إسلام ويب

تفسير سورة الزلزلةللشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في يوم القيامة تقع أهوال عظيمة، وتحدث أمور جسيمة، يشيب لهولها الولدان، فالأرض تزلزل وتدك وتصير قاعاً صفصفاً لا يُرى فيها عوج ولا أمت، ثم تخرج أثقالها وما في بطنها من جثث الموتى، ثم تتحدث وتتكلم بما عمله الإنسان على ظهرها يوماً ما، فإذا رأى الإنسان ذلك الهول العظيم استغرب وتعجب وقال: ما لها؟ ما الذي حدث لها؟! وحينذاك يرى كل ما عمله في الدنيا من خير أو شر، ويجازى عليه.

    1.   

    بين يدي سورة الزلزلة

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها تعدل ربع القرآن، إنها سورة الزلزلة أو الزلزال.

    هذه السورة تلاوة آياتها الثمان بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:1-8].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه السورة مدنية، وإن كانت تبحث عقيدة البعث والجزاء وتؤكدها وتبلورها، وهي من أعظم أركان العقيدة، ولا مانع أن تكون مدنية وتتعرض لأعظم عقيدة؛ لتقريرها وتأكيدها، وللوعظ والإرشاد والتوجيه بها، فإن العبد إذا آمن الإيمان الحق بأنه سيبعث من قبره حياً وسيوقف بين يدي ربه وسيحاسب ويجزى .. إن اعتقد العبد هذا المعتقد فبإمكانك أن تهذبه.. بإمكانك أن تقومه.. بإمكانك أن تعول عليه وتثق فيه وتسند أمرك إليه؛ لوجود عنصر الكمال فيه.

    أما الذي لا يؤمن بلقاء الله وإن آمن بالله فإنه لا خير فيه، ولا يؤمن جانبه، ولا يوثق فيه، وما هو بمتهيئ لأن يكمل ويسعد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها)

    بسم الله الرحمن الرحيم، يقول تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] الأرض أمنا هذه التي تحمل الأموات في بطنها والأحياء على ظهرها، وهي كالسفينة سيأتي يوم ترسو.

    هذه الأرض بقاراتها الخمس إذا زلزلت.. من يزلزلها؟ الله خالق كل شيء، ومدبر كل شيء، والقدير على كل شيء.

    وقد عرف الناس أنواعاً من الزلازل، حدث في تركيا.. في إيران.. في الصين.. في اليابان.. في الجزائر.. في تونس.. في اليمن.

    قال تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1]، الخاص بها، المعروف لكم. والزلزال يا راضي ! مشتق من زلت قدمه إذا سقط، ومنه الزلل: الوقوع في المعاصي. إذاً: تحركت الأرض وتزلزلت.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأخرجت الأرض أثقالها)

    ثم قال تعالى: وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:2]. هنا نفختان، ومن باب الإيجاز أشار إلى النفختين بنفخة واحدة.

    إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] هذه النفخة الأولى.. نفخة إسرافيل التي تتحلل فيها هذه الأكوان وتتبخر وتصبح سديماً وبخاراً يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].

    وهذا يحدث في هذه الظروف.. صاروخ يتفجر.. انقلاب يتم في دولة وتسمع دوي المدافع والصواريخ، وقد رأينا الناس أصيبوا بهذا.. امرأة تركت ابنها وهو يرضع وهربت.. وفي دمشق قبل عشرين سنة دخل صائح والإمام يصلي بنا. قال: أي صلاة هذه؟ اخرجوا. فخرج الناس، سبحان الله العظيم! ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، وتضع كل ذات حمل حملها.. الرضيع ترميه من شدة الهول، وهذا هول الدنيا فكيف بالهول الحق؟ حقاً تذهل كل ذات مرضعة عما أرضعت.. من شدة الهول الحمل يسقط.

    إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] بالنفخة الأولى وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:2] في النفخة الثانية.

    (أَثْقَالَهَا): جمع ثقل. أي: أمواتها .. أخرجت من فيها من الأموات.

    ألم يكونوا ثقلاً عليها؟ بلى.

    فعلنا فيها العجب وهي تحملنا وتتألم منا وخاصة إذا عصينا الله عليها، فوالله لتنتقمن منا وتكشف النقاب، وتقول: أي رب! هذا فعل على ظهري كذا وكذا..

    إنها هذه التي تحملنا أمواتاً وأحياءً، قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الإنسان ما لها ...)

    ثم قال تعالى: وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا [الزلزلة:3] هذا الإنسان الكافر الجحود المعاند الذي لا يؤمن بالبعث والجزاء يقول: ما لها؟ أما المؤمنون فيعرفون.

    ثم قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]. خطب الرسول صلى الله عليه وسلم ووجه الناس وذكر لهم: احفظوا الأرض.. انتبهوا لها.. لا تعصوا الله فوقها؛ فإنها ستشهد عليكم بأعمالكم، فلان فعل كذا وكذا.. وفلانة فعلت على ظهري كذا وكذا.. ولا تلوموها فهي مأمورة مكلفة.

    ثم قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:5] ما هو من تلقاء نفسها، بل مكلفة من الله! يا أرض أخبري عما جرى عليك وما تم فيك.

    يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4] أخبارها هي ما جرى عليها وما تم فوقها.. أخبار الأرض، فتقول: فلان سرق يوم كذا وكذا، وفلان فعل كذا وكذا..

    إذاً: احذروا أن تعصوا الله تعالى على سطح هذه الأرض، فإنه يتخذ منها شاهداً.

    وهل هذا فيه مشقة؟ لا.

    إذاً: المفروض أن نستحي من الله ونحن مكشوفون بين يديه يعلم ظاهرنا وبواطننا على حد سواء، فمن راودته نفسه على أن يرتكب كبيرة من الذنوب أو معصية من المعاصي فليذكر الله فيكف ويمتنع.

    فإذا زاد على ذلك بأن يعلم أن الأرض سوف تخبر عن كل ما أحدث عليها .. فإذا ذكر أن الكرام الكاتبين .. أن الملائكة يسجلون ويدونون عليه أعماله وسوف تقدم له في شريط واحد يقرؤه يرتدع.

    ولكن الغافل مثلي .. الناسي .. المشغول بالدنيا .. بالشهوات والأهواء لا يذكر هذا، لا يذكر الله ولا الملائكة الكرام الكاتبين ولا يذكر الأرض ولا ما فيها.

    إي والله وإلا كيف تستطيع أن تسرق والبوليس بالرشاش عندك وصاحب المال يشاهد والعمال ينظرون؟

    كيف تستطيع أن تسرق؟

    إذاً: كيف تعص الله وأنت تعلم أن الله ينظر إليك وأن الملائكة تسجل جريمتك، وأن الأرض سوف تشهد عليك لأنك فوقها وعملت عليها؟! ولكنها الغفلة.. النسيان.. الإعراض.. عدم الإيمان.

    يَوْمَئِذٍ [الزلزلة:4] يومئذ يحدث الذي يحدث تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4] أي: تخبر بكل ما تم فوقها من خير وشر.

    بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:5] أوحى الله إليها بأن تخبر، ولولا أن الله أمرها ما فعلت، فهي عبدة لله مطيعة لربها لخالقها ومدبرها، وما دام قد أوحى إليها بذلك وأذن لها فتقول، ولا تستطيع أن تكتم كلمة أو تخفي حدثاً مهما صغر.

    تخبر يا عبد الله بما صنعت على ظهرها بسبب أن ربك أوحى لها بذلك وأذن لها أن تفعل ذلك وتقوله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم)

    ثم قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا [الزلزلة:6] هم الآن في ساحة فصل القضاء، والشهود قائمون، والصحف تتطاير، والميزان منصوب.. وانتهت العملية وتمت في ظرف يوم كخمسين ألف سنة فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج:4-5] إلا أن الناس يتفاوتون، لكن نهاية الموقف هو هذا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا [الزلزلة:6] جمع شت: أي: متفرقين، فمنهم آخذ ذات اليمين إلى دار السلام، ومنهم آخذ ذات الشمال واليسار إلى دار البوار، وانتهت صفحة الحياة.

    يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ [الزلزلة:6] حال كونهم مختلفين متنوعين ليسوا على مستوى واحد، فمنهم الآخذ ذات اليمين، ومنهم الآخذ ذات الشمال يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا [الزلزلة:6] إلى أين؟ ليشاهدوا أعمالهم.

    لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6] ليَروا أو ليُرَوا؟ بالبناء للمجهول لِيُرَوا ولِيَرَوا .. الله يريهم أعمالهم.

    هل يريهم نتائج أعمالهم أو يريهم أيضاً أعمالهم؟

    قبل وجود الفيديو والتلفاز ما كان المؤمنون يخطر ببالهم أنهم يشاهدون أعمالهم، وأما الآن فنعم، قد تنظر وإذا بك تذبح أخاك والسكين في يدك .. تشاهد نفسك اختطفت الشاة وأنت تهرب بها، فيرى الإنسان نفسه وهو على تلك الحال.

    فعلى كل حال: الفاضحة هي القيامة، فعلى العاقل البصير أن يحسب لهذه المواقف حسابه، وأن يجاهد نفسه وهواه ودنياه وشياطينه من الإنس والجن لعله ينتصر فينجو.

    لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6] كاملة، قطعاً الأعمال التي كلف بها الآدمي وهو بالغ عاقل، إذ التكليف يشترط فيه العقل والبلوغ، أما المجانين والأطفال فلا شيء عليهم، ولا يريهم الأعمال التي عملوها، بل يتفضل عليهم بالرحمة والنعيم أو بالعذاب والجحيم، لكن المكلفين من النساء والرجال، من الجن والإنس سوف يشاهدون نتائج أعمالهم، آثارها، جزاءها إما النعيم المقيم وإما الجحيم والعذاب أليم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)

    ثم قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7] فمن يعمل منكم يا بني آدم! يا بني الجن! مثقال ذرة .. وزن ذرة، والعرب يطلقون الذرة على بيضة النملة، أو على النميلة الصغيرة، فالنمل لها بيض.. القمل لها بيض كبيض الجراد.

    إذاً: وزن ذرة يراها.

    الآلام والأتعاب التي تصيب الإنسان في الدنيا مكفرة للذنوب والمعاصي

    يروى: أن هذه الآية قرأها النبي صلى الله عليه وسلم وهو على مائدة يأكل مع الصديق ، مع أبي بكر رضي الله عنه، فلما قرأها وقف أبو بكر ، انجفل وبكى، ( ما يبكيك يا أبا بكر ؟ قال: إذا كنا نؤاخذ بمثقال الذرة من الشر كيف ننجو؟ )، إذا كان وزن الذرة من الشر نحاسب عليه ونجزى به ما نستطيع ندخل الجنة، كيف ننجو؟ فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ( ألست تمرض؟ ألست كذا.. ألست كذا؟ قال: بلى. قال: حسناتك تدخر لك، وذنوبك تكفر عنك بما يصيبك الله به من الألم والأتعاب في هذه الدنيا ).

    فحسنات الصالحين والصالحات من أهل التوحيد لا أهل الشرك تحتفظ، وما يصيبونه من ذنوب صغائر هذه تكفر بما يصابون به من ألم الضرس.. من الحمى.. من شدة الحر.. من التعب.. من العطش.. من موت الابن.. من موت الصديق، هذه الآلام تكفر الذنوب وتبقى الحسنات مدخرة في حساب أهلها.

    ونظير هذه الآية آية النساء: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا [النساء:123].

    لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ : يا أهل الإسلام.

    وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ : من اليهود والنصارى.

    الحكم هو: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ : لا محالة.

    وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا : يتولاه.

    وَلا نَصِيرًا : ينصره، واضحة الدلالة. فلهذا الذي يصيبنا من آلام وأتعاب هو في صالحنا، يكفر الله به سيئاتنا.

    فلهذا صاحبنا أمس: أبي بن كعب لما سمع ما تفعله الحمى بصاحبها، وما تفتت من الذنوب، سأل الله تعالى أن يعيش محموماً، لا تفارقه الحمى، وقال: لله علي أن أجاهد وأصلي. فما وضعت يدك على يد أبي إلا وجدت به حمى، حتى ما تبقي عليه ذنباً.

    إذاً: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] هذا نظام الله، في الدنيا وفي الآخرة.

    فالمؤمنون أهل التوحيد واليقين والبصيرة إذا أذنبوا ذنباً أخذ ذلك الذنب بما يصيبهم الله به ونجوا منه.

    ولهذا كان أحدهم يقول: أنا أعرف ذنبي، إذا عثرت دابتي -يركبون الدواب- عرفت أنني اقترفت ذنباً. قال: أستدل على ذنوبي بما يصيبني، حتى إن الفرس أو البغل أو الحمار المركوب إذا عثر يهتز الإنسان أحياناً يكاد يسقط، قال: علمت أنه وقع مني ذنب أمس، فلهذا المؤمنون البصراء أهل البصيرة والوعي ما يتألمون من الآلام أبداً، يعرفون أنها في صالحهم.

    المؤمن يثاب على عمله الصالح في الدنيا والآخرة أما الكافر فلا يثاب عليه إلا في الدنيا فقط

    فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]. (من): من أوصاف العموم تشمل الكافر والمؤمن (من)، ولكن قررت الشريعة الغراء وهذه الملة السمحاء: أن الكافر إن عمل خيراً في الدنيا يجزى به في الدنيا، كافر أقام جسراً لأهل قرية يمرون به يعطى ثوابه: بركة في ماله.. بركة في أولاده.. بركة في جاهه يصبح ذا جاه محترم، يبني مسجداً أو مدرسة أو مستشفى يعطى ثوابه في الدنيا، ولعلكم تشاهدون هذا، جمعيات التنصير أو التبشير من أغنى الجمعيات، ينفقون الأموال من أجل هداية الناس في نظرهم، وهم من أجل إضلال الناس، ولكن أموالهم وافرة، سمعتهم عالمية، إذا طالبوا شركة من شركات أوروبا أو أمريكا تدفع كل شيء.

    إذاً: أخذوا أجرهم في الدنيا، أما في الآخرة فلا حسنة. وهذه عدالة الله؛ لأنه قال: فَمَنْ يَعْمَلْ [الزلزلة:7] من كافر.. مؤمن.. أبيض.. أسود، مثقال ذرة يجز به، ويلقى جزاءه.

    ومن يعمل مثقال من شر يجز به، فالشر شؤمه قد ينالهم في الدنيا: آلاماً.. أحزاناً.. أتراحاً كذا.. ولكن الجزاء في الآخرة، ما في الدنيا إلا شؤم المعصية. وهذه القضية قررناها وسمعها المستمعون والمستمعات، وهي واضحة في أذهانكم، وهي: ما جاء في قول الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] أيها العاملون.. يا عملة! اعملوا، لا تطالبوا بالأجر اليوم؛ لأن الوقت وقت عمل، متى تتسلمون أجور أعمالكم؟ يوم القيامة، نص صريح الدلالة: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [آل عمران:185] مقابل أعمالكم وجهدكم وطاقاتكم؛ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] لا اليوم.

    فمن هنا قالت العلماء: فإذا أصيب المؤمن بكرب، بهم، بحزن، بفقر، بمخمصة، بسجن، بكذا.. هذا بالنسبة إلينا قلنا: ليمحو الله به ذنوبنا في الدنيا، وفي نفس الوقت هذا الذي أصابه نتيجة مخالفة وذنوب، ما هو جزاء على عمله، وإن أصابه نعيم وسعادة في الدنيا وعافية فهذا من يمن وبركة العمل الصالح، ما هو جزاء وانتهى أخذ حقه في الدنيا، هذا من بركة ويمن العمل الصالح، كما أن الجانب المقابل وهو الكافر، إذا أصيب الكافر بمرض، بآلام، بأحزان ليس هذا هو الجزاء، هذا من شؤم السيئات، أي: للحسنات يمن وبركات، وللسيئات شؤم ونحس. أما الجزاء اطمئنوا إلى أنه يوم القيامة، إذ الدار دار عمل وليست دار جزاء. هذا صريح قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [آل عمران:185] متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] وبين لنا نوع الأجرة فقال: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185] أبعد بعيداً؛ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] ومن لم يزحزح عنها، بل ألقي فيها؛ فقد خاب وخسر.

    وفي الحديث الصحيح ما يدل دلالة قطعية: أن الكافر المشرك إذا عمل الخير في الدنيا لا يثاب عليه في الآخرة، يعطى يمنه هنا، أما أن يثاب عليه يوم القيامة فلا.

    حديث الصحيح: وهو أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، سألت النبي صلى الله عليه وسلم -وكانت كثيرة السؤال؛ لأنها طالبة للعلم- فقالت: يا رسول الله! أفرأيت عبد الله بن جدعان ، كان يكسو في الحج الواحد ألف حلة، وينحر ألف بعير للحجاج. هذا غني من أغنياء العرب، إذا جاء الموسم يوزع على الفقراء والمحتاجين في الموقف ألف حلة، والحلة تسمونها البدلة، ثوبان من نوع واحد هي الحلة، ألف حلة، ويذبح ألف شاة أو بعير، فقالت: ( هل يجزى بهذا يا رسول الله؟ قال: لا. لأنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، ما كان يؤمن بالبعث والجزاء، ولا يسأل الله تعالى.

    والآن معاشر المستمعين والمستمعات! نحن أمام الواقع: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] فعلينا أن نصفي حساباتنا من الآن.

    التحذير من احتقار المعروف والذنوب الصغيرة

    فلا تحقرن من الذنوب ذنباً ولو كان نظرة، إذا كانت الذرة تحاسب عليها وتجزى بها بقي ذنب تستخف به وتقول: هذا ما فيه شيء؟ هيا نلعب الكيرم، لا شيء انتبهوا! مثقال ذرة يؤاخذ ويطالب به. كذلك لا تحقرن من المعروف شيئاً، وفي هذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في الصحيح: كانت رضي الله عنها جالسة وبين يديها عنب تأكله، كأنني أنظر إليها، فوقف عند الباب سائل: أماه! جائع، وإلى جنبها مؤمنة قالت: خذي هذه العنبة وأعطيها لهذا السائل. اندهشت الخادمة أو الرفيقة، كيف حبة عنب؟ قالت: اندهشت؟ ما لك؟ أما سمعت الله يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا [الزلزلة:7]؟ كم من مثقال في هذه الحبة من العنب؟ فيها عشرون مثقالاً أو ثلاثون، فلا تقل إذاً: عائشة شحيحة، وإنما أرادت أن تعلمها وتعطيها العلم العملي، خذي هذه العنبة، اندهشت كيف حبة عنب؟ قالت: اندهشت؟ أما علمت أن من يعمل مثقال ذرة.. كم المثقال في هذه الحبة؟ أكثر من عشرين مثقال ذرة.

    وفي الصحيح يقول أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة )، حديث الصحيحين: اتقوا النار يا عباد الله، اجعلوا بينكم وبينها وقاية، ولو إذا ما وجدتم بعيراً ولا شاة ولا ولا.. اقسم التمرة قسمين وخذ شقها وتصدق بشق، ما عندي إلا تمرة. عائشة كم حبة عنب بين يديها؟ أعطت حبة، ممكن الحبات كلهن سبع حبات أو ثمان، أعطت حبة.

    ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) فالله عز وجل الحسنة هذه وهي من أقل حسناتك يضاعفها لك، ويعظمها، وتصبح أطناناً من الحسنات.. ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ).

    إذاً: حديث عائشة في حبة عنب، قالت: كم مثقال فيها؟

    أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ).

    ويقول: ( لا تحقرن من المعروف شيئاً )، ولا من السيئات شيئاً. قاعدة عامة: إياك أن تقول: ماذا هناك إذا تكلمت مع هذه المرأة؟ ماذا هناك إذا صافحتها؟ يعني: تحتقر الذنب ولا تعده شيئاً، كأنك ما فجرت ولا كفرت، هذا المنهج غير سليم، فقط إن حدث ما تكرب ولا تحزن، استغفر الله واعلم أنك ما وقعت في كبيرة تمح اسمك من ديوان الصالحين، أما أن تستخف بالسيئات وتحتقر وتقول: ما فيه شيء؛ هذا مجانب لطريق السلامة وسبيل النجاة.

    كما أنك تعمل ليل نهار ما استطعت ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق )، تعرف هذه الأيام وفي بلاد كثيرة كروب وآلام، فالراشد يعرف أخاه وينظر إليه ويبتسم في وجهه ينشرح صدره؛ لأنه حزين لموت أمه مثلاً أو مرض أبيه، أو فقير يتألم من الجوع فتبتسم في وجهه هذه حسنة عظيمة، ( ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق ).

    بل أن تميط الأذى وتبعده من طريق المؤمنين والمؤمنات؛ لأنه -كما علمتم- علينا ضريبة يومية، تعرفون الضريبة اليومية أو لا؟ الحكومة عندها ضريبة يومية؟ لا. ولا الشيوعيين، وإنما في العام مرة، لكن الله ضرب علينا ضريبة يومياً مقابل هذا الهيكل الإنساني؛ إذ قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( يصبح على كل سلامى من سلامى ابن آدم صدقة ) كل مفصل دقيقة، وعدد مفاصل الجسم ثلاثمائة وستون مفصلاً، لو يجتمع أطباء التشريح الآن والله ما نقضوا قراراً قرره الرسول صلى الله عليه وسلم.

    يصبح على كل عضو دقيق من أعضائك وهو عددها ثلاثمائة وستون صدقة، مقابل ذلك تشكر. إذا ما فقهت هذا تصدق على بصرك، كل يوم يمن الله عليك بأن تصبح وعيناك مفتوحتان تنظر الإبرة وتنظر الجمل، أنت تملك هذا بالقوة؟ تصبح وتسمع كيف تسمع؟ أنت تملك السمع؟ أنت تصلحه؟ أنت تقدر عليه؟ لولا الله، ادفع ضريبة السمع، ضريبة النطق واللسان، لو شاء الله تصبح ما تتكلم، تملك لنفسك شيئاً؟ أعطيناك هذه الجارحة تستخدمها بمقابل، ادفع وإلا نسلب أو نعاقب، وعلى رجلك تمشي بها ويدك تبطش بها هذه أعضاء محسوسة ملموسة، مخك وغليانه.

    هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم من أطباء التشريح؟ هل كان عالم من علماء الأجنة؟ لا. كيف يتكلم بهذا؟ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]. قضية من قضايا آلاف القضايا لن يستطيع العالم أن يوقفها أو يبطلها.

    فلهذا قلنا: محمد رسول الله وإن كفر العالم كله، وإن كذب الإنس والجن ما نكذب، إنه رسول الله بهذه البراهين والأدلة.

    قال صلى الله عليه وسلم: ( يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة ) سماها صدقة، أنا سميتها ضريبة لتفهموا؛ لأنها حتمية.

    إذاً: فتصدق كل يوم بصدقة تكون دفعت الضريبة واقض يومك وليلتك في أمان. فإذا لم تجد؛ ابتسم في وجه أخيك، قلت: ما عندنا لا دينار ولا درهم ولا خبز ولا تمر، ما فيه؟ ابتسم، الكلمة الطيبة صدقة.

    وأخيراً: ركعتان بعد شروق الشمس تسدد بها الضريبة كاملة وتأخذ الصك بجيبك وتمشي، أو أحلف لكم؟ تصلي ركعتين في الضحى تكون قد سددت الضريبة سداداً كاملاً، لكن أخشى عليكم الفتنة، ما هي؟ يقول: الحمد لله خلصناها، فلا يتصدق ولا يصلي ولا يعطي ولا كذا.. آه! أنتم تجار، ألو، وصلنا من طريق المركز الفلاني مليون ريال لا يقول التاجر: الحمد لله يكفي، وإنما يتصل بمركز آخر. هكذا أصحاب الدنيا، فأنا خفت عليكم أن تقولوا: ما دامت القضية في ركعتين فقط نسددها ونظل نفرفش، لا. أنتم تجار كبار، هذه التجارة الرابحة.

    اسمع هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا [الصف:10] لبيك اللهم لبيك.

    هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10] دلنا يا ربنا.

    قال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:11]، والجهاد جهاد النفس أولاً، وجهاد الكافر والمنافق ثانياً.

    إذاً: انتبهوا! نحن نعمل على أن نسدد الضريبة هذه بركعتين، لكن لا نقول: فرغنا، انتهينا نفرفش؛ لأن النعم تتجدد يا عبد الله! النعم تتجدد فجدد الشكر لها، واصله.

    إذاً: يا شيخ! تريد أن تحولنا إلى أن نكون كالملائكة؟ هذه كلمة الغافلين، هذا تزمت وتشدد، ما كان الصحابة هكذا. هكذا يقولون في أنديتهم.

    نحن عندنا كلمة واحدة حفظتموها، عندنا: يا أيها القوم! يا إخواننا! لا تلوموننا لأننا نريد أن نعرج بأبداننا وأرواحنا إلى مسافة سبعة آلاف وخمسمائة عام في السماء، فلو ذبنا ذاب الشحم واللحم وأصبحنا عيدان فقط عظام لا تلومونا، قمنا الليل بكامله، صمنا النهار كله، مزقنا الدنيا ولم نلتفت إليها ما في عجب أبداً، لم؟ لأن الغاية الهدف أننا نريد أن ننزل منازل الأبرار، نريد أن نواكب مواكب النور.

    وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] فإذا تركت مجالس اللهو والباطل وأعرضت عنها تلومني؛ يقول: متزمت. جلست معكم أخذتم في الغيبة والنميمة أغلقت أذني ومشيت؛ انظر.. انظر إلى هذا المتزمت، هذا تزمت؟ أنا مأمور بأن لا أسمع الغيبة والنميمة، فما دمتم تؤذون إخواننا أمواتاً وأحياءً أنا ما أجلس. جلسنا في مجلس أخذوا مشاعل النار يوقدونها، ويعفنون المجلس بالدخان، الحاج مسعود أخذ نعليه وهرب، قالوا: هو متزمت، متزمت؟! ما أراد أن يجلس مجلس فيه باطل. فلان ما يحضر أبداً رقصاً ولا ولا.. متزمت، لا. فقط نحن نريد أن نسكن الملكوت الأعلى، وهذا الملكوت الأعلى يحتاج إلى أن تكون أرواحنا في صفائها، في نورها في طهرها كأرواح الملائكة، كهذا النور، عروج ولا صعود، ومن أراد أن يصعد بالبالون يصعد.

    إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40].. وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41].

    وصلى الله على نبينا محمد وآله...

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755798808