إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب اللقطةللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإنسان في حياته معرض لضياع ماله عنه، وبما أن الضائع غالباً ما يجده إنسان آخر ويلتقطه؛ فلهذا وضعت الشريعة للقطة أحكاماً تتعلق بمن يأخذ اللقطة، وما الشيء الذي يجوز له التقاطه، وما الذي لا يجوز له التقاطه، وكيف يعرفها حتى يجد صاحبها، وما هو المال الذي يعرف والذي لا يعرف، وما الذي يترتب على عدم مجيء صاحبها، وغير ذلك من الأحكام الخاصة بباب اللقطة، وهذا كله من كمال الشريعة وشمولها.

    1.   

    اللقطة وأحكامها

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: (باب اللقطة)

    أراد أن يشرع المصنف رحمه الله في بيان أحكام الضائعات من الأموال ونحوها، وقد بينت الشريعة الإسلامية ما يجب على المسلم إذا وجد مال أخيه المسلم؛ من حفظه، ورعايته، والسعي في تحصيل الأسباب بمعرفة صاحبه ورده إليه، فإن الإنسان ربما سقط منه ماله وهو لا يدري، ولربما ضاع منه، فيحتاج إلى حفظ ذلك المال، حتى يتمكن صاحبه من وجدانه، وقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث التي اشتملت على أحكام اللقطة، وفصلت في بيان ما يجب على الملتقط، ومتى يحكم له بأخذها والتصرف فيها، وما الذي يترتب على ذلك الأخذ، وأنه إذا وجد صاحبه في يوم من الأيام فإنه يكون ضامناً له.

    وقد ذكر المصنف رحمه الله باب اللقطة بعد باب الجعالة، والمناسبة: أن باب الجعالة تضمن جملة من المسائل والأحكام التي غالباً ما يكون فيها الجعل في الأشياء الضائعة، واللقطة من الضائعات، فهناك توافق بين باب الجعالة وبين باب اللقطة.

    وقوله رحمه الله: (باب اللقطة) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة باللقطة.

    أقسام اللقطة

    ومن أجمع الأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام اللقطة: حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه وأرضاه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والفضة، فقال عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة، فإذا أتاك صاحبها فأعطها إليه، وإلا فشأنك بها، فإن جاء ربها يطلبها يوماً من الدهر، فأعطها له. ثم سأله عن ضالة الإبل، فقال عليه الصلاة والسلام: مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يلقاها ربها. ثم سأله عن ضالة الغنم، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) متفق عليه، هذا الحديث الشريف اشتمل على جملة من الأحكام، فبين مشروعية التقاط اللقطة، ما لم تكن من ضالة الإبل، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أخذ ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)، فحرم أخذها، وحمل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤوي الضالة إلا ضال)، وقد عمل بذلك جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإنه كان في سفر، وكان معه بهمه وبقره، فجاءت بقرة ودخلت بين البقر، فطردها رضي الله عنه، وأمر بطردها، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤوي الضالة إلا ضال).

    ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين النوعين، وبين أن هناك شيئاً يجوز التقاطه، وشيئاً لا يجوز التقاطه.

    فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم قال: (اعرف وكاءها وعفاصها)، (والوكاء): هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص): هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، فالعفاص: المراد به الوعاء الذي تحفظ فيه اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، والمعنى: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، أي: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، وكذلك أيضاً اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل؟

    فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل بها على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه.

    ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة، وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف. وقد اشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأتِ صاحبها فإنه يملكها -أي: يملك اللقطة حكماً- واجدها، ولذلك قال: (فهي وديعة عندك)، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكماً، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكماً لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها فلا تقل له: ولقد عرفتها سنة ولم تأتِ، فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها، فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكماً، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، قال: (فإن جاء صاحبها يطلبها يوماً من الدهر)، وهذا فيه دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد -مثلاً- من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأتِ خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعاً موجباً للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت.

    فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه، وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكماً، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه؛ لأن المال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع.

    ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهو: ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها)، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة؛ لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إلى مكانها ومرعاها، وربما باع الرجل إبله في مكان بعيد جداً قد يبلغ مئات الكيلو مترات، ثم يفاجأ يوماً من الأيام وقد رجعت إليه الإبل، وهذا معروف، ومن ذلك القصة المعروفة للجرمي ، لما أجلت خزاعة جرهماً عن البيت، أي: أبعدتهم عن مكة، وابتعدوا أكثر من ثلاثمائة كيلو متراً، ثم حنت إبلهم، ونزحت إلى مكة، ودخلت حتى نحرت في مكة، وهي التي صارت فيها القضية المعروفة، وفيها الأبيات المشهورة:

    كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

    فأسباب هذه الأبيات: أن الإبل حنت إلى مرعاها بمكة، وقد كانوا على بعد أكثر من ثلاثمائة كيلو متراً، وهذا يكون حتى بين العشية والضحى، فالإبل ربما تجلس ثلاثة أيام وأربعة أيام في مكانها الجديد، ثم تحن إلى مرعاها القديم.

    إذاً: ضالة الإبل لها حكم خاص، وقد خصتها الشريعة بهذا الحكم، وهو أنه لا يتعرض لها الإنسان، فهي تدفع عن نفسها، فلو هجم عليها صغار (السباع) فهي تدفع عن نفسها، ولذلك لا يتعرض لها أبداً.

    وأما النوع الثالث الذي اشتمل عليه الحديث فهو: ضالة الغنم، ولما سئل عنها عليه الصلاة والسلام خفف في حكمها وقال: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا النوع من الضوال -وهو الغنم- لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا يستطيع أن يبقى في المكان الذي هو فيه، فإذا تُرِك أكله الذئب، فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، أو يأتي صاحبها فيجدها، ولكننا إذا لم نجد صاحبها، ودلنا على هذا أنه لو كان موجوداً لما أصبحت في العراء، فالاحتمال الثالث أن تأخذها.

    وانظر إلى حكمة الشريعة كيف اشتمل هذا الحديث على الثلاثة أنواع: النوع الأول: الضعيف الذي لا يمكن أن يجد صاحبه، ولا يمكنه أن يدفع عن نفسه، وبقاؤه ضياع وتلف، وهو الغنم، فتملك بالأخذ، ثم النوع الثاني: وهو الذي تتبعه همة صاحبه، ويحصل عنه السؤال والبحث والتحري، وهي لقطة الذهب والفضة، والنوع الثالث: والذي هو أعلى، فيمكنه أن يدفع عن نفسه، ويمكنه أن يبقى في مكانه مدة طويلة، وهو ضالة الإبل، فأعطت الشريعة الإسلامية لكل نوع حكمه، وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى، الذي قص الحق وهو خير الفاصلين، قال تعالى :وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

    فالشيء الذي يجوز التقاطه هو الذهب وسائر الأموال، ولما سئل عنها صلى الله عليه وسلم، قال: (اعرف وكاءها وعفاصها)، (والوكاء): هو الخيط الذي يشد به القرطاس، ويشد به كيس المال، (والعفاص): هو الوعاء، وقيل: الشيء الذي يوضع على فم القارورة أو الزجاجة، (فالعفاص): المراد به الوعاء الذي تحفظ به اللقطة، وفي زماننا الحقائب والصناديق، يعني: اعرف الشيء الذي كانت اللقطة موجودة فيه، يعني: نوع الحقيبة ولون الحقيبة، كذلك أيضاً، اعرف وكاءها، وفي زماننا تعرف هل لها قفل أو ليس لها قفل.

    فكل الأوصاف التي يمكن عن طريقها أن يستدل على اللقطة يضبطها الواجد والملتقط ويحفظ ذلك، وإذا خاف النسيان كتبه، ثم بين عليه الصلاة والسلام أنه يعرفها سنة، فأمر عليه الصلاة والسلام أن يعرفها سنة وسنبين كيفية التعريف، وحكم التعريف، واشتمل الحديث على أنه بعد مضي سنة كاملة إذا لم يأتِ صاحبها فإنه يملكها أي: يملك اللقطة حكماً واجدها، ولذلك قال: فهي وديعة عندك، فاعتبرها كالوديعة، بمعنى: أنه يملكها حكماً، لكن ليست بالوديعة الاصطلاحية التي تقدمت معنا أحكامها، إنما أراد أن صاحبها كأنه وضعها عندك وديعة، أي: إذ أذن لك الشرع بأخذها والتصرف فيها، فإنما هو حكماً لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبها لا تقول له: والله عرفتها سنة ولم تأتِ فأنا أملكها، إنما أراد أن يبين أنه بعد مضي سنة في حالة عدم إتيان صاحبها فإن من حقك أن تتصرف فيها، وتكون كالمالك لها لكن حكماً، بحيث لو جاء صاحبها لم ترتفع يده الحقيقية عن ذلك المال، (فإن جاء صاحبها يطلبها يوماً من الدهر) هذا فهي دليل على أنه سواء طالت المدة أم قصرت، فيده لا زالت باقية على المال، وطول المدة -كما يسمى في عرفنا بالتقادم- لا يسقط الحقوق، وهذا يرد على ما تسير عليه بعض القوانين الوضعية من إسقاط الحقوق بالتقادم، سواء كان في عقود المنافع أو عقود المعاوضات الأخرى، فتجد مثلاً من يغسل الثياب يقول: إذا لم تأتِ خلال ستة أشهر فلا تسأل عن مالك، وهذا ليس له من أصل، ولا يعتبر شرعاً موجباً للحكم، فصاحب المال أحق بماله متى وجده ولو بعد دهر من الزمان، فالعبرة في رجوع الحق إلى صاحبه، بغض النظر عن المدة طالت أو قصرت، فبين عليه الصلاة والسلام أنه مع كون الملتقط يتعب في السؤال عن صاحبه، ويتحمل مشقة التعريف، وعناءه وعبء الحفظ للمال، ويطول الزمان، ويتصرف في المال، ويأخذه حكماً، ومع ذلك لا يسقط ذلك حق صاحبه، فالمال لصاحبه، فأموال المسلمين محرمة إلا إذا أذن بها صاحبها، أو أخذت باستحقاق أذن به الشرع.

    ثم بين عليه الصلاة والسلام النوع الثاني من اللقطة وهي ضالة الإبل، وسأله زيد رضي الله عنه عن ضالة الإبل، فقال: (مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها)، أي: لا خوف عليها، فالإبل لا يضرها شيء، ولو مضت المدة طويلة، لأنها تصبر على الماء وترد على الشجر وتأكل، ويستطيع صاحبها بالتحري والسؤال أن يجدها، ثم إن الإبل من المعروف أنها تحن إلى مكانها ومرعاها، وربما باع الرجل إبله في مكان بعيد جداً قد يبلغ مئات الكيلو مترات، ثم يفاجأ يوماً من الأيام وقد رجعت له الإبل، وهذا معروف، ومن ذلك القصة المعروفة للجرمي ، لما أجلت خزاعة جرهماً عن البيت، أي: أبعدتهم عن مكة وابتعدوا أكثر من ثلاثمائة كيلومتراً، ثم حنت إبلهم، ونزحت إلى مكة، ودخلت حتى نحرت في مكة، وهي التي صارت فيها القضية المعروفة، وفيها الأبيات المشهورة:

    كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

    فأسباب هذه الأبيات، أن الإبل حنت إلى مرعاها بمكة، وهم كانوا على أكثر من ثلاثمائة كيلو متراً، وهذا يكون حتى بين العشية والضحى، فالإبل ربما تجلس ثلاثة أيام وأربعة أيام في مكانها الجديد، ثم تحن إلى مرعاها القديم، فإذاً ضالة الإبل لها حكم خاص، خصتها الشريعة بهذا الحكم، أنه لا يتعرض لها الإنسان، فهي تدفع عن نفسها، فلو هجم عليها صغار (السباع) فهي تدفع عن نفسها ولذلك لا يتعرض لها.

    وأما بالنسبة للنوع الثالث الذي اشتمل عليه الحديث، وهو ضالة الغنم، فلما سئل عنها عليه الصلاة والسلام، خفف في حكمها وقال: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذا النوع من الضوال -وهو الغنم- لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا يستطيع أن يبقى في المكان الذي هو فيه، فإذا تُرِك أكله الذئب فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه، أو يأتي صاحبها فيجدها، ولكننا إذا لم نجد صاحبها، ودلنا على هذا أنه لو كان موجوداً لما أصبحت في العراء، فالاحتمال الثالث أن تأخذها.

    وانظر إلى حكمة الشريعة، كيف اشتمل هذا الحديث على الثلاثة أنواع، النوع الأول: الضعيف الذي لا يمكن أن يجد صاحبه ولا يمكنه أن يدفع عن نفسه، وبقاؤه ضياع وتلف، وهو الغنم، فتملك بالأخذ، ثم النوع الثاني: وهو الذي تتبعه همة صاحبه، ويحصل عنه السؤال والبحث والتحري، وهي لقطة الذهب والفضة، والنوع الثالث: والذي هو أعلى، فيمكنه أن يدفع عن نفسه، ويمكنه أن يبقى في مكانه مدة طويلة، وهو ضالة الإبل، فأعطت الشريعة الإسلامية لكل نوع حكمه، وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى، الذي قص الحق وهو خير الفاصلين، قال تعالى :وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].

    أركان اللقطة

    يقول المصنف رحمه الله: (باب اللقطة) أي: سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق باللقطة، ويشمل ذلك: (الركن الأول): وهو الشيء الملتقط، و(الركن الثاني) وهو الشخص الملتقط، و(الركن الثالث): وهو صفة الالتقاط، والأحكام المترتبة على هذه الأركان الثلاثة، فيبين لنا من هو الذي يجوز له الالتقاط، والذي لا يجوز له الالتقاط، وما الحكم إذا التقط غير الأهل، ومن يتولى عنه.

    والركن الثاني: الشيء الملتقط، على التفصيل الذي ذكرناه فيما يجوز التقاطه وما لا يجوز التقاطه.

    والركن الثالث: صفة الالتقاط، سواء من جهة كونه يلتقط بقصد الملكية، أو يلتقط بقصد التعريف، وتارة يكون في حكم الغاصب، وتارة يكون في حكم الملتقط، وأخذ بهذا يبين الأحكام المتعلقة بهذه الأركان الثلاثة.

    تعريف اللقطة

    قال رحمه الله تعالى: [وهي مال أو مختص ضل عن ربه، وتتبعه همة أوساط الناس، فأما الرغيف والسوط ونحوهما فيملك بلا تعريف].

    استفتح المصنف باب اللقطة ببيان حقيقة اللقطة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن عادة العلماء رحمهم الله أن يبدءوا أولاً بالتعريف؛ لأنه عن طريق التعريف يمكن للإنسان أن يحكم على الشيء، قال رحمه الله: (وهي) أي: اللقطة، (مال) والمال: هو كل شيء له قيمة، وسمي بذلك لأن النفوس تميل إليه وتهواه، ويشمل ذلك الذهب والفضة وغيرهما، فاللقطة مال، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، أو الأكسية، أو الأغطية، أو الأغذية، أو الأقلام أو الكتب، أو غير ذلك مما له قيمة. وقوله رحمه الله: (وهي مال)، هذا العموم له تخصيص، وسيأتي -إن شاء الله- أن اللقطة تختص بالذهب والفضة وما في حكمها، دون بهيمة الأنعام، فهذا النوع من الضائعات والضوال له حكم خاص.

    وقوله: (وهي مال أو مختص) اختصاص الإنسان بالشيء تميزه به دون غيره، والخاص ضد العام، ومعنى ذلك: أنه شيء يثبت لك على سبيل الرخصة وعلى سبيل الخصوصية، وتكون مختصاً به، ومن أمثلة ذلك: كلب الصيد، فلو قال المصنف: (اللقطة مال) وسكت، لم يشمل كلب الصيد؛ لأن ذلك كلب الصيد يمكن أن يضيع من صاحبه، ويأخذ حكم اللقطة، إذا كان قد اختص به الإنسان، حيث أذن له الشرع أن يصيد به، أو كلب حراسة أذن له أن يستخدمه في الحراسة، فمثل هذا لو ضاع فإنه يأخذ حكم اللقطة؛ من تعريفه ورده إلى صاحبه.

    وقوله: (ضل عن ربه) ضل بمعنى: تاه، فإما أن يضل عن ربه، أو يسقط من صاحبه، كالنقود تكون في جيب الإنسان ثم تسقط، وهذا الوصف وهو قوله: (ضل) يخرج به المسروق والمغصوب، فلا يسمى لقطة؛ لأنه أخذ من صاحبه قهراً، والذي يؤخذ من صاحبه على سبيل الخفية، إما خلسة، أو غفلة، فهو سرقة، فلا يأخذ حكم اللقطة، واللقطة نعرف أنها ضلت عن صاحبها بأن نجدها ساقطة في الطرقات، أو نجدها -مثلاً- في أماكن الجلوس، فمن عادة الناس أنهم إذا جلسوا أن يضعوا أمتعتهم بجوارهم، فإذا وجدنا الكيس من المال أو الحقيبة فيها المال أو الأغراض في نفس المكان أو بجوار المكان، فنعلم أن صاحبها قد نسيها، فلم تضل هي ولكن صاحبها غفل عنها حتى نسيها في المكان، والمراد من هذا: أن صاحبها افتقدها، سواء كان ذلك بإهمال منه، أو كان بأي سبب من الأسباب، فكل شيء ضاع من صاحبه، فإنه يحكم بكونه لقطة من حيث الجملة.

    أقسام اللقطة من حيث القيمة

    وقوله: (وتتبعه همة أوساط الناس) اللقطة تنقسم إلى قسمين: فإما أن تكون شيئاً له قيمة، وإما أن تكون شيئاً لا قيمة له، فلما قال المصنف رحمه الله: (مال) هذا عام، ولو نظرت إلى الشيء الغالي فهو مال، وإذا نظرت إلى الشيء التافه فهو مال، فالتمرة هي مال، والقلم يعتبر مالاً، والدفتر يعتبر مالاً؛ لأن له قيمة، وقد يكون شيئاً نفيساً قيمته عشرات ومئات الألوف، فهو مال، إذاً قوله رحمه الله: (وهي) أي: اللقطة، (مال) عام، والشريعة خصصت هذا العموم، وبينت أن اللقطة التي لا تتبعها همة صاحبها، وهي الشيء اليسير الذي لا قيمة له، أو له قيمة ليست بذات بال في أوساط الناس، مرخص فيها ومخفف في أمرها، والأصل في ذلك: أنه ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على تمرة، فقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)، فالتمرة مال، وقد كان الرجل ينزح الدلو الواحد بتمرة واحدة، فلها قيمة، ولربما كان طعام الرجل ليومه من تمرة واحدة، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: (لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها)، وهذا الورع من أتم ما يكون، فقد تورع عليه الصلاة والسلام عنها، وقوله: (لأكلتها) يدل على أن يد صاحبها قد خلت عنها، وهذا يدل على أن الشيء الذي ليست له قيمة، ولا تتبعه همة صاحبه، بمعنى: أنه لا يطلبه، ولا يبحث عنه، كالتمرة إذا سقطت من الإنسان فإنه لا يبحث عنها غالباً، وهكذا الحفنة اليسيرة من الأرز في زماننا، والحفنة من البر والحفنة من التمر، يخفف في حكمها، ولا يجب تعريفها، ولا تأخذ أحكام اللقطة العامة.

    ومن الأدلة أيضاً حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: (خفف علينا -وفي رواية: رخص لنا- في السوط والعصا يأخذه واجده)، والسوط هو الذي تضرب به الدواب، فلو وجده الإنسان فإنه يأخذه مع أنه بحكم اللقطة، ولكن لما كان السوط لا تتبعه همة صاحبه، وكذلك العصا ونحوها لا تتبعها همة صاحبها؛ خفف فيها، ففي زماننا لو وجد قلماً رخيصاً فيأخذه واجده، وهكذا بالنسبة للثياب، إذا كان الملبوس لا قيمة له، وقيمته يسيرة ليست بذات بال، فيجوز للإنسان إذا أخذه أن يملكه مباشرة، ولا يحتاج إلى تعريف.

    ضابط المال الذي يأخذ حكم اللقطة

    قال رحمه الله: [وتتبعه همة]، الاهتمام بالشيء: العناية به، والأموال منها ما يهتم به الإنسان، ومنها ما لا يكترث به، فالفقهاء رحمهم الله يريدون أن يفرقوا بين الشيء الذي يأخذ حكم اللقطة العامة والشيء الذي لا يأخذ هذه الأحكام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق في سنته، فلما قال جابر رضي الله عنه: (خفف عنا في السوط والعصا)، هذا يدل على أن الشيء اليسير لا يحتاج إلى تعريف به، ولا يأخذ حكم اللقطة العامة.

    إذاً: نحتاج إلى وضع ضابط، ووضع ميزان نفرق به بين الشيء الذي يأخذ حكم اللقطة، وبين لشيء الذي لا يأخذ حكم اللقطة، فوضعوا ضابطاً وهو: همة أوساط الناس، وقالوا: وسط؛ لأنه دائماً في التقديرات الغالبة ينظر إلى أوساط الناس، فمثلاً: قاعدة: العادة محكمة، لما جاء العلماء يضعون قاعدة الاحتكام إلى العرف وضعوا الضابط الغالب، فالغالب هو الذي يكون في الوسط، ليس لأهل الغنى ولا لأهل الفقر، فكذلك هنا بالنسبة للأموال، لا ننظر إلى الأشياء الغالية ولا إلى الأشياء الرخيصة، ولكن ننظر إلى الأشياء الوسط، ونجعلها هي التي تسري عليها أحكام اللقطة، فنقول: من باب أولى إذا كانت أغلى من هذه، وعلى هذا وضع المصنف رحمه الله قيد: أوساط، والوسط هو المقام الذي يكون بين الطرفين: الغالي والرخيص، فاللقطة هي الشيء الذي ليس بالرخيص جداً، بل كان رخصه تتبعه همة أوساط الناس؛ لأنه يمكن أن يكون الرخيص عندي قيمته مائة ريال لغناي، وقد يكون عندي الرخيص قيمته ألف ريال، وقد يكون عشرة آلاف ريال.. وهكذا.

    إذاً: ننظر إلى أوساط المجتمع، وهذا يختلف باختلاف الأعراف، والأزمنة والأمكنة، فالقاضي والشيخ والمفتي وطالب العلم إذا سئل عن شيء: هل هو لقطة أم لا؟ فينبغي أن ينظر إلى الوسط، والمصنف رحمه الله ابتدأ بهذه الجملة؛ لأن أول ما تبحث من أحكام اللقطة أن تعرف ما هو الشيء الوسط الذي تتبعه همة أوساط الناس، حتى تقول بعد ذلك: يجب تعريفه، ويجب كذا وكذا من أحكام اللقطة، فهو يقول: نضع ضابطاً لأوساط الناس.

    وأوساط الناس تختلف باختلاف الزمان والمكان؛ فقد تجد مجتمعاً يكون وسط المال فيه ألف ريال، بحيث أن ما دون الألف يكون شيئاً يسيراً.

    وقد تجد زمناً الوسط فيه مائة ريال، بحيث أن ما نزل عن المائة يكون يسيراً، وقد يكون العشرة ريال، فيرد هذا إلى كل عرف بحسبه.

    قال رحمه الله: (وتتبعه همة أوساط الناس) أي: يهتم صاحبه بالبحث عنه؛ لأننا لا نستطيع أن نكلف شخصاً أن يعتني بما لا يريده صاحبه، أي: لا ينشغل به صاحبه، ففي ذلك عناء ومشقة، وأحكام اللقطة صعبة، والتعريف باللقطة فيه عناء ومشقة.

    حكم التقاط الشيء اليسير

    وقوله: (فأما الرغيف) الفاء للتفريع، أي: إذا ثبت أن اللقطة مال ضائع عن صاحبه، وتتبعه همة مالكه، فإنه إذا كان رغيفاً، أي: شيئاً لا قيمة له، فإنه لا يعتبر لقطة، فهو أراد أن يفرع من التعريف السابق، بحيث يخرج ما ليس بلقطة من التعريف، فقال: (فأما الرغيف فلا تتبعه همة صاحبه)، ولكن قد يكون -مثلاً- مجمع من الناس في نزهة، والرغيف عندهم له قيمة، أو رفقة في سفر من الفقراء والضعفاء، فلا نستطيع أن نقول: إن من وجد الرغيف فهو له؛ لأن الرغيف هنا يختلف عن الوضع العام، والمؤلف يتكلم عن الغالب، وإلا فقد يكون الرغيف له شأن، خاصة في أيام المجاعة والشدة، فتتبعه همة صاحبه، فهذا التعبير إنما هو للغالب، والفقهاء يختارون أمثلة للغالب.

    قال: (والسوط) وهو الذي يضرب به الناس ونحوه، والمراد: مما لا تتبعه همة الناس، ولا قيمة له ذات بال، فيملك بلا تعريف، أي أن صاحبه إذا فقده ووجدته، فإننا نحكم بانتقال ما في يده إليه، فتملكه بمجرد ما تأخذه بدون تعريف، كما يقول بعض العلماء: فهو لواجده، ومنهم من يقول: فهو لملتقطه، وهنا قال المصنف: (فيملك بلا تعريف)، فأراد أن يبين أن الشيء التافه واليسير، كالسوط الذي لا تتبعه همة صاحبه، يملك بلا تعريف، لكن في بعض الأحيان إذا كنا نستطيع معرفة صاحب السوط فنرده إلى صاحبه، وليست المسألة هكذا مطلقة، ولكن المراد: الغالب، مثل: الرغيف، فإنه لا تتبعه همة صاحبه، ولكن إن كان في موضع وفي حال يمكن الحصول فيه على صاحبه، فيجب أن يرد إلى صاحبه؛ لأن أموال الناس مملوكة لأصحابها، ولا يحكم بالانتقال متى أمكن ردها إلى أهلها.

    ما يحرم التقاطه وضابطه

    قال رحمه الله: [وما امتنع من سبع صغير كثور وجمل ونحوهما، حرم أخذه]

    لما بين رحمه الله الشيء الصغير الذي لا قيمة له، ولا تتبعه همة صاحبه، شرع في ضده وعكسه، فقال: (وما امتنع من سبع صغير).

    ومن المعلوم أن الآيات والأحاديث إذا جاءت فإما أن تأتي نصاً في شيء معين، فتختص بذلك المعين، وإما أن تأتي على سبيل التعبد، فلا يبحث في علتها، وإما أن تأتي على سبيل التعقل ومعرفة معناها حتى يقاس غيرها عليها وهي الأصول.

    إذاً: عندنا نصوص لا يمكن أبداً أن نجاوزها عن موضعها، كما لو جاءت في مخصوص خص به عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ [الأحزاب:52]، فهذا نص خاص به عليه الصلاة والسلام، ويحكم بالخصوص، فهو خاص أراد به الخصوص، وهناك خاص جاء على سبيل التعبد، فلا نستطيع أن نقدم أو نؤخر فيه، حيث جاء كوضوح الشمس أنه تعبد، كما جاء في فرضية صلاة الظهر بعد الزوال، فما نستطيع أن نحدث صلاة ثانية قياساً على صلاة الظهر، ولا نستطيع أن نحدث عبادة قياساً على هذه العبادة، ولكن هذا شيء تعبدي نقتصر فيه على هذا الوجه الذي جاء.

    وأما ما أريد به العموم، فيكون قاعدة ينبني عليها غيرها، وأصلاً يتفرع عليه ما لا يحصى من المسائل، وهذا هو منهج الشريعة في أكثر النصوص؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فالكمال أن تكون نصوص الشريعة قواعد عامة، حتى تصلح لكل زمان ومكان، ومن أمثلة ذلك: مسألة اللقطة، عندما جاء الحديث في ضالة الإبل، قال عليه الصلاة والسلام: (مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشعر حتى يلقاها صاحبها) هذا اللفظ من الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز أن يتعرض الإنسان لضالة الإبل، لكن هل المراد بذلك الإبل فقط، بحيث لا يقاس عليها غيرها، ونقول بأن غيرها يلتقط ويأخذ حكم اللقطة، أم أن المراد بذلك أن الإبل تمتنع وتدفع، ويقاس على الإبل غيرها مما يأخذ حكمها؟ لا شك أن الأمر هو الصحيح.

    ولما جاء ذكر الغنم قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) فأسْقِطْ كلمة: (لك) فيبقى إما لأخيك أو للذئب، المالك هو أخوك المسلم، وقيل: لأخيك، أي: إذا ما أخذتها أنت فسيأتي شخص آخر ويأخذها، لكن على الأصل نقول: قوله: لأخيك من باب المقابلة، (إنما هي لك) فيقاس غيرك إذا كان مكانك، وهذا أنسب، بمعنى: إنما هي لك أو لأخيك مالكها إن وجدها، فهذا أفضل؛ لأنه لما قال: (لك) نزل غيرك من وجدها كما وجدتها، فإذا أسقطنا (لك) بقيت (لأخيك) أو للذئب، لأخيك إن وجدها، (أو للذئب) إن لم يجدها، فلما ذكر الذئب دل على أن في الحيوان الضال معنى، وهو كونه يدفع عن نفسه أو لا يدفع، فوجدنا أن الغنم لا يمكن أن تدفع عن نفسها صغار السباع، أما كبار السباع فلا يمكن لا للإبل ولا للغنم أن تدفعها.

    فلما قرر عليه الصلاة والسلام أن الإبل تترك على حالها، فمعناه: أن هناك علة لهذا الترك، وهي قوله: (معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر)، لكن الغنم يمكن أن تجد شيئاً تستقي به، ويمكن أن تسير المسافات الشاسعة، لكن لا يمكن أن تدفع الذئب، فقوله: (أو للذئب) يدل على أن مسألة اعتداء السبع عليها مؤثرة في الحكم، وأن هذا الأمر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ينبه على العلة التي من أجلها شدد في الإبل، ويسر وخفف في الغنم، ومن هنا استنبط العلماء المعنى، فقالوا: لا يستطيع أن يدفع من صغار السبع، فمثلاً: الناقة تستطيع أن تدفع لو جاءها صغير الذئب، أو جاءها صغير الأسد، أو السباع العادية؛ لأن الإبل شديد البطش، فيمكن أن يدفع، وعلى هذا قالوا: إن العلة هي كونه يدفع عن نفسه، وجعلوا الضابط صغار السبع؛ لأن كبار السباع تعتدي على الإبل ومع ذلك جعل الإبل سائدة هائمة حتى يلقاها ربها، فدل ذلك على أن العلة كونها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها صغار السبع.

    ما يلحق بالإبل في حرمة التقاطه

    قال رحمه الله: [وما امتنع من سبع صغير].

    كالإبل كما ذكر عليه الصلاة السلام، ويقاس على ذلك الضباء، والوعول، وتيس الجبل، وبقر الوحش، فإذا وجدت ظبياً فإنه يجوز صيده، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه من المباحات، وقد أحله الله عز وجل لعباده، وكذلك الوعل وتيس الجبل، كلها أحلها الله عز وجل، فالمصنف لما قال: (وما امتنع من سبع صغير) مراده أن يكون هذا الظبي ملكاً لشخص، فالظباء والوعول والريم والغزلان إذا كانت ملكاً لأشخاص، وضلت وضاعت، فإنها تترك حتى يلقوها؛ لأنها تدفع عن نفسها صغار السباع، وكذلك يدخل في هذا ما يدفع عن نفسه من صغار السباع بالتوحش والفرار، حتى ولو كان من الطير، وبناء على هذا: فالحمام الذي يربى في البيت، لا يجوز لأحد أن يأخذه؛ لأنه يمتنع من نفسه، ويمكنه أن يدفع عن نفسه، حتى يرجع إلى ربه وصاحبه.

    فهذه ينطبق عليها أنه لا يؤوي الضالة إلا ضال؛ إذ ما المعنى أن يأخذه إلا الاعتداء على مال أخيه المسلم، فيترك حتى يعود إلى صاحبه ومالكه، إلا إذا كان المتلفظ يعرف صاحبها، فأخذها على نية أن يعطيها لصاحبها، فلا إشكال، أما إذا لم يعرف صاحب هذه الحمام، وعرف أنه من النوع البيتي الذي يربى، فإنه يطرده عنه ولا يجوز أخذه، وهو في مثل هذا كالإبل التي تدفع عن نفسها، ويمكن للحمام أن يعيش حتى يرجع إلى صاحبه.

    قال رحمه الله: [كثور وجمل].

    الثور والجمل يدفع، وكذلك البقر القوي، ومن أهل العلم من جعل البقر خارجاً عن حكم الإبل، والصحيح أنه يأخذ حكمها؛ لأن جريراً رضي الله عنه وأرضاه أعطاه حكم الإبل، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يؤوي الضالة إلا ضال)، والسبب في التفريق بين الإبل وبين والبقر: أن الإبل تصبر أكثر من البقر، والبقر إذا ضاع في الفيافي والصحراء فغالباً ما يهلك، بخلاف الإبل فإنها تصبر على الماء أكثر، والبقر أضعف في الصبر من هذا الوجه، وإلا فمن حيث القوة، ومن حيث الوصف، هناك شبه بين البقر وبين الإبل.

    وبالمناسبة: بعض العلماء يلحق البقر بالإبل في أكثر المسائل الشرعية، يقولون: وجدنا الشريعة تجعل الإبل والبقر في حكم واحد، فمثلاً: يضحى بالبقرة عن سبعة، ويضحى بالبدنة عن سبعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى عن نسائه بالبقر، فجعل البقر محلاً للتشريك كالإبل، فأنزلها منزلة الإبل. ومن هنا قالوا: إن البقر تنحر ولا تذبح، قياساً على الإبل، ومن أهل العلم من جعل البقر تارة تلتحق بالإبل وتارة لا تلتحق بالإبل، وتختلف أحكامه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم الجمعة : (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة)، ففرق بين الإبل والبقر، وأجيب: بأن هذا من باب الفضل لا من جهة الحكم، وقد يتفق الاثنان حكماً ويختلفان فضلاً، فيكون أحدهما أفضل من الآخر، ولكن هذا لا يقتضي عدم تشريكهما في الحكم.

    قال رحمه الله: [ونحوهما]، أي: ما يكون قوياً يستطيع الدفع عن نفسه، [حرم أخذه] أي: لا يدخل في جواز الالتقاط.

    فأصبحت الأشياء والأموال منها ما يجوز أخذه، ومنها ما يحرم أخذه، ومنها ما يجب أخذه مما يكون الغالب فيه الضياع أو التلف، فيجب على الإنسان أن يأخذه، أو إذا كان يعرف صاحبه، فيجب عليه أن يأخذه حتى يعطيه إلى صاحبه.

    حكم التقاط اللقطة

    قال رحمه الله: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره، إن أمن نفسه على ذلك، وإلا فهو كغاصب].

    يقول المصنف رحمه الله: (وله) أي: للشخص الواجد للضائع (التقاط) أي: أخذ الشيء الضال أو الضائع من غير الذي ذكرناه وهي الأشياء اليسيرة التي ليس لها قيمة، ومن أهل العلم من قال: الأفضل والأكمل أن لا يلتقطها، ومن أهل العلم من قال: الأفضل والأكمل والأعظم أجراً أن يحتسب ويأخذه صيانة لمال أخيه المسلم، ومن أهل العلم من قال: إن المسألة على الإباحة، فلا نقول الأفضل الأخذ، أو الأفضل الترك إلا بالتفصيل، فإن كان الشخص يأمن على نفسه، فيعرف من نفسه أنها لا تتعلق بهذا الشيء، وأنه سوف يقوم بحقوق التعريف، وأن يده سوف تكون يد أمانة ومحافظة على الشيء، ويغلب على ظنه أنه سوف يوصل الشيء إلى صاحبه، أو أن صاحبه سوف يعود؛ فإنه يأخذه.

    وألحق بهذه الأحوال حالة ذكرها بعض العلماء ونصوا فيها على وجوب الأخذ، وهي: أن يكون الموضع الذي وجد فيه المال فيه سراق أو فساق، أو أناس لا يحفظون حدود الله وحقوق المسلمين، بحيث يأخذونها وربما استغلوها في أشياء محرمة، فيجب على الإنسان أن يأخذها في هذه الحالة، بحيث يأمن على نفسه الفتنة، ويغلب على ظنه أن هذا المال لو ترك فيأخذه فاسق، وقد يستعين به على حرام، ويغلب على ظنه أنه قد يجد صاحبه، ففي هذه الأحوال يجب عليه أن يأخذه، فإن خاف، أو وجد غيره ممن يمكن أن يقوم بهذا الأمر، فغلب على ظنه أنه إن لم يأخذه فإنه سيأتي إنسان صالح، ويغلب على ظنه أنه سيقع في يد إنسان غيره ممن يقوم بحقوق التعريف، وهذا الغير أفضل منه؛ فالأفضل الترك، ويروى هذا عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر أنهم كانوا يكرهون أخذ اللقطة، ويكرهون التعرض لها؛ لما في ذلك الورع، وابتعاد الإنسان عن المسئولية، هذا إذا خاف على نفسه، وإذا وجد الغير ولم يأمن على نفسه الفتنة.

    أما إذا وجد الغير وغلب على ظنه أنه لو أخذ هذا المال فإنه يفتن به، وربما لم يأمن نفسه عليه؛ لأن النفوس تختلف والأزمنة تختلف، وربما تأتي الضائقات والحاجة، فتضطر الإنسان إلى أخذ ما حرم الله عليه، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين؛ لأن الإنسان إذا غلبه الدين كذب في قوله، وأخلف في وعده؛ لأنه يقهر على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من غلبة الدين لهذا؛ وهو ذل بالنهار وهم بالليل، فالإنسان إذا غلب على ظنه أنه سيهتم بهذا الأمر، ويشغله عما هو أفضل، ويوجد غيره ممن يقومون به؛ فالأفضل أن يتركه إلى ذلك الغير، والأفضل له التورع وصيانة نفسه.

    وفي حكم هذه المسألة أيضاً إذا كان الموضع أهله أهل شر؛ بحيث لو أخذ هذا المال تسبب له بفتنة واتهم بالسرقة، وتعرض للضرر، فيكون تركه حينئذ مقدماً على أخذه.

    فيفصل في مسألة أخذ اللقطة أو تركها بهذا التفصيل: أن الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال مختلفة، والإنسان يتقي الله على قدر استطاعته، فما كان موافقاً لشرع الله بحيث يتأكد الحكم بوجوب أخذ اللقطة فيه، أو ندبها واستحبابها، فإنه يحكم له بوجوب الأخذ واستحبابه، وما كان بالعكس فعلى العكس، وما انتفت فيه الموانع، وانتفت فيه الدوافع، فإنه يبقى على الأصل وهو الحل.

    ولذلك قال المصنف: (وله) فنص على مرتبة الإباحة، أي: يجوز له أن يأخذها، وهذا على سبيل التخيير، ويبقى التفصيل، فتارة يجب، وتارة يسقط هذا الحل، لوجود العارض عند وجود الموانع.

    أحوال الملتقط من جهة قصد التعريف وعدمه

    قال رحمه الله: [وله التقاط غير ذلك من حيوان وغيره إن أمن نفسه على ذلك].

    قوله: (من حيوان) (من) بيانية، على التفصيل الذي تقدم معنا فيما يجوز أخذه من الحيوانات وغيرها، وقوله: (وله التقاط)، هذا الالتقاط على التفصيل الذي ذكرناه، وقد بين المصنف هذا هنا؛ لأن الأحكام المتعلقة بالالتقاط مفرعة عن معرفة الشيء الذي يلتقط، فبعد أن بين رحمه الله الشيء الذي يلتقط، بين أحوال التقاط اللقطة، فالذي يلتقط اللقطة يلتقطها على صور:

    الصورة الأولى: أن يلتقطها بقصد تعريفها وردها إلى صاحبها، والصورة الثانية: أن يلتقطها بقصد أن يملكها وأن يأخذها.

    ففي الصورة الأولى إذا أخذها بقصد تعريفها، والوصول إلى صاحبها، إن كانت من جنس ما تنطبق عليها أحكام اللقطة فلا إشكال، فيعرفها ثم بعد انتهاء مدة التعريف يكون مالكاً لها، كما سيأتي.

    الصورة الثانية: من أخذ اللقطة قاصداً أن يملكها مباشرة، كمن وجد قلماً أو كتاباً له قيمة، ولا يستطيع أن يجد صاحبه، أو وجد ذهباً أو فضة، فحملها وقال: أريد أن أنفق من هذا المال، فهذا حكمه حكم الغاصب، أي أنه في الصورة الأولى يكون حكمه حكم الملتقط، وفي الثانية يكون حكمه حكم الغاصب، ففي الأولى لا يضمن، وفي الثانية يضمن.

    فائدة هذه المسألة: أنه لو التقط على الوجه الأول، ونيته فيما بينه وبين الله أن هذه العشرة الآلاف التي وجدها سيوصلها إلى صاحبها، فأخذها عنده، فضاعت، أو سرقت من دون تعدٍ ولا تفريط، فلا ضمان عليه؛ لأنه ما تعدى ولا فرط، ويده يد أمانة، لكن لو أخذها من أجل أن ينفقها، ولم يفكر لا في تعريفها ولا في شيء، إنما قال: الحمد لله على هذا الرزق الذي جاءنا -والبعض يحمد الله حتى ولو كان المال من سرقة!- فأخذ هذا المال وفي نيته أن يصرفه، وقال: أريد الآن أن آخذه حتى أسدد ضائقة، أو أشتري شيئاً، فلما أخذها ابتلاه الله في الليلة التي أخذها بأنه سرق منه أو ضاع منه، فلو عرف صاحبها، وجب أن يرد عليه المال، فهو في الأول أمين وفي الثاني غاصب، وهذه فائدة النية في الالتقاط.

    فيفصل في الالتقاط بهذا: فإن التقطها بالوجه المعروف، كانت يده يد أمانة، ولا يضمن إلا إذا تعدى وفرط، أما إذا وجد شيئاً وفي نيته أن يأخذه لحظه وأهله، دون قصد التعريف، فإنه في هذه الحالة يكون ضامناً، وحكمه حكم الغاصب.

    وقوله: (إن أمن نفسه على ذلك)، هذا شرط، وهو أن يأمن نفسه على المال الذي أخذه، قال: [وإلا فهوكغاصب]، ومفهوم الشرط أنه إذا لم يأخذها على هذه النية، وأخذها من أجل أن ينفق على نفسه -ولذلك تجده يأخذها ولا يريد أحداً أن يشعر أنه أخذ هذا المال، ولا يريد أحداً أن ينتبه له؛ لأنه يريد أن يأخذه لنفسه- (وإلا فهو كغاصب) أي: فحكمه حكم الغاصب، كما تقدم.

    1.   

    أحكام تعريف اللقطة

    قال رحمه الله: [ويعرف الجميع في مجامع الناس غير المساجد حولاً].

    ما تقدم من الأشياء الملتقطة التي تأخذ حكم اللقطة يجب تعريفها، والتعريف مأخوذ من المعرفة، والمراد بذلك: أن يأخذ الإنسان بالأسباب التي يتوصل من خلالها إلى معرفة صاحبها.

    حكم تعريف اللقطة

    وقد اختلف العلماء رحمهم الله: إذا وجدت مالاً وكان المال مما تتبعه همة صاحبه، وحكمنا بكونه لقطة، فهل التعريف به واجب أو ليس بواجب؟ وجهان لأهل العلم رحمهم الله، أصحهما: أن التعريف واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وعليه جرى أمر الخلفاء الراشدين في فتاوى بعضهم، كـعمر وعلي رضي الله عنهما وغيرهما، فقد أفتوا بالتعريف وألزموا به وأمروا به.

    وقت التعريف ابتداء

    ثم هذا التعريف فيه تفصيل عند العلماء، فيرى بعض أئمة السلف والعلماء رحمة الله عليهم أن الأسبوع الأول الذي وجد فيه المال يكون التعريف فيه أشد، بحيث يعرف فيه في كل يوم، ففي اليوم الأول والأسبوع الأول الأمر أشد، ففي اليوم الأول لا يقتصر على مجرد وجدانه؛ بل عليه أن يسعى بالسؤال والتحري في موضع المال الذي وجده فيه، أو في المظان، فإذا كان الموضع الذي وجد فيه المال فلاة، وبجوار الفلاة منتدى يرتاده الناس، أو مسجد يصلي فيه الناس، فيحرص على أقرب المواضع مما هو مظنة أن يجد صاحب المال فيه، أو يرتاده صاحب المال، فيسعى في اليوم الأول، ويكون جهده في التعريف أكثر من الأيام التالية؛ لأنه في اليوم الأول تكون الهمة أشد، والاعتناء أكبر.

    ومن الخطأ أن تجد البعض بمجرد أن يأخذ المال يذهب به إلى بيته، فيصير الالتقاط سبباً في إضاعة المال على أصحابه، لأنه إذا لم يذهب به ربما جاء صاحبه ووجده في مكانه، فيصبح التقاطه على هذا الوجه مخالفاً لمقصود الشرع، وعلى ذلك جعل العلماء رحمهم الله اليوم الأول من الالتقاط أشد من غيره، والتعريف فيه آكد من غيره، خاصة إذا وجدت الأمارة، أو القرينة، أو العلامة، كأن يكون -مثلاً- مقصوداً لعبادة كيوم الجمعة، فلو سقط المال في يوم جمعة -وهنا أمارة من الزمان على أن صاحبه سيعود إليه- فينتظر إذا وجد المال بعد صلاة الجمعة ويقف عنده ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، ويسأل ويراقب من يأتي ويبحث، وهذه هي النصيحة لعامة المسلمين، فينصح لصاحب المال.

    وحبذا لو أن الخطباء يتعرضون لمثل هذه المسائل التي تتضمن بعض التنبيه على السنن الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما تعم به البلوى، فالناس اليوم -إلا من رحم الله- بمجرد أن يأخذ المال يذهب به، وربما يجده في بلد غير بلده، فيسافر بالمال، فيغرر بحق صاحب الحق.

    ولذلك فيجب أن يكون التعريف في اليوم الأول آكد وأشد، ثم الأسبوع الأول عند طائفة من أهل العلم يعرف فيه يومياً؛ لأن الغالب أن هذا الأسبوع يبحث به صاحبه، فإن لم يتيسر له العودة في اليوم الأول لعذر؛ تيسر له في اليوم الثاني، وإن لم يتيسر له في اليوم الثاني، تيسر له في اليوم الثالث إلى الجمعة، فإنه ربما لم يتيسر له في أيام العمل، فيأتي يوم الخميس والجمعة ويبحث عن ماله في موضعه.

    هذا بالنسبة للواجب في التعريف من حيث الأصل، أن حكمه الوجوب، ويكون في الأيام الأول آكد منه من الأيام الأخر، ثم بعد ذلك إذا قلنا بالتعريف سنة، فمن أهل العلم من قال: يؤكد التعريف أسبوعياً، ففي كل جمعة يقوم في الناس، أو يضع إعلاناً، ويتحرى عن صاحبه ويسأل، ومن أهل العلم من قال: إذا بحث عن صاحبه في اليوم الأول والأسبوع الأول، انتقل الحكم إلى الشهر، وكلما جاء شهر يجدد التعريف والسؤال والبحث والتحري عن صاحب المال حتى يجده، فالحكم أن التعريف لازم له.

    ويصح أن يعرف بنفسه، أو يوكل غيره، فيقوم بنفسه ويقول: أيها الناس! ويذكر الشيء مجملاً كما سيأتي في صورة التعريف، أو يوكل، أي: يقول لشخص: قم ونادِ: من ضاع له شيء فليأتني، من أجل أن يتعرف على الشيء الضائع، فيصح التعريف بوكالة من شخص آخر.

    التعريف باللقطة

    أما صفة التعريف: فالواجب أن يحذر، فلا يذكر من المال ما يمكن أن يتمكن من معرفته به، أي: لا يذكر الصفات التي تختص بذلك المال، أو يُهتدى إليه عن طريقها، وإنما يقول: من ضاع له شيء فليأتِ، ولا يقول: من ضاع له ذهب، أو من ضاعت له حقيبة، فإن بعض العلماء يرى أن يجمل عموماً؛ لأن أهل الشر ربما تجمعوا عليه أربعة أو خمسة، فلو قال: من ضاعت عليه حقيبة؟ لأتى الأول وسيعرف أن المال في حقيبة، فإذا قال له: ما لونها؟ قال: بيضاء، فإذا قال: ليست بيضاء، فيأتي الثاني فيقول: حمراء.. وخضراء، فيقرب أهل الشر إلى المال، ولذلك الأفضل والأحسن أن يبهم، فيقول: من ضاع له شيء فليأتِ، وإذا قلنا -على الوجه الأول-: إنه يبهم، فيشمل ذلك النقود وغيرها، وعلى الوجه الثاني يصح أن يقول -مثلاً-: من ضاعت عليه ساعة؟ من ضاع له قلم أو كتاب؟ فيحدد الجنس، ويمكن أن يحدد النوع، لكن القول الأول أحوط وأفضل وأولى، فإنه أكثر دلالة على صدق صاحب الشيء؛ لأنه لو جاء أحدهم وقال: ضاعت علي حقيبة حمراء، وفيها عشرة آلاف ريال، ففي هذه الحالة تطمئن له؛ لأنك ما ذكرت له شيئاً، لكن لو أنك قلت: من ضاعت عليه حقيبة وفيها نقود فليأتِ -على قول الإجمال- فسيأتي الأول ويقول: ضاعت علي حقيبة صفراء، فيها -مثلاً- عشرة آلاف، والثاني يقول: ثمانية آلاف، حتى يصلوا إلى عين المال، فإنه يمكن إذا كانوا ستة أو سبعة أشخاص أن يعرفوا قدر المال، ولذلك فإن الاحتياط في هذا الأمر أولى، فيأخذ الإنسان بالاحتياط، نصيحة لصاحب المال، ولصاحب الحق.

    مكان التعريف باللقطة

    قال رحمه الله: (في مجامع الناس).

    فيكون التعريف في مجموعة من الناس؛ لأنه حق ضائع، فكل شخص من أهل ذلك الموضع يحتمل أن يكون صاحب المال، فالتعريف يكون في مجامع الناس.

    ومجامع الناس مثل: أمام المساجد، بشرط أن لا يشوش على المصلين والذاكرين، وفي الأسواق العامة والخاصة؛ لأن الناس تجتمع فيها، والحدائق التي يجلس فيها الناس، وهكذا بالنسبة للأماكن الخاصة التي يرتادونها؛ كالمدارس ونحوها، والدوائر إذا كانت قريبة منها، فيكون التعريف في المجامع.

    وقوله: (غير المساجد)، أي: داخل المساجد، فيجوز أن يعرف عند باب المسجد، بشرط أن لا يزعج الناس، ومن هنا يفرق بين وضع ورقة الضائعات داخل المسجد وخارج المسجد، فإنه منهي عن نشد الضالة داخل المسجد، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً قال: أيكم رأى البعير الأحمر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا رده الله عليك، ثم قال: من رأيتموه ينشد ضالته في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تُبْنَ لذلك)، وقال تعالى:فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، فالمساجد هي بيوت الله، وقد بنيت من أجل ذكر الله، ولم تُبْنَ لأمور الدنيا.

    وعلى ذلك فلا يجوز التعريف بالأشياء الضالة في المساجد، ولا نشدها في المساجد، ويجوز خارج المسجد، ويجوز أن يضع إعلاناً، ولكن الأفضل أن لا يوضع على أبواب المساجد؛ لأن الإعلانات على أبواب المساجد لا تجوز، فمثلاً: إذا كانوا يريدون استئجار محل، أو ينشدون شيئاً ضائعاً، فسينشغل الناس عن ذكر الله، ولذلك فإن الأفضل والأحسن صيانة المساجد، بحيث تكون على أطراف الجدران خارجة عن المسجد، أما أن يوضع على الباب نفسه فسيؤدي إلى مضايقة الناس ومضايقة الداخل والخارج، وقد يفتح الباب نفسه إلى داخل المسجد، فيكون حكمه حكم داخل المسجد، فلا يجوز وضع إعلانات الضالة على الأبواب، إلا إذا كان الباب إلى الخارج، وبشرط ألا يضر، لكن المشاهد أنه يضر، وأنه يشغل الناس عند خروجهم.

    وعلى هذا فينبغي أن يكون الإعلان في ركن المسجد، أو في طرف المسجد، أو بعيداً من الباب، ولا يضيق على الداخل والخارج، ولو وضعه على الباب فضيق على الداخل والخارج فإنه يحمل الوزر في ذلك، حتى الإعلان عن محاضرة يؤدي إلى تزاحم الناس عند المداخل، ولذلك فلا ينبغي أن يتسبب الإنسان بأذية المصلين الداخلين أو الخارجين، فيوضع الإعلان في مكان خاص، وكون الشخص يحرص على أن يعرف الكل، هذا ليس بمهم، المهم أننا نتقي الله عز وجل، ونضع لوحة الإعلان في مكان بعيد عن الباب، ومن يريد الخير سيأتي، فلو جاء عشرة من الذين يريدون الخير وممن هم أهل الخير، فإن هذا أفضل من الغثاء الذين لا خير في حضورهم، وقد يكون حضورهم فيه ضرر.

    وقت انتهاء التعريف باللقطة

    قال رحمه الله: (حولاً) أي: سنة.

    وقد اختلف العلماء في القدر الذي تعرف فيه اللقطة، فورد عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بالتعريف ثلاث سنين، ومن أهل العلم من ضعف الرواية عنه في ذلك؛ لأن الرواية فيها شك، حيث قال: (لا أدري قال: ثلاثاً أو سنة) فضعفت؛ لأن في الرواية الصحيحة (حولاً وسنة)، فالثابت في السُنة أنه يعرفها سنة كاملة، وعليه العمل عند جمهرة أهل العلم.

    فإذا قلنا: إن السنة هي الحد الأعلى، فتختلف الأموال واللقطات بحسب غلائها وقيمتها وتتبع همة صاحبها، فإذا كانت -مثلاً- مائة ريال، فإنه تتبعها همة صاحبها، لكنها ليست بذلك المال الكثير الذي يكلف ملتقطه بالتعريف سنة، فيخفف في المدة، فيمكن أن تكون إلى ثلاثة أشهر، أو إلى ثلث السنة أو ربعها وهو ثلاثة أشهر، أو نصفها وهو ستة أشهر، فيكون ذلك على حسب الأموال نفسها، فإن كان المال له بال كعشرة آلاف ريال أو أربعة آلاف ريال، وله همة وله حاجة بحيث إن صاحبه قد يبحث عنه طيلة العام، فإنه يعرف سنة كاملة. هذا من حيث مدة التعريف، فيعرف سنة كحد أعلى، وبعد السنة يحكم بملكيته.

    وأما إذا كان دون المال الكثير، وتتبعه همة صاحبه ولكنه ليس بذاك الذي له قيمة غالية، كالكتب أو الثياب أو الملبوسات أو الساعات أو نحوها، فيمكن أن يعرف بعض السنة، ولذلك أفتى الإمام أحمد رحمه الله بالتعريف إلى شهر، وبالتعريف إلى ثلاثة أشهر، وبعضهم يفتي بالتعريف إلى جمعة واحدة، وذلك إذا كان الشيء تتبعه همة صاحبه، ولكنه ليس بذلك الشيء الذي له القيمة التي يكلف لأجلها بالتعريف سنة كاملة.

    (حولاً) أي: سنة؛ لأن السنة فيها جميع الفصول، وإذا سقط منه في أيام من السنة، فربما لا يعود إلا فيما هو قريب منها أو مثلها، فالسنة هي غاية نهاية اليأس غالباً، فإذا مرت سنة فإننا نقول: إنه ضائع عن صاحبه، فجعلت السنة كحد أعلى.

    حكم اللقطة بعد انتهاء وقت التعريف

    قال رحمه الله: [و يملكه بعده حكماً، لكن لا يتصرف فيها قبل معرفة صفاتها، فمتى جاء طالبها فوصفها، لزم دفعها إليه].

    (ويملكه) أي: يملك المال الملتقط، (بعده) أي: بعد التعريف سنة، (حكماً) لا حقيقة، بحيث يتصرف فيه فيجوز له هبته، أو التصدق به، لكن يتصرف به حكماً لا حقيقة، بحيث لو جاء صاحبه يوماً يطلبه ووصفه بالصفة التي يُعْرَف بها؛ وجب عليه أن يضمن له مثله إذا لم يكن موجوداً، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فليكن وديعة عندك، فإن جاء صاحبها يطلبها يوماً من الدهر فأدها إليه).

    لكنه لا يتصرف بالمال إلا بعد أن يعرف صفاته، فيكتب جنس النقود: ذهب أو فضة، ثم يكتب نوعها إذا كانت من الفضة -مثلاً- ريالات أو من الدراهم، أو من أي عملة من العملات، وهل هي من فئة المائة ريال أو من فئة الخمسمائة، وهل هي محفوظة برباط أو مفرقة، وهل كلها في موضع واحد في حقيبة، أم مفرقة في مواضع، وإذا كانت موضوعة في شيء كأن تكون داخل كتاب هل هي مفرقة أو مجموعة، فيكتب الصفات التي يمكن أن يتوصل بها إليها.

    وتنقسم الصفات إلى: صفات خارجة عن الشيء الملتقط، وصفات ملتصقة بالشيء الملتقط، فالشيء الخارج مثل: الوعاء والرباط، وأرقام الحقيبة إذا أمكنه أن يعرفها، وكذلك نوعية الحقيبة ولونها، وهل هي قديمة أو جديدة، وصفة الحالة التي كانت عليها، والمكان الذي وجدها فيه، مثلاً: في السوق، أو في الكرسي الذي يجلس عليه الإنسان، فالإنسان غالباً يتذكر مثل هذه الأشياء، فهذه الصفات الخارجة يضبطها ويكتبها، وهذا أحوط، فيكتب ملاحظات المكان الذي وجدها فيه، والصفات التي وجدها عليها في هذه الحقيبة.

    كذلك أيضاً الصفات للمال نفسه، من جهة نوعه وقدره، وفي زماننا نوعية العملة، وقد يكون المال مشتركاً من الريالات والدولارات، وقد تكون ثلاث عملات، فيكتب صفات هذه العملات وصفات وضعها في الحقيبة، وهل معها شيء آخر أو ليس معها، كل هذا يكتبه ويدونه، ثم يتصرف في المال، فيبيعه أو يهبه أو يتصدق به لمن يشاء، فإذا جاء صاحب اللقطة يسأله يوماً من الدهر قرب الزمن أو بعد، فالواجب عليه أن يضمن إذا وصف بالصفات المعتبرة.

    إعطاء اللقطة لصاحبها إذا جاء وما يشترط فيه

    وفي الحقيقة لا يكلف صاحب اللقطة أن يصف صفات دقيقة؛ بل يكفي لو وصف صفات غير مكتملة ولكنها تدل على صدقه، والرجل معروف بالأمانة فنرضى به؛ إذ ليس كل أحد يستطيع أن يتذكر، فقد يضع الشخص المال في الحقيبة وهو لا يعرف هل هو مربوط أم لا، مثل الأشخاص الذين يكونون في تجارة، فتارة يربط المال وتارة لا يربطه، فلا يستطيع أن يتذكر أن هذا الشيء على هذه الصفة، فلا يحرج صاحبها ذلك الإحراج، بل هناك دلائل تدل فعلاً على صدقه، فمثلاً: شخص جاء وقال: لقد ضاعت علي حقيبة من النوع الفلاني، وكان ضياعها في المطار، أو في محطة السيارات الفلانية، وكان ذلك يوم الجمعة، وكنت أضعها بين رجلي تحت الكرسي، لكنه لا يستطيع أن يقول لك: الذي بداخلها من فئات المئات أو من فئات الخمسينات، لكنه يقول: إنها عشرة آلاف ريال، أخذتها ووضعتها في الحقيبة، وفي بعض الأحيان يمكن أن يصف لك وصفاً صحيحاً من الخارج لكنه يعجز أن يعرف ما بداخلها، ويعطي شيئاً تقريبياً يغلب على الظن معه أنه ماله، وهو رجل معروف بالأمانة والاستقامة ومتدين، وفيه خير، فإذا جاء وقال: في اليوم الفلاني بعت واشتريت، فأدخلت مالاً وأخرجت مالاً، وقد خرجت من البيت ومعي عشرون ألف ريال، وبعت واشتريت بحدود خمسة آلاف ريال، وأظن أن المبلغ ما بين خمسة عشر ألف ريال وعشرين ألف ريال، فلا ينقص عن خمسة عشر ولا يزيد عن عشرين، فعندما تنظر إلى هذا الكلام، مع أمانة الرجل وعدالته، وشهود الناس له على صدقه، تطمئن غالباً له.

    إذاً: الوصف من صاحب الوديعة لا يشدد عليه إلا في أحوال، مثل أن يعرف منه الاحتيال والكذب، وقد سبق أن جاء بعض الأشخاص وعرفوا بعض الصفات، أو استطاعوا أن يطلبوا بعض الصفات، حتى يغلب على الظن انحصارها في الصفة الفلانية، ففي هذه الحالة يحتاط الإنسان.

    فإذاً: لا بد من النصيحة، وهذا يختلف باختلاف الأحوال وظروف الأشخاص، فإن المال إذا كان بين أمة معروفة بالصدق ليس كحال ما لو كان على العكس.

    وقوله: [فمتى جاء طالبها فوصفها، لزم دفعها إليه].

    فلم يحدد زماناً معيناً، ولا وقتاً معيناً، فهو حق لا يسقط بالتقادم -كما ذكرنا- بل يلزمه ويجب عليه دفع اللقطة إلى صاحبها.

    تعريف اللقطة إذا كان الملتقط قاصراً

    قال رحمه الله: [والسفيه والصبي يعرف لقطتهما وليهما].

    هذه الجملة شرع فيها المصنف رحمه الله في بيان الركن الثاني، فعندما بين اللقطة، وصفة الالتقاط، شرع في بيان الشخص الملتقط، فلا بد أن يكون بالغاً عاقلاً، ولا يكون صبياً أو مجنوناً أو سفيهاً، فالصبي ليس له ولاية على نفسه؛ وإذا كان لا يلي على نفسه فمن باب أولى أن لا يلي مال غيره، فإذا التقط الصبيان مالاً وجاءوا به، فإننا نطالب ولي الصبي أن يقوم مقامه، فوالد الصبي يقوم بتعريف المال على الصفة التي ذكرناها، ووالد المجنون كذلك، أو المسئول عنه، فإن كان محجوراً عليه لسفه، أو كان رقيقاً، فالسيد يقوم مقام عبده إلا إذا أذن له بذلك.

    1.   

    حكم أخذ ما يظهر أن صاحبه تركه قصداً

    قال رحمه الله: [ومن ترك حيواناً بفلاة لانقطاعه، أو عجز ربه عنه، ملكه آخذه].

    عند العلماء شيء يسمى: (الأصل)، وشيء يسمى: (الظاهر)، ففي الشريعة تتعلق بعض الأحكام بالأصول ونقول: الأصل كذا، ونلقي الحكم على هذا الأصل، فمثلاً: إذا كان عندك ماء في البيت وحوله أطفال، أو سقطت نجاسة حوله، وأنت لا تدري هل سقطت في الماء نجاسة أم لا؟ فنقول: الأصل واليقين أنه طاهر، ولا يُحكم بنجاسته، أو كان عندك فراش يلعب عليه أطفال، فيحتمل أن البول أصابه أو أن النجاسة أصابته، فنقول: اليقين أنه ما حدث شيء من هذا، فهو طاهر حتى تتأكد وتتيقن من أن هناك نجاسة، فتبقى على الأصل دائماً حتى تجد ما ينقلك عن الأصل، وهناك شيء يسمى: دلالة الظاهر، والظاهر يحتكم إليه ويعمل به، والشريعة أناطت به أحكاماً، فيبني عليها المسلم، ولا ينتقل إلى ضد ذلك الظاهر حتى يدل الدليل على خلافه.

    فبالنسبة للحيوان، إذا كان الحيوان من جنس ما يأخذ حكم اللقطة، ولكن جاءت دلائل على أن صاحبه لا يريده، أو على أن صاحبه قد تخلى عنه، فهذه الدلائل إن كانت بصريح قوله، كأن يقول: أيها الناس! من يريد أن يأخذ هذا المال فليأخذه، فهذا صريح القول، وهناك دليل ظاهر، ليس بقولي لكنه فعلي، فتستبيح به الشيء، فتأكل وتشرب وتعتبره حلالاً بهذا الظاهر، كما لو أن شخصاً فتح على جدار بيته صنبوراً وأخرجه على الطريق، ووضع براد الماء، فصار الناس يشربون من هذا الماء، فبمجرد أن تمر على هذا الصنبور تعلم أن صاحبه قد أذن بالشرب منه، وهذه دلالة الظاهر.

    ولو بنى مسجداً وفتح أبوابه علمنا أنه قد أوقف هذا المسجد، مع أنه لم يتلفظ بذلك، وليس هناك دليل صريح من عباراته، لكن دلالة الظاهر دالة على أنه قد تصدق بهذا الشيء. وأيضاً: في القديم كان الناس على الخير ولا يزالون -وقد رأيت هذا بعيني على مسارح المدينة- فقد كانوا إذا أرادوا الصدقة بالنخل يغرس صاحب البستان نخلات خارج السور، ويسقيها من داخل المزرعة، فكل من مر يعلم أن هذه النخلات صدقة، وإلى الآن ما زالت توجد في قباء في بعض المزارع من مزارع قدماء المدينة، فتجد السور مبنياً وهناك أربع نخلات خارج السور، فهذه دلالة ظاهر على أنها صدقة، لكن لا يستطيع أحد أن يأتي إلى داخل السور ويدخل إلى النخل ويقول: إنه مباح؛ لأن السور حينما بني عليه دل على أنه لصاحبه، وأن صاحبه لم يأذن بالدخول فيه. فهذه كلها دلالة ظاهر، يعمل بها ويحتكم إليها على تفصيل في القول.

    ومن دلالة الظاهر: أنهم كانوا في القديم تسير القافلة من الإبل ثم يتركون أشياء وراءهم، فيعرف السابلة وابن السبيل أن هذه الأشياء تركت لمن جاء، فمثلاً: تأتي إلى موقد وتجد فحماً فتعرف أنهم تركوه استغناء عنه، فتملكه وتأخذه، فهذه دلالة ظاهر دالة على التنبيه والإذن بالانتفاع، ويكون تمليكاً للمنفعة، وتارة يكون تمليكاً للذات، فسواء كان تمليكاً للمنفعة أو تمليكاً للذات، فإنه يعمل بهذا الظاهر ويحتكم إليه.

    ومن هذا: المسألة التي ذكرها المصنف رحمه الله، فمن يترك حيواناً أو يترك مالاً غير الحيوان، فهذه دلالة ظاهر دالة على الإذن بأخذه.

    ومن أمثلتها في الشريعة: تقليد الهدي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفتل قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم)، فكانت الإبل وبهيمة الأنعام تهدى إلى البيت، وتوضع القلائد عليها حتى يعلم كل شخص يجدها في الطريق أنها للهدي، فيحفظها ويسوقها إلى البيت، ثم إذا عطبت ولم تستطع السير ولم يمكن إيصالها إلى البيت، نحرت، ثم لطخ دمها في رقبتها للإشعار، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح- عندما أراد أن يحج حجة الوداع أشعر هديه وقلد هديه، فهذا الإشعار فائدته: أنها لو عطبت دون البيت ومرضت وانقطع السير، فإنها تنحر؛ لأجل من يمر من أهل السبيل إذا وجد عليها الشعار عرف أنها من هدي البيت، وأنها صدقة، فيأكل، ولهذا فإن الشافعية لما منعوا بيع المعاطاة، ولم ينزلوا الصيغ القولية منزلة الفعلية، استثنوا مسألة الهدي؛ لأن النص فيها واضح، والسنة فيها ماضية، فالشريعة جعلت دلالة الظاهر مُنَزَّلة مَنْزِلَة التصريح عن الباطن، وبناء على ذلك فإذا وجد شيئاً ودلت الدلائل على أن صاحبه تركه، وأذن بأخذه، فإنه يؤخذ ذلك الشيء، ويملكه واجده.

    وقوله: (لانقطاعه) أي: لعلة الانقطاع، (أو عجز صاحبه عنه) ففي بعض الأحيان يعجز الإنسان عن أن يسوق حيوانه معه، فيتركه، ويرى أن من المصلحة أن لا ينشغل به، كأن يكون حصل ما هو أهم، فحينئذ يملكه من وجده، ولا يأخذ حكم اللقطة، فيستثنى من أحكام اللقطة.

    1.   

    حكم أخذ النعل ونحوه لمن وجدها مكان نعله

    قال رحمه الله: [ومن أخذ نعله ونحوه ووجد موضعه غيره، فلقطة].

    انظر إلى الورع عند العلماء رحمهم الله، فإن الشخص يذهب ليصلي وينال أجر الجماعة، ويرجع إلى بيته بدون حذاء، فتقول له زوجته: أين حذاؤك؟ فيقول: سرقت، فيقع في إثم التهمة بالسرقة، فهنا يقول المصنف: (ومن أخذ) ولم يقل: (ومن سرق)، ولذلك كان العلماء ينهون عن هذا، والشخص بنبغي له أن يتورع، فأنت إذا قلت: سرق، فإن هذا يعني أن الشخص الذي أخذ حذاءك سارق، وربما كان الشخص الذي أخذه كفيف البصر، فأخطأ في حذائك، أو شخصاً استعجل ووقع يده على حذائك، ولربما ظن أنه مثل حذائه فأخذه، فإذا قلت: سرق، فهذه تهمة، ولذلك لا يقال: سرق، بل يقال: أخذ، أو لعلي وضعته في موضع غير الموضع الذي بحثت عنه فيه.

    قال رحمه الله: (ومن أخذ نعله)، وهذا يقع كثيراً في مجامع الناس، فإنه يحصل الخطأ في أخذ الحذاء، وقد يكون هناك نوع من التعمد -نسأل الله السلامة والعافية- والإثم في هذا أعظم، فإنه إذا تقصد أخذ الحذاء وسرقته فهذا أعظم؛ لأن الظلم في بيوت الله أعظم من الظلم خارج بيوت الله عز وجل. ولأن من خرج من بيته لطاعة الله عز وجل فهو في ذمة الله عز وجل حتى يعود؛ لأنه خارج في طاعة الله وإلى بيوت الله، ولذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم في حكم المصلي، فنهاه أن يشبك بين أصابعه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا عمد أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه، فإنه في صلاة)، ولذلك كره العلماء رحمهم الله إذا خرج الإنسان إلى المصلى أن يبيع أو يشتري في طريقه إلى المسجد؛ لأنه في حكم المصلي، فلا يشتغل بشيء يلهيه عن الصلاة.

    إذا ثبت هذا، فإن الأمر في أخذ الأحذية والتقصد بأذية الناس وأخذ أحذيتهم من المساجد، يعتبر اعتداء على المال، واعتداء على حرمة المصلي، وانتهاكاً لحرمة المسجد، والأدهى والأمر إذا كان هذا في يوم شديد الحر فإن المشقة تكون فيه أشد، فيرجع الإنسان حافياً في وهج الشمس، وهذا يضره أكثر، فكلما ترتب على سرقته ضرر، فإن الإثم فيه أشد، ولذلك يعظم الأمر بحسب ما ترتب عليه من ضرر -نسأل الله السلامة والعافية- ولذا لزم على الإنسان أن يحتاط، ولذلك كان بعض الفضلاء إذا وجد حذاءً يشبه حذاءه لم يأخذه، حتى ولو كان يشبهه، ولو كان أقل منه قيمة وفيه شبه، بحيث يغلب على ظنه أنه قد أُخذ حذاؤه، بحيث يقول: هذا بهذا، وحقي أجود، لكنه ما كان يأخذه، فيتركه حتى يأتي صاحبه، أو ينوي الصدقة به على من أخذه، وهو الأفضل، ويحتسب الأجر عند الله عز وجل، وقد كانوا يستبشرون بعظم البلاء في الطاعة، فكانوا يقولون: من دلائل القبول كثرة البلاء في الطاعة، وتجد الناس قديماً عندما يريدون الحج يجدون المشقة في السفر، ويجلسون الأيام والشهور وهم في رحلة الحج، فالأجر أعظم والثواب أكثر، لكن إذا كان الإنسان لا يجد المشقة، فهذا من كرم الله عليه.

    حكم أخذ ما يشبه ما تملكه إذا وجدته موضعه عوضاً عنه

    وقوله رحمه الله: [ومن أخذ نعله أو نحوه].

    كمن أخذ قلمه، أو أخذ كتابه، وهذا يقع كثيراً في الأشياء المتشابهة، فقد يقع هذا في غير النعل، لكن النعل أكثر؛ لأن النعل يمكن أخذه بدون أن يدري الإنسان، لكن إذا كان صاحبه بجواره فلا يمكن، فإذا وضعت كتباً يشبه بعضها بعضاً، أو وضعت ألبسة، كأن يضع الإنسان ألبسته مع قوم وجماعة من الناس، أو النساء في بعض الأحيان يخلعن لباسهن من العبي وغيرها، فيحصل كثير من الخطأ فيها، فالأفضل للإنسان أن ينوي الصدقة، وأن يحسن الظن بأخيه المسلم، والله يأجره؛ فالأفضل أن تنوي الصدقة حتى يكتب لك الأجر، فلا يتشدد الإنسان؛ لأنه لو أخطأ عليه أخوه فما عليه فيه تبعة، قال تعالى:وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5]، وهو بشر فلا يؤاخذ على الخطأ، فالأفضل لك والأكمل أن تنوي به الصدقه حتى تحصل على الأجر.

    وقوله رحمه الله: [ووجد موضعه غيره، فلقطة].

    أي: في موضع الحذاء، فبعض العلماء يقول كما ذكرنا: لا يأخذ الحذاء، وليس من حقه أن يأخذه، لاحتمال أن حذاءه سرق، وأن هذا الحذاء لغيره، لكن المصنف يقول: (ووجد موضعه غيره) ومعناه: أنه وجد مكان حذائه حذاء الغير، وهذا التفات للظاهر كما ذكرنا، وعند العلماء شيء يسمى: تعارض الأصل والظاهر، وقد ذكرنا الأصل والظاهر، ففي بعض الأحيان يتعارض الأصل والظاهر، فهل نقدم الأصل أو نقدم الظاهر؟

    بعض العلماء يقدم الأصل، وبعضهم يقدم الظاهر، فالحذاء إذا وجده في موضع كالمسجد فالأصل أنه لغيره، أي: أنه ليس لقطة؛ لأنه مكان يرتاده الناس، وليس عندك دليل على أن صاحبه قد أضله، فتتركه، والظاهر أنه ما دام قد وضع حذاءه مكان حذائي فمعناه أن صاحبه قد أخطأ في حذائه، فتسري عليه أحكام اللقطة؛ لأن صاحبه لن يعود؛ لأنه أخذ حذاءً بدل حذائه، لكن هذا ليس على كل حال؛ لأننا لو نظرنا لوجدنا أنه ربما أخذ حذاءك وجاء شخص مسكين يريد أن يصلي ووضع حذاءه مكان حذائك، فهو يريد أن يصلي ويخرج، وعندما يخرج لن يجد حذاءه، ولذلك فليس كل من وجد مكان حذائه حذاء آخر يأخذه على أنه بحكم اللقطة، فربما كان لشخص آخر غير الشخص الذي أخذ حذاءك، خاصة في مجامع الناس، مثل المساجد والمدارس والأماكن التي يكون فيها تجمع الناس، أو يدخل فيها أناس ويخرج أناس، فمن الصعوبة بمكان أن تقول: إن هذا الحذاء الذي وجدته مكان حذائي هو للذي أخذ حذائي، ويأخذ حكم اللقطة؛ لأن الأصل أنه لصاحبه حتى يدل الدليل على أنه بحكم اللقطة، وعلى هذا فلا يأخذ حكم اللقطة.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    حكم لقطة الحرم

    السؤال: هل تسري هذه الأحكام على لقطة الحرم؟

    الجواب: اختلف العلماء رحمهم الله في لقطة الحرم؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحرم: (ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد -وفي رواية: إلا لمعرف)، فهذا يدل في ظاهره على أن لقطة الحرم لا يحل أخذها إلا بقصد التعريف، وأنها لا تملك، بل تعرف للأبد، هذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله وبعض السلف.

    ومن أهل العلم من فصل في هذا الحديث فقال: حديث الحرم لا يعارض أحاديث اللقطة، فالأصل العمل بأحاديث اللقطة لأنها عامة، وجاء حديث الحرم: (لا تلتقط لقطته) لأن الناس في لقطة الحرم ينتابهم شعور لا يوجد في غير لقطة الحرم في الغالب، وهذا الشعور مبني على أن مكة يأتيها الزوار دائماً، فربما استخف الناس بلقطتها فيئسوا من أصحابها، فأخذوها للتملك، ولم يأخذوها للتعريف، فجاءت السنة بهذا المعنى؛ لأن الأحكام أيامها لم تستقر بعد، فبين عليه الصلاة والسلام أن لقطة الحرم لا تؤخذ بقصد الملك، وإنما تؤخذ بقصد التعريف، فقال عليه الصلاة والسلام: (ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف -وفي رواية-: لمنشد).

    وهذا الوجه يختاره الحافظ ابن حجر، وبعض الأئمة والشراح، وهو قوي جداً، وفيه الجمع بين النصوص.

    والذي يظهر أنه إذا عرفها وقام بها أنه يكفيه ذلك، لكن في الحقيقة لما وجد في زماننا من يقوم على هذه اللقطات، ووجدت مكاتب خاصة في الحرم، جرى العمل في فتوى بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، ومنهم الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله، حيث يرى أنها لا تملك، وأنها تكون لبيت مال المسلمين، وهذا يكون باختيار من ولي الأمر، وولي الأمر إذا اختار قولاً من أقوال العلماء وجب العمل به، وما دام أنه أخذ بهذه الفتوى -والشيخ عبد الله رحمه الله عليه إمام زمانه، وإمام الأئمة فقهاً وورعاً، وفتاويه موزونة بالفقه، ويعتبر من الأئمة والعلماء الذين جمعوا بين فقه الأثر والنظر، ومن يعرف الفقه ويعرف فتاويه يعرف دقته وبعد نظره والتزامه بمنهج السلف رحمهم الله في تقرير الفتوى، وآداب الفتوى وضوابطها، وهو رحمه الله العالم العابد الذي تنعم العين بفتواه، وممن اختارهم الله برحمته الواسعة- فينبغي على الناس الالتزام بهذا ما دام أنه وضع وجرى العمل به، فتضم إلى بيت المال، ويكون حكمها حكم الصرف إلى بيت المال، فيعمل بهذه الفتوى، وحينئذ لا يجري على الخلاف الذي ذكرناه، والآن قد هيئت مكاتب للضائعات خاصة في داخل الحرم، فترد وتصرف إلى هذه المكاتب، وهي تتولى شأن هذه الضائعات، والله تعالى أعلم.

    حكم االزكاة عن اللقطة إذا بلغت النصاب

    السؤال: هل تخرج الزكاة من اللقطة إذا بلغت نصاب الزكاة؟

    الجواب: لا تفرض الزكاة من اللقطة إذا كانت خلال السنة والحول؛ لأن الملكية لصاحبها، والزكاة لا تصح إلا بالنية، فلابد أن يكون صاحبها قد نوى زكاتها، فلو أخرجها من التقطها فلا تصلح زكاة؛ لأنه لم يؤمر بها، ويد صاحبها لم تزل إلى الأبد، بل هي باقية في يده، ولذلك قال المصنف رحمه الله: (يملكها حكماً)، وعلى هذا فلا تجب زكاتها على الملتقط؛ لأنه ليس بالمالك الحقيقي، ولا بالموكل لإخراج زكاتها، والأصل في الزكاة أنها لا تصح إلا بالنية، ولا نية في ملك هذا، فلا تجب فيها الزكاة.

    وإذا قلنا: إنه لا تجب الزكاة على الملتقط، فإذا مضت سنوات ووجد صاحب اللقطة العشرة الآلاف، أو العشرين ألفاً، فإنه يزكي عنها لسنة واحدة، هذا هو الذي عليه العمل عند جمهور العلماء رحمهم الله، أن المال إذا فات عن صاحبه ويئس منه ثم وجده، فإنه يزكيه عند وجدانه لسنة واحدة، وإن مضت عليه عدة سنوات.

    حكم الدعوة إلى المناسبات داخل المسجد

    السؤال: هل تجوز الدعوة إلى الوليمة أو المناسبة في داخل المسجد؟

    الجواب: رخص فيها بعض أهل العلم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقد النكاح في داخل المسجد، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه زوج الواهبة نفسها داخل المسجد، فقالوا: إن في النكاح معنى التعبد، أي: العبادة، فليس هو مثل البيع الذي يحرم أن يعامل به؛ لأن في النكاح شيئاً من التعبد، ودعوة الناس إليه دعوة إلى المحبة والإلف، وتحقيق مقاصد الشريعة، ففيه وجه في الإذن به.

    ومن أهل العلم من منع الإجابة، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إذا سمعتم الرجل ينشد ضالته في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبنَ لذلك) قالوا: إن جملة (إن المساجد لم تبنَ لذلك) تعليلية، كقوله عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بالماء والسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيباً ولا تحنطوه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، فدل على أنه منع نشد الضالة لأن المساجد بنيت للعبادة، والنكاح ليس بعبادة، والدعوة إلى الأكل ليست بذاتها عبادة في أصلها، فمنعوا من هذا، وإذا احتيط فهو أقرب، لكن إذا جرى العرف في موضع وعملوا بما رخص، فلا ينكر عليهم، ولا يشدد عليهم.

    حكم تملك الأرض ببناء الحائط عليها

    السؤال: جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحاط حائطاً على أرض فهي له)، ألا يفهم من هذا الحديث أن من أحاط السور على الأرض فقد أحياها وتملكها؟

    الجواب: ذكرنا في مسألة الإحياء أن الإحياء يكون على مراحل، ومنها: تسوية الأرض وبناء الحائط، وقلنا: إن بناء الحائط لا يوجب الملكية، فيشكل على ذلك هذا الحديث، وهذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة عند أحمد والترمذي ، وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف، ومن أهل العلم من صححه كله، وحكم باتصاله، كما هو صنيع الإمام الترمذي ، ومنهم من ضعفه كله كما قال بذلك بعض أئمة الحديث ، ومنهم من فصل فيه واستثنى بعض الأحاديث، وليس هذا الحديث منها.

    وهناك شيء مهم جداً في مسألة تحسين الأحاديث وتصحيحها والعمل بها إذا تضمنت معنى زائداً عن المعنى الثابت في الأصول، فالحديث الذي يأتي حسناً لغيره؛ أي: من روايات جمعت طرقها، ورقينا الحديث إلى درجة الحسن لغيره، فتدخله شبهة الرواية بالمعنى، فلا نجعل هذا الحديث معارضاً لما هو أصح وثابت، فقوله: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) نص على الإحياء، (ومن بنى حائطاً) فيه شيء من الرواية بالمعنى، وقد يطلق الحائط بمعنى البستان، ويكون في هذا نوع من التجوز في العبارة.

    لكن مسألة الاقتصار على الحائط نفسه أنه إحياء، فجمهرة أهل العلم على أنه ليس بإحياء، وفي ذلك سنة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد بينا أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا) وجود الإحياء، فلو قلنا: إن بناء الحائط على ظاهره، والحديث فيه ما فيه، فإن هذا من الصعوبة بمكان، وتجد الآن أن بناء الحائط من أيسر ما يكون، ولربما جاء الرجل إلى قطعة من الأرض تبلغ الكيلومترات وأحاط بها في يوم أو يومين، وهذا تضييق على المسلمين، ومنع للمقصود من الإحياء، وحصول للضرر حتى على الناس من الإحياء بهذه الصورة، فكل شخص يبني له حائطاً، وينتهي الإشكال، وفي هذا من الضرر ما الله به عليم، ولذلك فإن هذا الحديث -وإن كان بعض العلماء يرى تحسينه- لا يقوى على معارضة المحفوظ الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع معارضته للأصول، ولذلك ينبغي أن يكون الإحياء إحياء يثبت بمثله الحكم.

    الحكم في اشتباه الوعاءين بنجاسة وطهارة

    السؤال: إذا اشتبه وعاءان أحدهما طهور والآخر نجس، فقد ذكرتم رحمكم الله في الدرس الخامس من الزاد أن هذا يجري على مذهب المصنف في التفريق بين القليل والكثير، والإشكال أن خليلاً رحمه الله ذكر المسألة وهو لا يرى التفريق، فهل يمكن أن يقال: الوعاءان بعد اليقين بطهورية أحدهما ونجاسة الآخر، طرح فيهما شُراب ونحوه مما لا يؤثر في الطهورية، فاختفت المعالم فلا يظهر لون ولا ريح، وجزاكم الله خيراً؟!

    الجواب: في الحقيقة هذا إشكال جيد، والذي وضع هذا الإشكال أحسب أنه طالب علم، وهو إشكال في موضعه.

    ومختصر خليل هذا المتن معتمد عند متأخري المالكية، وقد اختصره من كتب كثيرة من مذهب المالكية، وهو من أوسع كتب المالكية التي بني عليها فقههم، خاصة من بعد القرن التاسع الهجري، والمالكية عندهم أن القليل الذي دون القلتين لو وقعت فيه نجاسة، فلا نحكم بنجاسته إلا إذا غيرت لونه أو طعمه أو رائحته.

    واشتباه وعاءين أحدهما طهور والآخر نجس يستقيم هذا على مذهب الشافعية والحنابلة، الذين يقولون: إن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة ولو لم تغيره، فيمكن أن يحصل الاشتباه، لكن عند من يرى أننا نحكم بانتقال الطهور إلى النجاسة بالتغير الحقيقي، قد لا تقع هذه المسألة، وهذا في الغالب، والكلام الذي ذكرناه في الشرح كلام صحيح ومستقيم ويمشي على الأصول؛ لأن المالكي يفرق بوجود أحد الأوصاف الثلاثة: اللون أو الطعم أو الرائحة، فإذا اشتبه عنده طهور ونجس، ذهب إلى النجس في أوصافه، إما طعم النجاسة أو لونها أو رائحتها.

    وذكر خليل للمسألة لا يشكل على الذي ذكرنا؛ لأن خليلاً ذكرها لاحتمال آحاد الصور، ومعنى هذا: أنه يمكن أن يوجد إناءان، أحدهما نجس والآخر طهور، وتغير لون الطهور، لكن طعمه لا يوجد فيه طعم النجاسة، ورائحة النجاسة لا توجد، لكن لونه كلون الدم، والذي عنده الوعاءان رجل كفيف البصر، ففي هذه الحالة لا يستطيع أن يرى اللون، أو مثلاً: يتغير طعمه، ويكون الشخص مصاباً بالزكام، فلا يشم الرائحة أو يجد النكهة، وهكذا إذا كان سقيماً عليلاً لا يستطيع أن يميز الطعم للسقم، فالفقيه يجد لهم مخرجاً على كل حال.

    فـخليل رحمه الله عندما ذكر هذا ذكره لآحاد الصور، ونحن ذكرناه للغالب؛ لأن الغالب في المذهب أنه يقع على هذا الوجه، وأنه يمكن أن يقع الاشتباه على مذهب الشافعية والحنابلة، لكن لا يقع على مذهب من يفرق بين النجس والطهور من جهة اللون والطعم والرائحة، إلا أنه لا يمنع وجود بعض الصور في الأحوال المنفردة على ما ذكرنا، وهذا لا يرد على ما ذكرنا، فيمكن أن يقال: إن الإمام خليلاً رحمه الله نبه في ذلك على بعض الصور، والله تعالى أعلم.

    توضيح حديث: (رب مبلغ أوعى من سامع)

    السؤال: هل يفهم من قوله عليه الصلاة والسلام: (رب مبلغ أوعى من سامع) أن العالم قد يأتي بقول لم يسبق لأحد أن قال به؟

    الجواب: هذا أمر غريب! فقوله: (أوعى) الوعاء يحفظ الشيء، والمعنى: رب مبلغ أكثر حفظاً من سامع، هذا وجه، وفي رواية: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وهذا ليس له علاقة من جهة أنه يستنبط مسائل لم يسبق إليها؛ لأن مراد الحديث: أن فتوح الله على العباد مختلفة، فهناك أناس أعطاهم الله الحفظ ولم يعطهم الفهم، ومنهم من أعطاهم الله الفهم ولم يعطهم الحفظ، ومنهم من جمع الله لهم بين الاثنين، وفضله، قال تعالى:ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].

    فنبه عليه الصلاة والسلام إلى أن الشريعة تحفظ بالأمرين: بالحفظ والفهم، وهذا دليل على مسلك من يأخذ بظاهر النصوص، ومن يأخذ بمعنى النصوص، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، فدل على أن العبرة بالفهم وبالوعي، ومن هنا قال تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، فجعل العلة التدبر والفهم، والتدبر من الدبر، ودبر الشيء: آخره، ولن تستطيع أن تفهم الشيء إلا إذا بلغت إلى آخره، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى تدبر الأشياء إلا إذا كان على قدم راسخ من العلم، يدرك فيه ظاهرها وباطنها، وهذا يحتاج إلى قراءة النصوص ومعرفة الأصول والفروع، وكيف تبنى الأصول على الفروع، وكل هذا يفهم من منهج السلف، والأئمة المتقدمين رحمهم الله.

    أما أن يأتي بفهم في قرننا أو حتى بعد القرون الأولى ويقال: إن هذا فتح من الله، فينبغي عليك أن تعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، ومعناه: أن تفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لم يفت الطائفة المنصورة، وإذا مرت عشرة قرون، والأمة لم تفهم هذا الفهم، ثم يأتي رجل في القرن الرابع عشر فيستنبط فهماً ما سبق إليه، فمعنى هذا أن تكون الأمة كلها في ضلال عن فهم الحديث، ويكون هذا على صواب، وما أظن أن أحداً هكذا؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].

    وهذا ليس بالعلم؛ لأن العلم الحق الذي زكاه الله من فوق سبع سماوات، زكاه بصفات منصوص عليها بآية في كتابه، قال تعالى: بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]، فلا يكون العلم صادقاً إلا إذا كان أثرياً، وكان هذا الأثر مبنياً على نص ووحي؛ لأنه ربما يكون الأثر رأياً اجتهادياً ليس مبنياً على أصول، بل يصطدم مع الشريعة، والأثارة مبنية على علم، وهو الوحي الكتاب والسنة.

    إذاً: لا نستطيع أن نفهم من النصوص فهماً لم يفهمه سلفنا، ولا نستطيع أن نفسر القرآن بتفاسير عصرية تبالغ في جر القرآن وجر الآيات في تفسيرها، حتى نجد من يتبجح ومن ينتسب إلى فهم القرآن وهو ممن ليس عنده إيمان، ونقرأ تفسيره وكلامه وليس عنده إيمان بأصول التفسير، ولا يعرف منهج السلف في التفسير، ولا يعرف ماذا قال الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان في تفسير الآية، كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:16-19]، فلقد سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يقول: الآن نفكر أن نقول: إن معنى الآية هو الصعود إلى القمر؛ لأننا لا نصعد إلا آخر الشهر عند ضعف القمر.. لا إله إلا الله!! فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الانشقاق:19] * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [الانشقاق:17] * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق:18] آيات من الزمان مرتبة ترتيباً يقصد منه الكمال؛ لأن الله يقسم بأول الزمان وآخره، حتى يجمع الكل بقسمه سبحانه، ويقسم بأول الشيء وآخره للدلالة على ذلك الوقت بعينه، كقوله تعالى: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:1-2]، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:1-2]، يقسم بالزمان والمكان تنبيهاً عليه، فقوله: (والقمر إذا اتسق) أي: اكتمل، وقوله: (لتركبن طبقاً عن طبق ) أئمة التفسير والصحابة يقولون: أي: أنكم ستمرون في المراحل التي فيها البرزخ، يبعثكم الله فيها، ثم طبق آخر، ومرحلة ثانية، ومراحل النشر، والخروج من القبور، ثم عرصات القيامة، من عرصة إلى عرصة، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، وهو الذي جادل فيه المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز أن نأتي ونلغي هذا التفسير كله، ونقول: إن معناه الصعود إلى القمر؟!

    لماذا هذا التهور والجرأة على كتاب الله وكلام الله؟! أنترك كلام المشايخ والعلماء ونأخذ بهذه النظرية، والنظرية قابلة للأخذ والعطاء؟! فليس بمجرد أن نسمع بنظرية نقيم الدنيا ولا نقعدها، ونجر كتاب الله من أجل هذا الاكتشاف، حتى إذا جاء من يخطئ هذه النظرية نُخطئ كتاب الله عز وجل!! لا يمكن هذا، ولا يجوز هذا، ولذلك ينبغي علينا التورع والتحفظ، وأن نضرب بالأفهام عرض الحائط إذا خالفت أقوال السلف، فنحن أمة قديمنا جديد وجديدنا قديم، لا صلاح لنا إلا بما سار عليه سلفنا وأئمتنا، وثق ثقة تامة أن كل شيء ينزع عن سلفك الصالح أنه ضلال مبين، وأي شيء ينهاك عن اتباع السلف أو يشكك في علمهم، أو يخفف من حبك لهم؛ فاعلم أنه بداية الضلال والنهاية، وإذا أردت أن تلقى الله على السبيل والمحجة والهداية فاستمسك بالذي كان عليه السلف الصالح رحمهم الله، ولا تعتقد في كتاب الله أي فهم، ولو قلت: هو من عندي، حتى تعرف من الذي قال بهذا الفهم، وهل هذا الفهم مبني على علم ونور اتصل سنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأئمة المشهود لهم الذين زكاهم الله عز وجل، وجعلهم أئمة في هذه الأمة، واختارهم؛ كالسلف الصالح، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية والفضل، فإن كان ذلك فنعمت به العين، فليستمسك به الإنسان.

    ثم اعلم أن الاستمساك به أن تستمسك به بقوة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)، ومحدثات الفهم، ومحدثات المنهج، فأي شيء يخالف هذا المنهج الموروث، فإننا لا نقبله ولا نعمل به، والكرامة كل الكرامة في اتباع السلف رحمهم الله.

    وقد تجد ضالاً أو مبتدعاً يقول في دين الله ما لا علم له، فيكون جريئاً على أقوال السلف ويضرب بها عرض الحائط، ويأتيك بفهم من عنده في كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإذا بلغت به الجرأة في كتاب الله وسنة المصطفى هذا الحد، فلماذا لا تكون جريئاً على التمسك بالحق؟ كما قال علي رضي الله عنه -وهو يتعجب من أهل الأهواء-: (فواعجباً من اجتماع هؤلاء على ضلالة، وتفرقكم على الحق!!).

    فينبغي أن نستمسك بالحق، وأي فهم في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقبل إلا من عالم له الحق، أن يتكلم في كتاب الله وسنة المصطفى، وما كان عليه السلف الصالح من أحاديث ونصوص، وما وضعوا لها من قواعد في شرحها وفهمها، ووالله لو أفنينا أعمارنا في تتبع ما قاله الأئمة في دواوين العلم في تفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لفنيت أعمارنا وما حصلنا من ذلك إلا على ما أذن الله لنا منه، فكيف يأتي الإنسان ويقول: إننا لا نحتاج إلى هذا كله، بل نفهم مباشرة؟! فربما يأتي الإنسان بفهم لا يفهمه الأوائل.

    فلا ينبغي ولا يجوز للإنسان أن يخون الأمة، وعلى كل طالب علم أن يتقي الله في علمه، فإذا جلس في مجلس علم، واستمع له الناس؛ فليعلم أنه على شفير جهنم، فقبل أن ينظر إلى مدح الناس، عليه أن ينظر إلى نار جهنم أمام عينيه إن زلت قدمه، أو أصابه الهوى في قلبه فأصبح يقول على الله ما لا علم له، فيجب أن لا تقول إلا بحجة، فإن الناس لم يأتوا يستمعون إليك -سواء في محاضرة أو في درس أو في كتاب تؤلفه في الإعجاز، أو غير ذلك من المسائل المستنبطة -إلا وهم يأمنونك على دين الله وعلى شرع الله، فينبغي أن تتقي الله فيما تقول، وتتقي الله فيما تقرر وفيما تبين، ولا بد أن نكون على شرع الله عز وجل الذي أمر به وأذن به لعباده، قال تعالى: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]، وقال تعالى: وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [يونس:60]، ما ظنهم بالله سبحانه وتعالى؟! ولذلك قرن الله بالشرك أن نقول على الله ما لا علم لنا به، ولذلك ينبغي على المسلم أن يخاف الله عز وجل، وأن يجمع بين العلم وبين الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأصل العلم الخشية من الله تعالى.

    فأقول: إن كل من يشككك في السلف، أو ينزع الثقة من السلف، بطريق مباشر أو غير مباشر، فلا تلتفت إليه ولا تعول عليه، ويكفيك ما عند السلف من العلماء المشهود لهم بالعلم، والذين اتصل سندهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخذ بعلمهم ودع ما سوى ذلك، وإذا جاء شخص يقول: لا تتبع أحداً إلا أنا، وأنا صاحب السنة وحدي، فقد زكى نفسه على الله، والسلف تجدهم يقولون: قولي صواب يحتمل الخطأ، وهو كأنه يقول: قولي صواب لا يحتمل الخطأ، ويأتي ويقول بلسان حاله: كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا قولي أنا! بدليل أنه يأتي إلى المسألة ولا ينبه إلى أن هناك قولاً مخالفاً، فيختار هو باختياره وفهمه، ولا يقول: على قولين أصحهما، أو هناك قول ثانٍ وثالث؛ ويقول الله تعالى، ويقول عليه الصلاة والسلام.. لا؛ بل يأتي فقط بقوله، ويريد أن يقول لك: لا تأخذ إلا قولي، فقد نزع بهذا ثقتك بالعلماء، فبمجرد أن تجد قولاً أو تجد أحداً من طلاب العلم يعمل بالقول الآخر، ترى أنه مخالف للسنة، وهذا ما ثبت عن السلف الصالح، لا بالفهم ولا بالتقرير، فينبغي أن نقرر شيئاً هو الاتباع والتأسي، ومن اتبع فقد هدي إلى صراط مستقيم، لتتبع من يوثق به في دينه وعلمه وأمانته، كما جاء عن أئمة السلف ومنهم الإمام الشافعي، فقد كانوا يزكون أئمتهم الذين يأخذون عنهم، قال الإمام الشافعي : (رضيت بـمالك حجة بيني وبين الله)، أي: رضيه في دينه وأمانته وورعه، ولذلك فما كان يعرف من شخص أن يأتي إلى عالم ويقول: أشك في علمك، فقد كان عند الناس السمع والطاعة للعلماء؛ لأنهم يعرفون الأمانة والورع، لكن أصبح الآن كل من هب ودب يجتهد في آراء واجتهادات ويستنبط أشياء غريبة.

    وآخر مسألة أريد أن أنبه عليها -وهي تدخل في هذا-:

    مما يعين على القول على الله بغير علم، وتزل به القدم، ويضل به الإنسان، ويصيب به من الإثم ما الله به عليم: اجتهاد بعض المنتسبين إلى العلم من طلاب العلم، فقد تحدث الآن مسألة بين طلاب العلم في السكن، أو تحدث مسألة وهم في مسيرهم وما إلى ذلك، فتجد هذا يقول: لا يجوز، وهذا يقول: يجوز، وتجد الشخص يقول لهم: يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، ولأن الله تعالى قال كذا!! جراءة على الاجتهاد، وجراءة على الشرع بفهمه، وليس عنده أصول فقه تعينه على معرفة النصوص، وليس عنده قوه لغة يستطيع أن يفهم بها معاني الكلمات والعبارات الواردة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عنده ضوابط شرعية من منهج السلف، فماذا تتوقع منه؟! ولذلك نجد كثيراً من طلاب العلم يأتي ويقول: يا شيخ! حصل كذا وكذا، وقال لي بعض طلاب العلم: كذا وكذا، فهل الله أمرك أن تتبع هذا الطالب؟! هل الله أذن لك أن تتبع العلماء أم تتبع هذا الطالب؟!! وهل أذن لك حتى في مناقشة مثل هذا؟!! فأوصي بالأخص طلاب العلم ألا يتناقشوا مع أحد من طلاب العلم ما لم يكن النقاش مبنياً على أصول من السلف، وأقوال من السلف، والمسائل الاجتهادية المعاصرة الجديدة عند أهل العلم قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ النحل:43].

    وتجد البعض إذا جلس مع بعض طلاب العلم يقول له: هل مرت عليكم مسائل فقهية جديدة؟ هل مر عليكم شيء في مسألة كذا وكذا؟ فيذاكر بعضهم بعضاً يريد أن يجعل التبعة على أخيه، وذلك يفهم أن يجعلها عليه، وكله من الخوف من الله، والشعور بالمسئولية والأمانة، فإننا إذا فعلنا ذلك نصحنا لدين الله، ونصحنا لكتاب الله، ونصحنا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك أدعى لرضا الله عز وجل، نسأل الله أن يوفقنا في القول والعمل.

    ضابط اللحية وحكم أخذ ما زاد منها على القبضة

    السؤال: هل يجوز أخذ شيء من اللحية ؟ أو أخذ شيء منها مما ينبت على الخدين؟ وما هو حد اللحية؟ وما صحة ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ ما فوق القبضة؟

    الجواب: اللحية عند العلماء فيها وجهان: فمن أهل العلم من قال: إن اللحية ما نبت على عظم اللحي والذاقن، فعظم اللحية الفكان، وعلى هذا فتخص هذا اللحية بما على الفكين، وما كان فوق مما على الوجنة أجازوا أخذه، وما نزل مما على الحلق أو على الرقبة وتحت الصدر مما يلي الرقبة يجوز أخذه، قالوا: إنه ليس بلحية، ولذلك لو نبت لشخص شعر على رقبته، ولم ينبت له على وجهه، فليست بلحية؛ لأن اللحية أصلها عند العرب من اللحي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أرخو اللحى) جاء مخصوصاً بهذا الوجه.

    هذا ما ذهب إليه طائفة من العلماء رحمهم الله، فرخصوا في حلق شعر الوجنة، وهو الشعر الذي على الخدين، وقالوا: يجوز أخذه حلقاً أو تخفيفاً.

    وبعض أهل العلم يقول: إن التعبير باللحية هو الأصل، وما قارب الشيء أخذ حكمه، ولذلك اعتبر أن اللحية ما نبت على الخدين، فلا يؤخذ منه شيء، وكذلك ما نبت على الرقبة مما يلي اللحية لا يؤخذ منه شيء.

    فمن ترجح عنده القول بأن اللحية على الضابط الأول وأخذ برخصته، فلا ينكر عليه، وله أئمة وله سلف، ومن أخذ بالقول الثاني، فذلك أتقى لربه وأورع، وهو أنه لا يأخذ مما على الخد شيئاً؛ بل يتركه، لكن لا ينكر على من فعل ذلك؛ لأن له سلفاً وله علماء، وهناك علماء أجلاء من أهل العلم من السابقين ومن الماضين ومن الأحياء يرى هذا القول، فلا ينكر عليه، ولا يحتقر العالم إذا بقيت لحيته على اللحي وتأول في ذلك قول من قال بهذا، فلا ينكر عليه لأن له وجهاً، وله سلفاً، حتى إن قوله له أصل من اللغة، لكن الأورع والأتقى لله عز وجل أن يترك ذلك كله، وأن لا يؤخذ منه إلا السبَلة وهي الشعر الذي تحت الشفقة السفلى، فقد كانت اليهود تتركها، ولذلك تجد الآن بعض الشباب يحلق اللحية كلها ويترك هذه السبَلة، وهذا فعل اليهود، والسبَلة قد خفف فيها بعض الصحابة حتى كان بعضهم يأخذها، ويأخذ بعضها ويخفف منها، ويقولون: إن هذا يرخص فيه من جهة العشرة الزوجية، فخففوا في هذا، وخففوا في الأخذ منها، ومن أطرافها، وقد جاء هذا عن بعض السلف رحمهم الله، فلا ينكر على من أخذ شيئاً منها، لكن الأتقى أن يترك الإنسان ذلك كله، وأن يبقيه على الأصل، وهو إن شاء الله أولى بالصواب، وإنما ذكرنا هذا حتى لا ينكر على من خالف.

    أما ما ورد عن ابن عمر فقد ورد بأصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، وهي السلسلة الذهبية، وهو أصح ما ورد عن ابن عمر ، فليس هناك رواية وردت عن ابن عمر أصح من هذه الرواية، وهي أنه كان إذا حج قبض على لحيته، وأخذ ما زاد، وهذا الفعل للعلماء فيه وجهان:

    فبعض العلماء يقول: ابن عمر هو الذي روى حديث اللحية، وقد كان من ألزم الصحابة للسنة فلا يعدل عنها، ولا يحيد عنها، فكيف وهو في النسك؟! والرواية عنه واردة أنه كان إذا حج واعتمر قبض على لحيته، وأخذ ما زاد عن القبضة، وما تطاير من العارضين، ولم يستمسك إلا بما هو من أصل اللحية، فقالوا: إن ابن عمر كان حريصاً على السنة، حريصاً على اتباعها، فلن يفعل شيئاً إلا وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وبناء على هذا القول يرى أصحابه أنه في حكم المرفوع، حتى إن بعض العلماء في تكبيرات صلاة الجنازة يرفع اليدين، ويقول: إنه لا يعقل عن ابن عمر أنه يرفع يده في الصلاة إلا وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، قال: فإذا كان هذا في الصلاة فكيف في الأمور التي هي دون الصلاة! ولا شك أن ابن عمر كان يسمى: الأثري، من كثرة لزومه للسنة، فقد كان يخرج من المدينة إلى مكة ولا ينزل إلا في المكان الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومراده بذلك تحري السنة، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم متابعة تامة كاملة، فقالوا: لا يعقل من مثل هذا أن يفعل هذا الفعل في النسك من نفسه، خاصة أن الحلق والتقصير من النسك، فقالوا: إن الأشبه فيه أنه مرفوع.. هذا هو الوجه الأول.

    الوجه الثاني: بناء على هذا الوجه تكون السنة في اللحية إرخاؤها، فما زاد عن القبضة فمحل الرخصة، إن شاء تركه، وإن شاء أخذ منه، فإن أخذ منه فبناء على القول بأن فعل ابن عمر يكون فعلاً من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان؛ لأن الثابت عنه أنه كان إذا رجل لحيته ملأت صدره، وكان كث اللحية عليه الصلاة والسلام، فعلى هذا يكون هذا الفعل في بعض الأحوال إذا كانت مرفوعة، أما إذا كان هذا الفعل من ابن عمر اجتهاداً، كما يقول بعض العلماء أنه كان يتأول قوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ الفتح:27]، فيحلق رأسه ويخفف من لحيته فيما زاد عن القبضة بالتفصيل الذي مضى؛ فيراه اجتهاداً.

    وهذا القول في الحقيقة يسوغ فيه اجتهاد، فقوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) أقل ما يصدق عليه اللحية يكون ما فعله ابن عمر ، فيكون تفسيراً، بحيث نقول: إن ما دون القبضة لا يؤخذ به؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه فسر اللحية بالقبضة فما فوق، فما دونها لا يجوز أخذه، والبعض يأخذ القبضة بأصبعه الإبهام والتي تليها، وهذه ليست بقبضة؛ بل هذا حلق؛ لأنه لا يبقى منها شيء، فلا ينبغي الاحتيال.

    وبعضهم يقول: المراد قبضة مطلقة، بحيث لو قبضت ابنته الصغيرة أو ابنه الصغير فهي قبضة، وهذا التلاعب لا ينبغي؛ بل يبقى كلٌ على قبضته، فيقبض ويأخذ ما زاد عن قبضته، فإن أراد أن يأخذ بهذا القول فلا ينكر عليه، وإن أراد الأفضل والأكمل وهو أن يترك لحيته، فهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756190771