إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب صلاة العيدين [1]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرع الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عيد الفطر وعيد الأضحى لكي يتوسعوا فيهما بالمباحات ويتقربوا إلى ربهم بالطاعات، ويشكروا الله تعالى على ما أنعم عليهم به من تسهيل صيام رمضان في عيد الفطر وسؤال قبوله، وعلى ما يسر لهم في أداء المناسك في عيد الأضحى. وقد شرع لهم الاجتماع للصلاة في هذين العيدين ليتعارفوا ويتواصلوا ويهنئ بعضهم بعضاً. وهناك شروط ومستحبات في صلاة العيد ينبغي الإلمام بها ومعرفتها.

    1.   

    صلاة العيدين وأحكامها

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة العيدين].

    هذا الباب يقصد المصنف منه أن يبين لنا أحكام صلاة العيدين، أي: في هذا الباب سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة العيدين.

    والمناسبة في ذكره بعد باب صلاة الجمعة أن الجمعة عيد الأسبوع، والعيدان يُعتبر كل واحد منهما عيد للمسلمين يُشرع في كل عام مرة.

    والعيد مأخوذ من العود، سُمي بذلك لأنه يعود ويتكرر كل عام، وبهذا قال بعض العلماء.

    وقيل: لأنه يعود بالفرح والسرور على الناس.

    وقال بعض أئمة اللغة: الأصل أن العرب تصف الشيء الذي فيه اجتماع بكونه عيداً، ولذلك يقولون: إنه سمي عيداً لاجتماع الناس فيه.

    وعبر المصنف بقوله: [باب صلاة العيدين] لأن للمسلمين عيدين لا ثالث لهما، فلم يقل: باب صلاة الأعياد، وإنما شرع الله عيدين، وصلاتين لهذين العيدين، ولم يشرع عيداً ثالثاً إلا عيد الأسبوع المعروف الذي هو يوم الجمعة، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمَّى الجمعة عيداً.

    قال بعض العلماء في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، إن قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) المراد به زكاة الفطر، وقوله تعالى: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي: كبر ليلة عيد الفطر، وقوله تعالى: (فَصَلَّى) أي: صلاة عيد الفطر، وقال بعض العلماء في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] أي: صلِّ صلاة عيد الأضحى وانحر الأضحية.

    فالآية الأولى في سورة (الأعلى) تدل على مشروعية عيد الفطر، والآية الثانية في سورة الكوثر تدل على مشروعية صلاة عيد الأضحى.

    [باب صلاة العيدين]

    أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بصلاة العيدين.

    ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان للأنصار يومان في الجاهلية يلعبون فيهما بمثابة العيد لهم، ثم إن الله أبدلهما بهذين اليومين يومي عيد الفطر والأضحى، عوضاً عما كان الأنصار عليه في الجاهلية.

    وقال بعض العلماء: إن أول صلاة للعيد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كانت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك أن افتراض الصيام كان فيها.

    حكم صلاة العيدين

    قال رحمه الله تعالى: قوله: [وهي فرض كفاية] أي: صلاة العيدين فرض كفاية، والفرض إما عيني وإما كفائي، والعيني: هو الذي يجب على كل مكلف بعينه كالصلاة، فإنه يقوم بها المكلف بعينه ويُخاطب بها بعينه إن توفرت فيه الشروط التي تدل على لزوم الصلاة عليه، وأما فرض الكفاية فإنه يُعتبر وجوبه متعلقاً ببعض المكلفين، بحيث لو قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين.

    فقال المصنف: [وهي فرض كفاية] أي: صلاة العيدين، وهذه المسالة فيها ثلاثة أقوال للعلماء أصحها وأقواها -كما هو مذهب الحنفية وبعض المالكية، وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله- أنها فرض عيني، أي: من الفروض اللازمة على المكلف عيناً.

    والدليل على لزومها آية الكوثر، فإن المراد بها عيد الأضحى بلا إشكال؛ لأن قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2] أمر، والأمر يدل على الوجوب واللزوم، ومن أقوى الأدلة على ذلك حديث: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحُيَّض، وقال: أما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين -وفي رواية:- ودعوة الناس) .

    قالوا: فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر العواتق وذوات الخدور والحيض أن يخرجن يؤكد لزومها وفرضيتها وهذا القول من القوة بمكان، أي أنها واجبة ولازمة، ولا يجوز للإنسان أن يتخلف عنها إلا بعذر.

    وقوله: [فرض كفاية] أي: إذا صلَّى بعض المكلفين سقط الإثم عن الباقين، بحيث لو صلَّت جماعة سقط الإثم عن أهل المدينة كلهم، ولو امتنع أهل المدينة ولم يصل أحد منهم صار الإثم على الجميع.

    وقوله: [إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام]

    أي: إذا ترك أهل بلد صلاة العيد قاتلهم الإمام، وذلك لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وشعائر الإسلام الظاهرة يقاتل عليها الإنسان، ولا يدل ذلك على كفره، أي: كوننا نقاتلهم لا يدل على كفرهم، ولذلك أمر الله عز وجل بقتال الفئة الباغية من المسلمين، ومع هذا لا يُحكم بكونها كافرة، فالأمر بمقاتلتهم لا يستلزم كونهم كافرين؛ لأنهم تركوا هذه الشعيرة الظاهرة من شعائر الإسلام، ويقاتلهم ولي الأمر ولا يكون قتالهم من الأفراد.

    ومن أمثلة ذلك: الأذان، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزوا قوماً انتظر حتى تحضر الصلاة، فإذا سمع أذاناً كف عن قتالهم، وإن لم يسمع ركب القوم وقاتلهم، فهذه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلو أن أهل بلد قالوا: لا نصلي العيد شُرِع لولي الأمر أن يقاتلهم حتى يحيوا هذه الشعيرة التي تعتبر شعاراً ظاهراً للمسلمين.

    1.   

    وقت صلاة العيدين

    قال رحمه الله تعالى: [ووقتها كصلاة الضحى]

    أي: وقت صلاة العيدين كصلاة الضحى، وصلاة الضحى يبتدئ وقتها -كما تقدم معنا- من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الضحى، والضحى يمتد إلى ما قبل الزوال، فهنا التشبيه بصلاة الضحى ابتداءً، أي: يبتدئ وقت صلاة العيدين بابتداءٍ وقت صلاة الضحى.

    والحقيقة أن الأصل في الضحى أن وقتها إنما هو مبني على صلاة العيدين، فحينما قيل: يبتدئ وقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إنما هو مبني على صلاة العيدين، وهنا كأنه تشبيه عكسي، فألحق الأصل بالفرع، وإلا ففي الواقع أن صلاة العيدين هي الأصل في أن تبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح.

    وتوضيح ذلك أنه إذا صلى المكلف الفجر، فإنه يمسك عن صلاة النافلة حتى تطلع الشمس، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمرو بن عبسة رضي الله عنه: (فإذا صليت الصبح فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت فإنها تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت فالصلاة مكتوبة مشهودة) ، فظاهره أنه بمجرد طلوعها تجوز الصلاة، فكونه عليه الصلاة والسلام تأخر وامتنع أن يُصلي العيد ويُوقِعه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح فهمنا منه أن هذا أقل ما يكون، وتوضيح ذلك أنها أثناء الطلوع بالإجماع لا تجوز الصلاة، وأثناء الغروب كذلك لا تجوز الصلاة؛ لأنه ورد في الحديث الثابت في الصحيح: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا... وذكر منها: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع..)، فلما جاء النص (حين تطلع الشمس) أصبح ردءً للنص الذي يقول: (حتى تطلع الشمس)، فيصبح الحديث الأول ناهياً عن النافلة إلى حين الطلوع، والحديث الثاني في قوله: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع) ناهياً عن النافلة أثناء الطلوع، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنها تطلع بين قرني الشيطان، فيسجد الكفار لها، وفي الحقيقة هم ساجدون للشيطان -والعياذ بالله-، فنُهِي المسلم عن إيقاع الصلاة في هذا الوقت.

    فإذا ثبت هذا فإنه قد يقال: إذا كان الوقت المصاحب للطلوع الأصل فيه عدم جواز الصلاة، فيرد فمتى يجوز به أن يُصلِّي، أي: متى ينتهي الحظر؟

    والجواب: أنَّ السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يوقع نافلة قبل أن ترتفع الشمس قيد رمح، ففهمنا من هذا أن قيد الرمح هو ابتداء الإذن بالصلاة بعد طلوع الشمس.

    وقيد الرمح. مقداره عند بعض العلماء ما يقارب سبع دقائق من ابتداء الإشراق، فهذا هو ابتداء وقت صلاة العيد إذا ارتفعت قيد رمح، ثم يستمر الوقت بعدها.

    وصلاة الضحى سميت بذلك من باب تسمية الشيء بزمانه، ومنه سميت الأضحية أضحية؛ لأنها تقع في ضُحَى يوم النحر.

    قال رحمه الله تعالى: [وآخره الزوال].

    أي: وآخر وقت صلاة العيد الزوال، والزوال: زوال الشمس.

    وظاهر العبارة أنه يجوز أن يصلي إلى أن تزول الشمس، والواقع أنه أثناء انتصاف الشمس في كبد السماء ينتهي وقت صلاة العيدين، وإذا عُبِّر بالزوال فكأنه يُنبَّه على ما قبله؛ لأنه قد تقدم معنا أن وقت انتصاف الشمس في كبد السماء لا تجوز الصلاة فيه، فلو قال: (إلى انتصاف النهار) كان أبلغ وأدق؛ لأنه هو المراد، فإنه عند انتصاف النهار ينتهي وقت صلاة العيدين.

    قال رحمه الله تعالى: [فإن لم يُعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغدِ]

    بعد أن بين رحمه الله أن الوقت يبتدئ من وقت صلاة الضحى، أي: من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال، أو إلى منتصف النهار -كما قلنا- فإنه قد يقال: لو أنهم علِموا أن اليوم يوم عيد في وقت متأخره فما الحكم؟ أي: لو أن الناس أصبحوا صائمين، ولم يعلموا إلا بعد طلوع الشمس.

    والجواب: في هذا تفصيل:

    فإن علموا بعد طلوع الشمس وقبل انتصاف النهار بحيث يسعهم أن يصلوا أفطروا وتهيأوا وصلوا، وأما إذا لم يعلموا إلا قبيل الزوال، أو قبيل انتصاف الشمس في كبد السماء، بحيث لا يتيسر للناس أن يصلوا العيد، فإنهم حينئذ يُفطرون؛ لأنه لا يجوز صيام يوم العيد، ويغدو بهم الإمام من الغد؛ لما ثبت في الحديث الحسن: (أن الهلال غُمَّ على الصحابة فلم يروه، ثم أصبحوا صائمين، ثم جاء ركب في آخر النهار. فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد رأوا الهلال الليلة الماضية، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يُفطروا، وأن يغدوا من الغد إلى المصلى)، وهذا يدل على وجوب صلاة العيد، وبناءً على ذلك يكون الحكم أنه إذا بلغهم الخبر بحيث لا يتمكنون من إيقاع صلاة العيد في وقتها، فإنه يأمرهم بالفطر يومها، ثم يغدو بهم إلى الصلاة في الغد.

    1.   

    مكان صلاة العيدين

    قال رحمه الله: [وتسن في صحراء]

    أي: وتسن صلاة العيد في صحراء، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان له مصلىً، وهو في الموضع الذي يُسمى الآن بجامع الغمامة، وهو في غرب المسجد منحرفاً إلى الجنوب، فهذا هو مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه العيدين، وصلى فيه الاستسقاء، فكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يخرج للعيد ولا يصليه في داخل المدينة؛ لما في الخروج من إظهار الفرح بهذا اليوم، وإظهار فضل الله عز وجل على العباد بخروج رجالهم ونسائهم وأطفالهم وكبارهم وصغارهم وأغنيائهم وفقرائهم، فهو أبلغ في شعور الناس بالعيد، بخلاف ما لو دخلوا المسجد الذي ألفوه في الجمعة وألفوه في صلواتهم الخمس، لكنهم عندما يخرجون إلى العراء وإلى الفضاء، فهذا أبلغ في شعورهم بهذا اليوم، فيصحبهم الشعور النفسي الذي يكون معه الشعور بفضل الله عز وجل واجتماع المسلمين، وإظهار عزة الإسلام باجتماعهم في هذا الموضع، مع ما فيه من بالغ القربة بتكلف الخروج إلى المصلى.

    فكان هديه عليه الصلاة والسلام الخروج إلى المصلى، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فكانوا يخرجون إلى المصلى رضي الله عنهم وأرضاهم، فهذه هي السنة، وهذا هو الأفضل.

    واستثنى بعض العلماء أهل مكة، فقالوا: أهل مكة الأفضل لهم أن يصلوا في الحرم لفضل المضاعفة فيه، وللشرف العظيم الذي اختص الله عز وجل به أهل مكة في هذا المسجد وهذا القول من القوة بمكان، حيث لم يحفظ أن أهل مكة على زمان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كان لهم مصلى خارج مكة، أي: لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يصلون العيدين خارج مكة، لكن المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم.

    ولو قلنا: إن السنة أن يخرجوا إلى المصلى فهنا مسائل:

    المسألة الأولى: لو صلوا داخل المدينة أو داخل المسجد، فهل تبطل صلاتهم؟

    الجواب: بالإجماع صلاتهم صحيحة، أي: إذا صلوا داخل المساجد مع عدم وجود العذر، فبالإجماع صلاتهم صحيحة، لكن فاتهم الأفضل.

    المسألة الثانية: يُشرع لهم أن يتركوا المصلى إذا وجد العذر، ولذلك ثبت عن أهل المدينة في عهد عثمان رضي الله عنه أنهم تركوا المصلى في يوم عيد كان فيه مطر، وصلوا بالمسجد؛ لأن المطر يجحف بالناس ويشق عليهم في الخروج، ولما فيه من التضرر، خاصة أن الإنسان يخرج بثياب عيده، فيكون فيه مشقة وحرج على الناس، مع ما في الطريق من الوحل، وقد جعل الله عز وجل وجود المطر رخصة في ترك الجماعة، ولذلك يقولون: إنهم يصلون داخل المساجد لما فيه من الرفق بهم.

    والشافعية رحمة الله عليهم -ويوافقهم بعض أهل العلم- عندهم تفصيل، فيقولون: لا يُوضع ضابط معين، والأفضل الصلاة في الخلاء. بمعنى: أن يكون هناك مصلى خارج المدينة، ولكن ينظر الإمام فإن وجد أن المصلى لو خرجوا إليه لحصل الضرر والمشقة الضيق على الناس صلى بهم في المسجد؛ لأنه أرفق بهم، ويكون هذا أشبه بالعذر.

    ومثل هذا لو كان خروجهم إلى البراز فيه فتن وفيه أذية وضرر، خاصة إذا كثر السفهاء وحصلت الفتن، فلو احتيط بالمساجد لصيانة النساء وحفظهن فلا حرج في مثل هذا.

    وعلى هذا يتخرج ما لو رأى الإمام فتناً دينية، أو وجد أن المصلحة أن يصلي في المسجد، فلا حرج عليه في عدم الخروج في هذه الحالة على هذا القول.

    1.   

    أحكام أخرى متعلقة بصلاة العيدين

    استحباب تقديم صلاة لأضحى وتأخير صلاة الفطر

    قال رحمه الله: [وتقديم صلاة الأضحى]

    السنة تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عجل الأضحى، فكان يصلي الأضحى والشمس على قيد رمح، ويصلي الفطر والشمس على قيد رمحين، وهذا لحكمة أشار إليها بعض العلماء، وهي أنه في الأضحى يحتاج الناس إلى ذبح الأضاحي، والسنة في الأضحية والأفضل والأكمل أن يذبح الإنسان أضحيته في أول الضحى؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك يقولون: يصيب الناس السنة بالتعجيل بحصول هذه الشعيرة التي شُرِعت في يوم عيد النحر، وأما في الفطر فالناس يحتاجون إلى وقت كاف قبل الصلاة لكي يتمكنوا من إخراج صدقة الفطر، فتؤخر الصلاة إلى قيد رمحين حتى يتسنى للإنسان أن يجد الفقراء، وأن يحسن إليهم، وأن يؤدي زكاة الفطر قبل أن ينتهي وقت زكاة الفطر.

    وبناء على ذلك قالوا: السنة في الأضحى أن يُعجَّل وفي الفطر أن يؤخر، ولكن لا يؤخر تأخير مضراً بالناس.

    ولذلك أنكر عبد الله بن بسر رضي الله عنه وأرضاه على الإمام لما تأخَّر على الناس يوم العيد، وقال: (إنا كنا في هذه الساعة قد فرغنا من الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: ما شأنه يتأخر عن الناس، وقد كنا في مثل هذا الوقت ننتهي من هذه الصلاة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إنكاراً عليه لمخالفته هدي النبي عليه الصلاة والسلام.

    قال رحمه الله تعالى: [وعكسه الفطر].

    ذلك لأن الناس يحتاجون إلى وقت كافٍ لكي يخرجوا صدقة الفطر، فإنها تنتهي بالصلاة، فإذا تأخر إلى طلوع الشمس قيد رمحين فإنه أبلغ في حصول التوسعة عليهم.

    استحباب الأكل قبل صلاة الفطر دون الأضحى

    قال رحمه الله تعالى: [وأكله قبلها وعكسه في الأضحى إن ضحى]

    أي: السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكل قبل صلاة عيد الفطر، وأن يؤخر أكله في الأضحى، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عجل فطره لكي يكون أبلغ في الخروج عن عبادة الصوم، فإنه قد ألف الناس الصوم، فكان عليه الصلاة والسلام يفطر على تمرات، فإن تيسر له أصاب التمرة والتمرتين والثلاث، فإنه فِطْر؛ لأن المراد به أن يفطر فيغدوا إلى المصلى، خاصة إذا كان إماماً، وكذلك المأمومون يُشرع لهم أن يفطروا على تمرٍ ونحوه، ويكون شهودهم الصلاة وهم مفطِرون، حتى يكون أبلغ في الامتثال والطاعة لله سبحانه وتعالى، فسبحان من أمرهم بالصيام قبل وهم اليوم مفطرون.

    ولكن السنة في الأضحى أن يؤخر فطره إلى أن يصيب أضحيته، كما هو هديه عليه الصلاة والسلام، فلا يأكل حتى ينحر أو يذبح أضحيته، ثم يأكل من هذه الأضحية.

    كراهية صلاة العيدين في الجامع بلا عذر

    قال رحمه الله تعالى: [وتكره في الجامع بلا عذر]

    أي: يكره أن يصليها في الجامع وفي المدينة بلا عذر، ومفهوم ذلك أنه إذا وُجِد العذر فلا كراهة، كما فعل السلف الصالح ذلك حينما كان في يوم العيد مطر، فصلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

    استحباب تبكير المأموم لصلاة العيد وتأخر الإمام

    قال رحمه الله تعالى: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح، وتأخر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة]

    قوله: [ويسن تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح].

    أي: يسن أن يبكر المأموم إلى صلاة العيد ماشياً بعد الصبح؛ لأن ابن عمر فعل ذلك، وغدا إلى الصلاة وبكر، وهذا أفضل لما فيه من إدراك فضيلة الصف الأول، ولما فيه من إدراك فضيلة انتظار الصلاة، وذلك أنه سيجلس في المصلى ينتظر الصلاة، وهذه زيادة قُربة، ولما فيه من عمارة الوقت بطاعة الله سبحانه وتعالى، والإقبال عليه جل وعلا، فالأفضل له أن يبكر؛ لأنه مسابقة ومسارعة إلى الخير، وذلك مندوب إليه.

    فيغدوا إلى الصلاة مبكراً مكبراً لله عز وجل معظماً، ويُكثِر من التكبير وذكر الله سبحانه وتعالى، ويرفع صوته بذلك أحياء لهذه الشعيرة في هذا اليوم، ويُسن له أن يخرج على خشوع وسكينة ووقار، وألا يأخذه الكبر، خاصة أن يوم العيد يصحبه التجمل والتزين، فيتواضع لله عز وجل، ويحمد الله سبحانه وتعالى الذي كساه من عُري، فلا يبطر نعمة الله بالتباهي، ولا يغدو على سبيل الكبر والخيلاء، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).

    وهذا الحديث يدل على أن التبختر والتباهي إذا لبس الإنسان أحسن ما يجد، أو تجمَّل أنه من الفتنة له، ولذلك عد العلماء الاختيال في المشية والتكبر فيها أنه من كبائر الذنوب، لورود هذا الوعيد -والعياذ بالله- الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    فلذلك ينبغي للإنسان أن يتنبه لهذا، وأن يكون بعيداً في خروجه إلى المصلى عن الكبر والاختيال والتعالي على الناس، وإنما يخرج خاشعاً متذللاً لله سبحانه وتعالى، حامداً ذاكراً شاكراً لنعمة الله عز وجل وإحسانه عليه.

    وكذلك المرأة تخرج إلى صلاة العيد بعيدة عن الفتنة، فلا تتطيب طيباً يُشم منها، لا تتزين زينة تفتن الناس، فإنه إن رجعت من الصلاة رجعت بوزر قد يكون أكثر من أجرها، وخير لمثل هذه التي تفتن وتُفتن أن تلزم بيتها، فقرارها في بيتها خير لها من الخروج.

    ولذلك ينبه العلماء على أنه ينبغي الاحتياط واتقاء الفتنة، فليس أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشهود الصلاة مطلقاً، ولكنه مقيد بالضوابط الشرعية، فينبغي المحافظة على ذلك في الملبس وفي الهيئة، وفي صفة الخروج، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

    وقوله: [وتأخُّر إمام إلى وقت الصلاة على أحسن هيئة].

    أي: ويتأخر الإمام فلا يخرج إلى المصلى إلا متأخراً؛ لأنه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا في الجمعة، فالأفضل له أن يأتي وقت الخطبة أو قريباً منه، إلا إذا كان بعيداً عن المسجد ويخشى من العوارض أو ما يطرأ عليه فيبكِّر بقدر، فهذا يقيَّد بقدر الحاجة، وإلا فالأصل من هديه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يبكر قبل الجمعة، وكذلك أيضاً قبل الصلاة، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يمضي وقت الجمعة أو الصلاة.

    والسبب في هذا أن تكبيرهم -على أحد القولين- ينقطع عند رؤية الإمام، وهذا فعله بعض الصحابة، فكانوا إذا رأوا الإمام قطعوا التكبير، ولذلك قالوا: الخروج سنة، وفيه شعيرة ويتصل به حكم. ولذلك ينبغي أن يتأخر خروجه إلى وقت الصلاة، ولا يُسن في حقه أن يبكر وأن يمضي مع الناس وأن يجلس معهم في الصحراء؛ لأن ذلك أبلغ في الهيبة والإجلال للإمامة وتعظيمها، فيخرج عند دنو وقت الصلاة، ولا يقرب من المصلَّى إلا وقد أزف الوقت، بحيث يقيم للناس صلاتهم وشعيرة العيد.

    ويخرج الإمام بأحسن ما يجد من الثياب؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى حلة حمراء وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله: ابتع هذه تجمَّل بها للعيد والوفود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة) ، فلم يُنكر عليه قوله: (تجمَّل بها للعيد والوفود).

    فهذا يدل على أنه كان من هديه عليه الصلاة والسلام أن يتجمل للعيد، وإنما أنكر كونها حمراء، على تفصيل سيأتي إن شاء الله في حكم اللباس الأحمر.

    فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر عليه قصد التجمل لصلاة العيد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاغتسال يوم الجمعة ولبس أحسن الثياب وقال: (إنه عيد)، فدل على أنه يسن التنظف وإبداء الهيئة الحسنة في الملبس، حتى يكون ذلك أبلغ في شهوده للعيد على أكمل وأحسن حال.

    وكان صلى الله عليه وسلم يتجمل للعيد ويلبس أحسن ما يجد من الثياب، ولذلك ينص العلماء على هذه السنة، وهي أن الإمام يتجمل لصلاة العيد، فيلبس أحسن ما يجد، دون أن يبالغ في زينته، خاصة وأن الأئمة وأهل العلم قدوة لغيرهم.

    وكان بعض العلماء رحمة الله عليهم يقولون: يستحب للأئمة والخطباء والوعاظ ومن يلي توجيه الناس أن يكون ملبسه وسطاً بين الابتذال وبين الشهرة، أي: المبالغة، والسبب في ذلك أنه لو لبس لباس الأغنياء لم يستطع أن يقرب منه الفقراء، وإذا لبس لباس الفقراء امتهنه الأغنياء والعظماء، فلذلك يلبس الوسط؛ ولأنه إن كان متواضعاً ولبس الغالي والنفيس فإن الفقير إذا جاء بجواره تضرر وشعر بالنقص بقربه منه لضيق حاله وضيق يده، ولذلك كان العلماء والأخيار يوصون بأنه ينبغي ألا يُبالغ أهل الفضل وأهل العلم في زِيهم، حتى لا يكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء مما يوجب نفرتهم وبعدهم عنهم.

    قال رحمه الله تعالى: [إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه].

    أي: إلا المعتكف فيشهد العيد بثياب اعتكافه، وليس ثَمَّ نص يدل على هذا، وقد كان بعض العلماء يمنع من هذا ويقول: إنه إذا شهد العيد بثياب اعتكافه فربما كانت نتنة فآذى الناس، وربما أضرَّهم، ثم إنه يتميز عن الناس بذلك، والذي يظهر أنه يُشرع له أن يغتسل وأن يلبس أحسن ما يجد كغيره سواءً بسواء، وليس ثَمَّ دليل يخص المعتكف بهذا الحكم، والأصل أن السنة للجميع -رجالاً ونساءً- أن يتطيبوا ويتجملوا ويكونوا على أحسن هيئة، دون فرق بين معتكف وغيره.

    شروط صحة صلاة العيدين

    شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي يُحكم باعتبار صلاة العيدين، فقال رحمه الله: [من شرطها الاستيطان]، وقد تقدم أن الاستيطان يعتبر من شروط صحة الجمعة، وبيّنا حقيقة الاستيطان هناك، وعلى هذا فلا تصح صلاة العيد من مسافر؛ لأنه غير مستوطن، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أدركه عيد النحر وهو على سفر، وذلك في حجته للوداع صلوات الله وسلامه عليه ولم يعّيد، وكذلك أيضاً لما فتح مكة صلوات الله وسلامه عليه لم يعيد، فدل هذا على أنه من شروط صحة صلاة العيد أن يكون الإنسان مستوطناً.

    قال رحمه الله تعالى: [وعدد الجمعة]:

    وذلك أنهم ألحقوا العيدين بالجمعة، وقد تقدم الكلام على اشتراط العدد لصلاة الجمعة، وعلى هذا فإنه إذا تقرر أن الجمعة تصح بثلاثة فكذلك صلاة العيدين فإنها تصح بهذا العدد؛ لأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على تعين الأربعين، أو تعين اثني عشر رجلاً، فحينئذٍ لو صلى ثلاثة وتوفرت فيهم باقي الشروط فإن عيدهم معتبر.

    قال رحمه الله تعالى: [ليس منها إذن الإمام]:

    أي: لا يشترط لصلاة العيدين إذن الإمام، وهذا قول الجماهير رحمة الله عليهم، والعيدان أخص من الجمعة، وإن كان العيد يلتحق بالجمعة في مسائل وأحكام لكنه لا يأخذ الشبه من كل وجه، وعلى هذا قالوا: إنه لا يلتحق بالجمعة من هذا الوجه، أي: لا يشترط في صحة العيد أن يأذن الإمام به، فلو أن جماعة اجتمعوا في ضاحية المدينة، وكانوا مستوطنين وصلوا العيد، فإنه يجزيهم ذلك ويصح منهم، وتعتبر صلاتهم صلاة صحيحة.

    استحباب مخالفة الطريق

    قال رحمه الله تعالى: [ويسن أن يرجع من طريق آخر]:

    ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (كان يذهب من طريق ويرجع من آخر).

    واختلف العلماء في سبب ذلك، فقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب من طريق ويخالف في الرجوع فيرجع من طريق آخر، لكي يمر على أكثر عدد من المساكين والضعفاء، فيحسن إليهم -صلوات الله وسلامه عليه-، ويكرمهم، ويدخل السرور عليهم، خاصة أن يوم العيد يندب فيه إدخال السرور على ضعفة المسلمين من المساكين والفقراء ونحوهم، فقال أصحاب هذا القول: إن ذهابه عليه الصلاة والسلام -كما في حديث جابر - من طريق ورجوعه من طريق آخر يعتبر من هذا الوجه سنة يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتدى بهديه، وليست من السنن الخاصة به عليه الصلاة والسلام، وبناء على ذلك فإنه يسن للإنسان إذا مضى للعيد أن يمضي من طريق وأن يرجع من طريق آخر، حتى يمر على عدد كبير من الضعفة والفقراء، فيحسن إليهم ويواسيهم، فهذا استحبه جمع من العلماء رحمة الله عليهم.

    لكن على هذا التخريج لو كان الإنسان راكباً دابته، أو على السيارة كما هو موجود في عصرنا اليوم، أو ما في حكمها، فإنه قد يتعذر عليه صلة المساكين والإحسان إليهم، فيكون أمر السنة فيه من هذا الوجه أضعف.

    الوجه الثاني: قالوا: ذهب النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ورجع من طريق آخر حتى تكون شهادة الخير له من الأرض أكثر، وذلك أن الأرض تشهد بما عليها من الخير، وتحب أن يوطأ عليها إذا كانت تلك الخطوة أو ذلك المشي في طاعة الله، كما قال سبحانه وتعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29]، قالوا: إن العبد الصالح تبكيه الأرض من كثرة ما كان يعمل عليها من خير، وتبكيه السماء لما كان يصعد من عمله الصالح إلى الله جل وعلا، ويكون فقده على هذا الوجه موجب لبكاء السماء والأرض عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما مضى للعيد من طريق ورجع من طريق آخر، قصد من هذا أن تكثر الخطا على الأرض، فبدل أن تكون من طريق واحد وتكون الشهادة لطريق واحد، تكون الشهادة لأكثر من طريق، وإلى هذا المعنى أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: (يا بني سلمة: ديارَكم تُكتبْ آثارُكم، ديارَكُمْ تُكْتبْ آثارُكُمْ، دياركْمْ تُكْتَبْ آثارُكُمْ) أي: الزموا دياركم البعيدة عن المسجد، فإن الله عز وجل يكتب لكم هذه الآثار إلى طاعتكم. وأفضل الطاعات الصلاة، فكأنهم يقولون: كون الإنسان يمضي لصلاة العيد من طريق ويرجع من طريق آخر يكون شهود الأرض له بأرض غير التي شهدت بذهابه، فهذا أفضل في الخير وأكثر، وعلى هذا الوجه تكون الفضيلة والسنة آكد لمن يمشي على قدميه لشهود الخير، ومن ركب على دابته فإنه دون ذلك.

    الوجه الثالث: قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم مضى إلى العيد من طريق ورجع من طريقٍ آخر من أجل أنه أرفق به عليه الصلاة والسلام، أي: أخف عليه، فكأنه ذهب من طريق لأنه أضيق، ورجع من طريق آخر لأنه أيسر في الرجوع، وبعض الطرق أخف في الذهاب ولكنه أثقل في الرجوع، وبعضها أخف في الرجوع ولكنه أثقل في الذهاب.

    والصحيح من هذه الأقوال الأول، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا أكثر من مرة، فلما دخل مكة دخلها عليه الصلاة والسلام من ثنية كداء من جهة القبور والمعلاة، وخرج من أسفلها، وإن كان بعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من ثنية القبور التي تسمى الآن الحجون. قالوا: والسبب في هذا أنه فعله من أجل إعزاز الإسلام، أي أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الهجرة متخفياً في ظلام الليل وسواده، ودخل في وضح النهار من أعلى مكة حتى يكون أبلغ في عزة الإسلام وإظهاره.

    كذلك قال بعض العلماء: إنه ذهب للعيد من طريق ورجع من طريق آخر لإغاظة المنافقين، وذلك أن شعائر الإسلام تغيظهم، وكان المنافقون في المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، وتنطوي قلوبهم على ما لا خير فيه للإسلام والمسلمين، فقصد إغارة صدورهم.

    والصحيح أنه لكثرة شهود الخير، ولكثرة الإحسان إلى الناس، ويدل على هذا أنه عليه الصلاة والسلام ذهب إلى عرفات من طريق ضب، ورجع إلى المزدلفة من طريق المأزمين، وهذا سنة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره، وقد تكرر هذا في حجه صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك أيضاً في ذهابه للعيدين.

    وبعض العلماء يقول: هذه سنة جبلية محضة، خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتأسى به، والصحيح أنها من السنن التي يقتدى فيها برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهبت إلى عرفات من طريق ضب، ورجعت من طريق المأزمين فإنك تكون مصيباً للسنة ومتأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشرع الاقتداء والتأسي بمثل هذا.

    والسبب في هذا وأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يشرع التأسي به بالإجماع، ومنها ما يكون جبلياً خاصاً به، ومنها ما يحتمل أن يكون جبلياً ويحتمل أن يكون هدياً، فهذا الفعل وهو ذهابه إلى العيد من طريق ورجوعه من طريق آخر اختلف العلماء فيه:

    فبعضهم يقول: هذا سنة جبلية لا يتأسى ولا يقتدى به فيه؛ لأنه أرفق به، فغيره لا يشاركه في هذا، وهذا قول ضعيف.

    والصحيح مذهب الجمهور أنه سنة يتأسى ويقتدى فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيشرع لك أن تذهب من طريق، وأن ترجع من طريق آخر لعمارة الطرق بذكر الله، ولكي تشهد لك الأرض بما يكون عليها من الخير.

    وقد أخذ العلماء من هذا سنة عامة، فقالوا: إذا ذهبت إلى أي عمل خير كصلة رحم، وبر والدين، وطلب علم، ونحو ذلك من الخير فلتذهب من طريق ولترجع من طريق آخر؛ لأنك لا تزال في خير حتى ترجع إلى بيتك، فمن خرج إلى طاعة الله عز وجل فهو في طاعة، ويكون في رحمة الله حتى يرجع إلى مكانه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تكفل لمن خرج في سبيله -أي: للجهاد- لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسولي أن أدخله الجنة أو أرده إلى بيته بما نال من أجر أو غنيمة)، فهذا كله من ضمان الله عز وجل للعبد، فيشرع للإنسان إذا ذهب إلى طاعة أن يذهب من طريق وأن يرجع من طريق آخر.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755796098