إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الإجارة [11]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من مسائل الإجارة مسائل تتعلق بالأجير المشترك، كالغسال والخياط والنجار الذين يستأجرهم الناس في أعمالهم، وقد بين الفقهاء رحمهم الله تعالى أحكام الضمان المتعلقة بهم، وفرقوا بين ما يتلفه الأجير بيده وما يتلف عنده بغير عمله، وهذه المادة تشتمل على بيان ذلك.

    1.   

    ضمان الأجير المشترك

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ويضمن الأجير المشترك ما تلف بفعله]

    تقدم معنا أن من المسائل المتعلقة بالإجارة مسائل الضمان، ومسائل الضمان مما تعم بها البلوى لما يترتب عليها من الحقوق، سواءٌ كانت حقوقاً راجعة إلى المستأجر أم إلى الأجير، وبينّا ما يتعلق بتضمين الأجير الخاص.

    وهناك نوع ثانٍ من الضمان يتعلق بالأجير الذي يشترك فيه الناس، وهذا الأجير الذي يشترك فيه الناس تقوم إجارته على الأعمال.

    ولذلك يشترك فيه أكثر من شخص كما في الغسّال، وكذلك الحدّاد والنّجار، ونحوهم من أصحاب الحِرف الذين يقومون بالأعمال للناس، فهم ليسوا أُجراء لشخص معين كالأجير الخاص، فالخادم في المنزل والراعي وحارس المزرعة هذا أجير خاص، وقد بينّا أحكامه وما يتعلق بتضمينه.

    لكن بالنسبة لمن يكون مشتركاً بين الناس؛ فيضع الناس عنده ثيابهم من أجل أن يغسلها كالغسّال، أو يضع الناس عنده أقمشتهم من أجل أن يخيطها كالخياط، فمثل هذا الأجير يضمن ما تلف عنده، فيضمن الأجير المشترك من حيث الأصل ما كان للناس، ولكن على تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله تعالى بين ما فيه تعدٍّ أو تفريط، وبين ما لا تفريط فيه ولا تعدٍّ.

    ضمان الأجير المشترك بتعديه مطلقاً وبتقصيره

    هذا الأجير المشترك تارة يكون إتلافه مع حضور مستأجره وتارة يتلف الشيء مع غيبة مستأجره، فتختلف أحواله؛ ولذلك شرع المصنف -رحمه الله- في بيان مسائله فقال: [ويضمن المشترك ما تلف بفعله].

    فخالف الأجيرُ المشترَكُ الذي اشترك فيه الناس الأجير الخاص في الضمان، فالأجير الخاص لا يضمن، والأجير المشترك يضمن، وبناءً على ذلك لو أعطيت غسالاً ثوباً، فلو أنه أراد أن يغسله فأتلفه أثناء الغسيل، أو أتلف جُزءاً منه، أو أعطيت خياطاً قطعة من القماش على أن يخيطها لك ثوباً، فلم يحسن خياطتها، ولم يحسن ضبطها فإنه يضمن، ويلزمه رد مثل ذلك الشيء الذي أتلفه.

    ولو أعطيت الغسّال ثوباً فغير لونه بالأصباغ، أو وضع عليه مواد أحرقته، أو أحرقت جزءاً منه، أو بقيت فيه علامات هذه المواد، أو أراد أن يكويه فأحرقه فتلف الثوب لزمه أن يضمن مثل الثوب.

    وهكذا الخياط، لو أنك أمرته أن يخيط الثوب، ثم أثناء الخياطة أتلف الثوب، أو لم يحسن خياطته، أو خاطه على غير الوجه الذي أمرته به، فإنه يضمن.

    عدم ضمانه في غير التعدي أو التقصير

    قال: [ولا يضمن ما تلف من حرزه أو بغير فعله ولا أجرة له]:

    هناك فرق في ما تلف عند الأجير المشترك بين ما يقع بفعله وبين ما يقع بغير فعله.

    أما ما وقع بفعله فيضمنه، كما إذا وقع ذلك أثناء كي الثياب بأن أحرق الثوب، وأثناء خياطة الثياب بأن لم يحسن التفصيل.

    وهكذا إذا طلبت من حداد أو نجار أن يصنع لك باباً أو نافذة، ومن يهندس السيارات كما في زماننا، فهذه الورشات التي تتقبل من الناس عموماً تأخذ حكم الأجير المشترك.

    وبناءً على ذلك لو أعطيته السيارة ليعمل فيما يتعلق بالكهرباء، أو يتعلق بجرم السيارة، أو يتعلق بلون السيارة ليصبغها، أو يحسن سمكرتها، أو نحو ذلك، فأتلف شيئاً أثناء قيامه بهذا العمل، فإنه ضامن ويلزمه الضمان.

    فما كان بفعله فإنه يضمن، كمن جاء يصبغها فأخطأ في اللون فإنه يضمن، ولو جاء يصلحها بسمكرة أو نحوها فأخطأ، أو جاء يصلح جهازها من كابح للسيارة أو نحو ذلك فأخطأ، فإنه يضمن جميع ما أتت عليه يده من الأخطاء، فيضمن ما جنت يده وما وقع بفعله وإن كان في الحقيقة يريد الإصلاح، إلا أنه حين أخطأ يتحمل المسئولية، ويتحمل ضمان ما أتلفت يداه.

    لكن لو أنك وضعت عنده السيارة، ثم سرقت السيارة وكان قد حافظ عليها محافظة تامة، فكسر قفله وأخرجت السيارة ثم سرقت، ففي هذه الحالة يكون قد وضع الشيء في حرزه وتعاطى أسباب الحفظ ولم يقصر، فإذا تعاطى أسباب الحفظ كان أميناً، والأمين لا يضمن.

    لكن إذا أتلف شيئاً بفعله فإنه يتحمل مسئولية الإتلاف؛ لأنه من جناية يده، فهناك فرق بين هذه الحالة وبين أن تتلف السيارة، أو يتلف الثوب أو يتلف الحديد أو الخشب المأمور بصنعه بسبب غير جنايته أو تفريطه.

    فلو أنه سرق من محله وكان قد أقفله وأوثقه وأحسن حرزه وأتقن ذلك ولم يقصر في شيء من ذلك، فإنه لا يضمن؛ لأنه في هذه الحالة كالأمين؛ لأنك وضعت السيارة عنده وديعة والوديعة في حكم الأمانة كما سيأتي إن شاء الله.

    وإذا كان في حكم الأمين فإنه إذا لم يقصر في حفظ السيارة فسرقت فإنه لا يضمن، ولو أنه عمل في السيارة واشتغل فيها فأدى عَمَله ولكن جنت يده أثناء القيام بالإصلاح فإنه يضمن؛ لأنه من كسب يده ومن فعله، فإذا جاء يشتغل في السيارة أو في القماش أو في الحديد أو في الزجاج، ففي هذه الحالة يتحمل مسئولية عمله وما يترتب على عمله.

    وأما إذا كان التلف والضرر قد جاء بسبب سرقة، أو أخذٍ من السيارة فلم تسرق كلها وإنما سرق بعضها بعد تعاطي الأسباب نقول حينئذٍ: تنتقل المسألة إلى مسألة الوديعة؛ فالسيارة في داخل ورشته، والحديد في داخل ورشته، والخشب في داخل ورشته أمانة، فإذا جاء وقت العمل، فإنه يضمن ما أثر فيها بعمله.

    وأما إذا غاب عنها، فإنه إن قصر يضمن، وإن غاب ولم يقصر فأقفل بابه، وتعاطى جميع أسباب الحفظ فسرقت فلا شيء عليه؛ لأنه أمين وقد تعاطى أسباب الحفظ، فوضع السيارة في حرز مثلها، وأغلق عليها الباب، وتعاطى جميع أسباب الحفظ المهيئة عرفاً لحفظ مثل هذه السيارة، فلا يضمن.

    لكن لو أنه قصر؛ مثل أن يترك أبواب محله مفتوحة، فسرق من السيارة شيء أثناء عمله، سواءٌ أكان موجوداً أم غير موجود فإنه يضمن؛ لأنه فرط في الحفظ، والأمين إذا فرط في حفظ أمانته يضمن.

    وبناءً على ذلك نقول: يأتي الضمان من جهة الإخلال أو يأتي الضمان من جهة التعدي المقصود أو غير المقصود.

    وعلى هذا فإنه يقال: في الأجير المشترك التفصيل، فما كان من الضرر مترتباً على فعله ضمن، وهذا مأثور عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وشريح القاضي ، وهو من أئمة التابعين، وكان قاضياً لأربعة من الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، كلهم ولي لهم القضاء رحمه الله برحمته الواسعة.

    فكان يضمن الأجراء المشتركين، وكان علي رضي الله عنه يقول: لا يصلح للناس إلا هذا، يعني أن يحفظوا أموال الناس ويقوموا عليها، وهذا الأثر تقدم الكلام على سنده، لكن على القول باعتباره والعمل به، فإنه محمول على الأجير المشترك لا على الأجير الخاص.

    ففي هذه الحالة رتبنا المسألة فقلنا: كل أجير مشترك يكون مسئولاً من حيث الأصل عن ودائع الناس، ويترتب على هذا أننا نضمنه فيكون مسئولاً عن أموال الناس التي عنده، فنضمنه إذا كان الضرر بفعل يده، قصد أو لم يقصد، ولا نضمنه إذا حفظ الشيء في مكانه ثم سرق أو أخذ كله أو بعضه، ونضمنه في مسألة الحفظ إذا قصّر في الحفظ.

    فإذاً: عندنا تضمينه في حالة تعديه قاصداً، وفي حالة تعديه مخطئاً، وفي حالة التساهل في حفظ أمتعة الناس وحقوقهم.

    تحديد موعد للتسليم هل يرفع المسئولية عن الأجير بعد المدة

    ومما يتفرع عن هذا المسألة الموجودة الآن أن بعض الغسالين يقول لك: هذا الثوب أغسله لك وأنا مسئول عنه في حدود أسبوع، فإذا لم تأتِ بعد أسبوع فلستُ بمسئول عنه، فشرطه هذا شرط باطل ولا عبرة به، ولو حضرت بعد عشر سنوات فثوبك أمانة عنده شاء أم أبى؛ لأن قوله: لست مسئولاً عنه بعد أسبوع معناه أنه قد أخلى يده كلية عن الثوب، والثوب أمانة عنده، لا تزول يده عن الأمانة إلا بالتسليم.

    ولو قال قائل: إنه قد اشترط والمسلمون على شروطهم! قلنا له: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط؛ لأن الذي في كتاب الله أن أخاك المسلم قد استودعك هذا، فهب أنه جاءه ظرف فعطله عن أن يأتيك خلال أسبوع، أفتسقط حقوق الناس وتضيع أموالهم بمثل هذه الشروط؟

    فإذاً وجود الشرط وعدمه على حد سواء؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله، فالعبرة بالشروط إذا كانت موافقة للشرع لا مضادة له موجبةً لضياع أموال الناس، وقد حرم الله عز وجل إضاعة المال.

    ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) وهذا من إضاعة أموال الناس، ولذلك لا يعتبر هذا الشرط ملزماً ولا يترتب عليه تبعية، فنحن نقول: إن الغسَّال من حيث الأصل مطالب بأن يبذل ما في وسعه لغسل الثوب، والخياط مطالب بأن يبذل ما في وسعه لخياطة الثوب؛ فإن أردت أن تضمنه ضمنته من وجوه:

    الوجه الأول: أن يأتي بضرر ناشئٍ عن فعله، كأن تعطيه زجاجاً من أجل أن يقصه، أو يصنعه على شكل معين، أو يضعه في نافذة فلما جاء يحمل الزجاج سقط من يده وانكسر، أو انكسر أثناء عمله، أو أثناء قصه، فإنه يضمن مثل هذا الزجاج؛ لأنه تلف بفعله.

    وهذا لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه، فيلزمه أن يضمن مثله، فإذا لم يوجد مثل ذلك الزجاج؛ فإنه يضمن قيمته، وقد بينّا هذا في مسائل الضمان بالمثل، والضمان بالقيمة، على التفصيل الذي تقدمت الإشارة إليه.

    حكم الأجرة مع التلف بعد لزوم المثل أو القيمة

    قال: [ولا أجرة له]:

    قد عرفنا متى يضمن الأجير المشترك ومتى لا يضمن، وهنا يقال: لو أن غسّالاً غسل ثوباً، ثم بعد أن قام بمهمة الغسيل نشره في مكان، ثم جاءت الريح وأخذته دون أن يشبكه ويتعاطى أسباب الحفظ، فضاع الثوب، ففي هذه الحالة يضمن؛ لأن المفروض عند هبوب الريح أن تحتاط لثياب الناس.

    أو وضعه في مكان النشاف الموجود في الآلات، فلو أنه زاد النشاف فأحرق الثوب أو أفسده، أو جاء يكوي فزاد عيار الكهرباء فأحرق الثوب، ففي هذه الحالة يضمن، فإن قال: أنا أضمن الثوب وقد غسلته وكويته، فيعطيني أجرة الغسيل والكي، وأعطيه قيمة الثوب أو مثل الثوب! قلنا: لا أجرة لك؛ لأن العمل إنما تستحق عليه الأجرة إذا سلمته، صحيح أنك قمت بالعمل، لكنك لم تسلمه، فقيامك بالعمل لا يعتبر موجباً لاستحقاقك الأجرة إلا إذا سلمته.

    فهنا لابد من الانتباه لهذا الأمر، فلا يستحق الأجرة إلا إذا سلم العمل؛ فالعمل الذي قام به لم يستلمه المستأجر حتى نقول: إنه يلزمه دفع الأجرة.

    وعلى هذا قال رحمه الله: [ ولا أجرة له ]: أي لا يستحق الأجرة، فلو دفع المستأجر الأجرة مقدمة فإننا نقول للأجير: رُدَّ لصاحب الثوب الأجرة، وليس من حقك أخذُ هذه الأجرة؛ لأنك لا تستحقها إلا بتسليم العمل، وقد قمت بالعمل ولم تسلمه، فلا حق لك في هذه الأجرة.

    1.   

    متى تلزم الأجرة للأجير

    قال رحمه الله: [ وتجب الأجرة بالعقد إن لم تؤجل ]:

    الإجارة عقد، وقلنا: إن العقد كلمة (أجرتك) و(قبلت). أعني: الإيجاب والقبول.

    وبناءً على ذلك فكل إيجاب وقبول بشيء هو عقده، فلما قال له: أجرتك داري لسنة بعشرة آلاف، وقال: قبلت. لزمه أن يدفع العشرة آلاف، فهذا لازم بأصل العقد، وأما متى تستحق؟ ومتى يجب دفعها؟ فهذا فيه تفصيل.

    لزوم الأجرة بمجرد العقد في إجارة المنافع

    فالعقود محترمة، والشريعة تحترم اللفظ الذي بين المتعاقدين لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].

    فالمؤجر والمستأجر بينهما إيجاب وقبول، فإذا صدر هذا الإيجاب والقبول فقد ثبت في ذمة المستأجر التزامه بدفع عشرة آلاف أجرةً لهذه الدار سنةً كاملة، إذاً تجب الأجرة بمجرد العقد؛ فالاتفاق والعقد بين الطرفين يوجب ثبوت الأجرة، سواءٌ أكان هذا في إجارة الدور أم الأرضين أم السيارات أم غيرها.

    وقوله: [إن لم تؤجل]:

    فلو قال له مثلاً: بعد سنة، أو بعد شهر، أو في منتصف المدة، أو بعد مدة طالت أو قصرت على حسب الاتفاق بينهما، فإذا اتفقا على التأجيل تأجلت.

    وأما الأصل فإنها لازمة بالعقد، ولذلك قالوا: تجب الأجرة بالعقد حتى تخرج من بيع الدين بالدين؛ لأنها لو لم تجب بالعقد لصار الثمن مؤجلاً، والمنافع مؤجلة، فتصير من بيع الكالئ بالكالئ، وقد قدمنا هذه المسألة وبينّا أن أصول الشريعة لا تصحح بيع الكالئ بالكالئ، والنهي عنه في حديث ضعيف أخرجه أبو داود في سننه، وقال الإمام أحمد : أجمع المسلمون على العمل بمتنه.

    فهو ضعيف السند لكنه صحيح المتن، وقد يكون الحديث ضعيف السند صحيح المتن، فلو جاءنا حديث يأمر بالصلاة وهو ضعيف السند نقول: هذا ضعيف السند لكنه صحيح المتن، فليس ضعف سنده يوجب رد العمل به.

    فمعنى صحيح المتن: أن العمل بمتنه لا نعتقد أنه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هناك أصول وأدلة تغني عنه وتشهد بصحته، فتشهد تلك الأصول لا بهذا الحديث.

    إذاً تجب الأجرة بالعقد، قال بعض العلماء: الأجرة في المنافع تثبت شيئاً فشيئاً، وبناءً على ذلك لو استأجر داراً يوماً فإن الإجارة تثبت ساعة فساعة على أجزاء المنافع، فكل ساعة سكنها كان مقابلها جزءاً من الأجرة العامة المتفق عليها، فلو أنك اتفقت معه على مائة وعشرين ريالاً على أن تسكن اثنتي عشرة ساعة، فكل ساعة تمضي يكون لها عشرة ريالات، فهو يستحق كل عشرة مقابل كل ساعة تمضي من ذلك اليوم والنهار (هذا في إجارة المنافع).

    إجارة الذمة تستحق أجرتها بتسليم العمل

    قال: [وتستحق بتسليم العمل الذي في الذمة]:

    هذا بالنسبة لإجارة الذمة فإنها تستحق فيها الأجرة بتسيلم العمل مثلما ذكرنا، ففي حال اتفاقك مع شخص على أن يبني لك عمارة، أو على أن يصلح لك سيارة، أو على أن يصلح لك جهازاً كثلاجة أو غسالة، فلا يستحق أجرة ذلك إلا بعد أن ينهي الإصلاح الذي طلبته فيما فسد، أو يبني العمارة، أو غير ذلك مما اتفق عليه.

    فإذا أتم العمل وسلمك ما عمله ثبت الاستحقاق، أما قبل أن يسلمك كما ذكرنا في مسألة التضمين فإنه إذا لم يسلم فإنه لا يجب عليك دفع الأجرة له -كما ذكرنا في مسألة التضمين- لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) .

    فقوله: (قبل أن يجف عرقه) يدل على أنه في إجارة المنافع لا تلزم الأجرة إلا عند انتهاء الأعمال؛ لأنه قبل أن يجف عرقه معناه أنه عمل فسال عرقه من شدة الإعياء والتعب، فيعطى قبل أن يجف عرقه، فيعني أنه انتهى من كل شيء، فتعطيه حقه، بعد أن سلمك حقك كاملاً.

    1.   

    الإجارة الفاسدة والأجرة اللازمة فيها

    قال رحمه الله: [ومن تسلم عيناً بإجارة فاسدة وفرغت المدة لزمه أجرة المثل]:

    كل الذي تقدم معنا كان في الإجارات الصحيحة، وقد بينّا المسائل المترتبة على القعد الصحيح، لكن يرد السؤال: لو أن اثنين اتفقا على إجارة فاسدة، مثل أن يتفقا على إجارة دار مجهولة بثمن مجهول، أو على أن يتفقا بعد العقد على الثمن، ففي هذه الحالة العين المؤجرة هي الدار مجهولة.

    وقد قدمنا أنه يشترط في صحة الإجارة العلم بالدار المؤجرة، فلو أنهما اتفقا على دار مجهولة ثم جاء وسكن الدار، أو مضت مدة الاتفاق ولم يسكنها وقد مكنه المؤجر من سكنها، نقول: يلزم المستأجر أن يدفع أجرة المثل.

    لأنه إذا سكنها وأخذ منافعها، استحقت الأجرة من جهة المنافع، وهذا قد تقدم معنا في مسائل البيوع حينما ذكرنا مسائل العيوب، وقلنا في هذه الحالة: حينما يؤجره داره وتكون الإجارة فاسدة، ثم يتفق الطرفان على أنها لشهر أو لسنة، وتمضي السنة أو يمضي الشهر، ثم يتبين فسادها بعد انتهاء العقد، نقول: إن هذه المنافع قد حبست لمصلحة المستأجر.

    وتعطيل المنافع يوجب ضمانها، وقد رضي بذلك، فهو وإن لم يصح عقد الإجارة إلا أن التزامه بضمانه ورضاه بذلك وتحمله لمسئولية استهلاك هذه المنافع على حسابه، سواءٌ تحقق ذلك بالفعل أم لم يتحقق، يُلزمه ضمانها من جهة الضمان لا من جهة الإجارة، فإذا ضمن فإنه يضمن بأجرة المثل.

    فلو كانت تستحق بالأجرة للزمته الأجرة المتفق عليها بين الطرفين، لكن الواقع أن الإجارة فاسدة، فحينئذٍ يضمن أجرة المثل.

    فهناك فرق بين الأمرين، إذ لو كانت الإجارة صحيحة لألزمناه بدفع الأجرة المتفق عليها بينهما، لكن لما كانت الإجارة فاسدة ألزمناه بدفع أجرة المثل.

    فنقول: هذه الدار التي مضت عليها سنة بهذا العقد الفاسد كم أجرتها في السوق؟ فيقال: هذه الدار مثلها يؤجر في السوق بعشرين ألفاً لسنة، فنقول: يلزمك دفع عشرين ألفاً من باب ضمان الحقوق كما ذكرنا.

    1.   

    الأسئلة

    حكم توقيف العامل عند عدم الإعجاب بعمله

    السؤال: إذا اتفقت مع عامل على أن يعمل عندي شهراً بمبلغ من المال، وبعد مضي أيام من عمله لم يعجبني عمله وأوقفته، فهل أعطيه أجرة الأيام التي عملها، أم أجرة الشهر كاملاً.

    الجواب: إن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] فبينك وبين أخيك المسلم عقد إجارة شهر كامل، فلابد من إتمام هذا العقد إلا إذا وجد العذر الشرعي.

    وأما قولك: لم يعجبني عمله، هذا القول فيه تفصيل: إن كان مرادك أنه لم يقم بالعمل على الوجه المعتبر وأنه يقصر ويضيع ويفرط، فمن حقك أن توقفه وتقول له: إما أن تؤدي العمل تاماً بدون تفريط، وإما أن ألغي الإجارة فيما بقي من الشهر. ومن حقك أيضاً أن تقدر أجرة مثله فيما مضى، فلا يأخذ الأجرة كاملة.

    مثال: لو أنك استأجرت شخصاً لأجل القيام بمصلحة النجارة أو الحدادة، فجاء نجار على أنه نجار، وعمل نصف ما ينبغي أن يعمل مثله، كأن يكون بطيء العمل، ثقيل اليد، لا يحسن الإدارة للعمل، حتى أصبح نصف العمل قد سقط، فمثله يستحق أجرة خمسين وأنت أعطيته مائة، فمن حقك أن تعطيه على الأعمال الماضية أجرة خمسين، وتقول له: إما أن تلتزم بأداء العمل بما يستحق مثلك ممن يأخذ مائة، وإما أن تفسخ العقد، وتعطيه مهلة يوم أو يومين حتى يستقيم وتنظر، إن أتم العمل فبها ونعمت.

    والسبب في هذا التفصيل: أن العقود والاتفاقات محتكم إليها؛ لأن الله أوجب علينا أن نفي بهذا المتفق عليه، فأنت اتفقت معه على أن يقوم بعمل يستحق المائة، لكن العمل الذي قام به يستحق الخمسين، فيصبح أخذه للخمسين الزائدة من أكل المال بالباطل، سواء كان في مزرعة أو ورشة أو شركة، أو في أي مجال، فإذا لم يؤد العمل الذي يستحق بمثله الأجرة التي خصصتها له، كان من حقك أن ترده إلى أجرة مثله، وأن تخيره فيما بقي من الشهر؛ إما أن يتم العمل الذي يستحق به المائة وإما أن يفسخ العقد، هذا من حقك، وما ظلمته، لأننا لو جئنا نفتح هذا للناس فإننا قد حدنا وصار من الجور، وأصبحنا مع العامل ضد صاحب الحق، ولا يجوز أن يكون حكم الشرع مائلاً إلى أحدهما، بل لابد من العدل، فما دام اتفق معه على أن يقوم بالعمل الذي يستحق به مائة فينبغي أن يؤدي عمله الذي يستحق به المائة.

    لكن لو أن هذا العامل أدى الطاقة التي يستحق بها المائة، لكن الطاقة التي يستحق بها المائة فيها مرتبة كمال ومرتبة وسط ومرتبة دنيا، فمثلاً: إذا جئت به في ورشة فإن طاقته الإنتاجية التي يستحق بها المائة ريال أن ينتج ثلاثة أشياء من العمل الذي طلبته، هذه الثلاثة الأشياء إذا أنتج الثالث منها ينتجه بصفة كاملة إذا كان على الأكمل، الطاقة الوسطى -التي هي دون الكمال- ينتج من الثالث ثلاثة أرباع، الطاقة الدنيا أن ينتج من الثالث نصفه، فأنت أعطيته مائة على أساس الطاقة الإنتاجية من حيث الأصل المعتبر أنها اثنين ونصف، أي: هي مرتبة الإجزاء، فكون الأكمل يأتي بثلاث وهو عجز عن الثلاث فهذا لا يوجب إسقاط العقد، فقولك: لا يعجبني. قد يراد به الكمال، وإذا أردت به الكمال فليس من حقك أن تنقص أجرته ولا أن تلغي العقد فيما بقي من الشهر إلا برضاه؛ لأن الأصل الذي اتفق عليه يستحق به المائة، وهو الاثنين والنصف، والأكمل ليس مطالباً به، مثل المزارع يقوم في المزرعة بسقي الماء والقيام على البهائم الموجودة في المزرعة، فالأكمل في مثل هذا الشهر أن يقوم بهذا العمل أولاً -الذي هو إدارة الماء- والقيام على البهائم وتقليم الشجر، فلم يعجبك؛ لأنه أدى الاثنين ولم يؤد الثالث، فلم يأت في مرتبة الإعجاب وفي مرتبة الكمال.

    فقول: لم يعجبني. فيه تفصيل، والعجب عند الناس مراتب، لكن نحن نقول: الحق أن تحتكم أنت والعامل إلى الحق، فالعجب واستعجاب الشيء ومحبته تختلف موازينها وتختلف ضوابطها، ولا ينبغي لك أن تلغي هذا العقد إذا كان قد أتى بما يجزيه وما يستحق عليه الأجرة المتفق عليها، ويجب عليك إتمام ما بقي من الشهر، إلا إذا اتفقتما برضا منكما على فسخ العقد، والله تعالى أعلم.

    الشبه بين تصرف الأجير بغير إذن وبين تصرف الفضولي

    السؤال: ذكرنا أن الأجير الخاص لو قام بعمل دون إذن صاحبه فإنه يضمن، فهل هذه المسألة تشبه مسألة تصرف الفضولي؟

    الجواب: تشبه مسألة تصرف الفضولي إذا كان الفضولي عنده إذن أصل، وأما إذا لم يكن عنده إذن في الأصل فإنها لا تشبهها؛ لأن الأجير عنده إذن من حيث الأصل، وأما بالنسبة للفضولي فليس عنده إذن في بعض الصور وعنده إذن في بعض الصور.

    مثاله في الفضولي: إذا قلت له: اشترِ لي سيارة واحدة. فاشترى سيارتين، فقولك: اشترِ. أصل، وهو التوكيل بالشراء، لكن خرج إلى كونه فضولياً في السيارة الثانية، والأجير أجير، لكنه إذا زاد عن الحد المعتبر يصبح في هذه الحالة لم تأذن له بشيء زائد، يصبح عنده أصل عام وزيادة، والفضولي يشاركه إذا وجد أصل عام؛ لأن الفضولي في بعض الأحيان لا يكون عنده أصل عام، مثل شخص أخذ منك سيارة على أن يذهب بها إلى الجامعة ويذهب بها إلى المسجد، ثم وجد رجلاً يقول له: بع هذه السيارة بعشرة آلاف، ورأى من المصلحة أن يبيعها لك بعشرة آلاف فباعها، أنت ما قلت له: بعها، وليس عنده أصل عام، فقد يتصرف الفضولي وليس عنده أصل عام، وقد يتصرف وعنده أصل عام، وهناك فرق بين المسألتين.

    فشبه مسألة إجارة الفضولي عند وجود أصل عام يمكن أن يستند إليه، وهو عام من حيث الشكل -يعني: الأصل- لكنه خاص أريد به الخصوص الذي هو الشراء في الحدود المعينة، وعلى هذا يكون تصرف الفضولي مشابهاً لهذه المسألة في القيد الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم.

    حكم الدعاء عند الطواف والسعي بغير العربية

    السؤال: هل يصح الدعاء عند الطواف والسعي بلغة أخرى غير اللغة العربية؟

    الجواب: لا بأس بالدعاء عند الطواف بالبيت بغير اللغة العربية إذا كان لا يحسن اللغة العربية، وإذا دعا بلغته فإنه يجزيه، ولا يشترط أن يدعو باللغة العربية؛ لأنه مكان ذكر وثناء على الله عز وجل، وسؤال له من فضله، وهذا يشمل الدعاء بغير العربية كالدعاء بالعربية، إلا أن الدعاء باللفظ العربي تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع إذا كان يتقنها هو الأصل، فلما تعذر في مثله لعدم إمكانه أو عدم معرفته بالأدعية المأثورة فلا بأس أن يدعو بلسانه، والله تعالى أعلم.

    حكم عدم الوقوف عند المشعر الحرام

    السؤال: صليت الفجر في مزدلفة، ثم اطرحت ولم أقف عند المشعر الحرام، فماذا علي؟

    الجواب: مزدلفة كلها مشعر حرام، فما دام أنك وقفت في أي موقف من مزدلفة فأنت في المشعر الحرام، والمشعر كل شيء أشعر الله بتعظيمه، وقيل له: (المشعر الحرام) لأنه قبل عرفات، فعرفات بعده خارجة عن حدود الحرم، فمزدلفة يأتي بعدها حدود الحرم، ثم تأتي نمرة، ثم يأتي وادي عرنة، ثم عرفات، فالمشعر الحرام داخل الحرم، وقيل له (مشعر) من المشعر، و(المشعر الحرام) لأنه داخل حدود الحرم، لكنها اشتهرت باسم (منى)، وقيل لها (المشعر الحرام) لأنها وسط بين ما في الحرم وبين ما هو خارج عن الحرم، ولكنها من الحرم؛ لأن مزدلفة بين عرفات وبين منى، ولذلك هي كلها مشعر حرام فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198] أي: مزدلفة كلها كما جاء في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام بلفظ: (مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر) وأما اللفظ الآخر: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) أما بالنسبة لمزدلفة فقال: (مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر) فاستثنى وادي محسر، وهو الوادي الذي حسر الله فيه الفيل، وقيل: من الحسر، بمعنى: الكلال، يقال: كَلَّ إذا أعيا؛ لأنهم كانوا يدفعونه إلى الحرم فيمتنع حتى أرسل الله عز وجل عليهم العذاب في ذلك الموضع.

    فالمقصود: أن وادي محسر ليس من منى ولا من مزدلفة، وهو فاصل بين منى ومزدلفة، والمشعر من فج المأزمين إلى وادي المحسر كله مشعر، وفج المأزمين عند الإفاضة في جهة المسجد والجبلان الصغيران اللذان بحذاء المشعر، الجبل الصغير الذي هو جبل قزح بحذائه فج المأزم، هذا هو المدخل الذي يؤتى من طريق المأزمين؛ لأن طريق المأزمين بين جبلين غربي القناة المعروفة في حضن الجبل، هذا الطريق -الذي هو طريق المأزمين- في نهايته وفي رأسه عند مشعر المزدلفة هو بداية مزدلفة، ثم تنتهي مزدلفة من جهة منى عند وادي المحسر، فمن وقف عند هذه الحدود فقد وقف في مزدلفة، ومن بات فيها للحج فقد بات في مزدلفة.

    وأما من دخل إلى حدود وادي المحسر فإنه ليس من مزدلفة، مضطراً أو مختاراً، ولذلك لا تسري عليه الأحكام الشرعية؛ لأنه مأمور بالتحري والاحتياط، ومأمور بالسؤال، والأعلام موجودة، وكل شيء معروف، وليس له من عذر أن يقول: أنا أجهل. فهذا كله تلاعب وتساهل، فشخص يأتي ويقول: لا أعرف حدود عرفة ولا أعرف حدود مزدلفة ولا أعرف حدود منى، وهي واضحة، ويمكنه السؤال، والمعالم واضحة، والناس متواجدون ومتكاثرون، ومع هذا يقول: أنا جاهل. ويقال: هذا جاهل ليس عليه شيء. فنقول: هذا ليس بجهل، هذا تقصير وتلاعب وتساهل، فالشخص الذي يتلاعب ويتساهل ويقصر يضمن الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (فدين الله أحق أن يقضى) فإذا كنا في حقوق الآدميين نقول له: يضمن إذا قصر. فما بالك بحق الله عز وجل الذي هو أجل وأعظم؟!

    فينبغي أن يراعى: أن من وقف في هذا المكان الخارج عن حدود مزدلفة فليس بمزدلفة، أما لو أنك صليت الفجر ووقفت في أي موضع من مزدلفة، فقد وقفت في المشعر الحرام وذكرت الله فيه، أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ومن جميع المسلمين.. والله تعالى أعلم.

    حجية الإجماع

    السؤال: معلوم أن الإجماع أحد أدلة الشرع، ولكن -كما تعلمون- أن انعقاد الإجماع المنضبط لا يكاد يقع بعد عهد الصحابة، ولا يخفاكم قول الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فهو كاذب. وقول العلماء: إن في حكاية ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما الإجماع فيه نظر. وبناء على ذلك: هل الإجماع الذي يحكى في كتب العلماء لا يعتبر باعتباره إجماعاً غير منضبط؟ وهل يرى فضيلتكم أن اتفاق العلماء في المجمع الفقهي في العصر الحاضر يعتبر إجماعاً وحجة؟

    الجواب: الإجماع حجة، قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] فتوعد الله من ترك سبيل المؤمنين، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحتجون بإجماع من قبلهم، فيحتجون بما كان على عهد أبي بكر وعهد عمر فيقولون: فعله النبي صلى الله عليه وسلم وفعله أبو بكر والصحابة معه. فيحتجون بذلك.

    أما مسألة من ادعى الإجماع:

    أولاً: الإجماع: اتفاق جميع مجتهدي الأمة في عصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أي حكم شرعي.

    فهو من حيث الأصل اتفاق جميع المجتهدين، إلا أنه قد يتعذر ضبط الجميع، وإنما المراد اشتهار المسألة ونص العلماء عليها في كتبهم وتناقلهم، وهذه الكتب مشهورة معروفة ولا يعرف من أنكرها أو خالفها؛ لأنه لو وجدت دواعٍ للنقل والبواعث على النقل موجودة ولم يوجد من ينقل عنه المخالفة دل ذلك على عدم الوجود غالباً؛ لأن غالب الظن يحتكم إليه.

    فنحن نقول: اعلم رحمك الله أن الإجماع حجة، وقول الإمام أحمد : من ادعى الإجماع فقد كذب. على حالتين:

    إما أن يكون مراده رحمه الله شيئاً خاصاً، بمعنى أن قوله: من ادعى الإجماع. يعني به الإجماع بكل شخص من الأمة بغض النظر عن كونه مجتهداً أو غير مجتهد، فهذا صحيح؛ لأنه لا يمكن اتفاق كل الأمة وإجماع كل الأمة، وهذه عبارات تأتي عن بعض الأئمة يقصد منها المصطلحات الخاصة، يعني: من ادعى الإجماع بغير المصطلح الخاص -وهو اتفاق العلماء- فقد كذب؛ لأنه لا يستطيع إثبات أن كل الأمة أجمعوا على ذلك، وقد كان الإمام أحمد رحمة الله عليه كإخوانه من الأئمة، لكن له مواقف عجيبة بديعة في الورع، فكأنه يقول: يا من تحكي الإجماع! ينبغي أن يكون عندك ورع، أي: لا تعتقد أن الأمة كلها أجمعت. وليس المراد أن الإجماع ليس بموجود؛ لأنه هو نفسه احتج بالإجماع، ولا يختلف اثنان أن مذهب الإمام أحمد على أن الإجماع حجة، ونص الكتاب والسنة لم يخالفه رحمة الله عليه، بل إنه لما ذكر المساقاة والمزارعة حكى فيها إجماع الصحابة ومن قبلهم.

    بل الإمام أحمد بن حنبل نفسه رحمة الله عليه يحكي الإجماع ويحتج بالإجماع، فمن يعرف فقه الإمام أحمد ويعرف تماماً الإمام أحمد يعرفه بالورع رحمه الله برحمته، فكأنه ينبه كل من يحكي الإجماع ألا يعتقد أنه إجماع لكل الأمة بمعناه الحقيقي، فمن ادعى الإجماع بمعناه الحقيقي لا معناه الاصطلاحي فقد كذب، ليصبح من يدعي الإجماع ويقول الإجماع من الفقهاء عنده ورع وعنده تحفظ، وهذا هو العلم: أن العلماء يضعون أشياء اصطلاحية وأشياء أصلية مبنية على اللفظ؛ لأن الإنسان مؤاخذ بلفظه، والإمام أحمد كان يتورع حتى في اللفظ، حتى الحرام يقول: أكرهه. وكان ينفض يديه، وكان يتغير وجهه؛ أن يقول: هذا حرام. رحمته الله برحمته الواسعة، وجزاه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء، فكان على ورع عظيم رحمه الله.

    الشيء الثاني: نحن عندنا النصوص واضحة في أن الإجماع حجة، وأما مسألة أن بعض العلماء يتسامح في نقل الإجماع، فاعلم رحمك الله أن الإمام ابن عبد البر حينما ينقل الإجماع ليس من باب التساهل ولا من باب التلاعب، وينبغي لك أن تنتبه لكلمات العلماء

    وحذر الشيوخ من الإجماع عن ابن عبد البر بالسماع

    ليس المراد به أن الحافظ الإمام الحجة ابن عبد البر كان متساهلاً، كلا والله، وليس من أهل التساهل، بل هو القدم الراسخة في العلم، فهو الثبت الحجة رحمه الله برحمته الواسعة، ولكن كان له عذره؛ لأنه كان بالأندلس، ويحكي الإجماع على قدر علمه، فيخفى عليه خلاف أهل المشرق، وكان أهل المغرب يخفى عليهم خلاف أهل المشرق.

    وإما إجماع النووي فإياك إياك! فإن الإمام النووي إمام فقيه وحجة، وله باعه العظيم في حكاية الإجماع ومعرفة خلاف العلماء، ولكن من الذي يفهم كلام النووي ؟! الإمام النووي يقول: واختلف أصحابنا. ويكثر من حكاية أقوال أصحابه في خضم المسائل الخلافية، فيقول: واختلفوا هل يجوز أو لا يجوز على وجهين وعلى قولين، والأظهر والصحيح والأصح. ثم يقول: وكل هذا إذا لم يقصر، فإن قصر فبالإجماع لا يجوز. يعني: إجماع مذهبنا وإجماع أصحاب القولين، أي: ليس فيه قولان ولا وجهان أي: في مذهبه. فيأتي من لا يحسن النظر ويقول: الإمام النووي حكى الإجماع في هذه المسألة، وقد أخطأ، وقد خالف المالكية وخالف الحنابلة. وهو لا يريد الإجماع خارج المذهب، وهذه أوهام يقع فيها من لا يحسن تتبع كلام العلماء.

    أما الإجماع فإنه حجة، ولا شك أنه يحتاج إلى نوع من التحري والضبط، ولا شك أن نقل العلماء المعروفين وتواتر النقل عنهم بأن هناك إجماعاً يوجب للمسلم أن يعمل بمثل هذا الإجماع.

    وأقل ما يقال، وهو ختام ما نقوله: هب أنه ليس بإجماع، فإن أقل ما يقال فيه: إنه السواد الأعظم. فإذا جاءك مثل الإمام النووي أو الإمام ابن قدامة رحمة الله عليهما ممن اشتغل بالخلاف واكتحلت عيناه بالسهر وهو يقلب في دوواين العلم، ووجد أن كل دواوين العلم تحكي ذلك، ولم يجد مخالفة، فماذا تقول؟

    وأنت لو ذهبت إلى عالمين جليلين فاضلين وسألتهما، وكل منهما قال لك: لا يجوز، مثل أن نسأل مشايخنا نسأل الله أن يحفظهم وأن يجري أعمارهم بعفو وعافية ويجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لو ذهبت إلى عضوين من أعضاء هيئة كبار العلماء وسألتهما، وقالا: لا يجوز. فعند ذلك تحدث في نفسك طمأنينة ورضا، فما بالك بأئمة العلم ودواوين السلف الذين كانوا آية من آيات الله عز وجل في العلم والعمل، إذا كان سوادهم الأعظم على هذا القول، هل ترضى نفسك أن تشذ عنهم وتخالفهم؟؟

    فإياك.. إياك! إذا حكي الإجماع من العلماء الجهابذة الأثبات، فإنك تأمن بهذا وترتاح نفسك وتطمئن، وتتبع سبيل أمثال هؤلاء العلماء كما قال الإمام مالك ؛ فحق على كل طالب علم أن تكون فيه سكينة ووقار،واتباع لآثار من مضى قبله.

    والنقطة الأخيرة: مجمع الفقه مجمع له مكانته، وإذا اتفق العلماء في مجمع الفقه فليس بإجماع، لكنه له منزلته والفتوى منه لها منزلتها، وبالمناسبة: فإن مجمع الفقه وهيئة كبار العلماء بالتتبع والمعرفة أنهم لا يبحثون مسألة ولا يفتون في مسألة ولا يسقط قرار إلا بعد تعب شديد في تحري المسائل وتتبعها، وسؤال أهل الخبرة، وأقول: إياكم أن تظنوا أن هذه الفتاوى التي تصدر من هيئات كبار العلماء والمجامع الفقهية أنها سهلة، أحياناً بعض المسائل تدرس إلى ما يقرب من عشرة أشهر، وقد تطول إلى اثني عشر شهراً، وترجع وتؤخر لاستكمال النظر فيها، رزق الله هذه البلاد علماء عرفوا بالصلاح والخير، ووضع الله لهم القبول ووضع الله لهم الثقة بين الناس، فنسأل الله العظيم أن يوفقهم وأن يسددهم، وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

    وهذه ذمة على كل مسلم: أن يدعو لهم؛ لأن هؤلاء هم الذين يحملون الخير لهذه الأمة، ويحفظون ثغوراً عظيمة، فيكثر من الدعاء لهم، ويحسن الظن بهم، ويوثق في أقوالهم.

    ونسأل الله العظيم أن يرزقنا حبهم، وأن يجمعنا بهم في دار كرامته يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ [الشعراء:88] * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89].

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755949927