إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الحجر [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أبواب الفقه المشهورة: باب الحجر، وهذا الباب متضمن لأسرار وحكم عظيمة، وهو من محاسن الشريعة التي تحفظ مصالح الأفراد والجماعات، وتحفظ الحقوق لأهلها، حتى ولو تطلب الأمر منع شخص من التصرف في ماله على تفصيل في أحكام المفلس.

    1.   

    تعريف الحجر ومشروعيته

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الحجر]

    الحجر في لغة العرب: المنع، يقال: حجره عن الشيء، إذا منعه وحال بينه وبين الوصول إليه، ولذلك سمي الحِجرُ حِجراً؛ لأنه يمنع الطائف بالبيت من الدخول إلى هذا الموضع الذي فيه جزء من البيت لا يصح الطواف إلا باستيعابه، وسمي العقل حجراً؛ لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي الأمور التي لا تليق به كما قال تعالى: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:5] أي: لذي عقل يمنعه ويحجره ويحول بينه وبين ما لا يليق به.

    وأما في الاصطلاح: فهو منع نفوذ التصرف في الأموال؛ فالحجر في الشرع إذا أطلق فالمراد به الحجر في التصرفات المالية، بمعنى: أن من يُحكم عليه بالحجر لا ينفذ تصرفه في أمواله لا ببيع ولا بشراء ولا بهبة ولا بنحو ذلك من التصرفات، بل يكون عليه ولي ينظر الأصلح والأحظ في هذه المعاملات.

    الدليل على مشروعية الحجر والحكمة منه

    الأصل في مشروعية الحجر أن الله سبحانه وتعالى قال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] فحرم الله عز وجل علينا تمكين السفهاء من الأموال؛ لأنهم لا يحسنون التصرف فيها، وإذا تصرف السفهاء في أموالهم بذَّروا وأسرفوا، وعندها تضيع الأموال وتحصل الخصومات والنـزاعات بسبب البيوع التي لا تكون على السنن، ومن هنا حكمت الشريعة بالحجر. والناس في التصرف في المال على قسمين:

    - قسم منهم رزقه الله حسن النظر وحسن التصرف، فإذا أعطاه الله المال اتقى الله في المال، فأحسن التصرف فيه من جانبين:

    الجانب الأول: من ناحية الدين: فيحفظ المال عن حرمات الله أن ينفقه في معاصي الله، وكذلك ينفق المال في طاعة الله، فهذا رشيد في دينه، فالرشد في المال من ناحية الدين أن يحفظه عن محارم الله عز وجل، وأن ينفقه في وجوه الخير التي ترضي الله عز وجل.

    وأما رشد الدنيا: فإنه يكون رشيداً في ماله من ناحية دنيوية إذا أحسن النظر، فأحسن الأخذ لنفسه والإعطاء لغيره، فيشتري الأشياء بقيمتها التي تستحقها، ويبيع الأشياء بقيمتها التي تستحقها ولا يغبن.

    وكذلك أيضاً من الإحسان في التصرف في الدنيا ألا يسرف في المباحات، وإنما يسعى في مصلحة ماله بحفظه وتنميته ورعايته وصيانته، ويكون بذلك على السنن.

    هذا بالنسبة لرشد الدين والدنيا، فهذا النوع من الناس أموالهم محفوظة ولهم الحق في النظر في أموالهم؛ لأن من ملك مالاً ملكاً شرعياً فهو أحق بالتصرف فيه، ولا يحال بينه وبين التصرف فيه بالأصلح.

    أما القسم الثاني من الناس: فهم الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم، وهؤلاء يكون سبب عجزهم عن حسن التصرف إما الصغر أو ضعف العقل كالمجنون أو السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله، فهؤلاء شرع الله عز وجل أن يحجر عليهم، بمعنى: ألا نمكنهم من التصرف في أموالهم.

    وإذا حُجر عليهم يقام عليهم شخص ينظر في مصالحهم، فالأيتام إذا توفي والدهم وترك لهم أموالاً؛ فإن هذه الأموال لو مكنا الأيتام منها لأضاعوها، فصغير السن ربما جاءه شخص وبكى عنده واستعطفه فأعطاه جميع ماله، ولربما جاءه شخص وأثنى على سلعة ما ورغبه في شرائها فأعطاه ما لا يعطى في تلك السلعة، فليس عنده من العقل والإدراك وحسن النظر ما يمكنه من وضع المال في موضعه.

    فشرع الله أن يمنع هؤلاء من التصرف، والتصرف يكون بالقول كقوله: بعت واشتريت ووهبت وتصدقت ونحو ذلك، وهذا كله لا ينفذ، من ناحية القول ومن ناحية الفعل، كأن يعطي بيده لأحد، فدلالة الفعل هذه تنـزل منـزلة دلالة القول كما بينّا في البيوع في بيع المعاطاة.

    وأياً ما كان فالذي يهمنا أن الناس على قسمين:

    - قسم منهم يحسن النظر في أمواله.

    - وقسم منهم لا يحسن النظر في أمواله.

    والشريعة الإسلامية أعطت كل ذي حق حقه، فمن رزقه الله حسن النظر في ماله يقوم على ماله، وهو أحق به كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) فجعل حرمة مال الإنسان كحرمة دمه.

    وأما القسم الذي لا يحسن النظر فيه فالمصلحة تقتضي الحجر عليه.

    وقد يسأل سائل أو ترد شبهة عليك ويقول: إن الشريعة شريعة يسر ورحمة، وفي الحجر على الناس تضييق وحرج، فإما أن تكون شريعتكم شريعة عسر وليست بشريعة رحمة -حاشاها- وإما أن يكون الحجر غير مشروع، فهو يلزمك بهذه الشبهة، ويقول: أنتم تقولون: إن شريعتكم شريعة يسر ورحمة -وهذا صحيح- وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] لكن الحجر فيه تضييق وعسر، ومنع لليد أن تطلق وأن تتصرف في مالها.

    والجواب أن يقال: إن الشريعة كما ذكرتم شريعة يسر ورحمة، ومن اليسر والرحمة الحجر على الناس؛ لأن الصغير إذا مكن من ماله وهو صغير؛ أتلف المال وندم عند كبره، فيتعذب بفوات ماله وضياع إرث أبيه عليه، فرحمةً به يحفظ ماله.

    والمجنون لو مكن من البيع والشراء والأخذ والعطاء في ماله لأتلف المال وأفسده، فمن الرحمة أن يحجر عليه.

    إذاً أولاً نقول: لا نسلم أن الحجر تضييق بل إنه رحمة؛ لأنه يحفظ الأموال، فهو رحمة من جهة حفظ المال.

    الوجه الثاني: لو سلمنا -فرضاً- أن الحجر فيه تضييق وحرج، فإن الحرج بإطلاق أيدي السفهاء ومن لا يحسن النظر في ماله أعظم من الحجر عليه، والشريعة ترتكب أخف الضررين.

    فنسلم لهم ونقول: نعم، إن الحجر فيه تضييق وفيه مشقة على الناس، وأشق من ذلك أن يمكن من لا يحسن النظر في ماله أن يتصرف في المال فمفسدة ذلك أكثر.

    وتوضيح ذلك: أنه لو أطلقت يد من لا يحسن التصرف في ماله لحدثت النـزاعات بين الناس؛ فالصبي يذهب ويشتري ويبيع، فيأتي وليه وينازع من اشترى أو ابتاع منه، وعندها تحدث بين الناس الخصومات والنـزاعات، فالحرج بإطلاق أيدي هؤلاء أعظم من الحرج بالحجر عليهم، والشريعة ترتكب أخف الضررين، هذا بالنسبة لمشروعية الحجر.

    1.   

    أسباب ودواعي الحجر

    الحجر له سببان:

    السبب الأول: أن تحجر على الإنسان لمصلحة نفسه.

    والسبب الثاني: أن تحجر عليه لمصلحة غيره.

    فالحجر على الإنسان لمصلحة نفسه: يشمل اليتيم والمجنون والسفيه، فإن كلاً من اليتيم والمجنون والسفيه إذا منعته من التصرف في ماله فصار لا يبيع ولا يشتري إلا عن طريق وليه الذي ينظر فيه، فإنما قصدت حفظ ماله عليه، فالمصلحة عائدة إليه.

    وهناك نوع ثانٍ من المحجور عليهم: وهم الذين يحجر عليهم لمصلحة غيرهم، وهذا يشمل أنواعاً منهم:

    المفلس: وهو الشخص الذي تكون ديونه أكثر من رأس ماله، كرجل عليه دين مليونان، ورأس ماله في تجارته نصف مليون أو مليون أو مليون ونصف، فمثل هذا إذا طلب غرماؤه أن يحُجر عليه -وكان الدين حالاً- حجر عليه، فيحجر عليه في التصرف في ماله، ويبيعه الحاكم في دينه، فمثل هذا المفلس حجرنا عليه ومنعناه من التصرف في ماله لمصلحة الغرماء أصحاب الديـون وهم أصحاب الحقوق.

    النوع الثاني ممن يحجر عليه لمصلحة غيره: مثل المريض مرض الموت، فإن الإنسان إذا مرض مرض الموت أحل الله له أن يتبرع في حدود الثلث من ماله، والزائد عن الثلث يستأذن فيه الورثة، فلا يحق له أن يتصرف في الثلثين الباقيين بالصدقة والهبة والعطية إلا بإذن ورثته؛ لأن سعداً -رضي الله عنه وأرضاه- قال: (يا رسول الله! إني كما ترى -يعني: أرى أن المرض قد اشتد بي- وليس لي وارث إلا ابنة -يعني: بنتاً- أفأوصي بمالي كله؟ قال: لا. قال: أفأوصي بنصفه؟ قال: لا. قال: أفبثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير)، فأحل له أن يتصدق ويوصي بثلث المال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم) أي: إن المسلم عند حضور الأجل وفي مرض الموت يتصرف في ماله في حدوث الثلث.

    والسبب في هذا: أن الرجل لو حضرته المنية وأطلق له التصرف في المال لربما انتقم من ورثته، وربما تصدق بجميع ماله؛ فترك الورثة فقراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) .

    لأنك إذا تركت المال لهم وقصدت بذلك حفظهم عن الحرام، وقصدت بذلك القيام بحقوقهم عليك؛ فإن الله يأجرك على ذلك، وتكون صدقة منك على ولدك، وإعطاء الصدقة للقريب أفضل من إعطائها للغريب.

    وعلى هذا: يحجر على المريض مرض الموت أن يتصرف في ماله، وإنما يسمح له في حدود الثلث، والحجر يكون في الثلثين الزائدين، قال الناظم:

    وزوجة في غير ثلث تعترض كذا مريض مات في ذاك المرض

    وهذا على مذهب المالكية من أن الزوجة تعترض في الزائد من تصرفه عن الثلث.

    وأما بالنسبة للنوع الثالث ممن يحجر عليه لمصلحة الغير: العبد المملوك، فإنه بحكم الرق المضروب عليه بناءً على الكفر حُجر عليه التصرف في ماله وأصبح المال ملكاً لسيده؛ لأن حديث ابن عمر الذي تقدمت الإشارة إليه غير مرة أخلى يده عن الملكية.

    فهذا يُحجر عليه لمصلحة سيده، والخلاصة: أنه إما أن يحجر على الشخص لمصلحة نفسه أو يحجر عليه لمصلحة غيره.

    ولا شك أن منع السفهاء من التصرف في مالهم له عواقب حميدة على المجتمع، فإن الأموال إذا حفظت عن الإهدار والإسراف؛ فإن ذلك يعود بالخير على الناس أفراداً وجماعات.

    1.   

    أحكام المفلس

    حكم الرجل المعسر إذا لم يقدر على وفاء دينه

    قال رحمه الله تعالى: [ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه لم يطالب به].

    الرجل المعسر الذي ليس عنده مال يسدد به ديونه لا نطالبه أن يسدد؛ لأننا لو حكمنا بمطالبته وبوجوب أن يسدد كلفناه ما لا يطيق وليس عنده مال، كرجل صاحب عائلة أخذ مالاً من صاحب بقالة في إطعام أولاده، وافتقر وأصبح مديوناً لصاحب البقالة بألفٍ -مثلاً- فجاء صاحب البقالة وقال: أعطني مالي. فقال: ما عندي. فرفعه إلى القاضي، فنظر القاضي، فإذا به معسر وليس عنده ما يسدد به صاحب الدين، إذا ثبت هذا؛ فإن القاضي يقول لصاحب الدين: أنظر أخاك إلى يسر وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280] فأمرنا الله عز وجل أن ننظر المعسر.

    ومن أحب القربات وأعظمها عند الله ثواباً وأحسنها عاقبة ومآلاً، وصاحبه في صلاح حال في دينه ودنياه وآخرته: أن ييسر على المعسر، ويغفر له، فيتجاوز عن دينه أو يخفف عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم فضّل هذا العمل وأخبر أن الله عز وجل ييسر على صاحبه فقال: (ومن يسر على معسر؛ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) وقال: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فمثل هذا لا يضغط عليه ولا يطالب بما ليس في يده.

    قوله: (وحرم حبسه) لأنه شيء ليس بيده، وهو ليس برجل مماطل عنده قدرة، أما لو كان رجلاً عنده قدرة؛ فإن القاضي يحبسه، ويقول له: سدد الناس، فإن امتنع من السداد باع من ماله ما يسدد به دينه.

    حكم المفلس إذا كان ماله قدر دينه أو أكثر

    قال رحمه الله: [ومن ماله قدر دينه أو أكثر لم يحجر عليه]

    هناك صور للمديونين:

    الصورة الأولى: أن يكون دينه أقل من ماله.

    الصورة الثانية: أن يكون دينه مساوياً لماله.

    الصورة الثالثة: أن يكون دينه أكثر من ماله.

    هذه ثلاث صور.

    أن يكون دينه أكثر من ماله: كرجل عليه دين مائة ألف، والأموال التي عنده من بيت وسيارة وأمور أخرى زائدة عن حاجته الأصلية تقدر بخمسين ألفاً، فهذا دينه أكثر من ماله.

    وأما من كان عليه دين مائة ألف، وعنده مال بمائتين أو ثلاثمائة ألف، فماله أكثر من دينه.

    ومن ساوى دينه ماله، كرجل عليه دين مائة ألف، وماله الذي عنده يساوي مائة ألف، هذه ثلاث صور.

    فأما الذي دينه أقل من ماله؛ فهذا لا يحجر عليه، بل يطالبه القاضي بالسداد بشرطين:

    الشرط الأول: مماطلته وامتناعه.

    والشرط الثاني: شكوى الغرماء.

    فالشخص الذي عليه دين أقل من ماله، بمعنى: أنه قادر على السداد، وامتنع عن السداد، واشتكي إلى القاضي، فإن القاضي يطالبه بالسداد ويفرضه عليه إذا كان الدين حالاً وطالب الغرماء.

    كرجل أمهل رجلاً إلى نهاية شهر صفر وكان له عليه عشرة آلاف، فلما انتهى شهر صفر كان عنده عشرون ألفاً، فقال: يا فلان! سددني، قال: ما أسددك، انتظر ليس عندي شيء، فهو إما أن يكذب -والعياذ بالله- فيقول: ليس عندي شيء وهو عنده، أو يقول: انتظر وهو قادر على السداد، فلما ماطل رفعه إلى القاضي، فلما اشتكاه إلى القاضي استدعاه القاضي، وتبين أن أجل الدين قد حل -لأنه لو لم يحل أجل الدين كأن يكون إلى نهاية السنة فليس من حقه أن يطالبه، وليس من حق القاضي أن يلزمه بالسداد قبل الأجل- فإذا حل الأجل واشتكى صاحب الدين؛ خيره القاضي بين أمرين:

    إما أن يسدد، وإما أن يبيع من ماله ما يسدد به أصحاب الدين.

    وبعض العلماء يقول: يحبسه ويسجنه حتى يسدد للناس حقوقهم.

    قوله: (لم يحجر عليه وأمر بوفائه)

    هذا إذا كان دينه أقل من ماله (لم يحجر عليه)، يعني: لم يمنع من التصرف في أمواله، ويترك في تجارته وبيعه وشرائه كما هو، ولكن يأمره القاضي بالسداد بالتي هي أحسن، فإن سدد فالحمد لله، وإذا لم يسدد؛ وعظه وزجره وذكره بالله، فإذا طالب الغرماء حبسه حتى يسدد للناس حقوقهم، والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم يبيح لومه) فدل على أن من منع الناس حقوقهم وهو قادر على السداد، وسأله الناس حقوقهم ولم يعطهم إياها؛ فإنه يعتبر ظالماً، والمظلوم ينصر من ظالمه، والقضاء جعل لنصرة المظلوم من ظالمه.

    قال رحمه الله: [فإن أبى حبس بطلب ربه].

    إذاً الشرط الأول: أن يكون الدين قد حل.

    والشرط الثاني: أن يكون عنده السداد.

    والشرط الثالث: أن يطلب أو يشتكي أصحاب الدين.

    قال رحمه الله: [ فإن أصر ولم يبع ماله؛ باعه الحاكم وقضاه]

    قلنا: إن سدد فلا إشكال، وإن امتنع من السداد دعاه القاضي وسأله أن يسدد، وذكره بالله، فإن امتنع سجنه، فإن سجنه يوماً ويومين وثلاثة فتضرر أصحاب الحقوق، فإنه يقول له: إذا لم تبادر بسدادهم، سأبيع من مالك ما أسدد به دينك، فلم يبق إلا هذا يلزم به ويكره عليه، ويؤخذ من ماله قهراً، وهذا بيع بالإكراه، لكنه بيع بإكراه بحق، وقد بينّا أن الإكراه إذا كان بحق سرت عليه الأحكام الشرعية ولا يعتبر إكراهاً موجباً لرفع الحكم.

    وعلى هذا: فإنه إذا امتنع وأصر بعد سجنه ومنعه، فما على الحاكم إلا أن يقوم ببيع ماله على قدر السداد، فمثلاً: لو كان عنده سيارة قيمتها عشرة آلاف ريال، وعنده عمارة قيمتها -مثلاً- مليون، ودينه عشرة آلاف ريال، فلا ينصرف إلى العمارة ويبيعها عليه، وإنما يبيع سيارته التي تفي بسداد دينه.

    وينبغي للقاضي عند حكمه بالبيع ألا يضر بالمدين، بل يؤدي لصاحب الدين دينه، ولا يضر بالمدين كما قال تعالى: فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279] وما شرع لحاجة فإنه يقدر بقدرها، فإذا كان الدين بعشرة آلاف ريال فإننا لا نبيع من ماله إلا بحدود عشرة آلاف ريال، والقاعدة الشرعية تقول: (ما جاز لضرورة وحاجة يقدر بقدرها) فلا يباع إلا بقدر الدين.

    قال رحمه الله: [ولا يطالب بمؤجل]

    هذا من الشروط التي ذكرناها، بمعنى: أنه لو رفعه إلى القاضي واشتكاه، فأول ما ينظر إليه القاضي هل له عليه ديناً فعلاً، فإذا ثبت وأقر أن له عليه ديناً؛ يسأله: هل حل أجل الدين أو لا؟ فإن قال: حل أجل الدين، جرت الأحكام التي ذكرناها، وإن قال: الدين إلى نهاية السنة؛ فإنه يقول لصاحب الدين: اذهب ولا تطالبه إلا في نهاية السنة؛ لأن الذي بينك وبينه من العقد والشرط أن تؤجله، ولا يجوز لك أن تعاجله وتأمره بالتعجيل وقد رضيت بالتأجيل.

    فلا يطالب المدين بتعجيل الدين ما دام أن الدين مؤجل إلا إذا رضي بطيبة نفس منه.

    حكم المفلس الذي لا يفي ماله بما عليه حالاً

    قال رحمه الله: [ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً؛ وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم].

    قوله: (ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً) هذا النوع من الناس -كما ذكرنا- يدخل في الصورة الثالثة، حيث يكون ماله أقل من دينه، وقوله: (لا يفي بما عليه حالاً) أخرج ما لو إذا كان مآلاً.

    وإذا كان الدين أكثر من المال ففيه تفصيل:

    - إما أن يكون الدين حالاً.

    - وإما أن يكون مؤجلاً.

    إن كان حالاً فهذا الذي نبحثه، وإن كان مؤجلاً فلا نحجر عليه، ونتركه حتى يأتي الأجل.

    إذاً الصورة الثالثة: أن يكون الدين أكثر من المال، ومثاله: رجل عليه دين مليونان، وماله الذي عنده يساوي مليوناً؛ فحينئذٍ نقول: هل الدين الذي عليه حال أو مؤجل؟ إن قالوا: كله مؤجل، نقول: انتظروا إلى الأجل، وإن قالوا: بعضه معجل وبعضه مؤجل؛ نظرنا في المعجل، فإن كان أقل -مثلاً- لو قلنا: عليه مليونان والذي عنده مليون؛ فقالوا: بعض المليونين معجل وبعضها مؤجل، فما الحكم؟

    ننظر في المعجل، إن كان المعجل أكثر من المليون حينئذٍ يأتي الحكم بالحجر، وإن كان المعجل أقل من المليون لم يحجر عليه وإنما يطالب بالسداد في حدود المعجل، ويكون حكمه حكم الأول؛ لأن المعجل دخل تحت القسم الأول.

    وتوضيح ذلك أكثر: أن في الصورة الثالثة يكون الدين أكثر من المال، ومثاله: شخص عليه ألفان وعنده مائة، أو عليه عشرة آلاف وعنده خمسة آلاف ونحو ذلك، فنقول: إذا كان الدين أكثر من رأس ماله، نظرنا: إما أن يكون الدين معجلاً، فقد حل الدين وطولب به، وإما أن يكون مؤجلاً لم يحل، فإن كان الدين كله لم يحل فلا إشكال، وإن كان الدين كله قد حل حُجر عليه، وإن كان بعضه قد حل وبعضه لم يحل؛ فحينئذٍ ننظر في الذي حل، فإن كان أقل من المال؛ اندرج تحت الصورة الأولى، ونقول له: سدد هؤلاء الذين وجب عليك وفاؤهم الآن.

    ملاحظة: بعض الإخوان يقول: لا تمثل بمئات الألف والمليون، وإنما مثل بالقليل حتى نفهم، لكن الواقع أن المليون والكثير يجذب الانتباه أكثر، ويكون الضبط به أكثر، حتى كان بعض مشايخنا يمثل به ويقول: لو أن سارقاً سمعنا؛ لهجم علينا ولم يجد إلا أوراقاً وكتباً.

    فالمقصود أننا لو قلنا: إن عليه ديناً مقداره مائتان وعنده مائة ريال، أي: أن الدين أكثر من رأس المال، فنقول: هذه المائتان إذا كانت مؤجلة إلى نهاية السنة فليس من حقهم أن يطالبوه؛ لأن القاعدة أنه ليس من حق صاحب الدين أن يطالب المديون قبل الأجل؛ لأنهما اتفقا، والمسلمون على شروطهم.

    وإن كان الدين كله قد حل، مثلاً: رجل جاء يشتكي في القضاء ويقول: فلان لي عليه مائتان، وقد اتفقنا على أن يعطيني إياها في نهاية صفر، وإلى الآن لم يعطني، فهنا قد حل الدين وهو أكثر من المال وقد طالب الغريم به، فإن هذا يحجر عليه؛ لأنه استوفى الشروط، لكن إن كان البعض قد حل والبعض لم يحل، كرجل عليه مائتان، مائة منها قد حلت في صفر، ومائة منها تحل في نهاية العام، فتصبح المائة الحالة هي الدين في المال.

    فإن كان الدين قابل المال أو كان أقل من المال طولب بالسداد، فيسري عليه حكم الحالة الأولى ونقول له: سدد، فإذا قال: ما أسدد. صار مطل غني، فيحبسه القاضي، فإن أصر يبيع عليه. وهذا نفس الترتيب الأول في المائة المعجلة والتي قد حلت.

    أما المائة التي لم تحل بعد فإنه يمكن في نهاية السنة أن يصيبه غنى، ونحن لا نبحث إلا في الحاضر الذي فيه حق المطالبة، فإذا حل الأجل وكان الدين أكثر من المال، وطالب أولياؤه الحجر عليه حُجر عليه، وهذا هو النوع الأول ممن يحجر عليه وهم المفلسون، والمصنف -رحمه الله- لما جاء في باب الحجر قدم الذين يحجر عليهم لحق غيرهم على الذين يحجر عليهم لحق أنفسهم، وحينئذٍ يرد السؤال:

    المعروف أن الكلام عن الحجر على السفيه واليتيم ألصق بباب الحجر، وبعض الفقهاء يقدم الكلام في الحجر على الأيتام والصغار على الحجر على المفلسين، ولكن لماذا قدم الحجر على المفلس على الحجر على الأيتام والسفهاء والصبيان ونحوهم؟

    والجواب: أن الباب الذي تقدم هو باب الصلح، وهو يقع في المنازعات، والحجر في المنازعات، وإذا وقع فإنه يقع بين الغرماء وأصحاب الدين، ولذلك ناسب بعد نهاية باب الصلح أن يذكر مسائل اختلاف الغرماء مع أصحاب الديون، وعلى هذا يقدم الكلام عن المفلس من هذا الوجه.

    وقوله رحمه الله: (ومن ماله لا يفي بما عليه حالاً) هذا واضح بسؤال الغرماء، وقد ذكرنا التفصيل فيما إذا كان الدين أكثر من المال، وإذا كان المال أكثر من الدين، والسؤال: إذا كان المال مثل الدين، فهل نعطيه حكم الحالة الأولى أو الحالة الثانية؟

    الخلاف بين العلماء -رحمهم الله- حاصل هنا، فبعض العلماء يقول: من كانت ديونه تساوي رأس ماله؛ فإنه يطالب بالسداد ويأمره القاضي بالسداد وتسري عليه أحكام الحالة الأولى ولا يحجر عليه، وبعض العلماء يقول: إذا ساوى الدين رأس المال فإنه يحجر عليه، وهذا ما درج عليه المصنف.

    لكن ما فائدة الخلاف؟

    فائدة الخلاف: لو أن صاحب شركة -مثلاً- رأس ماله فيها مليون ريال، وعليه ديون تساوي مليون ريال، فإذا قلنا: نحجر عليه، فحينئذٍ في هذه الحالة تجمد الشركة وتعطل مصالحه من أجل سداد الدين، وتباع الشركة سداداً لدينه، وإن قلنا: لا يحجر عليه، فإن بإمكانه أن يتسلف المليون ويسدده، وتبقى الشركة كما هي.

    فالحجر فيه ضرر، وليس بهذه السهولة، فإن التصرف حتى في الصدقات والهبات والبيع والشراء -كما سيأتي- كل تصرفاته المالية تجمد، وهذا يدل على قوة الشريعة الإسلامية وأنها لا تتساهل في الحقوق، ويدل على أهمية رد الحقوق لأهلها، وأنه لا يمكن أن يترك الحبل على الغارب للمتلاعبين بحقوق الناس، فهو مهما كان في شركته وماله متى ما خاطر بأموال وحقوقهم فلا بد أن يوقف عند حده.

    فإذاً: إذا كان دينه يساوي ماله، فالأوجه والأقوى من حيث الأصل ألا يحجر عليه، فإذا كان بإمكان القاضي أن يبيع ماله ويسدد غرماءه، فهذا هو الأشبه، ولذلك قال بعض العلماء: لا يحجر عليه، وإنما يعامل معاملة الصورة الأولى من أنه يطالبه بالسداد، فإن أصر حبسه، وإن أصر باع ماله سداداً لدينه.

    حكم الحجر مع اتفاق الغرماء على المطالبة به أو اختلافهم

    وقوله: (وجب الحجر عليه بسؤال غرمائه أو بعضهم).

    هنا مسألة: عندنا شخص عليه مائتي ريال، وقد حلت واستوفت الشروط، والغرماء هم: شخص له مائة وشخص له مائة ثانية، أو كان الغرماء أربعة أشخاص، كل واحد له الربع من المائتين، فإذا أثبتنا أن من كان دينه أكثر من ماله يحجر عليه واشترطنا سؤال الغرماء، ففي سؤال الغرماء لا يخلو الأمر من صور:

    الصورة الأولى: أن يتفقوا كلهم على سؤال الحجر عليه، فكلهم يأتي ويشتكي عند القاضي ويقول: نريد أن تحجر على فلان في ماله حتى يسدد حقوقنا، فإن اتفقوا فلا إشكال أننا نحجر عليه.

    الصورة الثانية: أن يطالب البعض، ويسكت البعض فلا يطالبون ولا يمتنعون.

    فهذه صورتان:

    الصورة الأولى: أن يتفقوا على المطالبة.

    والصورة الثانية: أن يختلفوا، فبعضهم يطالب وبعضهم لا يطالب، وقد يكون الذي سكت ولم يطالب لا يريد الحجر؛ لأنه في بعض الأحيان لا تطالب بالحجر؛ لأنك تعلم أن هذا الرجل حكيم في بيعه وشرائه، وأنت تنتظره إلى الموسم حتى يبيع ويشتري وينمي ماله ويسدد، فترى أن من المصلحة ألا يحجر عليه، فلا توافق على الحجر؛ لأنك تعلم أنه سيأتي بضرر أكثر؛ لأنه إذا جمدت أمواله، فسيباع الحاضر الموجود، وقد يكون ربع الدين أو نصفه، بيد أنه لو نمى ماله واستثمره ربما يصل به إلى سداد دينه وربما زاد، فيكون من المصلحة السكوت، وقد يسكت؛ لأن ما عنده لا يضره حجر عليه أم لا.

    فأياً ما كان سكوت البعض سواءً كان معارضة أو كان لعدم مطالبة، ففي كلتا الحالتين: يسكت البعض عن السؤال، فهل يحجر عليه أو لا يحجر؟

    القول الأول: قال بعض العلماء: إذا طالب بعض الغرماء فإنا نعتبره بالغرماء كلهم، فنحجر عليه بمطالبة البعض دون الكل كما درج عليه المصنف.

    فلو أن غريماً له خمسون ريالاً من بين دين قدره ثلاثمائة أو أربعمائة أو ألف ريال، وطلب الحجر، وثبت عند القاضي أن هذا الذي أمامه دينه أكثر من ماله؛ حجر عليه.

    وفقه المسألة عند هؤلاء: أن الشخص إذا أصبح دينه أكثر من ماله دل على أنه لا يحسن التجارة، بغض النظر عن كون الكل يشتكي أو البعض، ففقه المسألة راجع إلى أنه حينما أصبح دينه أكثر من ماله دل على فساد تصرفه، ودل على أنه لا يحسن التجارة، فيقولون: يحجر عليه بمطالبة البعض، ولا يشترط الكل.

    القول الثاني قال: لا نحجر عليه بقول البعض، حتى يكون دينهم مقابلاً لأكثر من المال أو مساوياً لماله، قالوا: وإذا طالب حينئذٍ نقبل منه، وإما إذا لم يتحقق الشرط فلا نحجر عليه.

    مثال: لو كان صاحب الخمسين يطالب، وصاحب أكثر الدين لا يطالب، والمال الذي عنده أكثر من الخمسين فإنه لا يحجر عليه؛ لأن الأصل عدم الحجر، وإذا كان الشخص له خمسون فغاية ما في الأمر أنه إذا طالب بحقه فإنه تصرف له الخمسون وينصرف، كما لو حل بعض الدين دون البعض.

    فهذا القول من حيث الأصول أشبه، والقول الأول من حيث النظر أقوى، وكلا القولين له وجهه، وإن كان القول الثاني أقرب للأصول كما ذكرنا.

    لكن لو أن البعض طالب وسكت البعض، فقال بعض العلماء: إذا طالب البعض وسكت البعض؛ فإنه في هذه الحالة يُحْجر عليه في حدود دين البعض كما ذكرنا، وأما على القول الثاني فيحجر عليه بحق الجميع.

    حكم الإعلان والإشهار عن حجر المفلس

    قال رحمه الله: [ويستحب إظهاره]:

    ويستحب إظهار الحجر، فالمفلس الذي ثبت عند القاضي أنه مفلس يطاف به في الأسواق ويعلن ويشهَّر به حتى يحذر الناس التعامل معه، وهذا لمصلحة الجماعة فقال: (يستحب إظهاره).

    وجرى على ذلك العمل عند أهل العلم رحمهم الله، ومن غرائب ما ذكروا عن القضاة رحمة الله عليهم: أنه حجر على رجل في ماله، وكان تاجراً، فحجر عليه وأمر أن يطاف به في الأسواق، ويقال: إن فلاناً ثبت عند القاضي فلسه، وإن القاضي يعذر إليكم -لأن القاضي إذا أعلن للناس، ثم جاء رجل بعد ذلك يشتكي ويقول: بعت أو اشتريت فإنه لا يتحمل إلا مسئولية نفسه.

    والسبب في الإظهار والإعلان: أنه إذا جاء بعد الحكم عليه والحجر عليه أحد يطالب بشيء فإنه يتحمل مسئولية نفسه لحصول الإعذار- فطيف به كل اليوم يُعلَن عنه أن هذا سفيه لا تعاملوه، وأن هذا لا يحسن النظر في ماله، وعندما رجع إلى بيته قال له صاحب الدابة: أعطني حقي، قال: وما الذي كنا فيه من صباح اليوم؟!

    فصاحب الدابة يطالب بقيمة الركوب عليها؛ لأنه طيف به على الدابة -وبعض العلماء يقول: إنه في هذه الحالة يستحق المال من المحجور- فقال له: أعطني مالي. يعني: أنت كنتَ راكباً على دابتي، وهذه إجارة يوم لا بد أن تعطيني إياها، فقال له: ما الذي كنا نقوله من صباح اليوم؟! يعني: طيلة اليوم والقاضي يقول: لا أحد يعامله، وأن من عامله يتحمل مسئولية المعاملة، فأغفله وأعرض عنه.

    فالشاهد: أنهم كانوا يطوفون به، وهذا فيه مصلحة للناس، وفي القديم كان يطاف به في الأسواق؛ لأن السوق هو الذي فيه التجار، فينتشر بين التجار أن فلاناً محجور عليه، فيتقي الناس التعامل معه، لكن الآن يمكن أن يعلن عنه ويمكن أن يشهر به عن طريق وسائل الإعلان حتى يعذر إلى الناس، فإذا تعامل معه أحد؛ فإنه حينئذٍ يتحمل مسئولية المعاملة معه.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756176464