إسلام ويب

تفسير سورة سبأ (1)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • علم الله عز وجل أحاط بكل شيء، فهو سبحانه يعلم كل ما يدخل في الأرض من ماء أو نبات أو حيوان، وهو سبحانه يعلم كذلك ما يخرج من الأرض من النبات والكنوز والأحياء الذين يبعثون يوم القيامة، وهو جل وعلا يعلم ما ينزل من السماء من الملائكة والمقادير التي قدرها على عباده، ويعلم ما يصعد إليها من الملائكة والأعمال التي يقدمها العباد، فمن خلق وأوجد، ودبر وأتقن استحق أن يفرد بالعبادة والتوحيد.

    1.   

    بين يدي سورة سبأ

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    السور المفتتحة بالحمد

    وها نحن مع سورة سبأ المكية المباركة الميمونة، ومع قول الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سبأ:1]، وهي إحدى السور الخمس المفتتحة بحمد الله تعالى، فالأولى: سورة الفاتحة، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3]، والثانية: سورة الأنعام، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، والثالثة: سورة الكهف، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، قَيِّمًا [الكهف:2]، والرابعة: سورة سبأ، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سبأ:1]، والخامسة: سورة فاطر، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [فاطر:1]، وهي التي بعد سبأ مباشرة، فهذه هي الخمس السور المفتتحة بالحمد لله في القرآن الكريم.

    معنى الحمد

    والحمد هو الوصف بالجميل، وذلك كالجلال والإكرام والعظمة والحكمة والقدرة واللطف والخبرة، والله تعالى قد حمد نفسه بنفسه في هذه السور وفي غيرها، فقد حمد نفسه بنفسه فقال: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ ))[سبأ:1]، وكأنه يقول: قولوا: الحمد لله، ثم إنه ما حمد نفسه إلا وبين علة ذلك وسببه، فمن هنا لا يصح أن نحمد أو نمدح من ليس له ذلك بحق، والدليل والبرهان -كما سمعتم- أن الله تعالى ما حمد نفسه إلا وذكر مقتضيات الحمد وموجباته. فهيا مع الفاتحة، يقول تعالى: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ ))[الفاتحة:2]، لم؟ (( رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ))[الفاتحة:2-4]، فهنا قد حمد نفسه ومجد نفسه، لماذا؟ لأنه صاحب هذه الكمالات العليا، وقال أيضاً: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ))[الأنعام:1]، فقد حمد نفسه على هذا الفعل الجليل العظيم، وقال كذلك: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا ))[الكهف:1]، فإنزال هذا القرآن العظيم بما فيه من علوم ومعارف صاحبه يحمد عليه أي حمد، (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ))[سبأ:1]، (( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ))[فاطر:1].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السموات و ما في الأرض...)

    فهيا بنا نصغي مستمعين إلى هاتين الآيتين ثم نتدارسهما، قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:1-2].

    وجوب حمد الله تعالى وشكره بالقلب واللسان والجوارح والأركان

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! علمنا -وعلّمنا الله- أنه لا يحمد ولا يوصف بالجمال إلا من كان أهلاً لذلك وإلا أصبحنا كاذبين، إذ لا يحمد إلا من كان أهلاً للحمد، وها هو ذا تعالى يحمد نفسه ويبين موجبات الحمد ومقتضياته، ومن أجل ذلك فقد حمد نفسه وأمر عبيده بأن يحمدوه، فقال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سبأ:1]، خلقاً وملكاً وتصرفاً، إذ جميع من في السموات من الملائكة والكواكب والأفلاك وكل المخلوقات هي لله تعالى؛ فهو خالقها ومالكها والمتصرف فيها، والأرض كذلك، بل وكل ما فيها من إنسان أو حيوان أو نبات أو بحار هو لله تعالى، إذ هو خالقه وموجده والمتصرف فيه، وليس لأحد مع الله في هذا شيء، فلهذا يحمد نفسه بنفسه، ويلزم عباده بحمده، فحمد الله فريضة كل مؤمن ومؤمنة.

    لا يحمد في الآخرة إلا الله سبحانه وتعالى

    وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ [سبأ:1]، فكما أن له الحمد في الدنيا فكذلك له الحمد في الآخرة، إذ أهل الجنة ما إن ينعموا في الجنة حتى يحمدوا الله عز وجل، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]، فإذا أكلوا وإذا شربوا وإذا لبسوا وإذا تنعموا فلا يفارقون كلمة: الحمد لله، ومن هنا لا ننسى أننا مأمورون بحمد الله تعالى على كل نعمة، فأيما نعمة تجلت لك وظهرت إلا ويجب أن تقول: الحمد لله، وفوق ذلك قد بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، متى نحمد الله تعالى؟ فقال: إذا أكلتم أو شربتم أو لبستم أو ركبتم أو نزلتم فدائماً كلمة: الحمد لله على أفواهنا، ولهذا سميت هذه الأمة في التوراة والإنجيل بأمة الحمد، ويعرفون بالحمادين، أي: أمة الحمد، فالمريض حينما يعاني من آلام المرض فتسأله: كيف حالك؟ فلا بد وأن يقول: الحمد لله، والجائع عندما يربط الحجر على بطنه ويقال له: كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله، فهذه الكلمة لا تفارق ألسنة المؤمنين والمؤمنات العارفين بالله والعارفات، أما ذووا الجهل والضلال فهم لا يدرون ما يقولون، فلابد وأن تكون كلمة: الحمد لله شعارنا دائماً وأبداً، وكيف لا والله تعالى يحب الحمد؟! بل حتى روي أن الرسول قال: ( لا أحد أحب إليه الحمد من الله عز وجل )، حتى إنه سبحانه وتعالى قد حمد نفسه بنفسه، وأمر عبيده أن يحمدوه، وله كذلك الحمد في الدنيا والآخرة.

    الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سبأ:1]، فمن هنا وجب أن يُحمد سبحانه وتعالى، إذ إنه مالك كل الكائنات في الأرض والسموات، وبالتالي فكيف لا يحمد وأنت تحمد صاحب منزلة أو صفة من الصفات؟! فكيف بـ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ [سبأ:1]؟ وكما أن له الحمد في الدنيا فكذلك له الحمد في الآخرة، إذ يحمده أهل النعيم المقيم في الجنة دار السلام.

    معنى قوله تعالى: (وهو الحكيم الخبير)

    وقوله تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ:1]، هاتان صفتان عظيمتان جليلتان، إذ هو الحكيم في كل تصرفاته، فيما يخلق وفيما يذر وفيما يترك، وعمله لا يفارقه الحكمة أبداً، وهو حكيم يضع كل شيء في موضعه، وذلك من الذرة حتى المجرة، فلا يخطئ في شيء سبحانه وتعالى، وهو خبير بأحوال عباده وأفعال مخلوقاته، إذ كلها بين يديه سبحانه وتعالى، فلماذا لا يحمد إذاً؟ فبهذا استوجب الحمد ووجب له، وكيف لا وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ:1]؟ والْحَكِيمُ هو الذي يضع كل شيء في موضعه، وهذه هي معنى الحكمة، والْخَبِيرُ هو المطلع على كل الأسرار والكائنات من عباده، فكيف لا يحمد إذاً؟! الحمد لله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ...)

    قال تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:2].

    يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ [سبأ:2]، هذا هو العليم الحكيم الخبير، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ [سبأ:2]، أي: ما يدخل في الأرض من قطر المطر الذي ينزل من السماء، إذ هو سبحانه وتعالى يعرفه، وكذلك أمواتنا الذين نرمي بهم في داخل الأرض الله يعلمهم، وأيضاً الحيات والثعابين التي في الجحور تحت الأرض الله يعلمها، بل كل ما يدخل في الأرض الله يعلمه، وهذا لا شك أنه علم عظيم، وبالتالي فمن يقوى على هذا؟ ومن يقدر على هذا؟!

    ثم قال تعالى: وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا [سبأ:2]، أي: من النباتات وأنواعها، وكذلك الأموات يوم القيامة، ويخرج منها أيضاً الكنوز المياه والعيون، فهو سبحانه وتعالى يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا [سبأ:2]، فيشمل أي شيء يدخل الأرض ويخرج منها، وهذا هو معنى إحاطة علمه سبحانه وتعالى بكل شيء، وذلك مما هو ظاهر وباطن، ويعلم أيضاً.

    وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ [سبأ:2]، أي: من الملائكة والأمطار والبركات والخيرات، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، أي: من الملائكة والأعمال الصالحة، إذ كلها ترفع إلى الله عز وجل ويعرج بها إلى الملكوت الأعلى.

    وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ [سبأ:2]، فحمد نفسه من قبل لأنه الرحيم الغفور، والرَّحِيمُ هو الذي يرحم عباده، والْغَفُورُ هو الذي يغفر ذنوبهم ولا يؤاخذهم بها إن هم تابوا ورجعوا إليه سبحانه.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    ومن هنا أكرر القول فأقول: معشر المستمعين والمستمعات! أولاً: لا يحمد إلا من كان أهلاً للحمد، فالذي يحمد ظالماً أو فاسقاً أو فاجراً أو بخيلاً أو شحيحاً فقد أساء وظلم؛ لأن الذي يحمد ويمدح ويثنى عليه لابد وأن يكون أهلاً لذلك وإلا كنا من الكاذبين، وهذا الله تعالى ما حمد نفسه إلا بعد أن بين لنا لماذا يُحمد.

    ثانياً: لا ننسى حمد الله أبداً في كل ظروفنا وأحوالنا وخاصة في الأماكن التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم أن نحمد الله فيها، ومنها -كما علمنا- عند الفراغ من الشرب أو الأكل، أو إذا ركبنا السيارة، أو إذا لبسنا الثوب فنقول: الحمد لله الذي رزقنيه ولو شاء لأعراني، وإذا سُئلنا عن حالنا فنقول: الحمد لله، إذ هذه هي صفتنا في الكتب السابقة، أي: أننا أمة الحمد، ولذا فنحن الحمادون لله عز وجل، كما أن الواجب علينا أن نذكر الغافلين والناسين الذين يأكلون ولا يقولون: الحمد لله، أو يركبون ولا يقولون: الحمد لله، أو يلبسون ولا يقولون: الحمد لله، أو يسألون عن حالهم ولا يقولون: الحمد لله، فهؤلاء يحتاجون إلى تعليم وإلى تبصير حتى يتهيئوا لهذا العلم ويعملون به.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    والآن أسمعكم شرح الآيات من الكتاب فتأملوا.

    معنى الآيات

    قال الشارح: [ معنى الآيات: يخبر تعالى عباده -نحن- بأن له الحمد والشكر الكاملين التامين دون سائر خلقه، فلا يحمد على الحقيقة إلا هو، أما مخلوقاته فكل ما يحمد له هو من عطاء الله تعالى لها وإفاضته عليها، فلا يستحق الحمد على الحقيقة إلا الله ]، أي: عندما تحمد زيداً أو عمراً على ما أعطاك إياه، فالله هو في الحقيقة الذي أعطاه ووهبه، وبالتالي فالمحمود الحق هو الله سبحانه وتعالى، قال: [ كما أخبر تعالى بموجب حمده وشكره وهو أن له ما في السموات وما في الأرض خلقاً وملكاً وتدبيراً وتصريفاً، وليس لأحد سواه من ذلك شيء ]، ومن هنا لا يستحق أن يعبد مع الله كائناً من كان، ومن هنا تقررت الحقيقة بأنه لا إله إلا الله، إذ لا يوجد في العوالم العلوية والسفلية من يؤله ويعبد بأية عبادة مع الله أبداً؛ لأن الكل مربوب ومخلوق لله تعالى، والله هو خالقه ومالكه، قال: [ وليس لأحد سواه من ذلك شيء هذا في الدنيا، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ [سبأ:1]، إذ يكرم أولياءه فينزلهم دار السلام فيحمدونه على ذلك، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر:74] ]، وقال الله تعالى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].

    قال: [ وقوله تعالى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [سبأ:1]، في تصريف أمور عباده وسائر مخلوقاته وتدبيرها، الخبير بأحوالها، العليم بصفاتها الظاهرة والباطنة.

    وقوله تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ [سبأ:2]، أي: ما يدخل في الأرض من مطر وكنوز وأموات، وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا [سبأ:2]، أي: من الأرض من نبات ومعادن ومياه وعيون، وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ [سبأ:2]، من أمطار وملائكة وأرزاق، وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، أي: يصعد من ملائكة وأعمال العباد، وهو مع هذه القدرة والجلال والكمال هو وحده، الرَّحِيمُ [سبأ:2]، بعباده المؤمنين، الْغَفُورُ [سبأ:2]، للتائبين.

    بهذه الصفات الثابتة للذات الإلهية من صفات جلال وكمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه ]، أي: من أجل هذه الصفات استحق الله العبادة دون من سواه، فلا يعبد مع الله غيره، لا بالدعاء ولا بالاستغاثة ولا بالنذر ولا بالخوف ولا بالرهبة ولا بالحب ولا بأية عبادة أبداً، إذ لا إله إلا الله، فالأنبياء والرسل عليهم السلام والملائكة جميعهم يعبدون الله وللعبادة خلقهم، فلا يستحقون أن يُعبدوا مع الله لا بدعائهم ولا بالاستغاثة بهم، فكيف بمن دون ذلك من المخلوقات؟! لكن للأسف فقد عبد الجهال الأحجار والأصنام ونسبوها إلى الله، كما عبدوا القبور والأضرحة ونسبوها إلى الله تعالى، كما عبدوا ما شاء الشيطان أن يعبدوا وهم في ذلك مشركون جاهلون والعياذ بالله تعالى.

    قال: [ بهذه الصفات الثابتة للذات الإلهية، وهي صفات جلال وكمال استحق الرب تعالى العبادة دون سواه، فكل تأليه لغيره هو باطل ]، وقد تورط النصارى المسيحيون الصليبيون في تأليه عيسى عليه السلام ونسبته إلى الله بأنه ابنه! قال: [ فكل تأليه لغيره فهو باطل ومنكر وزور يجب تركه والتخلي عنه، والتنديد بفاعله حتى يتركه ويتخلى عنه ].

    هداية الآيات

    قال الشارح: [ من هداية الآيات المباركة: أولاً: وجوب حمد الله تعالى وشكره بالقلب واللسان والجوارح والأركان ]، وجوب حمد الله تعالى يكون أولاً: بالقلب واللسان والجوارح، فنحمده باللسان كقولنا: الحمد لله، ونحمده بالجوارح وذلك بطاعته وفعل أوامره وترك نواهيه، ونحمده بالقلب وذلك بحبه والخوف والرهبة منه، قال الشاعر:

    أفادتكم النعماء مني ثلاثة لساني ويدي والضمير المحجبا

    قال: [ ثانياً: بيان أن الحمد لا يصح إلا مع مقتضيه من الجلال والجمال ]، أي: أن الحمد لا يصح أبداً إلا إذا كان المحمود ذا جلال وجمال وكمال وإلا كنا كاذبين، فهل نطلق على بشع الخلقة فنقول: إنه جميل؟!

    قال: [ ثالثاً: لا يحمد في الآخرة إلا الله ]، وعرفنا هذا لأن الله ما حمد نفسه إلا ويذكر موجب الحمد، إذ إنه في الخمس السور التي سمعناها لا يقول: الحمد لله إلا وقال لكذا وكذا، أي: لا يحمد محمود إلا إذا كان له ما يوجب الحمد ويقتضيه، والحمد المطلق لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى.

    قال: [ ثالثاً: لا يحمد في الآخرة إلا الله سبحانه وتعالى ]، فلا يحمد في الآخرة إلا الله فقط، فهل يحمده أهل النار الذين هم أهل العذاب والشقاء والخسران؟ لا، بل يحمده أهل الجنة دار النعيم، جعلنا الله منهم وألحقنا بهم مسلمين، فهم الذين إذا أكلوا أو شربوا أو لبسوا أو تنعموا في رياض الجنة يحمدون الله عز وجل، أما أهل النار فلا يحمدونه؛ لأنهم في عذاب وشقاء.

    قال: [ رابعاً: بيان علم الله تعالى بالظواهر والبواطن في كل خلقه ]، وهذه هي الحقيقة، ولذا فاعلموا يرحمكم الله! أن كل أعمالنا الظاهرة والباطنة معلومة لله تعالى، إذ لا يوجد هناك ما تستطيع أن تخفيه عن الله تعالى، حتى ولو كان في قلبك، إذ إن الله هو العليم بكل الكائنات، ظواهرها وبواطنها على حد سواء، وذلك لأنه خالقها وموجدها، فهل الذي يصنع الشيء لا يعلم ظاهره وباطنه؟ بلى إنه يعلم.

    قال: [ خامساً: تقرير توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته ]، فيا عباد الله! لا رب إلا الله، ولا خالق ولا رازق ولا مدبر للخلق إلا هو، ولا يعبد على الحقيقة إلا هو، فلا رب سواه، ولا إله يعبد سواه، وهذه الآيات قد قررت ذلك، بل وكل الكون يشهد أنه لا إله إلا الله، فلا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى، والذين عبدوا الشهوات والفروج والأطماع والدينار والدرهم والقبور والأولياء والصالحين إنما هو لجهلهم ولاستيلاء الشياطين عليهم، وبالتالي صرفتهم الشياطين عن الحق وأبعدتهم عنه ورمت بهم في الضلال والشرك والكفر والعياذ بالله، فنبرأ إلى الله منهم، ونعوذ بالله من صنيعهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756351726