إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب الآنيةللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأصل في الأواني إباحة استعمالها واتخاذها إلا ما حرمه الشرع كآنية الفضة والذهب، والأصل في أواني الكفار الحل إلا إذا رأينا أمراً ظاهراً يقتضي عدم جوازها، كاستعمالها في النجاسة وطبخ الخنزير وغير ذلك، فيحرم علينا استعمالها، إلا إذا لم نجد غيرها فلنغسلها ونستعملها.

    1.   

    أحكام الأواني

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [باب الآنية] الباب: هو المنفذ بين الشيئين يتوصل به أحدهما إلى الآخر، من داخلٍ إلى خارج والعكس، قالوا: سُميت مباحث العلم أبواباً؛ لأن الإنسان يتوصل من خارج وهو: الجهل بها، إلى داخلٍ وهو: العلم بما فيها، فمن قرأ شيئاً من هذه الأبواب فقد أدرك العلم الذي فيها، كمن دخل البيت فإنه يدرك ما فيه، ويرتفق بمنافعه.

    (باب الآنية) واحدها إناءٌ، وجمعها رحمة الله عليه لأن الأواني منها ما أباحه الشرع، ومنها ما حرمه الشرع، فناسب أن يقول: (باب الآنية)، أي: في هذا الموضع سأذكر لك أحكام الشريعة في الأواني، والسبب الذي يجعل العلماء يذكرون باب الآنية، ويتكلمون على مباحث الآنية في كتاب الطهارة: أن الطهارة تحتاج إلى ماء يُتطهر به، وصفةٍ تتم بها الطهارة، والماء الذي يتطهر الإنسان به يحتاج إلى وعاء يحمله فيه، فإنه قد يكون الماء طهوراً ولكن الإناء نجس، فهل يجوز أن يتوضأ الإنسان منه؟!

    وقد يكون الماء طهوراً، ولكنه في إناءٍ محرم كالمصنوع من الذهب والفضة، فهل يجوز أن يتطهر به؟ فإذاً لا بد من الكلام على أحكام الآنية؛ لأنها أوعية الماء الذي يُتطهر به.

    الأصل في الأواني الطهارة

    قال المصنف رحمه الله: [كل إناء طاهر ولو ثميناً يباح اتخاذه واستعماله].

    هذه قاعدة، فلو سألك سائل: ما هو الأصل في الأواني؟ تقول: الأصل أنها جائزة ومباحة، إذا كانت طاهرة ولو كانت ثمينة، فلو كان الإناء من الماس أو من الجواهر أو من غيرها من المعادن الثمينة النفيسة، فإنه يباح اتخاذه واستعماله، فلو أن إنساناً شرب في كأسٍ ثمينٍ من معدنٍ ثمين كالجواهر أو غيرها فإنه يباح له ذلك، فالأصل حلّ هذه؛ لأن الله يقول: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].

    فالأصل في هذه الأشياء أنها مسخرةٌ من الله جل وعلا لكي ينتفع بها الإنسان، تكريم من الله لبني آدم، فإذاً: الأصل في الإناء أنه يباح لك استعماله واتخاذه.

    والاتخاذ يكون في البيت بأن يحفظ فيه الأشياء أو يجعله للزينة ونحو ذلك، فالأصل جواز ذلك ولا حرج فيه، هذا في الآنية.

    وإذا كان الأصل في الآنية حتى الثمينة منها الإباحة فإنه ينتفع بها وعلى هذا يجوز الوضوء بها، فيجوز أن يتوضأ بآنية ولو كانت غالية الثمن، ما خلا ما استثناه الشرع، فالذي يستثنيه الشرع ويحكم بحرمة استعماله واتخاذه لا يجوز أن يتوضأ الإنسان به، ولا أن يستنجي، ولا أن يغتسل.

    حرمة استعمال أواني الذهب والفضة

    [إلا آنية ذهبٍ وفضة ومضبب بهما].

    (إلا آنية ذهبٍ) وهو المعدن المعروف، (وفضة ومضببٍ بهما) وآنية المضبب بهما.

    أما: آنية الذهب والفضة فلا يجوز للإنسان أن يشرب في كأس ذهبٍ ولا كأس فضة، ولا يجوز له أن يأكل بملعقة ذهبٍ ولا فضة ولو كان أثنى، فإن الأنثى يباح لها الحلي للزينة، أما الاستعمال والأكل والشرب والاتخاذ والاغتسال من آنية الذهب والفضة فمحرم، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) وفي حديث الدارقطني : (الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جنهم) فإذاً من كبائر الذنوب: الأكل أو الشرب في آنية الذهب أو آنية الفضة، وكذلك لو اتخذ صحناً من ذهب أو صحناً من فضة وجعله للزينة في البيت أو نحو ذلك.

    والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن حرمة الأكل والشرب من آنية الذهب والفضة مع أن الأكل فيها والشرب فيها من الحاجة، فلأن يحرم ما هو من مقام التحسينيات والكماليات الذي هو الزينة من باب أولى وأحرى.

    فكون الشرع يحرم علينا أن نأكل أو نشرب في آنية الذهب والفضة يدلنا على أن اتخاذها دون استعمال أولى بالتحريم، وهذا -كما يقول العلماء رحمةُ الله عليهم- من باب التنبيه بالأعلى على ما هو أدنى منه؛ لأن نصوص الشريعة تنبه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، ولذلك يقولون: حرم النبي صلى الله عليه وسلم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وكلٌ من الأكل والشرب محتاجٌ إليه، فإن الأكل والشرب قد يصل إلى الاضطرار، فإذا منع الإنسان من أن يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة، فوضعها في بيته زينة أشد وأبلغ في التحريم، ولا يجوز له فعل هذا.

    قال رحمه الله: [فإنه يحرم اتخاذها واستعمالها ولو على أنثى].

    أي: ولو كان الذي يشرب فيه من الإناث، فإن التحريم للأكل والشرب عام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فإنها لهم في الدنيا -أي: للكفار- ولكم في الآخرة).

    قال بعض العلماء: لا يؤمن على من أكل وشرب فيهما، وانتفع بالذهب والفضة بالأكل والشرب في صحافهما وآنيتهما أن يحرمه الله جل وعلا في الآخرة، كما حرم شارب الخمر -والعياذ بالله- خمر الآخرة بإدمانه عليها في الدنيا، نسأل الله السلامة والعافية.

    [وتصح الطهارة منها].

    هنا مسألة: عند العلماء أن الشرع إذا نهى عن شيءٍ فهل يدل ذلك على نهيٍ فعل متضمن به، مثال ذلك: لو أن إنساناً أخذ إناءً من ذهب أو فضة ثم توضأ منه، أو جاء إلى صنبور فتوضأ منه وهو من الذهب أو الفضة، فهل يصح وضوءه وغسله أو لا؟!

    بعبارة أوضح: بما أنه لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة، فلو أني توضأت واغتسلت من إناء ذهبٍ أو إناء فضةٍ فللعلماء وجهان مشهوران:

    الوجه الأول: أن من توضأ من إناء الذهب والفضة صح وضوءه؛ لأن الله أمر بغسل الأعضاء، والوعاء منفصلٌ عن شرط الصحة وهو الوضوء، وهذا قول جمهور العلماء، واختاره غير واحدٍ من العلماء، أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضة، فوضوءه وغسله صحيح.

    الوجه الثاني: ذهب بعض العلماء -وهو قولٌ في مذهب الحنابلة- إلى أنه إذا توضأ أو اغتسل من إناء ذهبٍ أو فضةٍ فلا يصح وضوءه ولا غسله؛ لأنه فعل ما حرمَ عليه شرعاً، وهذا المحرم لا يوجب ثبوت العبادة الشرعية؛ لأن الشرع يقول له: لا تتوضأ من هذا الإناء فتوضأ من هذا الإناء، فلا تستباح العبادة الشرعية بمنهي عنه شرعاً، والصحيح أن الوضوء صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وهذا قد توضأ، فإن الأعضاء التي أُمِرَ بغسلها قد غسلها، ولكن نقول: هو آثم من جهة استعمال الإناء، وصلاته صحيحة لوقوع العبادة على وجهها المعتبر، فالجهة منفكة، وهذه قاعدة عند الأصوليين: (أنه إذا ورد النهي وانفك عن المنهي عنه في جهته لم يقتضِ ذلك البطلان) فإن الماء الذي توضأ به ماءٌ طهور، والعضو الذي غسله عضوٌ معتبرٌ شرعاً، فإذاً صحت عبادته وصح وضوءه.

    1.   

    شروط اتخاذ الإناء المضبب بالفضة

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [إلا ضبة يسيرة من فضةٍ لحاجة].

    الضبة بالذهب والفضة تكون على أطراف الإناء أو الوعاء، فيكون الإناء محلى في أطرافه، فهذا يعتبر مضبباً كضبة الباب تحيط بعضاده، وكانوا في القديم يستخدمون آنية من الخشب، فيحفرونها في جذوع النخل ويستخلصون منها الأقداح، وهذه إلى الآن لا تزال موجودة في بعض البلاد، حيث يستخدمون هذه الآنية من الخشب بمثابة الأوعية، وهذا الوعاء قد ينكسر فيحتاج إلى جبر الكسر بصب الفضة عليه حتى لا يخرج الماء من هذا الشعب، فيسمونه (مضبباً)، فإذا انكسر الإناء جاز أن يضع الإنسان فيه ضبةً يسيرة من الفضة بشروط: أولاً: أن تكون من الفضة.

    ثانياً: أن تكون يسيرة.

    ثالثاً: أن لا يباشر الأكل والشرب من نفس المكان الذي فيه الفضة.

    هذه ثلاثة شروط: أن تكون ضبةً يسيرة، ومن فضةٍ، ولا يباشر الشرب من مكان الفضة.

    لأنه نُهي عن الشرب من آنية الذهب والفضة، فيتقي المكان الذي فيه الفضة ويشرب من غيره إلا أن تكون ضبةً يسيرة فيجوز له، دليل ذلك حديث أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انكسر قدحه سلسله بفضة) قيل: الذي سلسله أنس ، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سلسله، والعمل على الثاني.

    قال رحمه الله: [وتكره مباشرتها لغير حاجة].

    أي: مباشرة الضبة لغير حاجةٍ، فإن وُجدت الحاجة كما أن يكون الموضع الذي انكسر هو موضع الشرب، قالوا: فحينئذٍ لا يستطيع أن يشرب إلا من هذا الموضع الذي فيه الفضة فيجوز له أن يشرب؛ لأن أصل التحريم الانتفاع بالفضة على سبيل الكماليات وهنا قد انتفع بها على سبيل الحاجة، فتخلف فيه المعنى الذي من أجله ورد النهي شرعاً.

    1.   

    أحكام أواني الكفار

    قال المصنف رحمه الله: [وتباح آنية الكفار].

    بعد أن بين رحمة الله عليه أحكام أواني المسلمين، وقال لك: الأواني كلها جائز الانتفاع بها إلا آنية الذهب والفضة، بيّن بعد ذلك حكم آنية الكفار، والكفار على قسمين:

    كفارٌ من أهل الكتاب وهم الذين لهم في الأصل دينٌ سماوي، وهم اليهود والنصارى.

    وكفارٌ على غير دين سماوي كالوثنيين والمشركين والمجوس ونحوهم، فيرد السؤال: لو أن إنساناً سألك في يومٍ من الأيام وقال لك: وجدتُ إناءً ليهوديٍ فهل يجوز لي أن أتوضأ أو أغتسل منه، أو آكل أو أشرب منه؟!

    هذا سؤالٌ وارد، ولذلك بينت الشريعة حكم آنية الكفار في أكثر من حديث، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة؛ وتوضيحها: أن آنية الكفار على حالتين:

    الحالة الأولى: أن تكون جديدةً غير مستعملة، كالأواني التي تأتي منهم جديدة مُصَنّعة، فهذه طاهرةٌ يجوز استعمالها والانتفاع بها بالإجماع ما لم تكن من مادةٍ نجسة؛ فإن كانت من المواد الطاهرة كالحديد والصفر والنحاس ونحوها جاز الانتفاع بها بالإجماع؛ لأن اليقين طهارتها وليس هناك دليل على النجاسة، فنبقى على الدليل الأصلي ونستصحب الأصل من كونها طاهرة.

    الحالة الثانية: أن تكون أواني الكفار مستعملة، فإن رأيت استعمالهم للنجاسة فيها، ورأيت الإناء وفيه النجاسة فبالإجماع أنه نجسٌ حتى يطهر، ولا يجوز استعماله بالإجماع حتى يغسل.

    فلو وجدت كأساً لهم فيها خمر فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد غسلها وتنظيفها، وأما إذا كانت هذه الأواني مغسولة عندهم ولم يجد الإنسان غيرها، وكانوا قد أكلوا فيها أو شربوا فهذا للعلماء فيه وجهان:

    منهم من قال: لا تستعمل إلا أن يضطر إليها؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: (يا رسول الله! إني بأرض قومٍ أهل كتاب أفآكل في آنيتهم؟ -وفي رواية أفنأكل في آنيتهم؟- قال: لا. إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها) فدل هذا الحديث على أن آنية الكفار التي يستعملونها لا يؤكل فيها.

    ونازع هذا الحديث حديثٌ آخر، وهو أكل النبي صلى الله عليه وسلم من آنية الكفار، ففي حديث رواه أحمد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم استضافه يهودي على خبزٍ وإهالة سنخة، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك) وكذلك أيضاً ثبت في الصحيح عنه: (أن امرأة يهوديةً دعته إلى شاةٍ ووضعت السم فيها، ثم أطعمته عليه الصلاة والسلام فأكل منها).

    فدل هذا على أن آنية الكفار يؤكل فيها، قالوا: أما الشرب والوضوء ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما لقي المرأة التي معها المزادة توضأ هو وأصحابه منها) فتوضأ من مزادة مشركة.

    قالوا: فهذا يدل على أن أواني الكفار يؤكل فيها ويشرب منها ما لم تُعلم نجاستها، وهذا مذهب بعض العلماء.

    وحديث أبي ثعلبة يقتضي أنه لا يؤكل ولا ينتفع بها إلا ألا يجد غيرها فيغسلها ثم يأكل فيها.

    وأعدل المذاهب: أن يحتاط الإنسان فيها، فلا يأكل في آنية الكفار ولا يشرب منها إلا ألا يجد غيرها فليغسلها ثم ليأكل فيها، وما ورد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعارض هذا الأصل؛ لأن الغالب في هذه الآنية طهارتها، ولو كانت نجسةً لما خلا الوحي من تنبيهه صلى الله عليه وسلم على نجاستها.

    وعلى هذا فإن التفصيل في أواني الكفار بالصورة التي ذكرناها هو أعدل الأقوال.

    الحالة الثالثة: أن لا نعلم أو لا نرى فيها نجاسة، فهل نُعْمِل الأصل الذي هو اليقين أو نُعْمِل الظاهر؟ وقد بسطت هذه المسألة في شرح البلوغ عند حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه وأرضاه.

    فعند العلماء شيء يُسمى: (اليقين) كما تقدم، وشيء اسمه: (الظاهر)، فقد يقول قائل: نحن قلنا في القاعدة: (أن اليقين لا يزال بالشك)، فاليقين في أواني الكفار: أنها طاهرة في الأصل، فكيف عدلنا عن قاعدة اليقين في هذا الموضوع حتى صرنا نقول: إن أواني الكفار تغسل؟!

    الجواب: هناك شيءٌ اسمه: دلالة الظاهر، والظاهر قد يعارض الأصل، فتارةً يُعمِل اليقين، وتارة يُعمل الظاهر، فإن الظاهر في حال الكفار أن أوانيهم نجسة؛ لأنهم يشربون فيها الخمور ويأكلون فيها الميتات، فالظاهر من حالهم أنها نجسة.

    ومن أمثلة ذلك: إذا دخل الإنسان أكرمكم الله إلى الحمام، فوجد الماء الذي هو في مجرى النجاسة، فالماء هذا اليقين فيه أنه نجس، والماء الذي خارج الحمام اليقين فيه أنه طاهر، فيبقى الماء الذي بينهما هل نقول: اليقين فيه ما بداخل الحمام أو ما بخارجه؟! قالوا: هذا يعتبر من دلالة الظاهر، فالظاهر دورات قضاء الحاجة أنها نجسة حتى يدل الدليل على طهارتها، وبناءً على ذلك فإن الظاهر من أحوال الكفار النجاسة، فيقدم الظاهر على الأصل، وهذا من المسائل التي يتعارض فيها الظاهر والأصل، وإذا تعارض الظاهر والأصل قُدّم الأصل في مسائل وقدم الظاهر في مسائل أخرى.

    وقد تكلم على هذه القاعدة كلاماً نفيساً الإمام الزركشي في كتابه: المنثور في القواعد، وتكلم عليها كذلك القرافي في: الفروق، وغيرهم من أئمة الأصول بحثوا هذه المسألة، وفيها إشكالات مشهورة عند أهل العلم رحمة الله عليهم.

    قال المصنف رحمه الله: [وتباح آنية الكفار ولو لم تحل ذبائحهم].

    أي: يباح لك استعمال أوانيهم ولو لم تحل ذبائحهم؛ لأن بعض العلماء يقول: تباح آنية أهل الكتاب الذين تحل ذبائحهم، وأما غيرهم ممن لا تحل ذبائحهم فلا تباح آنيتهم.

    قال المصنف رحمه الله: [وثيابهم إن جُهِل حالها].

    ثياب الكفار لها ثلاثة أحوال:

    الحالة الأولى: أن تكون جديدةً لم تُلبس، كالثياب المصنعة في بلاد الكفار، فحكمها الطهارة يقيناً، فأي ثوبٍ جديد ولو جاء من ديار الشرك والكفر فإنا نقول: اليقين أنه طاهر، والأصل فيها الطهارة حتى ترى النجاسة فيه أو عليه.

    الحالة الثانية: أن ترى على ثوب الكافر نجاسة، فحكمه أنه نجس، مثال ذلك: أن تراه قد صب شيئاً نجساً على ثوبه أو عمامته أو نحو ذلك، فتقول: الثوب نجس، والعمامة نجسة.

    الحالة الثالثة وهي التي فيها الإشكال: إذا كان ثوباً يستعمله الكافر ولم ترَ نجاسةً عليه، فهل هو نجس أم طاهر؟ قال بعض العلماء: ثياب الكفار يُعمل فيها اليقين من أنها طاهرة حتى تُرى النجاسة عليها، وهو مذهب من يتسامح فيها.

    والمذهب الثاني يقول: ثياب الكفار الظاهر فيها النجاسة؛ لأنهم يبولون ويتغوطون ولا يسلمون من وضع النجاسة على ثيابهم وبدنهم ولا يتورعون، فالظاهر نجاستها كلها.

    والصحيح: هو المذهب الثالث وهو التفصيل: فإن كانت على موضع يغلب فيه النجاسة فهي نجسة كالثياب التي تلي العورة؛ فإنه إذا استعمل الإنسان ثوب كافرٍ مما يلي العورة كالسراويل ونحوها والأزر فإنه يغسلها قبل أن يستعملها؛ لأن الغالب فيهم أنهم لا يتورعون عن النجاسات، وأنهم لا يتطهرون، فنعمل دلالة الغالب، والنادر لا حكم له، فيفرق في ثيابهم المستعملة بين ما غلبت طهارته وما غلبت نجاسته.

    1.   

    أحكام جلد الميتة وما قطع منها حية

    قال المصنف رحمه الله: [ولا يطهر جلد ميتة بدباغ].

    جلد الميتة للعلماء فيه قولان مشهوران، وأصح هذين القولين: أنه إذا دُبغ جلد الميتة فقد طهر؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) ولما مر على الشاة الميتة قال: (هلا انتفعتم بإهابها؟ -يعني: بجلدها- قالت: يا رسول الله! إنها ميتة، قال: إنما حرُمَ أكلها) فإن هذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أن جلد الميتة يطهر بالدباغ.

    وقال بعض العلماء وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد : أن جلد الميتة لا يطهر ولو بالدباغ، لحديث عبد الله بن عكيم عن أشياخ من جهينة أنهم أتاهم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهرين: (أن لا تنتفعوا من الميتتة بإهاب ولا عصب) وهذا الحديث مضطرب، حتى أن الإمام أحمد رحمة الله عليه -كما نقل الترمذي ذلك- رجع عن القول به في آخر حياته.

    فالصحيح: أن إهاب الميتة على ظاهر الحديث في الصحيحين إذا دُبغَ فقد طهر، فلو أن إنساناً ماتت عنده شاة، فأخذَ جلد الشاة ودبغه فقد طهر، وجاز له أن يضع الماء فيه، وأن ينتفع به، فالمصنف تبنى القول الثاني المرجوح، والصحيح ما ذكرنا بقوله: يطهر بالدباغ.

    قال المصنف رحمه الله: [ويباح استعماله بعد الدبغ في يابس من حيوانٍ طاهر في الحياة].

    هذا على القول بنجاسته، فإذا كان جلد الميتة نجساً فإنه في هذه الحالة تنتفع به في اليابسات دون المائعات؛ لأن المائعات لو وضعت في جلد الميتة تتنجس، فبين رحمه الله: أن جلد الميتة لا ينتفع به وأنه يأخذ حكم الميتة، والصحيح -كما قلنا- أنه طاهرٌ إذا دبغ.

    قال المصنف رحمه الله: [ولبنها وكل أجزائها نجسة].

    وهذا بلا إشكال؛ لأن الله عز وجل حرم الميتة، ولم يفرق بين لبنها ولا بين غيره.

    قال المصنف رحمه الله: [غير شعرٍ ونحوه].

    شعر الميتة للعلماء فيه وجهان مشهوران:

    فجماهير العلماء على أن شعر الميتة مما لا تحله الحياة، بمعنى: أنه يجوز لك أن تنتفع بشعر الميتة؛ لأنه في حياتها يجز منها ولا يحكم بنجاسته بالإجماع، كما قال تعالى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا [النحل:80] فدّل دليل القرآن على طهارة الصوف والوبر، وما يستخلص من شعور بهيمة الأنعام، ومعلوم أن شعور بهيمة الأنعام تؤخذ منها بالحلاقة في حال حياتها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما أبين من حيٍ فهو ميت) فلو كانت الشعور تحلها الحياة لحكم بنجاسة الشعر وعدم جواز الانتفاع به، فدل هذا الدليل على أن شعر الميتة يجوز الانتفاع به ولو بعد موت الميتة؛ لأنه منفصل عنها وليست بمتصلٍ بها.

    قال المصنف رحمه الله: [وما أبين من حي فهو كميتته].

    فإن كانت ميتته طاهرة فطاهر كالسمك، فلو أن إنساناً قطع ذنب سمكةٍ وهي حية وفرت، فهل يجوز له أن يأكل هذا الذنب؟

    الجواب: نعم؛ لأن ميتة السمك نفسها يجوز أكلها: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فيجوز له أن ينتفع بجزء السمك؛ لكن لو أن إنساناً قطع رجل شاةٍ وهي حية.

    فحكمها كميتة الشاة، وميتة الشاة نجسة ومحرمة الأكل؛ كذلك رجلها إذا قطعت في حال حياتها فإنه يحكم بنجاستها.

    1.   

    الأسئلة

    جواز التختم بالفضة دون استعمالها

    السؤال: قلتم: إنه لا يجوز استخدام آنية الذهب والفضة في الأكل والشرب والاستعمال، وأنه قول جماهير أهل العلم، فكيف نجمع بين هذا القول والحديث: (العبوا بالفضة لعباً).

    الجواب: لا تعارض بين الحديثين، فإن اللعب بالفضة أن يلبسها الرجل وتكون في يده، والغالب أن الإنسان إذا تحلى بالفضة لعب بها، أما المتخذ فإنه لا يلعب بها لعباً، والاستدلال: بحديث: (العبوا بها لعبا) على أن المراد: افعلوا بها ما شئتم، استدلال بالتجوز في العبارة، أما حقيقة اللعب بالفضة فهي ما وردت السنة به من التختم ووضعه في اليد؛ ولذلك ثبت في الحديث عن عثمان رضي الله عنه كما في الحديث في الصحيحين: (أنه لما كان في سني خلافته لعب بخاتمه في بئر أريس، حتى سقط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فطلبوه فلم يجدوه).

    فالمقصود أنه كان من عادتهم أنهم يلعبون بالخواتيم الفضة التي أذن الشرع بالتحلي بها، فالمراد حمل اللفظ على الحقيقة، لا على التجوز في العبارة من قوله: (العبوا فيها لعباً) إلا أن المراد بها: التوسع. والله تعالى أعلم.

    الجمع بين النهي عن استعمال الذهب والفضة وبين فعل أم سلمة في استعمال الفضة

    السؤال: كيف يكون الجمع بين حديثين: الأول: (أن أم سلمة رضي الله عنها كان تضع شعرات للنبي صلى الله عليه وسلم في إناء فضة) والثاني: حديث أم سلمة نفسها في النهي عن الشرب من إناء الفضة، وقد قررنا أن هذا النهي ليس خاصاً بالشرب؟

    الجواب: الأصل عند العلماء رحمةُ الله عليهم أن الصحابي إذا اجتهد وكان لاجتهاده وجه فإنه يعذر في اجتهاده، وتبقى دلالة السنة كما فهم من الشرع، وأخذ من أصول الشرع العامة على تلك الدلالة، ولا يعارض فعل أم سلمة رضي الله عنها هذا الأصل الذي قررناه.

    ولذلك يعتذر لها بأنه اجتهادٌ منها، ولا يقدح الموقوف على الصحابي في المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النهي عن الأكل والشرب متضمنٌ للنهي عما لا فائدة فيه وهو الاتخاذ. والله تعالى أعلم.

    الوسائل المعينة على صدق التوبة والاستقامة

    السؤال: إذا منّ الله تعالى على الشاب بالاستقامة، وعلم أنه طريق الحق، وعلم أن الشيطان له بالمرصاد فكيف يقاومه والشيطان يحاربه ببعض ذنوبه السابقة الخطيرة: كالنظر إلى المردان، وحب مجالستهم، بينوا ذلك؟

    الجواب: الله المستعان! أحب دائماً أن الإنسان إذا سأل أن لا يمثل، فإذا كان الإنسان في نفسه مبتلى بأشياء فلا يذكرها؛ لأنه ربما سمع إنسان هذا فظن بالصالحين سوءاً، وهم أرفع -إن شاء الله- من هذه الأمور؛ ولذلك أنا لا أحب في المحاضرات والندوات أن تذكر مثل هذه الأمور لئلا يساء الظن بالأخيار، ويظن أن هذا موجود بينهم، وإنما هذه قضايا فردية قد تقع لبعض الإخوان فينبه على هذا، حتى لا يظن بهم ظن السوء.

    إذا منّ الله عز وجل على العبد بالاستقامة والتمسك بالدين والالتزام بشريعة الله رب العالمين، فما عليه إلا أن يعض عليها إلى لقاء الله إله الأولين والآخرين، تمسك بحبل الله واعتصم بشريعته ودينه، واجعل الجنة والنار أمام عينيك، وفر من الله إلى الله.

    أما ما ذكرت من الذنوب والخطايا والعيوب فإن الله لها، وهو مفرج الهموم والغموم والكروب، إذا ذكرك الشيطان بالماضي فادمع على ما كان دمعة الندم، وأخرجها من القلب بكل شجن وألم، وأحسن الظن بالله جل جلاله؛ فإنه يتوب على التائبين، ويمحو بفضله وإحسانه ذنوب المسيئين.

    أقبل على الله إقبال الصادقين المنيبين وأحسن الظن به؛ فإنه الله رب العالمين، لا يخيب من رجاه، ولا من سعى إليه ودعاه، فأحسن الظن به سبحانه وتعالى جل في علاه.

    أخي في الله! أوصيك بمجالسة الأخيار، وكثرة تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، فإنها تجلي عن القلوب العمى، وتعينها على التمسك بسبيل الهدى، أوصيك أخي في الله أن تكثر من ذكر الله فإنه حصنٌ حصينٌ من عدو الله، فما ذكر عبدٌ ربه إلا ذكره الله، ومن ذكر الله في ملأٍ ذكره في ملأٍ خير من الملأ الذين ذكره فيهم، فأكثر من ذكر الله، واعتمد على الله وأحسن الظن به، ألا وإن من أعظم الأسباب التي تثبت القلوب على سبيل المنهج والصواب: كثرة ذكر الموت والبلى، وقرب المصير إلى الله جل وعلا.

    اجعل الموت أمام عينيك، وأكثر من ذكر تلك الساعة التي تكون فيها واقفاً على آخر عتبة في الدنيا، أكثر من ذكرها، فوالله إنها تقض مضاجع الصالحين، وتعين على التمسك بالطاعة والدين، وكلما دعتك النفس إلى الشهوات والملهيات والمغريات فذكرها بساعة الموت والسكرات.

    واجعل القبر أمام عينيك، واستشعر مثل هذه الساعة وأنت وحيد فريد لا مال ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون، وأكثر من ذكر الآخرة، فإنها تعين على الثبات وتثبت القلوب إلى الممات.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبتنا بالقول الثابت، اللهم إنا نسألك الثبات إلى الممات، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم منّ علينا بالصحة والغفران، اللهم إنا نعوذ بوجهك العظيم من الانتكاسة بعد الهدى، اللهم إنا نعوذ بوجهك العظيم من الضلال بعد الهدى، ومن العمى بعد البصيرة، ومن الحور بعد الكور، يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا، يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا.

    اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا نادمين، ولا مفتونين ولا مبدلين، يا ذا الجلال والإكرام!

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755921188