلى أن يفصل فيها، خاصة في هذا الزمان الذي أمكن فيه عود الغشاء كما لا يخفى.

    امتناع الزوج عن وطء زوجته إضراراً بها بدون يمين

    قال رحمه الله: [وإن ترك وطأها إضراراً بها بلا يمين ولا عذر فكمولٍ]

    هذه المسألة الأخيرة التي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الباب، وهي مسألة امتناع الزوج من وطئه لزوجته على سبيل الإضرار بها.

    فإذا امتنع الرجل من وطء زوجته أربعة أشهر واشتكت إلى القاضي، فإن القاضي يوقفه ويقول له: إما أن تعود إلى المرأة وتفيء وتجامعها وتعطيها حقها وتعفها عن الحرام، وإما أن تطلقها أو نطلقها عليك.

    وقد قصد المصنف رحمه الله من هذا بعدما بين أحكام الإيلاء التي هي الأصل، أن يشرع في بيان ما يقاس على الإيلاء، فالشريعة حينما أعطت المرأة هذا الحق، وهو مخاصمة زوجها بعد تمام المدة وهي الأربعة الأشهر وهي إيقافه شرعاً، فكذلك المعنى الذي من أجله شُرع للمرأة أن تطلب بفيء زوجها وتطليقه موجود في حال امتناعه عن وطئها بدون يمين.

    فمن حقها أن توقفه وتسأله الرجوع أو التطليق، ومما ينبغي أن يتنبه له كل مسلم أن الزواج له حقوق ومسئوليات وواجبات؛ ومنها: أنه يجب على الرجل أن يعف امرأته عن الحرام، كما أنه يجب على المرأة أن تعف زوجها عن الحرام، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن وكثرت فيه المحن، فالواجب على المرأة أن تحفظ زوجها وتحافظ عليه، وكذلك الزوج الواجب عليه أن يحافظ على زوجته، ويحول بينها وبين الحرام، خاصة إذا كانت صالحة وكان الزوج صالحاً.

    وبعض الأزواج يتساهل في هذا الأمر، وينظر إلى أن الاستمتاع بالمرأة مجرد شهوة ولا يبالي، فيكثر من السفر، وربما يغيب الأشهر العديدة، دون أن ينظر إلى حق زوجته في فراشها وحاجتها إلى من يعفها.

    وكذلك المرأة ربما عاشت مع زوجها فلا تتجمل له، ولا تحسن التجمل له حتى تحفظه من الحرام، حتى لربما -والعياذ بالله- زلت قدمه ووقع في الحرام، وتعاطى الأسباب لا يخلو الإنسان من الإثم -والعياذ بالله- والحرج.

    ولذلك المرأة التي تقصر في حق زوجها في فراشه ربما كانت سبباً في وقوعه في الزنا والعياذ بالله! وهذا ستسأل عنه أمام الله عز وجل.

    والرجل الذي يقصر في حقوق امرأته ويغيب عنها، ولا يشترط أن يمتنع من وطئها أربعة أشهر، فإن بعض النساء قد لا تصبر شهراً أو شهرين؛ كالمرأة حديثة العهد بالعرس، أو المرأة التي تعيش في اختلاط، أو في بيئة يصعب فيها الصبر، أو حال يدعو إلى الحرام، مثل أن تكون بين أبناء عمومته أو أبناء خئولته، ويكون مجتمعه فيه نوع من الاحتكاك والأخذ والعطاء، أو يكون وضعها الاجتماعي يوقعها في مثل هذه المحرمات، أو مخالطة الرجال، فهذا كله يشدد في أمره.

    والواجب على الرجال أن يتقوا الله في النساء، والواجب على النساء أن يتقين الله في أزواجهن، وأن يحسن التبعل للأزواج، وأن يحسن الرجل إلى زوجته، وأن يعلم أن من كمال الله عز وجل وكمال شرعه أن المؤمن يحتسب الثواب عند الله حتى في شهوته، قالوا: (يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟)، فهذا يدل على كمال هذه الشريعة وسموها.

    نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.

    والله تعالى أعلم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم تكفير الزوجة عن زوجها يمين الإيلاء

    السؤال: إذا طلب الزوج المولي من زوجته أن تكفر هي من مالها يمين الإيلاء، فهـل تصـح الكفارة؟

    الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    فإذا لم يكن عنده مال، ولم تكن عنده قدرة على أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم، أو يعتق رقبة، فإنه يصوم ثلاثة أيام، فإذا وكلها في إخراج الكفارة ورضيت بذلك وقالت: أنا أخرج من عندي، فلا بأس، وهذا أمر يرجع إليها، فإذا فعلت فالإيلاء ساقط والكفارة معتبرة. والله تعالى أعلم.

    بيان أن النشوز ليس كالإيلاء

    السؤال: هل النشوز الذي يكون من المرأة يعتبر مقابلاً للإيلاء، كما لو أقسمت أن لا تمكنه من نفسها؟ أثابكم الله.

    الجواب: لا يجوز للمرأة أن تحلف وتقول لزوجها: والله لا أمكنك من نفسي؛ لأن الملائكة ستلعنها حتى تصبح.

    وهذا يدل على أن المرأة ينبغي لها أن تأخذ الحذر في معاملتها لزوجها؛ لأن الزنا والحرام من الرجل أسهل من المرأة، وإذا امتنعت المرأة ربما نفر منها الزوج كلية؛ لأن الزوج بمجرد أن يشعر أن امرأته لا تحبه فإنه يترتب على ذلك الكثير من المفاسد والشرور.

    والمرأة تستطيع أن تعلم أن زوجها لانشغاله أو لأي أمر إذا صرف عن محبتها في وقت فإنه سيعود لها، فهناك فرق بين الرجل والمرأة، ولذلك عظم الشرع امتناع المرأة، وعظم أيضاً امتناع الرجل، لكن جعل للرجل حداً لم يجعله للمرأة، والله يحكم وله أن يفضل وله أن يميز.

    وهذا يدل على أن الشريعة تراعي أموراً دقيقة جداً في هذه المسائل، فعلى المرأة أن تتقي الله، ولا يجوز لها أن تمتنع ليلة واحدة، بل حتى إذا دعاها إلى الفراش وامتنعت من ليلتها -والعياذ بالله- فقد جاء في الحديث الصحيح في رواية: (كان الذي في السماء عليها غضبان حتى تصبح)، وفي الحديث الآخر: (أيما امرأة دعاها زوجها فأبت باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح) نسأل الله السلامة والعافية. والله تعالى أعلم.

    امتناع الزوج عن امرأته بقصد تأديبها

    السؤال: لو أراد الزوج من عدم معاشرته لأهله ووطئه أن يردعها حتى تتوب إلى الله وتقيم الصلاة، فهل هو مول إن طالت المدة، خصوصاً وأنه يريد الإصلاح لا الإضرار؟

    الجواب: النبي صلى الله عليه وسلم أدب نساءه وحلف أنه لا يطأ شهراً، وآلى من نسائه، وهذه أمور يرجع فيها إلى الزوجين، وهما أعرف، لكن لو كانت المدة دون مدة الإيلاء وقصد بها الإصلاح فما على المحسنين من سبيل، فالزوج أدرى بأهله وأدرى بزوجه، سواء في أمور الدين أو أمور الدنيا، ولذلك أمر الله عز وجل بتأديب الزوجة إذا نشزت.

    والأفضل والأكمل -كما ذكر بعض العلماء والحكماء- أن لا يلجأ الزوج إلى المعاقبة بالعواطف إلا عند الضرورة، فلا يصل إلى طريقة تشعر بها المرأة بأسلوب مباشر أو غير مباشر أنه لا يريدها، فإن هذا من أسوأ ما يكون، وتترتب عليه العواقب الوخيمة، والعكس من المرأة أيضاً؛ فلا تشعر الزوج لا بأسلوب مباشر أو غير مباشر أنها لا تريده؛ لأن هذا هو دمار البيوت، وبه تتهدم الأسر وتتشتت؛ لأن الله جعل الرباط بين الزوج والزوجة قائم على المودة والرحمة.

    فمن هنا التلاعب بالعواطف والتأثير بها أمر لا تحمد عقباه، فالمرأة لا تستطيع أن تتحكم بنفسها؛ لأنه بمجرد أن تشعر أن زوجها لا يريدها أو أن زوجها ليس راغباً فيها، ربما -والعياذ بالله- أفسدت نفسها ودخلت عليها وساوس الشيطان وأصابتها الأمراض النفسية.

    وانظر إلى حكمة الشريعة الإسلامية في كثير من المسائل التي بين الزوجين كيف أن الشرع جعل لها الحل، وانظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يقبل زوجته إذا خرج من البيت إلى الصلاة التي جعل الله قرة عينه فيها صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقبلها حتى يكون آخر العهد ما يدل على الرباط وعلى المودة والمحبة، وعلى الرحمة والإلف والتواصل، وهذا ليس منقصة للرجل، وإنما هو كمال؛ لأنه فعله أكمل الرجال وأكمل الأمة صلوات الله وسلامه عليه، فليس ديننا بالدين الذي حجز الناس بالرهبانية وفي المساجد، وعزلهم عن الأسر وإقامتها بالمعاملة اللطيفة، فكل شيء جعل الإسلام له حقه وقدره.

    فكما أن الجهاد يقوم ببذل الأنفس، وتسيل فيه الدماء لوجه الله عز وجل ولإعلاء كلمة الله وكسر شوكة أعداء الله عز وجل، كذلك في الأسر تجد المودة والرحمة، وتجد التعاطف واللين، وتجد الكمال الذي قامت عليه هذه الشريعة الإسلامية خاصة في منهج النبي صلى الله عليه وسلم.

    فإذا تلاعب الزوج بالعواطف وتلاعبت الزوجة بالعواطف فعندها لا تحمد العواقب؛ لأن المرأة إذا عاشت في مواقف محرجة ووجدت الزوج يعطف عليها، وعاشت في غلطات تصدر منها مع الزوج ومع ذلك تجد منه الدلائل التي تشير إلى حبه لها، ضحت من أجله وصبرت.

    وهذا معروف في قصص الأولين وأخبارهم، كما ذكر الحكماء في القصص الهادفة الحقيقية المبنية على وقائع صادقة، فإن المرأة ربما أحبت زوجها وامتحنته واختبرته بمواقف عاطفية معينة صدق معها فيها، حتى وقفت معه في آخر عمره في أحلك الظروف وأشدها.

    ولربما ذهب جماله في عز شبابه، ولربما ذهبت قوته وذهبت صحته، حتى إن المرأة تحب زوجها بصدق بسبب المواقف التي رأتها منه؛ من صدق المشاعر وصدق المودة، فإذا انصرف عنه كل شيء جاءت عند قدميه محبة، ولم يختلف حبها وودها بل لربما زاد أكثر.

    وهذا كله يحتاج إلى أن يضحي الإنسان من أجله، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسس التي ينبغي على الإنسان أن يراعيها فقال: (خيركم خيركم لأهله)، وهذه الخيرية تحتاج منا أن لا يمس الإنسان المشاعر، فالمرأة والرجل ينبغي عليهما الحذر في الأمور التي يعاقب فيها خاصة في أمور الفراش.

    يقول تعالى: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [النساء:34] فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ، فجعل الأمر مرتباً؛ لأن المرأة المؤمنة الصالحة التي تخاف الله عز وجل إذا ذكرها زوجها بالله تذكرت، وإذا رأت زوجها يسهر الليل ويتأخر عنها ويضيع حقها قالت له: يا هذا اتق الله.

    والمطلوب من الزوج إذا قالت له امرأته: اتق الله، أن يجعل الجنة والنار أمام عينيه، وأن لا ينظر إلى نفسه نظرة الكمال، وقد كان السلف إذا قيل لأحدهم: اتق الله؛ جلس يبكي من خشية الله عز وجل وخوفه، ولذلك سمت نفوسهم إلى العلياء وإلى الخيرات، ففازوا بخيري الدنيا والآخرة.

    فعلى المسلم دائماً إذا قالت له زوجته: اتق الله، أن يتقي الله، ويعتقد أنه مقصر ويقول لها: أنا مقصر؛ حتى يسمو بنفسه عن أذية الزوجة.

    قال الله تعالى عن النساء: فَعِظُوهُنَّ [النساء:34]، ثم قال: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ [النساء:34]، فجعل العقوبة بالأفعال لا بالأقوال، وهذا يدل على كمال الشريعة؛ لأن الكلمة النابية من الزوج وقعها أليم وجرحها عظيم، ويبقى أثرها في المرأة ربما سنوات، ولا يمكن أن تنسى هذه الكلمة، خاصة إذا مست مشاعرها.

    وهذا يدل على أن المشاعر والعواطف التي بين الزوج والزوجة ينبغي لكل منهما أن يحذر المساس بها، والسعيد من وفقه الله ووعظ بغيره وانزجر عن هذه الأمور، ولم يصل إليها إلا إذا بلغ الأمر مبلغه.

    إذا لم تكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها

    فهذه أحوال خاصة وأمور خاصة يحكم فيها ويفتى بحسب وجود الحاجة وبقدرها. والله تعالى أعلم.

    جلوس الإمام المنهي عنه بعد الصلاة

    السؤال: بالنسبة لمكث الإمام في مصلاه، هل النهي أن يجلس بعد السلام ووجهه إلى القبلة أم أن النهي عن جلوسه بعد الانصراف؟ أثابكم الله.

    الجواب: بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

    فيجلس الإمام ووجهه للقبلة قدر ما يستغفر ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام) كما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها، ثم ينصرف.

    والسبب في هذا: أنه يعطي الناس ظهره، ولا ينبغي للإنسان إذا جلس أمام الناس أن يعطيهم ظهره إلا من حاجة، فلما انتهت الحاجة وهي إمامته بالناس وصلاته رجع إلى الأصل من الإقبال على الناس بوجهه، ولذلك جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينصرف إلى المصلين.

    والانصراف ينبغي أن يكون كاملاً، فيقبل على الناس ويجلس حتى تكون ميمنة الصف ميسرة له، وميسرة الصف ميمنة له، وأما الانصراف الجزئي كأن يجلس ويعطي الناس شقه الأيمن؛ فهذا في حالة ما إذا صليت ببعض الناس المتأخرين، فإذا سلمت فلا تستطيع أن تكون في وجههم، فاستحب العلماء أن تجلس وتعطيهم كتفك الأيمن إذا كانوا يتمون لأنفسهم، حتى لا يظن من يرى من بعيد أنه يسجد لمن أمامه.

    فمن هنا كرهوا الجلوس أمامه مباشرة؛ لأنه سيكون كالساجد له، وإنما يعطيه كتفه الأيمن، وإذا صليت بشخص معك ثم جاء أناس في الركعة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، أو في آخر الصلاة، فإذا سلمت ستجد أمامك صفاً أو بعض الصف وأنت أمامه، فاستحب العلماء رحمهم الله أنه لا يقبل عليهم إقبالاً كاملاً ولا يجلس بين القبلة.

    أما مسألة الانصراف من المصلى، فيكون بعد الانتهاء من التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين، وقول تمام المائة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، وفي رواية: (بيده الخير وهو على كل شيء قدير)، قالوا: لأنه إذا انصرف قبل هذا فستكون له مزية على الناس، ولا يجوز لأحد أن يتميز عن الناس؛ لأن منهم من هو أكبر منه، وقد يكون فيهم من هو أعلم منه وأفضل منه، وقد يكون فيهم والده.

    ولذلك لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس في مصلاه إلا في موضعين: منها صلاة الفجر؛ فقد كان يجلس إلى طلوع الشمس، وبعض الأحيان يقوم قبل طلوع الشمس؛ لما ثبت في الصحيح أنهم كانوا يأتونه ويجالسونه بعد صلاة الفجر، ويتحلقون عليه حلقة حتى يخوضون في أمور الجاهلية وما كانوا فيه، فيضحكون ويتبسم، كما في صحيح مسلم وغيره.

    فهذا يدل على أنه بعد صلاة الفجر يجلس في مصلاه، كأن يأتي سائل أو يأتي مستشكل ويحبسه في مصلاه، فيكون عند الضرورة والحاجة، أما في غير الضرورة والحاجة؛ كأن يريد أن يمكث في المسجد، فيقوم إلى سارية في مكان آخر، ولذلك كان العلماء والأئمة يجعلون مجلساً للفتوى ومجلساً للصلاة، فكان أحدهم إذا انتهى من الصلاة يقوم لمجلسه الذي برز فيه للناس حتى يأتون للفتوى والسؤال.

    وهذا من أنسب ما يكون، وهو من فقه الإمامة وآداب الإمامة كما ذكر بعض أئمة العلم رحمهم الله. والله تعالى أعلم.

    حكم جهر المأموم بالتكبير وأذكار الركوع والسجود

    السؤال: هل يشرع للمأموم الجهر بالتكبير وأذكار الركوع والسجود في صلاة الجماعة؟

    الجواب: إذا كان يريد الإثم وأذية الناس والإضرار بهم يفعل ذلك، فإن الجهر من المأموم يشوش على من بجواره، ويشوش على المصلين، وهذا مجرب ومشاهد.

    وأذكر عشرات المرات أنني كنت في بعض الأحيان لا أستطيع أن أقرأ التشهد، ولا أستطيع أن أسبح أو أخشع في تسبيحي لأن من بجواري يرفع صوته.

    فهذا لا ينبغي ولا يجوز، وهذا من الإضرار، وخاصة أذية المصلين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الثوم والبصل حتى لا يؤذي الناس ببَخَره، فإذا كان هذا بالبَخَر والرائحة فكيف بمن يؤذيهم في خشوعهم وذكرهم لله عز وجل؟!

    ولربما التبس على الناس، حتى إن بعض الأئمة قد يلتبس عليه، فالمأموم لا يشرع له أن يرفع صوته، ولا يشرع إلا في مسائل نادرة؛ منها: أن يكون الصف طويلاً، وأن تكون هناك صفوف بعيدة جداً ولا يمكن التبليغ إلا يرفع الصوت، فيجوز عند الضرورة والحاجة.

    وهذا القول له دليل: وهو حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرض الوفاة، فإنه كان يرفع صوته يسمِّع الناس من ورائه.

    هذا هو الذي يشرع في رفع صوت المأموم، أو يريد أن ينبه الإمام، أو الأذكار التي ورد رفع صوت المأموم بها من التأمين، فإن هذا مستثنى، أما ما عدا ذلك فلا يجوز؛ لأن فيه أذية وإضراراً وتشويشاً على المصلين.

    ولا شك أنه في بعض الأحيان يشوش علينا؛ لكن إذا كَمُل خشوع الإنسان فقد لا يضره مثل هذا؛ لكن الغالب أنه يضر ويشوش.

    فالواجب على المأموم أن يخفض صوته بقدر ما يحرك به شفتيه، وهذا هو حد الإجزاء. والله تعالى أعلم.

    المقصود بالعدل بين النساء

    السؤال: من كان يتحرى العدل بين نسائه هل يلزمه أن يعدل أيضاً في الوطء والفراش؟ أثابكم الله.

    الجواب: العدل هو في الفراش، كما هو في غيره من النفقات ونحوها، والعدل في الفراش فيه جانبان:

    الجانب الأول: مسألة أن ينام معها ويبيت، وهذا حق مُجْمَع عليه؛ لأن النصوص الشرعية دالة على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ أنه قال: (من كانت له زوجتان فلم يعدِل بينهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل) نسأل الله السلامة والعافية.

    قيل: (شِقُّه مائل) أي: نصفه مشلول، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- في عرصات يوم القيامة.

    وقيل: (شِقُّه مائل) أي: أن كفته -والعياذ بالله- تميل بالسيئات والأوزار والآثام.

    وهذا يدل على عظم ظلم النساء، ويدل عليه حديث البخاري في الصحيح: (إني أَحَرِّج حق الضعيفين: المرأة، واليتيم)، فجعل حق المرأة مع اليتيم، وهذا يدل على أن الإخلال به فيه وزر عظيم، ولذلك قال: (جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل)، فلابد أن يعدل في البيتوتة فيبيت عندها.

    لكن لو أنه جامل، فقد تكون امرأة أجمل من أخرى، وقد تكون أكثر أدباً، وقد تكون أكثر إكراماً له، فتكون محبتها له أكثر من جهة القلب، فهذا لا ملامة فيه.

    والقوة في الجماع والإتيان ليست مطلوبة، يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)، فهذا شيء لا يملكه الإنسان، فقد تكون المرأة من أجمل النساء ولكنها من أسوأ النساء لساناً، فتمقتها النفوس وتنفر منها الطباع، وقد تكون المرأة أقل جمالاً، ولكنها أكثر صلاحاً وأكثر أدباً وحشمةً، وأدرى بطريقة حفظها لزوجها ومحافظتها على وده ومحبته، فتكون أكثر حظوة.

    ومن هنا يرجع الأمر إلى اجتهاد المرأة، فالمرأة الموفقة هي التي تعرف كيف تحرص على ود زوجها وإرضائه.

    وعلى كل حال: المطلوب أن يبيت؛ لكن مسألة قوة الجماع وضعفه هذه مسألة لا يطالَب فيها بالعدل، فالمرأة التي هي أكثر حظوة ليست كغيرها، والأمر مرده إلى الإنسان في ذلك، حتى إنه لا يستطيع أن يملك نفسه.

    ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة ، وقد استأذن زوجاته أن يُمَرَّض عند عائشة ، ولما سُئل كما في الصحيح من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أي نسائك أحب إليك؟ قال: عائشة . قيل: من الرجال؟ قال: أبوها).

    فهذا يدل على أنه قد تقع المرأة في مكان الحظوة لكمال دينها واستقامتها وجمالها، وهذا أمر يختلف فيه النساء، وليس الزوج مسئولاً عن تحقيق العدل في مثل ذلك لتعذره وصعوبته.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756334953