إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الصداق [2]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الشرع للمرأة أن تفوض أمرها في الصداق لوليها أو لغيره، ويثبت لها مهر مثلها إذا دخل بها زوجها أو مات عنها قبل الدخول، وذلك إذا لم يسم المهر، ولها أن تمتنع من زوجها حتى تقبض مهرها الحال.

    1.   

    التفويض في النكاح

    قال رحمه الله تعالى: [ فصل: يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة ].

    التفويض من مسائل الصداق والمهر، واعتنى به العلماء والأئمة رحمهم الله، وهو ينقسم إلى تفويض المهر، وتفويض البضع.

    وتفويض المهر: أن تفوض المرأة إلى وليها أن يزوجها بأي مهر، أو أن يزوجها بدون مهر، أو تفوض للزوج أو يفوض وليها للزوج المهر فيقول له: المهر ما شئت، والمهر ما تريد، أو ما تدفع، فهذا تفويض، كذلك أيضاً أن يفوض لأجنبي، كأن تفوض المرأة لأجنبي فتقول: مهري ما يقوله فلان، لعمها أو خالها أو قريب لهـا، فتفوض إلى أجنبي.

    فهذه كلها من مسائل التفويض في المهر، والتفويض في البضع سيأتي إن شاء الله، وسيذكره المصنف رحمه الله، وكلا النوعين من التفويض يُعنى به الأئمة رحمهم الله.

    أما مناسبته للصداق فظاهرة؛ لأن المرأة تترك الصداق وتقديره إلى طرف أجنبي، أو إلى الطرف المقابل لوليها وهو الزوج، أو إلى وليها.

    التفويض في البضع

    (يصح تفويض البضع بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة) فإنه بدون أن يأخذ رضاها وبدون أن يستأذنها يزوجها، وقد تقدم هذا معنا في مسائل الاستئذان، فإن الأب ذكرنا أن فيه من العاطفة والحنان والرحمة ما لا يشك معه، أو ما يغلب معه على الظن أنه يطلب الأصلح في الأمور لابنته، وأنه ليس هناك أب يسعى في جلب الضرر على ابنته، أو يتسبب في الإضرار بابنته، هذا هو الأصل؛ فالغالب أن الأب فيه من الحنان والرحمة ما يمنعه من أذية ابنته، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني) والإنسان لا يضر نفسه، فالأب يزوج ابنته المجبرة، وإذا زوجها كان الأمر كله بيده، من جهة الإيجاب عنها بدون التفات إلى رضاها وإذنها، وكذلك أيضاً في المهر، وبطبيعة الحال أنها إذا كانت مجبرة، فالغالب أنها لا تتكلم حتى في المهر.

    وعلى هذا فيكون تفويضاً من كل وجه، فيزوج الأب ابنته المجبرة، فيقع العقد في هذه الحالة على هذه الصورة، ويكون وليها الذي أجبرها تولى أمرها كلية؛ من جهة تزويجها ومن جهة تحديد الصداق الذي يكون لها، أو يجعلها بدون مهر، فيفوض الأمر للزوج، كأن يزوج ابنته الصغيرة ويقول للزوج: المهر ما تعطي، وبطبيعة الحال ما استشارها ولا رجع إليها، ففي هذا تفويض من كل وجه ففوض إلى الزوج وزوجها.

    التفويض في المهر

    قال رحمه الله: [ أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر ].

    لأن المهر ملك لها، والله عز وجل نص على أنه حق من حقوقها، فإذا طابت نفسها وقالت: أنا راضية أن تزوجني بلا مهر، فمن حيث الأصل يصح العقد دون تسمية المهر.

    المصنف هنا يفرع المسائل على ما تقدم، وكل المسائل في وجود المهر، ولو وقع العقد بدون مهر فإنه يصح، ثم ستأتي الأحكام المترتبة على هذا المهر من نكاح صححناه.

    والدليل على أن النكاح يصح بدون تسمية المهر ما ثبت في حديث بروع بنت واشق رضي الله عنها، فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه سُئل عن امرأة نكحت بدون أن يسمى لها الصداق ثم توفي عنها زوجها، فقال رضي الله عنه: ( أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، للمرأة صداق مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث ).

    فحكم بثلاثة أحكام:

    (مهر المِثل لا وكس ولا شطط) يعني: تأخذ مهر مثلها من النساء كما سيأتي، دون زيادة ودون نقص ( لا وكس ولا شطط ) العدل الذي أمر الله به.

    ( وعليها العدة ) التي هي الحداد، أي: عليها أن تحد، فاعتبرها زوجة.

    ( ولها الميراث ) أي ترثه مع أنه لم يدخل بها؛ لأن العقد يوجب أن تكون من نسائه.

    فلما فرغ من قضائه قال له معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه: ( والله لقد قضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق امرأة منا ).

    فأصبح قضاؤه رضي الله عنه موافقاً لقضاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهو سنة، وعلى هذا جرى العمل.

    الشاهد من الحديث: أنه إذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي لم يفرض لها صداق أن لها مهر المثل بوفاة زوجها فقد أثبت النكاح وصححه، مع خلو العقد عن ذكر المهر، فما سمي المهر ولا حدد، فدل على أن تحديد المهر وتسمية المهر في العقد ليس بشرط في صحته، وهذا موضع الشاهد.

    ولذلك جعل الله تعالى هذا الحكم من كونها يكون لها مهر المثل، وهذا عدل، فالعقد من حيث الأصل صحح؛ إذ لا يمكن أن نحكم بمهر المثل إلا في نكاح صحيح، فلو كان النكاح فاسداً لما أثبت لها مهر المثل.

    وأيضاً فقد اشترط الله عز وجل في ثبوت التشطير في الطلاق قبل الدخول أن يكون هناك فريضة مسماة، ومفهوم النص أنه لو طلقها من دون أن يسمي لها فإن النكاح موجود، ولذلك أثبت لها المتعة فقال: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] فإذا وقع الطلاق قبل المس وقبل التسمية فإنه يكون لها المتعة، والعلماء يقولون: نفي الجناح من الصيغ التي تدل على الإباحة، قال: إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236]، فدل هذا على أنه اعتبرها من نسائه، واعتبر الطلاق طلاقاً صحيحاً، والواقع أنه لم يسمِّ لها مهرها، فدل هذا على صحة النكاح بدون تسمية المهر.

    في بعض الأحيان يقولون في العقد: بما اتفق عليه، وهذا غالباً يكون في مسمى متفق عليه بين الطرفين، لكن بعض الناس -أصلحهم الله- يقول: بما اتفق عليه، فيوهم الكاتب أن هناك شيئاً متفقاً عليه، والواقع أنهم لم يتفقوا، وهذا خطأ؛ لأنهم إذا اختصموا إلى القضاء غداً فسيُظن أن هناك شيئاً متفقاً عليه، وأن العقد وقع بعد الاتفاق على شيء، فالمنبغي أن لا يقال: بما اتفق عليه، إلا وقد حددوا واتفقوا على شيء، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه له وأن يوضع في الحسبان، أنه لا يقال: بما اتفق عليه، إلا إذا كان هناك اتفاق، أما إذا لم يكن هناك اتفاق، فينبغي أن يصرح بأنها مفوضة، وأنه لم يُسَمَّ لها مهر معين.

    قال رحمه الله: [ وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما أو أجنبي ].

    (بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما) قال العلماء: صورة ذلك أن تقول مخاطبة وليها: قبلت نكاحه على أن لي من المهر ما شِئتُ؛ أي: أطالب بالمهر الذي أشاؤه، أو تفوض له وتقول: رضيت نكاحه على أن المهر ما شاء، أي: على أن المهر الذي يأتي به، مثلما يقول: الذي تأتي به، أو الذي تقوله، أو الذي تستطيعه.

    هذا كله تفويض للزوج أو للولي، تقول المرأة: رضيت نكاح فلان والمهر ما شِئتَ، تخاطب أباها أو تخاطب أخاها على أنه يتولى المهر بما يراه.

    قال رحمه الله: [ ولها مهر المثل بالعقد ].

    ثلاثة أمور:

    - عندنا عقد.

    - وعندنا دخول يعتبر بمثابة الإمضاء والإتمام للعقد.

    - وعندنا طلاق أو فسخ أو فرقة قبل الدخول.

    هذه ثلاثة أمور ينبغي أن يتنبه لها طالب العلم في مسائل المهور، فالعقد يثبت للمرأة المهر.

    وفائدة كونك تقول: لها مهر المثل بالعقد: أنه ممكن أن يتم العقد -والمرأة مفوضة- في زمان، ثم يحصل الدخول في زمان آخر ويحكم لها بمهر المثل، فقد يكون قد عقد عليها العام الماضي ومهر مثلها خمسمائة، وفي هذه السنة يصبح مهر مثلها ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فلا بد أن يحدد، فإذا قيل: مهر المثل، يحدد، هل هو بالعقد أو بالدخول؟

    فقال رحمه الله: (ولها مهر المثل بالعقد) المثل: الشبيه، يقال: هذا مثل هذا إذا شابهه، وبعض العلماء يقول: هناك فرق بين المثل والشبيه من جهة الصفات.

    قال بعض العلماء: ضابط مهر المثل أن يُنْظَر إلى قرابة المرأة وقيل: أن ينظر إلى من هو من أترابها، أي: من لداتها، وأترابها هن النساء اللاتي في سنها بنفس الأوصاف؛ لكن كما يقول العلماء وصرح به غير واحد من الأئمة كالإمام النووي وغيره: أن الركن الأعظم في مهر المثل: النسب، فيُنْظَر إلى نسبها، ففي بعض الأحيان يكون مهر المثل للبكر التي من بيت علم أو من بيت شرف وسؤدد يكون مثلاً: أربعين ألفاً، ويمكن أن يكون مهر المثل لمن هي دونها في النسب: عشرين، وللوسطى: ثلاثين، فإذاً: يُنْظَر إلى مثلها في النسب، ومثلها في الصفات كذلك، فيقال: نسيبةٌ جميلةٌ بكرٌ، بعض العلماء يقول: يُبْتَدأ بقراباتها، فيُنْظَر إلى من تزوجت، فعندما تزوجت أختُها أو تزوجت بنتُ عمتها أو بنتُ عمها أو بنتُ خالها، أي: في نفس نسبها وقراباتها كم كان المهر؟

    وجدنا أن قريباتها الجميلة منهن زُوِّجت بأربعين، والوسطى بثلاثين، وقليلة الجمال بعشرين أو بخمسة عشر، فيُنْظَر إلى جمالها، وهذا كله عن طريق النساء.

    وعندما يذكر العلماء هذه الضوابط فإنه يُقْصَد منها العدل، ولذلك قال ابن مسعود : ( لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط ) ولا تستطيع أن تصل إلى الذي لا وكس فيه ولا شطط في مهر المثل إلا بالسؤال والرجوع إلى أهل الخبرة.

    وكان هذا معروفاً في عصور المسلمين الأولى، وجود النساء من ذوات الخبرة، ودائماً القضاة في كل بيئة يرجعون إلى أهل الخبرة ويختارون -على حسب الأمور- من النساء ومن الرجال مِن أهل الخبرة مَن يوثق في دينه وأمانته وبصيرته وعلمه ويُثنى عليه، فإذا حدثت قضايا مثل هذه يُرْجَع إليهم.

    ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ربما سأل ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عن النساء، ولما نزلت به نازلة غياب الناس عن أزواجهم سأل أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها: كم تصبر المرأة؟ فالرجوع يكون إلى أهل الخبرة وإلى من له علم ومعرفة في مثل هذا.

    فيُحكم في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الخبرة في السن وفي الأوصاف وفي اللِّدَات والأتراب من أمثالها، ويُنْظَر إلى زمان العقد؛ لأنها استحقت المهر في زمان العقد.

    قال رحمه الله: [ ويفرضه الحاكم بقدره ]

    فالقاضي يحكم بمهر المثل بقدره، أي: على قدر ما يتفق عليه أهل الخبرة.

    الحكم فيما لو مات أحد الزوجين قبل الدخول وتسمية المهر

    قال رحمه الله: [ ومن مات منهما قبل الإصابة والفرض ورثه الآخر ولها مهر نسائها ]

    (ومن مات منهما قبل الإصابة) أي: قبل أن يدخل بها ويصيبها توفي، فإننا ننظر إلى مهر المثل كما ذكرنا في حديث معقل بن سنان الأشجعي في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فحديث بروع بنت واشق حديث ثابت ويدل دلالةً واضحة على أنه: يحتكم إلى مهر المثل. هذا الحكم الأول.

    وثانياً: أنه يكون عليها الحداد والعدة.

    وثالثاً: أنه يكون لها الميراث؛ لأنها من نسائه.

    (قبل الإصابة والفرض) أي: وقبل أن يفرض لها، فالحكم مثلما ذكرنا في الحديث، لكن لو فرض لها فريضة، مثلاً: لو أن زوجاً فرض لامرأته عشرة آلاف صداقاً، وتم النكاح، أي: تم العقد، ثم توفي هذا الزوج، فنقول: يجب على ورثته أن يخرجوا من ميراثه عشرة آلاف فقط؛ لأنها المسمى، فهذه المسائل هي إذا لم يُسَمَّ الصداق، وقد ذكرنا أن التفويض لا تسمية فيه.

    [ ورثه الآخر ولها مهر نسائها ].

    (ورثه الآخر) لأن العقد من أسباب الميراث الثلاثة، وهي: النكاح والولاء والنسب.

    أسباب ميراث الورى ثلاثة كل يفيد ربه الوراثة

    وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب

    هذه ثلاثة أسباب، فالنكاح من أسباب الميراث، وهذا بإجماع العلماء، فكل امرأة عقد عليها رجل، ثم توفي قبل أن يدخل بها، فإنها من نسائه وترثه، ولو توفيت هي ورثها، فهو يرثها وترثه.

    حكم المطلقة قبل الدخول إذا لم يسم المهر

    قال رحمه الله: [ وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره ]

    أي: وإن طلقها المفوض، وهم يقولون: مفوِّضة ومفوَّضة، يقولون: امرأة مفوِّضة إذا فوضت لوليها أو للزوج أو لأجنبي، ومفوَّضة أي: فُوِّض أمرهـا إلى الغيـر.

    إذا طلقت هذه المفوَّضة قبل الدخول، ففي هذه الحالة ليس عندنا فريضة وليس هناك مهر مسمى، فالشريعة جاءت بأنه إذا وقع فراق وطلاق قبل الدخول وليس هناك مسمىً فإن للمرأة المتعة؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].

    وفي الآية الثانية قال في المطلقة عموماً: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] وذكروا عن شريح أبي أمية القاضي الكندي رحمه الله -وكان ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء الراشدين، فنعم المولي ونعم المولى، ولي لـعمر وعثمان وعلي رضي الله عنه وكان إماماً في القضاء- أن رجلاً طلق امرأة فأمره أن يمتعها فأبى، فتلا عليه الآية الأولى، فامتنع، ثم تلا عليه الآية الثانية، فامتنع، الآية الأولى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] والآية الثانية: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] فأصر الرجل وقال: ما دامت متعة وليست بواجب فلا أريد أن أمتعها، من غضبه من زوجته -نسأل الله السلامة والعافية- صم وعمي عن أمر الله عز وجل وندبه، فشاء الله عز وجل أن تمر الأيام فاحتاج قوم إلى شهادة هذا الرجل، فجاءوا به إلى شريح فقال: والله لا أقبل شهادته، إنك أبيت أن تكون من المحسنين، وأبيت أن تكون من المتقين، فاصرف وجهك عني، فطرده ولم يقبل شهادته؛ لأن المؤمن لا يرد هذه الأوامر الشرعية ولا يستخف بها، والله يقول: وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، ولذلك لا ينبغي إذا وقع الطلاق والفراق أن ينسى كل من الزوجين الآخر، بل ينبغي أن يكون هناك نوع من الحفظ للعهد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان).

    فلو سُئلت عن المطلقة قبل الدخول، تقول: لها حالتان:

    إن كانت قد سمي لها المهر فنصف ما سمي.

    وإن لم يُسَمَّ المهر فلها المتعة حقٌ واجبٌ على المحسنين، والدليل قوله تعالى: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236] أي بما جرى عليه العرف، أو بالمعروف، والمعنى: أنه يمتعها مصاحباً للمعروف، بدون منة، فلا يعطيها المتعة يمتن بها، أو يؤذيها أو يصيبها بنوع من الإضرار، إنما يكون هذا بالمعروف على سبيل المكارمة على الوجه الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم: مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].

    فهذه الآية تدل دلالة واضحة على إثبات المتعة، والمتعة تكون بالمعروف، أي: على حسب حال الزوج، فإن كان الزوج غنياً نظر في مثله، فمثلاً: لو جرى العرف أن مثله يمتع بهدية بثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فيشتري لها ذهباً بثلاثة آلاف ويبعثه إليها.

    والسبب في أن الله جعل على الموسع قدره وعلى المقتدر قدره: أنه إذا كان من بيئة غنية فالله يريد أن يربط بين الزوج والزوجة بحفظ العهد، فحينما يعطيها شيئاً يليق بغناه ويسره تكون فعلاً هدية، ويكون لها معنى الهدية، لكن حينما يكون غنياً ثرياً بسط الله عليه من رزقه ويأتيها بشيء تافه يصبح بدل أن يتضمن معنى المكارمة يصبح متضمناً لمعنى الإهانة، فيخرج عن مقصود الشرع.

    فإذاً لابد أن ينظر إلى حال الزوج، وأن يتقي الله عز وجل فيما أمره الله به وندبه إليه.

    قال رحمه الله: [ ويستقر مهر المثل بالدخول ].

    إذا دخل الزوج على زوجته وهي مفوضة فيستقر مهر المثل بالدخول، ويثبت في هذه الحالة، ويكون حقاً كاملاً لها.

    قال رحمه الله: [ وإن طلقها بعده فلا متعة ].

    أي: طلقها بعد الدخول فلها المهر كاملاً، وليست من الممتعات، يريد أن يقول: إنه يثبت لها المهر.

    وقوله: (فلا متعة) ليس المراد أنه ما لها شيء، إنما مراده أنها لا تصبح من ذوات المتعة، وإنما تصبح من ذوات الصداق، أي: اللاتي لهن المهر والصداق كاملاً.

    1.   

    حكم المهر في العقد الفاسد

    قال رحمه الله: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر].

    رحمة الله عليهم، مثلما ذكرنا دائماً يحرصون على ترتيب الأفكار، ذكر أولاً: حكم الصداق وصفات الصداق. ثم: متى تملك المرأة صداقها؟ ثم بعد ذلك: إذا تغير الصداق بالزيادة والنقص، ثم بعد ذلك: إذا نكحت المرأة بدون صداق، ثم تدرج معنا في مسائل المفوضات إذا نكحها بدون صداق فطلقها قبل الدخول، وإذا نكحها بدون صداق فمات عنها، وإذا نكحها بدون صداق فطلقها بعد الدخول.

    فهذه كلها أفكار مرتبة، وبعد أن انتهى من هذا كله شرع رحمه الله في فرع جديد.

    الحكم فيما لو حصل التفريق في نكاح فاسد قبل الدخول

    قال رحمه الله: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر].

    العلماء رحمة الله عليهم، مثلما ذكرنا دائماً يحرصون على ترتيب الأفكار، ذكر أولاً: حكم الصداق وصفات الصداق. ثم: متى تملك المرأة صداقها؟ ثم بعد ذلك: إذا تغير الصداق بالزيادة والنقص، ثم بعد ذلك: إذا نكحت المرأة بدون صداق، ثم تدرج معنا في مسائل المفوضات إذا نكحها بدون صداق فطلقها قبل الدخول، وإذا نكحها بدون صداق فمات عنها، وإذا نكحها بدون صداق فطلقها بعد الدخول.

    فهذه كلها أفكار مرتبة، وبعد أن انتهى من هذا كله شرع رحمه الله في فرع جديد، فقال: (وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول) شرع في مسألة تتعلق بالنكاح الفاسد، إذ أن ما سبق كله في النكاح الصحيح الشرعي، لكن لو أن رجلاً تزوج امرأة بنكاح الشغار، أو لو أن رجلاً تزوج امرأة بنكاح التحليل، أو لو أن رجلاً تزوج امرأة بنكاح المتعة والعياذ بالله، فهذه الأنكحة كلها باطلة وحكم الشرع بفسادها، وما بني على باطل فهو باطل، والفرع تابع لأصله، ففروع الأنكحة وما يترتب على الأنكحة إنما يترتب على أنكحة صحيحة ينهدم بانهدامها، أي: إذا حكم بفساد النكاح فإنه يحكم بفساد آثار النكاح.

    وعلى هذا: ففي نكاح المتعة مثلاً، إن تزوج رجل امرأة وحدد مدة الزواج فقال لها: أتزوجك شهراً أو شهرين، أو سنة أو سنتين، فاتفقا على هذا النوع من النكاح، وجعل المهر خمسة آلاف، وكان رجلاً جاهلاً ثم تبيّن له أن هذا حرام، أو كانوا في بيئة ليس بها علماء ثم ارتفعوا للعلماء وسألوا فقالوا لهم: إن هذا حرام، فحينئذٍ سيفرق بينهما ويلغى النكاح ولم يدخل بها بعد، فيفرق بينهما ولا يترتب أي أثر على هذا، ويصبح وجود هذا النكاح الفاسد وعدمه على حد سواء، فالله تدارك باللطف أنه لم يقع دخول.

    فأي نكاح فاسد قبل الدخول لا يلتفت إليه إذا فسخ وألغي؛ لأنه لاغ من أصله وليس له أثر، فهذا هو الذي يقصده المصنف: أن الأنكحة الفاسدة لا يترتب عليها صداق إذا وقعت الفرقة قبل الدخـول.

    الحكم فيما لو حصل التفريق في نكاح فاسد بعد الدخول

    قال المصنف: [ وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر وبعد أحدهما يجب المسمى ].

    (وبعد أحدهما) لو أن رجلاً نكح امرأة بمهر ثم تبين فساد هذا النكاح، كأن ينكحها بدون ولي، وفرض لها مهراً خمسة آلاف ودخل عليها، فلها المهر بما استحل من فرجها، قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) فحكم ببطلان النكاح، وأثبت لها المهر بالدخول (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) .

    ثم ننظر، فإن وقع الاتفاق على مهر معين فقد رضيت لنفسها أن يصيبها، وتنازلت عن حقها بهذا المسمى، فيكون لها المسمى، فيفرض لها المسمى الذي اتفق عليه.

    حكم المهر لمن وطئت بشبهة أو إكراه

    قال رحمه الله: [ ويجب مهر المثل لمن وطئت بشبهة أو زناً كرهاً ].

    (ويجب مهر المثل لمن وطئت) الموطوءة بالزنا كرهاً أو الموطوءة بالشبهة الأصل أن وطأها لا يجوز، ولكن وجود العذر من الإكراه على الزنا أوجب لها مهر البكر كاملاً إن كانت بكراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها)، فهي مغلوبة على أمرها، وحينئذٍ يكون لها مهر مثلها؛ لأنه فوت عليها هذا الحق، ويدرأ عنها الحد لوجود الإكراه على الصحيح من أقوال العلماء، وسيأتينا -إن شاء الله- في باب الجنايات أنه يدرأ عنها الحد ولا يقام عليها إذا أكرهت؛ لأن الله أسقط بالإكراه الردة، فمن باب أولى الزنا الذي هو دون الردة، ويكون لها مهر المثل يفرضه عليه الحاكم.

    وكذلك نكاح الشبهة، شبهة عقد، أو شبهة اعتقاد، أو شبهة ملك، هذه ثلاثة أنواع من الشبهة تؤثر في النكاح، شبهة عقد بأن يعقد على امرأة يظن أنها تحل له بهذا العقد، مثلما يقع في عقد نكاح الشغار، مثلاً: لو أن رجلاً زوج ابنته لآخر على أن يزوجه الآخر ابنته بنكاح الشغار، ولم يعلما حكم الشغار، وحصل الوطء، هذا وطئ ابنة هذا وهذا وطئ ابنة هذا، فحينئذٍ يصبح هذا وطء شبهة، أي: عنده شبهة، وهي شبهة العقد، حيث يظن أن هذا العقد عقد نكاح صحيح، وتكون كذلك شبهة العقد فيما لو أن رجلاً عقد على امرأة وهو لا يعلم أنها متزوجة ويظن أنها خلو، وعقد بها عقداً شرعياً، ودخل بها، ثم تبين أنها خدعته وأن أولياءها خدعوه.

    وكذلك يدخل في شبهة العقد ما إذا غاب رجل غيبة، وانقطع عن زوجته، فحكم الحاكم بانتقالها عن زوجها فطلقها، فتزوجت بزوج ثانٍ، فإن هذا العقد يبيحها له ويحلها له، فلو رجع الغائب، فمن يقول: إنها على عقد الأول، يرى أن وطء الثاني وطء شبهة عقد؛ لأنها في الأصل تابعة للأول، وعلى هذا يكون من شبهة العقد.

    شبهة الملك، مثل: شبهة أنها مملوكة له، مثلما يقع في ملك اليمين، كما لو اشترى أمة ووطئها بملك اليمين، ثم تبين أنها حرة وبيعت مغصوبة، فإنه كان يطؤها على أنها ملك يمين له، ثم تبين أن هذه الشبهة غير صحيحة.

    فمثل هذه المسائل يكون فيها المهر للمرأة، فيجب عليه المهر على التفصيل الذي ذكرناه، ويرجع على من غشه ويطالبه بالضمان، وحينئذٍ يضمن الذي غشه، والحاكم (القاضي) يعزر هذا الذي اقتات وظلم المرأة ببيعها وهي حرة.

    فالشاهد أنها إذا وطئت بشبهة أو بزناً لكن بشرط الإكراه فلها المهر، فلو كان الزنا -والعياذ بالله- برضا من المرأة لم يكن لها حق، فلا مهر لبغي، ولذلك (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم وحلوان الكاهن ومهر البغي) فالبغي لا مهر لها؛ لأنها رضيت -والعياذ بالله- بإسقاط حقها، وأتت ما حرم الله عز وجل بطيبة نفس منها، فيضيع حقها وليس لها المهر بسبب ذلك.

    قال رحمه الله: [ ولا يجب معه أرش بكارة ].

    (ولا يجب معه) أي: مع مهر المثل (أرش البكارة) وبعض العلماء يسمونه: العقر، ويحكم بالعقر في بعض المسائل في الشبهات، ولكن اختار المصنف هنا ما ذكرناه من أن لها مهر المثل.

    1.   

    ضوابط تسليم المرأة نفسها في الصداق المعجل والمؤجل

    امتناع المرأة من التسليم حتى تقبض صداقها المعجل

    قال رحمه الله: [ وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال ] إذا اتفقا على كون الصداق معجلاً وحالاً فإن من حقها أن تقول: أنا لا أمكنك من نفسي ولا تدخل عليّ حتى تدفع لي مهري، هذا من حقها؛ لأن الله يقول: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24] فأثبت المهر لها.

    فإن اتفق معها على أنه يعقد عليها بصداق معجل يدفعه قبل الدخول، فإن من حقها أن تمتنع من تمكينه من الدخول؛ لأنه يستند في التمكين من الدخول إلى العقد، والعقد معلق على شرط، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج) .

    حكم امتناع المرأة إذا كان الصداق مؤجلاً

    قال رحمه الله: [ فإن كان مؤجلاً أو حل قبل التسليم أو سلمت نفسها تبرعاً فليس لها منعها ].

    قال رحمه الله: (فإن كان مؤجلاً) إن كان الصداق مؤجلاً، بأن يكونا قد اتفقا على أنه يعطيها الصداق بعد خمس سنوات وأنه يدخل بها متى شاء، فجاءها وقال: أريد أن أدخل بك، فقالت: لا تدخل حتى تعجل لي الصداق، فإنه يفرض عليها الحاكم أن تمكنه من الدخول بها؛ لأنهـا رضيت بتأخير الصداق، فليس من حقها أن تمنع نفسهـا منه إن رضيت بتأجيـله؛ لأنهـا أسقطت حقهـا في التعجيـل.

    حكم امتناع المرأة إذا كان الصداق مؤجلاً وقد حل وقت أدائه

    قوله رحمه الله: (أو حل قبل التسليم).

    أي أنها اتفقت معه على أن الصداق مؤجل، فحل أجله قبل التسليم، فمن حقه أن يدخل بها قبل أن يعطيها.

    توضيح ذلك: مثلاً لو أنها اتفقت معه على دفعه لها بعد سنتين أو ثلاث سنوات، فقد رضيت بتأجيله، فحينئذٍ لا يتوقف الدخول على دفع المهر، فلو حل هذا الصداق وجاء أجله والزوج ماطل وتأخر فمن حقه أن يدخل بالزوجة، ثم هي تقيم دعوى على مطالبته بحقوقها، فإن كان غنياً أعطاها حقها، لكن لا تمنعـه من حق وطئها كزوج، وهذا من انفصال الجهة، إذ هو له حق الوطء والاستمتاع، وهي لها حق المطالبة بالمهر، ثم المهر يتعجل ويتأجل على ما يتفقان عليه، فإن هي رضيت به مؤجلاً لم يكن من حقها أن تمنع الدخول بتأجيله؛ لأنها رضيت به مؤجلاً، والعكس كذلك.

    فالشاهد: أنها إذا أوجبته عليه معجلاً كان من حقها أن تمنعه من الدخول حتى يعطيها حقها، فكلا الطرفين له حقه، فإن قالت المرأة: رضيت بمهري مؤجلاً بعد خمس سنوات أو ست سوات فقد رضيت بتأجيله، فحق الزوج أن يدخل عليها حتى قبل أن يعطيها؛ لأنها رضيت بالتأجيل، فيدخل بها، وإذا امتنعت فإنه يوجب عليها الحاكم الطاعة لزوجها.

    هذه فائدة الخلاف: أنها إذا امتنعت يفرض عليها الحاكم وعلى أوليائها أن يسلموها لزوجها؛ لأنه من حق الزوج أن يستمتع بزوجته، فإذا ماطلت وامتنعت فرض عليها ذلك بحكم العقد، ولو أن الزوج وافق أن يعطيها صداقها قبل الدخول فقال لها: ما عندي الآن وأريدكِ كزوجة لا تمنعيني من نفسكِ، فقالت: لا تدخل عليّ حتى تدفع المهر، واختصموا، فالقاضي يقضي على أنه لا يدخل بها حتى يعطيها مهرها.

    فإذاً: عندنا حق للزوج في الدخول، وحق للزوجة من جهة المهر، فإن اتفقا على التأجيل جاز الدخول قبل حصول الأجل، وإن اتفقا على التعجيل فمن حقها أن تمتنع حتى يعطيها حقها، وإذا تنازلت عن حقها فالأمر إليها.

    حكم إعسار الزوج بالمهر الحال

    [ فإن أعسر بالمهر الحال فلها الفسخ ولو بعد الدخول ولا يفسخه إلا حاكم ].

    (فإن أعسر) أي: الزوج، مثلاً: رجل عقد على امرأة بعشرة آلاف ريال، ثم أصبح فقيراً معسراً والمهر حال عليه، فالمرأة لما رأته معسراً قبل الدخول رفعت أمرها إلى القاضي، وقالت: أريد أن تفسخ نكاحي من فلان ما دام معسراً، فأنا لا أريد أن أعرض نفسي لضرر الفقر، وأخشى على نفسي إن كنت عند رجل فقير أن أتعرض للحرام، أو أتعرض لأذية أقاربي... إلخ المهم أنها لم ترضَ هذا الزوج بإعساره، فحينئذٍ من حقها ذلك ويفسخ النكاح؛ لأن النكاح مبني على المقابلة والمعاوضة، فإذا ماطل الزوج في حقها واشتكت إلى القاضي، فللقاضي أن يفسخ النكاح، وحينئذٍ يفرق بينهما.

    (ولو بعد الدخول) كذلك بعد أن يدخل بها إن أعسر بمهرها فلها ذلك، لأن النكاح مبني على المعاوضة، وحينئذٍ من حقها أن تفسخ النكاح، وهذا يسمى خيار الإعسار، ويكون تارة إعساراً من جهة الزوج في نفقته على زوجته، ويكون تارة من جهة الزوج في مهر زوجته، هاتان صورتان ذكرهما العلمـاء رحمهـم الله في الإعسـار.

    الرجوع في قضايا الفسخ بالإعسار إلى الحاكم

    [ ولا يفسخه إلا حاكم ].

    ولا يفسخ هذا النوع من الأنكحة إلا حاكم، وهو القاضي الذي له حق النظر في هذه الخصومات، فلا يأتي طالب علم فيفتي في هذه المسائل، لأن مسائل الخلاف بين الناس تحتاج إلى القضاة، والقاضي ينصف الخصمين بأصول الشريعة، والضوابط الشرعية في القضاء أنصفت كلا الخصمين.

    فالمفتي في هذه المسائل لا يتدخل، وطالب العلم لا يفتي في هذه المسائل، إنما يحيلهم على القاضي؛ لأنها مسائل يحصل فيها الخلاف، فالإعسار يحتاج إلى إثبات، والإثبات يحتاج إلى نظر ورجوع إلى أهل الخبرة، فليس كل من هب ودب يفتي في هذه المسائل أو يتكلم، فيها وإنما ترد إلى القضاة.

    ومن هنا في هذه الأزمنة جرت العادة في مسائل الطلاق أن لا يفتي فيها كل أحد، من كثرة مشاكل الناس والكذب.

    فالمسائل التي فيها خلاف ويحدث فيها تلاعب ترد إلى القضاة وترد إلى ولاة الأمر؛ لأن الناس بغير ذلك يصبحون في فوضى.

    ففي زماننا مثلاً يأتيك الرجل -وهذا قد حدث وسمعناه ورأيناه- ويقول لك: قلت كذا وكذا، فتأتي المرأة تقول: لا، بل قال: كذا وكذا، ويأتي الرجل ويقول لك: قلت كذا وكذا، ويترك كلمة أو لفظه أو حالة للمرأة، والمرأة أيضاً تقول شيئاً غير الذي يقوله الرجل، فعندما تربط هذه المسائل بالقضاء وتربط بكبار العلماء يعرف الناس خطر الطلاق، ويعرف الناس خطورة هذا الباب، فما كل واحد يطلق، فإنه حينما يتعنى ويتعب، ويظل يتصل بأشخاص معينين وبعلماء معينين، ويجد نوعاً من التعب والعنت، فيهاب هذا الباب، ويصبح من مصالح الناس وعامة الناس أن يربطوا بكبار العلماء أو يربطوا بالقضاة، حتى يشعروا بخطر الطلاق، ولا يتلاعب بالطلاق.

    وهذا يقع، خاصة عند فساد الأزمنة، تجد الرجل -نسأل الله السلامة والعافية- في بعض الأحيان لا يخاف الله ولا يتقيه، فربما يأتي ويقول لك: قلت: أنتِ طالق، وهو قد يكون قال لها: أنتِ طالق بالثلاث، وقد يقول: قلت لها: أنتِ طالق طالق طالق، فيسمع أنه إذا قال: أنتِ طالق طالق طالق، تحتمل المرة، فيصرف في الألفاظ ويحرف في الألفاظ على ضوء ما يسمع من الفتاوى، ويأتي إلى شيخ جليل معروف موثوق به، أو يقول لأولياء المرأة: نذهب إلى فلان نقبل فتواه، فيأتيه بالعبارة التي سمع أنها لا تؤثر، وهذا من أبلغ ما يكون في انتهاك حدود الله -نسأل الله السلامة والعافية- فإنه لو غير لفظة أو كلمة يريد أن يحتال بها على الله وعلى دين الله فلن ينفعه؛ لأن فتوى المفتي وقضاء القاضي لا يحل الحرام، ويصبح هو وامرأته على الزنا -والعياذ بالله- لو كانت حراماً عليه.

    فالأمر في هذا جد خطير، ولذلك العلماء قالوا: الفسخ عند الحاكم [ ولا يفسخه إلا حاكم ] أي: في مسائل الخلاف، وفي عصورنا الآن جرت العادة أن ترد مسائل الطلاق لكبار العلماء؛ لوجود الخلاف بين الناس ووجود التلاعب بين الناس.

    واقتضت الحكمة أن مثل هذه المسائل لا يفتح فيها الباب لكل من هب ودب أن يفتي، حتى لا يصبح الناس فوضى، هذا يقول: حلال، وهذا يقول: حرام، وهذا يقول بالتفصيل، فيضيع الناس، ولا يدرون أين يذهبون.

    فالفتاوى في مثل هذه المسائل، والبت والحكم في هذه المسائل يرجع فيه إلى من له حق النظر فيها، حتى يكون أبلغ في إقامة الناس على السنن.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756174236