إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاقللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله سبحانه الطلاق حقاً للزوج، ولكن يختلف ما يملكه المرء من عدد الطلقات بكونه حراً أو كونه عبداً، وكذلك يختلف العدد بحسب ما تلفظ به وما نواه، وهذا كله بحثه العلماء في هذا الباب.

    1.   

    تعدد الطلاق

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ باب ما يختلف به عدد الطلاق ].

    تقدم معنا أن الطلاق له ألفاظٌ مخصوصة، وهذه الألفاظ تارةً تكون صريحةً في الدلالة على الطلاق بحيث لا تحتمل معنىً غير اللفظ، ولا تحتمل معنىً غير الطلاق، وقد تكون هذه الألفاظ محتملة، وبيَّنا حكم كلٍّ من الصريح والمحتمل.

    وبعد هذا شرع المصنف -رحمه الله- في بيان ما يختلف فيه عدد الطلاق، فالمطلق تارةً يأتي بلفظ الطلاق الذي هو صريح لفظ الطلاق، ويأتي بجزء اللفظ كأن يقول: أنتِ طالقٌ نصف طلقة أو ربع طلقة، أو بعض طلقة أو يجزِّئ المرأة نفسها فيقول: يدك طالق، ورجلك طالق، وروحك طالق، وشعرك طالق، ونحو ذلك؛ ثم هذا اللفظ تارةً يكون بصريح الطلاق الذي يدل على عدد معين كأن يصرح بالتحديد فيقول: أنتِ طالق طلقةً واحدة، وتارةً يأتي بلفظ يحتمل أكثر، فيقول: أنت الطلاق، أو يلزمني منك الطلاق، ونحو ذلك.

    فكل هذه ألفاظ يختلف فيها الحكم، ومن حيث الأصل: تارةً تكون النيةُ موافقةً للفظ وتارةً تكون النيةُ مخالفةً للفظ وكل هذا من مباحث بابنا: (باب ما يختلف به عدد الطلاق)، كأن المصنف -رحمه الله- يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بلفظ الطلاق، يختلف الحكم فيها من حيث العدد، فيُحكم تارةً بأن الطلقة واحدة، وتارةً يحكم بأنها أكثر من واحدة.

    الخلاف في تشطير الطلاق على العبد

    قال رحمه الله: [ يملك من كله حرٌ أو بعضه ثلاثاً ].

    هذه المسألة تعرف بمسألة تشطير الطلاق، فهناك الأحرار وهناك العبيد، والشرع حينما حكم بضرب الرق على العبد أو على الأمة بسبب الكفر لا يتقيد هذا بلون ولا بجنس ولا بطائفة، فمن كفر بالله عز وجل وعادى الله وحارب دين الله عز وجل وضُرِب عليه الرق ضُرِب عليه عقوبةً من الله عز وجل، ونَقَصَ عن مستوى الآدمية حتى يباع كالمتاع؛ لأن الله يقول: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44]، فلا يمكن أن نسوي مَن حكم الله عز وجل بانتقاصه ونزوله إلى هذه المرتبة بمنزلة مَن كان على صراط سوي، وآمن بالله وشرعِ الله عز وجل! فوُجِدت أحكامٌ في الشريعة شُطِّر فيها الحكم بالنسبة للأرقاء، واختلف الحكم بالنسبة للحر والعبد، وأعداء الإسلام قد يقولون: إن الإسلام فيه عنصرية أو حزازية بأذية الأرقاء أو نحو ذلك؛ لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يقيمون للإيمان وزناً، والإسلام قائمٌ على الإيمان والعقيدة، فلما كفر الكافر بالله وضُرِب عليه الرق عوقب من الله عز وجل بهذه العقوبة، ولا يمكن أن يسوى بين من آمن ومن كفر، فالله عز وجل حكم ويحكم ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [الرعد:41].

    فنص الله في كتابه على أن عقوبة الأحرار ضعف عقوبة الإماء والعبيد: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25].

    وبين أن الحكم في العقوبة والمؤاخذة في الزنا يختلف رقاً وحرية، واختلف العلماء رحمهم الله: هل يقاس على مسألة العقوبة غيرها من المسائل أو لا يقاس؟

    فجاءت القضايا والسنن عن الصحابة -رضوان الله عليهم- ومنهم الأئمة المأمور باتباع سنتهم كـعمر وعثمان بمسألة التشطير، فشطَّروا للعبد كما شطَّروا له بالنسبة للنساء، فجعلوا الحكم مطرداً قياساً، والقياس حجةٌ في الشرع، وقامت الأدلة على أنه حجة، وقد بسط الإمام ابن القيم رحمه الله مسألة حجية القياس في كتابه النفيس: (أعلام الموقعين) وبيَّن حجج السنة الكثيرة وقضايا الصحابة على حجية القياس، فكأن الشرع نبه بالمثل على مثله، فإذا نُصَّ في العقوبة والحدود على التشطير قالوا: يقاس عليها غيرها، فجاء قضاء بعض الصحابة -كما ذكرنا- بتشطير الطلاق للعبد وإذا قلنا بالتشطير يرد السؤال: هل العبرة بالزوج، أو العبرة بالزوجة، أو العبرة بواحدٍ منهما؟

    توضيح ذلك: أنه يباح للرجل أن ينكح أمةً إذا خشي العنت ولم يجد حرة، كما هو ظاهر آية إباحة الإماء إذا لم يجد حرةً: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ إلى أن قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ [النساء:25]، فجاء بشرطين: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا : أي: إذا لم يكن عنده قدرة على أن يتزوج حرة، وخاف على نفسه الزنا يباح له أن يتزوج أمة، فإذا أصبحت زوجةً له، فحينئذٍ نقول: إن الرق يؤثر في عدد الطلاق، لكن هل العبرة بالرجل ولا يتشطر الطلاق، لأن الزوجة أمة وما دام أن الرجل حر يمتلك العدد فالعبرة به؟ هذا قول عمر وعثمان وابن عباس وزيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة والتابعين وهو أشبه بمذهب الجمهور، فجمهور العلماء على أن العبرة في التشطير بالرجل، فإن كان الزوج حراً فإنه حينئذٍ لا يتشطر الطلاق حتى ولو كانت زوجته أمة.

    وقال طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- منهم علي بن أبى طالب وعبد الله بن مسعود وهو مذهب الحنفية: أن العبرة بالمرأة لأنها هي محل الطلاق ويتعلق الطلاق بها، فإن كانت حرةً طلقت ثلاثاً وملك زوجها التطليق ثلاثاً، وإن كانت أمةً فإنه يطلقها طلقتين، وتكون بائنة بها.

    وهناك مذهب ثالث لـعثمان البتي قال: العبرة بواحدٍ منهما: فإذا كان الرجل عبداً والمرأة حرة تشطر الطلاق، وإن كانت المرأة رقيقة وزوجها حر تشطر الطلاق.

    والصحيح: مذهب الجمهور؛ لأن الله خاطب بالطلاق الرجال، وجعل الطلاق بيد الرجال وهو مسند إلى الرجل، فإذا كان يتشطر فالعبرة بالرجل لا بالمرأة.

    فإذا قلنا: إن الطلاق يتشطر، وإن العبرة بالرجل، فحينئذٍ يرد السؤال: كيف يتشطر الطلاق؟ هل يقال: طلقة ونصف؟! الجواب: الطلاق لا يتشطر، بمعنى: أن المطلق لا يقول: نصف طلقة، بل لو طلق طلقتين وهو رقيق: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فيكون كالحر إذا طلق ثلاثاً، وأما على القول: أنها لا تتشطر وأن الطلاق لا يتشطر، فحينئذٍ يملك ثلاثاً، بغض النظر عن كونه حراً أو رقيقاً.

    يقول رحمه الله: [ يملك من كله حرٌ ].

    (يملك) يعني: من حقه أن يطلق.

    (من كله حرٌ) يعني: إذا كان الزوج كله حر وليس فيه شبهة الرق.

    (أو بعضه).

    البعضية مثلاً: رجل بين رجلين، يعني: عبد يملك بين رجلين، وهذان الرجلان أحدهما أعتق نصفه وبقي نصف العبد مملوكاً، فيصبح في هذه الحالة نصفه حراً ونصفه مملوكاً، فيومٌ يكون فيه عبداً يخدم سيده، ويومٌ هو حر يفعل ما يشاء، فنصفه حرٌ ونصفه عبد، وربما كان بين ثلاثة أشخاص، فأعتق أحدهم الثلث، وبقي ثلثاه مملوكاً فيومٌ حر ويومان رقيق، يوم يخدم فيه الأول ويوم يخدم فيه الثاني، فلو كان الرقيق بهذه الصفة يقول المصنف -رحمه الله- بمعنى كلامه: أنه لو كان فيه شائبة الحرية -ولو كان المعتق منه أقل- فإنه يملك الثلاث، وقال بعض العلماء: العبرة بأكثره، فإن كان أكثره حراً فإنه حينئذٍ يملك الثلاث، وإن كان أكثره الرق فإنه لا يملكها ويتشطر.

    (ثلاثاً)

    أي: ثلاث تطليقات، فإن طلق ثلاثاً لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وقالوا: العبرة بالحرية.

    قال رحمه الله: (والعبد اثنتي).

    والعبد يملك اثنتين، يعني: إذا كان الرجل أو الزوج رقيقاً فيملك اثنتين؛ لأنه ليس هناك طلقة ونصف.

    قال رحمه الله: (حرةً كانت زوجتاهما أو أمة).

    خلافاً لـعثمان البتي رحمه الله حيث خالف الجماهير وقال: إن العبرة بواحدٍ منهما سواء كان الرجل أو المرأة.

    1.   

    ألفاظ الطلاق الدالة على التعدد أو المحتملة للتعدد

    قال رحمه الله: [ فإذا قال: أنت الطلاق أو أنت طالق أو علي أو يلزمني وقع ثلاثا بنيتها، وإلا فواحدة ].

    قول الرجل لامرأته: (أنتِ الطلاق)

    قبل أن ندخل في التفصيلات -نسأل الله لنا ولكم المعونة-.

    أولاً: حتى تكون الصورة واضحة، الطلاق إذا وقع فيه اللفظ، فإما أن يتفق مع النية، وإما أن يختلف مع النية فعندنا صورتان:

    إما أن يتفق لفظ الطلاق الذي يتلفظ به مع الذي نوى، وإما أن يختلف، فتكون نيته شيئاً ولفظه شيئاً آخر.

    الصورة الأولى: أن يتفق لفظ الطلاق ونيته سواءً كان بالأقل أو كان بالأكثر أو بينهما.

    مثال: أن يقول للمرأة: أنت طالق طلقةً واحدة وينوي واحدة، فاللفظ واحد والنية واحدة فاتفقت النية مع اللفظ، فإجماعاً تُعد طلقة واحدة أو يقول لها: أنت طالقٌ طلقتين، وينوي الطلقتين، فاتفق اللفظ مع النية، أو يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، وينوي الثلاث، فاتفق اللفظ مع النية.

    في هذه الحالة إذا اتفق اللفظ مع النية فلا إشكال أنه ينفذ الطلاق على التفصيل، وجماهير السلف والأئمة من الصحابة والتابعين على الإمضاء؛ لأنه تلفظ بالطلاق ونيته موافقة، فاجتمع دليل الشرع على المؤاخذة؛ لقوله (إنما الأعمال بالنيات)، وهذه مؤاخذة الباطن، وكذلك قوله : فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230]، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231]، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ [البقرة:237]، وهو تلفظ بالطلاق، هذا بالنسبة لاجتماع اللفظ مع النية.

    صورة أخرى: أن يختلف اللفظ مع النية فتكون نيته شيئاً، ولفظه شيئاً آخر، ونحن لا نتكلم في من لم يَنْوِ الطلاق، إنما نتكلم عن شخص نوى الطلاق واختلفت نيته في العدد، أما مسألة أن يأتي بلفظ يحتمل الطلاق أو غيره، أو ينوي بلفظ يحتمل الطلاق أو بغيره، فقد تقدمت معنا في الكنايات وبينا حكمها في الكنايات.

    لكنا هنا أمام رجلٍ يتلفظ بلفظ الطلاق، ولكن يتردد لفظه بين الأقل أو الأكثر فقال: ما يختلف به عدد الطلاق، ولسنا في مسألة: أيمضي الطلاق أو لا يمضي؟! فالأمر مفروغ منه، والطلاق ماضٍ -لا شك في ذلك- لكن هل يمضي ثلاثاً، أو يمضي اثنتين، أو يمضي واحدة؟! فهنا البحث كله منصب على: هل اللفظ يؤخذ بالأكثر أو الأقل؟ فإذا اختلفت نيته -وهي الصورة الثانية- عن لفظه، فإما أن تكون النية للأقل واللفظ للأكثر، أو يكون اللفظ للأقل والنية للأكثر.

    توضيح ذلك:

    أن تكون نيته لعدد أقل مما تلفظ به: فيقول لها: أنت طالقٌ ثلاثاً، وينوي واحدة، فاللفظ مختلف عن النية، النية تنوي الأقل، واللفظ واقع على الأكثر، هذه الحالة الأولى من الصورة الثانية.

    الحالة الثانية من الصورة الثانية: أن يكون العكس، يقول لها: أنت طالقٌ طلقةً واحدة، وينوي الثلاث، أو أنت طالقٌ طلقة، وينوي الثلاث، فاللفظ للأقل والنية للأكثر، ففي جميع هذه الأحوال يرد السؤال: هل نأخذ بالأكثر أو نأخذ بالأقل؟ هل نأخذ بالأكثر؛ لأن لفظ الطلاق خطير والشرع اعتد باللفظ واعتد بالطلاق حتى أمضاه على الهازل، أو نأخذ بالأقل لأن الأصل أنها زوجته والأصل عدم الطلاق حتى يدل الدليل على أنها خرجت من عصمته بالطلاق؟ ففي بعض الأحيان نُغَلِّب النية وبعض الأحيان نُغَلِّب اللفظ، وهذا من مباحث اختلاف الظاهر مع الباطن، فالشرع تارةً يقوي الظاهر على الباطن، وتارةً يقوي الباطن على الظاهر.

    ففي الطلاق قوّى الظاهر على الباطن في الهازل، فإن الهازل يمزح مع زوجته ويقول لها: أنت طالق، ولا ينوي الطلاق؛ فاعتبر الشرع لفظه، ولم يلتفت إلى نيته، وهكذا إجماع العلماء في ألفاظ يعتدون فيها بالنية، ويجزئه ذلك ديانةً بينه وبين الله عز وجل كما تقدم معنا.

    فالسؤال الآن: إذا قال لها: أنت الطلاق؟

    (أنت الطلاق) للعلماء فيها وجهان - من حيث النظر إلى اللفظ- أحدهما: أن المرأة تطلق وتوصف بكونها طالقاً بطلقة واحدة، لكن المشكلة أنه جاء بـ(ال)، فهل نقول: الطلاق، يعني: كل الطلاق، وكأنه جعل جميع الطلاق لها، وحينئذٍ يكون قوله: (ال) في (الطلاق) المراد بها: الاستغراق، فيحمل العدد على أتم الأعداد؟ هذا وجه.

    الوجه الثاني: أن قوله: (أنت الطلاق) يتردد بين الاستغراق وبين أقل ما يقع ويسقط عليه الطلاق؛ فنأخذ بالأقل ما لم ينوِ الأكثر، وهذا هو الصحيح، وعليه درج المصنف، أنه لو قال لامرأته: أنت الطلاق سألناه: هل نويت واحدةً فتكون واحدة، أو نويت ثلاثاً فتكون ثلاثاً؟، فإذا قال: لم أنوِ شيئاً، فواحدة، قالوا: ومما يدل على ذلك: أن الشعراء لم يعتبروا المصدر دالاً على الاستغراق في هذا، ولذلك قال أحد الشعراء وكان قد غضب من امرأته، وعاش معها رِدحاً من الزمن حتى ملها وسئم، وقال: إنك شهرت بي أي: يشتكي عشرته معها وأنها بلغت إلى أسوأ الحالات-:

    ونوهت باسمي في العالمين وأفنيت عمري عاماً فعاما

    فأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثا تماما

    فما أبقى لها شيئاً، وجه الدلالة: أنه لم يقل لها: أنت الطلاق واعتدها ثلاثاً، بل كرر اللفظ ثلاث مرات، فدل على أن اللسان العربي يُفهم منه أن (أنت الطلاق) وحدها لا تدل على الثلاث؛ لأنها لو كانت وحدها تدل على الطلاق، لم يقل لها:

    وأنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق ثلاثاً تماماً

    فلو كان نفس اللفظ يدل على الطلاق لما كرر، فتكراره للفظ يدل على أن هذا المصدر لا يدل على الاستغراق من كل وجه وحينئذٍ تطلق طلقةً واحدة، ويحكم بكونها طالقاً طلقة واحدة إلا إذا نوى أكثر من واحدة، فإذا قال لها: أنت الطلاق، فلا يخلو من حالتين:

    إما أن يقول لها: (أنت الطلاق، أنت الطلاق، أنت الطلاق) فيكرر، أو يقول لها: (أنت الطلاق) ويسكت، فإن قال لها: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) وكرر ونوى واحدة فواحدة، وإن قال: (أنت الطلاق، وأنت الطلاق، وأنت الطلاق) ناوياً الثلاث فثلاث، وإن قال: (أنت الطلاق وأنت الطلاق وأنت الطلاق) ولم ينوِ شيئاً، فللعلماء وجهان كقوله: (أنت طالقٌ طالق طالق) وسيأتي بيانها إن شاء الله.

    الخلاصة: أن قوله: أنت الطلاق، لفظ محتمل يتردد بين الاستغراق الموجب للثلاث وبين الدلالة على أقل الطلاق وهي واحدة، وهذا هو الصحيح؛ فإن كرره أو نوى به الثلاث فثلاث وإلا فواحدة.

    قول الزوج لزوجته: (أنتِ طالق)

    قوله: [ أو طالقٌ ]

    إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فأقل ما يصدق على المرأة أنها طالق: طلقة واحدة، فإذا نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، قال العلماء وهو مذهب الجمهور: طالق ثلاثاً، والسبب في هذا أن قوله: أنت طالق، اسم فاعل يقبل الوصف بدليل -عند من يقول: بأن الثلاث تقع، ومذهب جماهير السلف والخلف- أنه لو قال لها: أنت طالق بالثلاث لطلقت ثلاثاً، فأصبح اسم الفاعل بقوله: أنت طالق، يحتمل أن يقصد به الأكثر ويحتمل أن يقصد به الأقل، فنقول: كلمة (أنت طالق) كقوله: أنتِ الطلاق، فأنت طالقٌ إن نوى بها واحدة فتكون واحدة وإن نوى ثلاثاً فتكون ثلاثاً.

    قول الرجل: (علي الطلاق) أو (يلزمني الطلاق)

    قوله: [ أو عليّ ].

    أو (علي الطلاق) أو (يلزمني الطلاق) كله بمعنى.

    سؤال: لماذا جعلنا (أنت الطلاق) و(أنت طالق) و(عليّ الطلاق) و(يلزمني الطلاق) الأصل فيها أنها واحدة؟

    قالوا: لأنه إذا قال لها: (أنت الطلاق) أو قال لها: (أنت طالق)، فالمرأة التي توصف بكونها طالقاً أقل ما توصف به: الطلقة الواحدة، فإذاً نحن على يقين أنه طلقها طلقةً واحدة، وشككنا هل تقع الثانية أو الثالثة أو لا؟

    والأصل بقاء العقد، فلذلك يقال بالبقاء على اليقين، وعليه قالوا: إنها طلقة واحدة ما لم ينو الأكثر.

    وقوع الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد وحكمه

    قوله: (وقع ثلاثاً بنيتها وإلا فواحدة فأكثر).

    (وقع الطلاق ثلاثاً) لكن بشرط نيتها؛ وكان الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر على السنة يطلقون طلقة واحدة، ثم يراجعون أو يسرحون بإحسان، ثم يطلقون الثانية بعد، ثم يطلقون الثالثة، فيفرقون الطلاق على السنة فلما جاء عهد عمر ودخل الناس في الإسلام، وكثرت الفتوحات، واختلط الحابل بالنابل، وكثرت المسائل ووجدت النوازل، كثر التطليق ثلاثاً، وأصبح الناس يجمعون طلاق الثلاث في لفظٍ واحد، فـعمر بن الخطاب لما أصبح الأمر منتشراً بين الناس، وانتبه إلى أن الناس كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على السنة وكانوا لا يطلقون إلا طلقةً واحدة، فلما جاء عهد عمر رضي الله عنه كما روى ابن عباس في الصحيحين قال: قام عمر بن الخطاب خطيباً -كعادته رضي الله عنه ما كان يبرم أمراً حتى يستشير الصحابة والناس- فقال رضي الله عنه: ( أرى الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة )، يعني: أن الله عز وجل أعطى المطلق ثلاث تطليقات مرتبة، يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، حتى تكون الثالثة، فالذي يطلق ثلاثاً يستعجل فيما وسع الله عليه، فيبتدع في دين الله ويخالف شرع الله ويضيق على نفسه؛ ويرتكب البدعة -وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله خلافاً للشافعي ، وقد تقدمت معنا هذه المسألة- فقال رضي الله عنه: ( أرى الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناه فلو أنا أمضيناه عليهم) يعني: ما رأيكم هل نبقى على الأصل الشرعي أن من تلفظ بالطلاق نؤاخذه به أو لا؟ لأن الله قد بين له الطلاق، إن شاء طلق ثلاثاً، وإن شاء طلق واحدة، فالله أعطاه ثلاثاً لزوجته، فأمضاه عمر وأمضاه الصحابة معه، ولذلك قضى بالثلاث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده الصحابة؛ ولذلك لما جاء الرجل إلى ابن عمر وقال: إني طلقتُ امرأتي مائةً قال: (ثلاثاً حرمت بهن عليك وسبعٌ وتسعون اتخذت بهن كتاب الله هزواً).

    وكذلك ابن عباس رضي الله عنه ثبتت الرواية الصحيحة عنه أنه جاءه رجل وقال له: (إني طلقت امرأتي ألفاً، فقال: تكفيك منها ثلاث، تحرم زوجتك عليك) وعلى هذا مضى الصحابة والتابعون، ومذهب الأئمة الأربعة والظاهرية معهم في المشهور من مذهبهم وأصبح العمل عند أهل العلم -رحمهم الله- على إمضاء الثلاث، يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وحسبك أنه قضاء المحدث الملهم)، أي: حتى لو كان اجتهاداً من عمر فحسبك أن عمر رضي الله عنه كان مُحدّثاً مُلهماً.

    وعلى هذا مضى العمل عند أهل العلم -رحمهم الله- أن الثلاث ثلاث وأن المسلم مخير بين أن يقول الثلاث بلفظٍ واحد فيمضي عليه الثلاث، وبين أن يقولها متفرقة ويصيب السنة بالتفرق دون الجمع، فإن جمعها فإنه مبتدع وآثم بجمعه، ولما ابتدع خالف شرع الله فالأنسب فيه عقوبته، وقد قدمنا هذا: أن من ابتدع وخالف السنة في الطلاق فالأشبه بمثله أن يعاقب ويؤاخذ.

    وعلى هذا مضى قضاء الأئمة -رحمهم الله- على ذلك، ودرج المصنف -رحمه الله- على هذا القول المشهور عن جماهير السلف والخلف رحمهم الله.

    ألفاظ تفيد تعدد الطلاق

    قال رحمه الله: [ ويقع بلفظ (كل الطلاق) أو (أكثره) أو (عدد الحصى) أو (الريح) أو نحو ذلك ثلاثاً ولو نوى واحدة ].

    قال رحمه الله: (ويقع بلفظ (كل الطلاق).

    هنا يكون اللفظ للأكثر، وينوي أن يكون اللفظ للأكثر فيقول: (أنت طالقٌ كل الطلاق) أو يقول: (أنت طالق بالثلاث)، وينوي واحدةً، فإنها ثلاث ولا تؤثر نيته؛ لأن اللفظ لا يحتمل الواحد، وقد جاء باللفظ الصريح الدال على استغراق التطليقات الثلاث؛ فإنه ينفذ عليه كل الطلاق؛ وكلمة: (كل) تفيد العموم، ولذلك لو أن شخصاً قال: والله! لا أكلم كل الناس، فإنه يحنث بتكليمه لأي فردٍ منهم، ونحن في شرع الله نحكم بكونه حانثاً ونلزمه بذلك إذا كلم واحداً منهم، فدل على أن كلمة: (كل) تفيد العموم، حتى أن الأصوليين -رحمهم الله- يقولون: إن من ألفاظ العموم لفظة (كل)، فإذا قال لها: (أنت طالق كل الطلاق) كان كقوله: (أنت طالقٌ بالثلاث).

    (أو أكثره).

    أو أكثره، الحقيقة أكثر الطلاق هذا مُحكم، أكثر الطلاق مشكل.

    ولذلك هذه الصورة الأشبه فيها: أن ينوي الأقل مع احتمالٍ في اللفظ -أي أن نيته الأقل مع تردد في اللفظ-؛ لأن الطلاق فيه أقل وفيه أكثر، وأقل الطلاق كطلقة وأكثر الطلاق ثلاث، وبناءً على ذلك قال بعض العلماء: إن عندنا كثير وأكثر، فهو إذا قال لها: أنت طالقٌ أكثر الطلاق. الواحدة أقل الطلاق، والاثنتان أكثر من الواحدة، لكن لما قال: أكثر صيغة أفعل، فالمراد أكثر من كثير -والكثير اثنتان، فأكثر من الاثنتين الثلاث- فتخرج على هذا الوجه أن تكون ثلاثاً.

    (أو عدد الحصى).

    أو (أنت طالقٌ عدد الحصى): -هذا ما شاء الله! ما أبقى من الطلاق شيئاً!! فهذا الظاهر أنه مغتاظ من زوجته -نسأل الله السلامة- إذا قال لها: أنت طالق عدد الحصى، معناه: أنه يريد الثلاث قطعاً؛ فتحرم بالثلاث.

    (أو الريح).

    عدد الريح؛ لأن الريح عددها فوق الثلاث قطعاً، فإذا قال لها: (أنت طالقٌ عدد الريح)، أو (عدد الحصى) أو (عدد الناس) أو (عدد النمل) أو (عدد الجبال) أو (عدد الرمال)... ونحو ذلك، هذا كله واضح أنه يريد الأكثر وهو الثلاث.

    (أو نحو ذلك).

    أي: أن يأتي بما يدل على الثلاث فأكثر؛ لأن عدد الريح فوق الثلاث، وعدد الحصى فوق الثلاث، وعدد الرمل فوق الثلاث، وكذا عدد الجبال وعدد الناس، فهو إذا قال لها: أنت طالقٌ عدد الحصى أو عدد الريح، كما لو قال لها: أنت طالقٌ ثلاثاً فأكثر.

    اعتماد اللفظ الصريح الدال على التعدد وإن خالفته النية

    قوله:[ ثلاثاً ولو نوى واحدة ].

    (لو نوى) وهذه صورة أخرى: نوى الأقل واللفظ للأكثر، فيلتفت إلى اللفظ ولا يلتفت إلى النية؛ لأن الطلاق في العدد صريح، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ولم يقصد الطلاق وهزل معها، فحينئذٍ نقول: إنها تطلق عليه؛ لأن الشرع جعل صريح اللفظ مؤاخذاً به، قالوا: فإذا قال لها: أنت طالقٌ بالثلاث، ونوى واحدة فإنه يؤاخذ بصريح اللفظ، كالهازل حيث أُخذ بصريح لفظه، وبإيضاح أكثر: إذا قال: نويت واحدةً -وقد طلق صراحةً بالثلاث أو بما يدل على استغراق العدد للثلاث- فإنه لا تنفعه نيته لا قضاءً ولا ديانةً، حتى بينه وبين الله ليست بزوجته؛ لأن اللفظ صريح، ولو لم يَنْوِ ذلك الصريح.

    1.   

    إسناد الطلاق إلى الأجزاء

    قال رحمه الله تعالى: [ وإن طلق عضواً أو جزءاً مشاعاً أو معيناً أو مبهماً أو قال: نصف طلقة، أو جزءاً من طلقة، طلقت ].

    الحقيقة: أن العلماء -رحمهم الله- والفقهاء أتوا بأشياء ربما أن الشخص يستغرب منها؛ لكن لو وقفت أمام الناس مُفتياً أو قاضياً لجاءتك أمورٌ لا ينتهي فيها العجب، فقد يأتيك شخص يقول لك: قلت لامرأتي: يدك طالق، رجلك طالق، رأسك طالق، فالعلماء يأتون بمسائل -في الحقيقة- قد تظنها غريبة؛ ولكن إذا عشت بين الناس رأيت أن الأمر أكثر من هذا، وأن عند الناس أكثر من هذا، وقد تكون هذه المسائل أصولاً لغيرها، فعندنا مسألة تطليق جزء المرأة.

    المطلِّق له حالتان:

    الحالة الأولى: أن يسنِد الطلاق إلى المرأة -وهذا هو الأصل- كقوله: أنت طالق، زوجتي طالق، امرأتي فلانة، نسائي أو زوجاتي طوالق مني مثلاً، فحينئذٍ أسند الطلاق إلى المرأة ولا إشكال، هذه الحالة الأولى، والطلاق واقعٌ فيها بواحدةٍ أو أكثر على حسب اللفظ، وعلى حسب ما قررناه فيما مضى؛ لكن السؤال: إذا ذكر جزءاً من المرأة؛ فأجزاء المرأة تنقسم إلى أقسام:

    فهناك أجزاء يعبر بها عن الكل، وأجزاء أخرى لا يعبر بها عن الكل.

    القسم الأول: يذكر جزءاً من المرأة يعبر به عن كلها.

    القسم الثاني: أن يذكر جزءاً من المرأة، ولا يعبر به في أصل الوضع عن الكل، إما أن يكون جزءاً مشاعاً كقوله: نصفك ربعك ثلثك، وإما أن يكون معيناً فيقول: يدكِ، رجلكِ، رأسكِ، ظهركِ، وجهكِ، وهذا المعين إما أن يكون مما تدخله الروح وحياته حياة روح، وإما أن يكون من حياة النمو.

    فإذاً: الأقسام كالتالي:

    أولاً: أن يسند الطلاق إلى المرأة، ويسرح المرأة فلا إشكال إذا كان الطلاق للمرأة كلها.

    ثانياً: أن يسنده للبعض، وهذا على أقسام.

    الأول: البعض الذي يعبر به عن الكل، وهذا يشمل أربعة ألفاظ هي: النفس والروح والذات والجسد، هذه هي المشهورة.

    الثاني: البعض الذي يعبر به عن جزءٍ من أجزائها كما ذكرنا، كاليد والرجل والرأس، فينقسم إلى قسمين:

    إما أن يكون مما يدخله الروح، أو يكون مما لا تدخله الروح.

    فنبدأ بالقسم الثاني: أن يذكر جزءاً من المرأة وهذا على قسمين:

    أحدهما: جزءٌ يعبر به عن الكل.

    الثاني: جزءٌ لا يعبر به عن الكل في الغالب.

    فإن كان الجزء يعبر به عن الكل، مثل: الجسد، الذات، الروح، النفس، فهذا في قول جماهير العلماء -ويكاد يقارب الإجماع- أنها تطلق، إذا قال: روحك مني طالق، جسدك مني طالق، ذاتك مني طالق، نفسك مني طالق، في هذه الأربعة الأحوال يطلق الكل ولا يتبعض الطلاق، فإذا أسند الطلاق إلى جزء يُعَبَّر به عن الكل غالباً فإنه يسري الطلاق على الكل، ويكون تعبيره بهذا الجزء كالتعبير بالكل.

    الحالة الثانية: أن يكون مما لا يعبر به عن الكل، وحينئذٍ إما أن يكون جزءاً مشاعاً معلوماً أو مبهماًً، فيكون جزءاً مشاعاً كما لو قلنا: النصف، أو يكون جزءًا مبهماً كبعضك وجزئك، أو مشاعاً معيناً كقوله: نصفك الأعلى أو نصفك الأسفل، ففي هذه الحالة: إذا أسند الطلاق لجزءٍ مشاع من البدن ولو كان أقل جزءٍ من البدن كقوله مثلاً: عُشر عشرك مني طالق، فإنه يسري الطلاق للكل؛ لأن الشرع لم يجعل في المرأة حلالاً وحراماً، فحكم الله في المرأة إما أنها في العصمة كلها وإما أنها ليست في العصمة، فلما تلفظ بالطلاق فإنه يؤاخذ به كله، كما لو قال لها في الطلاق نفسه: أنت طالق نصف طلقة أو ربع طلقة، صار مؤاخذاً بالطلقة بكاملها، لأن الشرع لم يجزئ زوجة ويجعل نصفها حلالاً للزوج ونصفها حراماً!!

    ويكاد يكون إجماعاً، على أنه إذا قال لها: نصفك أو ربعك أو ثلثك أو ثلثاكِ أو ثلاثة أرباعك أو تسعة أعشارك طالق فإنها طالقٌ كلها، سواء حدد الجزء المشاع الذي هو المعين أو أبهمه.

    الحالة الثانية: وهي التي تحتاج إلى نظر وهي مسألة الأعضاء، وهي تنقسم إلى قسمين:

    أعضاء حياتها حياة الروح، وأعضاءٌ حياتها حياة النمو. ولابد من ملاحظة هذه التفصيلات من الفقهاء، وهذا التقسيم مبني على اختلاف الشرع في الحكم على أجزاء الإنسان، فإذا أسند الزوج الطلاق إلى جزء فلابد أن نقف مع هذا الجزء الذي أسند إليه، فأجزاء الإنسان إما أن تكون مما يحلها الحياة وحياتها حياة روح، ويشمل هذا اليد والرجل والرأس والعين والأذن وغيرها من الأعضاء، وإما أن تكون حياتها حياة نمو، وهي التي لا إحساس فيها مثل: الشعر، فلو أحرق طرف الشعر لا يحس الإنسان بالألم ولو احترق طرف شعر المرأة ما تحس بالألم في رأسها، وقد يحترق طرف اللحية والشخص لا يعلم؛ لأنه لا إحساس فيها ولا ألم، فحياتها حياة نمو، وهذه الأجزاء تبين من الإنسان، فالشعر منه ما يقص ومنه ما يحلق ويجز وينتف ويسقط؛ إذ ليس بثابتٍ في البدن ولا باقٍ فيه، وإسناد التحريم إليه ليس كإسناد التحريم إلى غيره مما لا يقبل الانفصال عن الإنسان في الأصل.

    وهذا التقسيم يعتبر في كثير من المسائل -سيأتي ذكر بعضها- فالذي حياته حياة روح لا إشكال أنه متصل بالبدن وحكمه حكم المتصل في قول جماهير العلماء وهو كذلك في أغلب المسائل، إلا اليد ففيها كلام عند العلماء رحمهم الله، وذكر هذه القاعدة الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه النفيس: (القواعد): يد الإنسان هل هي في حكم المتصل أو المنفصل؟

    لكن بالنسبة للذي حياته حياة نمو -كما قلنا- لا يأخذ حكم حياة الروح من كل وجه، فيزيد أن نبين حكم إسناد الطلاق إلى أجزاء حياتها حياة روح، وإسناد الطلاق للأجزاء التي حياتها حياة النمو.

    المسألة الأولى: لو أسند الطلاق إلى عضوٍ حياته حياة نمو، فقال لها: يدك طالق ورأسك طالق وعينك طالق ورجلك طالق وساقك طالق وظهرك طالق وفرجك طالق وبطنك طالق وصلبك طالق فما الحكم؟

    جمهور العلماء على -وعلى هذا العمل- أنه إذا أسند الطلاق إلى يدها أو إلى رجلها أو إلى رأسها أنها تطلق كلها من حيث الإجمال، أما الحنفية فاختاروا أربعة أعضاء: الرأس، والبطن، والفرج، والظهر، هذا عند الحنفية، وجعلوها دالّة على الكل، لكن الجمهور لا يفرقون ما دام أن العضو متصل بالبدن، لكن يرد السؤال: كيف حكم بكونها طالقاً كلها؟

    هناك مسالك في الاستدلال وهذه المسالك تؤثر في الحكم، فبعض العلماء يقول: نحكم بطلاق العضو أولاً: فلو قال لها: يدك طالق، فالطلاق يتعلق باليد ثم يسري لبقية البدن، وهذا المذهب يسمى عند العلماء: مذهب السريان ويقررون الدليل كالآتي:

    يقولون: إذا طلق اليد اجتمع الحاظر واجتمع المبيح، فأصبحت المرأة فيها ما حرم الله؛ لأنه أسند الطلاق وعلقه بيدها، وفيها ما أحل الله، والقاعدة: (إذا اجتمع الحاظر والمبيح فالحكم للحاظر، ويحكم بحظر الجميع)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لـعدي بن حاتم: (إذا أكل الكلب من الفريسة فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه)، فدل على تقديم الحظر على الإباحة، وقال له: (وإن وجدت مع كلبك كلاب غيرك فلا تأكل، فإنك إنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكر اسم الله على كلاب غيرك)، فهذه قاعدة لها أدلة كثيرة.

    الخلاصة:

    المذهب الأول يقول: طلقها بالسريان، فيدها تطلق فيجتمع الحاظر والمبيح، ثم يسري الطلاق إلى الكل تغليباً للحظر على الإباحة.

    المذهب الثاني: يقول: أراد بالجزء الكل؛ لأن الشرع عبر بالجزء عن الكل، فقال تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1]، والمراد: تب جميع أبي لهب، فذكر اليد في المؤاخذة والعقوبة وأنزلها على الكل.

    وقال: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، والواقع: بما كسبت جوارحكم وبما كسبتم أنتم كلكم فقال: (بما كسبت أيديكم) فعبر بجزء الإنسان عن كله فدل على أن أجزاء الإنسان إذا تعلق بها تحريم سرى التحريم للكل، وهذا المذهب مذهب الجمع، فيجمع بين العضو المطلق والأعضاء الأخرى في حكم واحد، السؤال: ما هي فائدة الخلاف؟

    الواقع هناك فائدة، فلو قال لها: إن دخلت الدار فيدك طالقٌ وقُطعت يدها قبل دخول الدار، لم تطلق على مذهب السريان، وطلقت على مذهب الجمع؛ لأنه حينما قال لها: إن دخلت الدار فيدك اليمنى طالق، وسرقت قبل دخول الدار، أو جاء الطلاق فلم يصادف محلاً، كما لو أسند الطلاق لمنفصلٍ عن البدن؛ لأن اليد صارت منفصلة فالله عز وجل يؤاخذه بلفظ، فبينه وبين الله أنها إن دخلت الدار فيدها حرامٌ عليه، وتطلق عليه؛ فلو قلنا بمذهب السريان وقطعت يدها فليجعل الطلاق حتى مائة طلقة فهي في يدها، لكن البدن انفصل عن هذه اليد المطلقة فلا يسري الطلاق، لكن على مذهب الجمع يكون قوله: يدك طالق، كقوله: كلك طالق، فالفرق بين المذهبين أن الأولين يطلقون الجزء ثم يسري الحكم للكل تبعاً، فإذا وقع الطلاق ولم يوجد الجزء الذي تعلق به الطلاق لم تطلق المرأة، والقول الثاني: أنها تطلق لأن الجزء يراد به الكل.

    والحق أن التفصيل أقوى في الترجيح بين هذين القولين؛ فإن قصد باليد الكل وعبر باليد ناوياً الكل فلا إشكال أنه يسري على الكل، وإن كان لم ينو الكل فأشبه القولين مذهب السريان.

    المسألة الثانية: إذا علق الطلاق بعضوٍ مما لا تحله حياة الروح كالشعر والسن، فهناك خلافٌ بين العلماء في شعر الإنسان وعظمه كالسن ونحوه هل هو في حكم المتصل أو المنفصل؟

    قال الإمام ابن رجب رحمه الله في القواعد: شعر الإنسان هل هو في حكم المتصل أو في حكم المنفصل؟ وجهان، وكذلك السن والظفر والعظم، يعني: هل نحكم بأن شعر الإنسان في حكم المتصل به أو في حكم المنفصل عنه؟ فلو قال: والله! لا ألمسك، ولمس شعرها؛ فإنه لو كان في حكم المنفصل لم يحنث، وإن كان في حكم المتصل حنث، وهكذا إذا قلنا: إن لمس المرأة يوجب انتقاض الوضوء، فإن قلنا: حكم الشعر كحكم المتصل انتقض وضوءه، وإن قلنا: إنه في حكم المنفصل لم ينتقض وضوءه، فهناك جملةٌ من مسائل العبادات والمعاملات متعلقة بهذه القاعدة، ومن أراد المزيد من التفصيل فليراجع كتاب القواعد لـابن رجب رحمه الله، فعلى هذا: إذا أسند الطلاق إلى الشعر لم تطلق؛ لأنه في حكم المنفصل فالشعر يحلق ويبين من الإنسان ولا يتصل به التحريم.

    قوله: (وإن طلق عضواً أو جزءًا مشاعاً).

    كاليد، والرجل، والرأس، على التفصيل الذي ذكرنا، فينقسم إلى عضو تحله الحياة وعضو لا تحله الحياة.

    قوله: (أو جزءاً مشاعاً). كنصفك، ربعك، ثلثك.

    قوله: (أو معيناً). كنصفك الفوقاني، أو نصفك التحتاني.

    قوله: ( أو مبهما(. كجزئك أو بعضك، يعني: جزء المرأة وبعضها.

    قوله: (أو قال: نصف طلقة).

    كأن يقول: أنت طالق ربع طلقة، أو ثلث طلقة، أو نصف طلقة.

    قوله: (أو جزءاً من طلقة). هذا مبهم، فلم يحدد كم هذا الجزء.

    قوله: (طلقت(. يحكم بكونها طالقاً، كما ذكرنا.

    قوله: (وعكسه الروح والسن والشعر والظفر ونحوه).

    وعكسه الروح، وهذا على ما اختاره المصنف، والمذهب أن الروح للكل، وذكرنا هذا في الأعضاء والأجزاء التي يُعبَّر بها عن الكل وهي: الروح، البدن، الجسد، الذات، النفس؛ هذه خمسة يعبر بها عن الكل، والأربع دون الروح هي التي شبه إجماع عليها، والروح وحدها التي فيها الخلاف.

    قوله: (والسن).

    لأنه عظم، كما قلنا: العظم ملحق بالشعر لأن حياته حياة نمو؛ ولذلك لو أن إنساناً حرقت ظفره وكان ظفره -مثلاً- طويلاً وجئت حرقت طرف الظفر فإنه لا يحس بالألم إلا بعد وقت؛ لأنه ليس فيه حياة الروح، وإنما فيه حياة النمو؛ ولذلك العظم فيه شبهة، ومن هنا حكم العلماء بطهارة المشط من العاج، وهو الذي يؤخذ من ناب الفيل، وناب الفيل عظم، وكان يؤخذ من الناب في حال حياة الفيل، وكان يأتي هدايا من أرض الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الإمام البخاري والحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح أن أمهات المؤمنين كنّ يمتشطن بأمشاط العاج، لو كانت العظم في حكم المتصل فلا بد أن يذكى الفيل ولا يؤخذ منه حياً، وبناء على هذا صححوا أن القرن وناب الفيل كلها عظام، وقالوا: إن العظام لا تدخلها الحياة، ومن هنا قال من قال من العلماء: إن عظام الميتة ينتفع بها؛ لأنها لا تحلها الحياة كشعر الميتة؛ ولذلك تجد الشرع يجعل الشعر في حكم ما لا تحله حياة، وهذا من أقوى الأدلة على أن الشعر ليست حياته حياة روح؛ لأن الشعر يجز من البهيمة في حال حياتها، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أبين من حي فهو كميتته)، والحديث فيه كلام، لكن الإجماع قائم على أن ما أُبين من حيّ فهو كميتته، فلو كان الشعر تحله الحياة، كان إذا جزّ الشعر من البهيمة في حال حياتها ميتة، ولو كان الشعر تحله الحياة لم يجز الانتفاع بالصوف ولا بالوبر، وقد قال الله في كتابه المبين: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا [النحل:80]، فأحل لنا الانتفاع من أشعار بهيمة الأنعام وصوفها في حال حياتها وحال موتها وجعل ذلك في سياق الامتنان، والإجماع قائم على أن الشعر يجوز الانتفاع به ولو جزّ من البهيمة وهي حية، فدل على أن حياة الشعر ونحوه ليست حياة روح وإنما هي حياة نمو.

    (والظفر ونحوه). والظفر؛ لأنه عظم ونحوه.

    1.   

    حكم تكرار لفظ الطلاق

    قال رحمه الله: [ وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، وكرره، وقع العدد إلا أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهاماً ].

    هذه المسألة: تكرار اللفظ، أن يقول: أنت طالق، فإن قاله لامرأة مدخولٍ بها، -ويستوي هنا المدخول بها وغير المدخول بها-؛ لأن غير المدخول بها وإن كرر اللفظ تبين باللفظ الأول، فيأتي اللفظ الثاني على أجنبية، يعني: لو أن رجلاً قال لامرأة عقد عليها ولم يدخل بها: أنت طالق وطالق وطالق، فقوله: أنت طالق، الأولى تطلق بها طلقة واحدة فأصبحت أجنبية فليست هناك عدة لغير المدخول بها، فتأتي الطلقة الثانية على أنها أجنبية، فهذا وجه كون المصنف يقول: (لمدخول بها) والدليل على ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ يعني: عقدتم عليهن ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49]، ولا مراجعة لغير المدخول بها.

    وعلى هذا يقولون: غير المدخول بها بمجرد ما تطلقها طلقة واحدة تبين وتصبح أجنبية، ومعنى: تبين، أي: بينونة صغرى، والبينونة الصغرى لا تحل إلا بعقدٍ جديد، فلو قال لها -أي: غير المدخول بها-: أنت طالق وطالق وطالق، أو طالقٌ ثم طالق ثم طالق أو طالق فطالق فطالق أو طالق طالق طالق، فلما قال: طالق، الأولى بانت منه، فجاءت الثانية والثالثة على أجنبية فلا تطلق إلا طلقةً واحدة، فعندنا غير المدخول بها ما فيها إشكال، ويبقى الإشكال في المدخول بها، وهذا داخل في نفس الباب -باب ما يختلف فيه عدد الطلاق- فلنأتِ إلى مسألة تكرار اللفظ العام.

    تكرار اللفظ بدون فاصل

    لو قال لامرأةٍ: أنت طالقٌ طالق طالق، فله أحوال:

    الحالة الأولى: أن يكون ناوياً الثلاث، وحينئذ تتفق النية مع لفظ محتمل لتلك النية فتطلق ثلاثاً، فلو قال لها: أنت طالق طالق طالق، فإذا نوى الثلاث مضى عليه، ويبقى السؤال: إذا نوى أقل من الثلاث أو لم ينو شيئاً، إذا نوى أقل من الثلاث كأن يقول لها: أنت طالقٌ طالق طالق، كما لو كان الرجل عصبياً وجاء يطلق زوجته، ويريد أن يبالغ في كونها طالقاً وهو ينوي واحدة، فيقول لها: أنتِ طالق طالق طالق وقصده طلقة واحدة، لكنه يكرر تأكيداً لذلك الطلاق الذي أوقعه، فكرر اثنتين أو ثلاثاً أو أكثر فهي طلقةٌ واحدة؛ لأن اللفظ نفسه محتمل للتأكيد والتأسيس.

    فكلمة (طالق طالق طالق) تأتي على صورتين:

    الصورة الأولى: تأكيد؛ فتعد واحدة.

    والصورة الثانية: التأسيس، فتعد ثلاثاً، فحينئذ نيته إما أن تكون تأكيدية، وإما أن تكون تأسيسية، والتأسيس معناه: أنه يؤسس الطلاق فيبني الثانية على الأولى، ويبني الثالثة على الثانية، فكأنه يقول: أنت طالق بالثلاث، فلو سألك سائل عن قول الرجل: (أنت طالقٌ طالق طالق) تقول: فيه تفصيل، فإن نوى ثلاثاً فتكون ثلاثاً، وإن نوى واحدةً فتكون واحدة، وإذا لم ينوِ شيئاً فوجهان، قال بعضهم: إذا لم ينو شيئاً نغلب الثلاث لأنه كرر، والإنشاء والتأسيس أولى من التأكيد؛ لأن التأسيس يفيد معنىً جديداً.

    وقال بعضهم: يكون طلقة واحدة؛ لأن الأصل أنها زوجته، ولا نحكم بالطلاق إلا بيقين ونحن على يقين من واحدة فلا نطلق أكثر وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور، فمن قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق ولم ينو لا واحدةً ولا ثلاثاً، فواحدة بناءً على ذلك، وإن نوى الثلاث فتكون ثلاثاً، وإن نوى واحدةً فتكون واحدة، وإذا لم ينو شيئاً فإنها واحدةٌ على الصحيح.

    تكرار اللفظ مع الفصل بحرف أو غيره

    قوله: (طالق طالق طالق) اتضح لنا القول فيه، لكن يبقى: (طالق وطالق وطالق)، (طالق فطالق فطالق)، (طالق ثم طالق ثم طالق)، (طالق بل طالق بل طالق)، أو أي لفظ ناتج عن إدخال أي حرف في (طالق، طالق)، بين الأولى والثانية، فهل هذا يؤثر أو لا؟

    فقال رحمه الله: [وإن كرره بـ(بل) أو (ثم) أو بـ(الفاء) أو قال: بعدها أو قبلها أو معها طلقةٌ وقع اثنتان].

    كقوله: (أنتِ طالق فطالق فطالق)، (طالق ثم طالق ثم طالق)، (طالق وطالق وطالق)، ثلاث؛ لأنه إذا عطف فالعطف يقتضي المغايرة، فأصبحت الطلقة الثانية غير الأولى، فإن قال لها: أنتِ طالقٌ فطالق، أو طالق وطالق، فالطلقة الثانية غير الأولى، وعلى هذا قالوا: تطلق ثلاثاً.

    (أو قال بعدها أو قبلها أو معها طلقة وقع اثنتان).

    قال لها: أنت طالق و(بعدها أو قبلها) طلقة فيقول لها: أنت طالق طلقة، طالق طلقة، طالق طلقة، فحينئذٍ تطلق ثلاثاً؛ لأنه يكون في هذه الحالة كأنه أسس بذكر التأكيد، أو فصل بينهما بما يدل على انفصال الطلقة الأولى عن الثانية، فقال: أنت طالق، ثم قال: طالق طالق، فهذا الفصل يقتضي أنها طلقةٌ قبل الطلقة أو طلقةٌ بعد الطلقة، وهكذا لو قال لها: أنت طالق بعدها طلقةٌ، أو طالق بعدُ طالقٌ بعدُ طالقٌ، أو طالق قبلها طلقة، فإنها طلقتان، إذا قال: أنت طالق قبلها طلقة، أو أنت طالقٌ بعدها طلقة، تكون طلقتين، إن قال: طالقٌ قبلها طلقة، فأصبحت (طالق) الثانية ليس فيها معنى التأكيد، فتطلق طلقتين، وإن قال: أنت طالقٌ قبلها طلقة، فإن قوله: (طالق) تكون تأكيداً وطلقةً مستقلة.

    تكرار الطلاق لامرأة غير مدخول بها

    قال رحمه الله: [ وإن لم يدخل بها بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها، والمعلق كالمنجز في هذا].

    الآن بالنسبة للإشكال في طالق (طالق طالق)، أو (طالقٌ قبلها طلقة)، أو (طالقٌ بعدها طلقة)، هل هو للتأكيد؟ أو للتأسيس؟

    فالمسألة كلها تكون: هل لمعنى التأكيد أو لمعنى التأسيس؟

    ففي الصورة الأخيرة: (أنت طالقٌ قبلها طلقة)، انظر! فهل وصفه باسم الفاعل: (أنتِ طالق) مراده الطلقة القبلية، أم أنها طلقة غير الطلقة القبلية؟ فهو ناوٍ في قلبه أن قوله: (طلقة) سبقت (طالق)، فهل (طالق) الثانية تأكيد أم تأسيس؟

    فعلى هذا الوجه ذكر المصنف هذه المسألة.

    قال رحمه الله تعالى: [وإن كرره بـ(بل) أو (ثم) أو بـ(الفاء) أو قال: بعدها أو قبلها أو معها طلقةٌ وقع اثنتان]:

    وقعت اثنتان، يعني: إذا قال لها: (أنت طالق بل طالق) فتُعد طلقتان؛ وطالق فطالق، أنت طالقٌ ثم طالق، كذلك قالوا: إن هذا يعتبر تأسيساً، ولا يمكن أن يقبل التأكيد، فهو إذا قال: (أنت طالقٌ طلقة)، (أنت طالقٌ بعد طلقة)، (أنت طالقٌ قبلها طلقة) لكن لاحظ! حينما قال: (أنت طالق قبلها طلقة) أخَّر المقدَّم وقدَّم المؤخَّر، فهل المؤخَّر هو المقدَّم أو لا؟ هذا الإشكال فهل قوله: (طالق) -اسم الفاعل- وصفٌ للمتقدم الذي أخَّرَه، فيكون قوله: (طلقة) في الأصل سابقة لـ(طالق)، فيكون وصفها بكونها طالقاً واقعاً للمؤخر الذي هو (طلقة)، فيكون قوله: (أنت طالق قبلها طلقةٌ)، المراد به: أن تكون طلقةً واحدة.

    ويحتمل أن يكون قوله: (أنت طالقٌ قبلها طلقة) (أنتِ طالق)، طلقت ولا تقبل الإلغاء، ثم: (قبلها طلقة) يقصد به أنه قد طلقها طلقةً مع هذه الطلقة، فتكون طلقتان، وحينئذٍ اختار المصنف أنها طلقتان، وعلى هذا القول فقول الزوج: (أنتِ طالقٌ قبلها طلقة)، (أنتِ طالقٌ بعدها طلقة)، في الصورتين تكون طالقاً بالطلقتين، هذا وجه، وخلاصة الإشكال: هل هي للتأسيس أو للتأكيد؟ فإن قلت، للتأكيد، فلا يتكرر الطلاق، وإن قلت: للتأسيس، تكرر الطلاق على حسب ذلك.

    ولو قال لها: (أنتِ طالقٌ قبلها طلقة، وأنتِ طالقٌ بعدها طلقة)، أو قال لها: (أنت طالقٌ قبلها طلقتين)، فثلاث؛ لأن (أنتِ طالق) اسم الفاعل وصف، وتكون حينئذٍ طلقتان على مذهب من يقول: إنه للتأكيد على أنه للوصف، وإن كان للتأسيس فيكون قوله: (أنت طالقٌ قبلها طلقتان) ثلاثاً، ويصبح في هذه الحالة وصفها بكونها مطلقة طلقة ثالثة بعد الطلقتين السابقة.

    وإن قلت: ليس مراده ذلك، فـ(طالق) اسم فاعل، واسم الفاعل يقبل الوصف، وهو مشتق، فيكون قوله: (أنت طالقٌ قبلها طلقتين) يعني: أنت طالقٌ بالطلقتين، أصفك بكونك طالقاً بطلقتين، هذا معنى كونها للتأكيد، وهذا -في الحقيقة- تفنن من العلماء؛ لأن التفنن في اللغة كان -قديماً- موجوداً، وتجد الرجل يتمسك بالألفاظ، وإذا لَحَن يؤاخذ، فكانوا الناس ينقلون ويأخذون بألفاظهم كما هي، وكانت اللغة قائمة بدلائلها بالتأسيس والتأكيد، وحروف التأسيس التي لا يمكن حملها على التأكيد، وعلى هذا فصل المصنف -رحمه الله- واختار أن قوله: (أنت طالقٌ قبلها طلقة)، أو (طالقٌ بعدها طلقة) أنها تطلق طلقتين.

    وعلى هذا ممكن أن تطلق ثلاث تطليقات لو قال لها: قبلها طلقتان، أو بعدها طلقتان.

    1.   

    الأسئلة

    عدد الطلقات للعبد إذا طلق ثم أعتق

    السؤال: إذا طلق العبد طلقةً ثم أُعْتِق فكم يبقى له من عدد الطلاق؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فإذا طلق العبد طلقة ثم عتق العبد، فإنه بعد ذلك يستأنف الحكم وتكون له ثلاث تطليقات، فيبقى له من تطليقاته طلقتان.

    والله تعالى أعلم.

    تفصيل حالات أخذ الجزء لحكم الكل والعكس

    السؤال: في الطلاق نرى أن الجزء آخذ لحكم الكل والقاعدة: أن (الجزء لا يأخذ حكم الكل) فما التوجيه في ذلك؟

    الجواب: ما شاء الله! -الحقيقة- كم يُسَر أهل العلم وطلبة العلم حينما تكون الأسئلة فعلاً تدل على ربط الفقه بعضِه ببعض!

    سبق وأن ذكرنا أن هناك قاعدة تقول: (الجزء لا يأخذ حكم الكل)، وذكرنا هذه القاعدة في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حينما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (ناوليني الْخُمرة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك)، فلم يعطِ اليد حكم الجسم كله، فقالوا: (الجزء لا يأخذ حكم الكل)، وهذا فيما يقصد فيه الكل.

    هنا قلنا: (الجزء يأخذ حكم الكل)، وهذا في المؤاخذات، وقصد الكل -يعني: فيما يقصد به الكل- مستقيم؛ لأن هذا ورد، وهذا ورد، فالشرع عبَّر بالجزء عن الكل، ولذلك قال: وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191]، والمراد مكة كلها، وقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1]، وقد أسري به عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانئ، وهذا يدل على أن الكل يكون في حكم الجزء، وقال: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، كما ذكرنا، فالشرع يعبر بالجزء عن الكل، ويعبر بالجزء عن الجزء، فحينما قلنا: إن الجزء لا يأخذ حكم الكل فهذا بالنسبة لما قَصَد الشرعُ فيه الكل كقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) فالدخول للكل لا للبعض، فلو أدخل رجله فإنه لا تلزمه التحية؛ لأنه لم يدخل الكل، والجزء لا يأخذ حكم الكل، ولو قال: والله! لا أدخل البيت، فأدخل يده، لم يحنث؛ لأن الحكم هنا في الشرع معلق بالكل، وهكذا لو اعتكف في مسجدٍ فأخرج يده منه لم يبطل اعتكافه؛ لأن الشرع علق الحكم بالكل؛ لكن هنا لا يمكن أن يعلق الحكم بالجزء وحده؛ لأننا ما وجدنا الشرع يقول: المرأة حلالٌ كلها إلا يدها، وما وجدنا الشرع يقول: المرأة نصفها حلال ونصفها حرام، ووجدنا الإجماع قائماً على أن تطليق البعض كتطليق الكل، وأن جزء الطلقة ككل الطلقة فتطلق المرأة جميعُها، وهذا مثل ما ذكرنا: أن الشرع اختلفت أحكامه فأعطى الكل حكم الجزء في حال، وأعطى الجزء حكم الجزء بالخصوص ولم يعطه حكم الكل في حال، وعليه جعلنا الحكم مرتباً لكل حال بما يناسبه، فنحن نقول: إن الطلاق لا يتعلق بالبعض، فنفهم هنا: أن الجزء كالكل، وأيضاً: حينما وجدنا الشرع يعلق الحكم على الدخول وعلى الخروج نقول: دخول البعض ليس كدخول الكل، وخروج البعض ليس كخروج الكل.

    والله تعالى أعلم.

    تعليق الطلاق أو عدده بمستحيل

    السؤال: لو قال الرجل لزوجته: أنت طالق بعدد أبنائي، ولم يكن له أولاد، فما الحكم؟

    الجواب: أنت طالق بعدد أبنائي، بعض العلماء يقول: إنه إذا عُلِّق الطلاق على المستحيل يكون لغواً، لو قال لها: أنت طالقٌ بعدد أبنائي، وليس له أبناء، قالوا: يكون هذا من التعليق بالمستحيل، يعني: ليس له أبناء فالطلاق لم يصادف محلاً.

    وقال بعض العلماء: تطلق عليه طلقة ولا يُزاد؛ لأنه قال: أنت طالق -فوصفها بكونها طالقاً- بعدد أبنائي، يصبح بعد ذلك الثانية والثالثة بعدد الأبناء، فالأصل أنه طلق، قالوا: فيؤاخذ، وعلى هذا لا يصح إدخاله لعدد الأبناء رافعاً للطلاق؛ لأن الطلاق قد وقع.

    والمسألة محتمِلة، ومن يرجح المؤاخذة يقول: إنها تطلق؛ لأنه قال: أنت طالق، فلا إشكال في وقوعه، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، أنه إذا قال: أنت طالق بعدد أبنائي تطلق.

    لكن يرد الإشكال: لماذا يحكم بالطلاق، وقد قيده -بينه وبين الله- بعدد أبنائه.

    وهذه المسألة -في الحقيقة- لو تأملها طالب العلم لعرف أنها تطلق بالنص؛ لأنه حينما قال لها: أنت طالقٌ بعدد أبنائي، وهو يعلم أنه ليس له أبناء فقد هزل بالطلاق، فلما وصفها بقوله: أنت طالق، فقد أمضى على نفسه الطلاق بصيغة اسم الفاعل التي هي أصلٌ للطلاق.

    وعلى هذا تطلق لكونه يهزل ويريد الهزل، وحينئذٍ تكون طلقةً واحدة، ولا تطلق عليه أكثر من طلقةٍ.

    والله تعالى أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755922719