إسلام ويب

تفسير سورة الزمر (12)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من ينكر الآخرة وما فيها من الحساب والجزاء إنما يسخر من نفسه ويمكر بها، وإن الظالمين الذين أخذتهم الغفلة وسيطرت عليهم السكرة إذا ما رأوا ذلك اليوم وعاينوا أهواله فسيفاجئون، وسيبدي لهم الله عز وجل سيئات ما كانوا في الدنيا يكسبون، ولن يقبل منهم معذرتهم ولا يستعتبون، بل في جهنم سيدخلون، ولعذابها الأليم سيعانون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل اللهم فاطر السموات والأرض ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الزمر:46-48].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الزمر:46].فيها أمر من الله تبارك وتعالى إلى رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول هذه الجملة: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر:46]. فكان صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد كما أخبرت بذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يقول: ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ).

    وهذه الجملة يُتوسل بها إلى الله في قضاء الحاجات، فاحفظ هذه الجملة من كتاب الله وتوسل بها لقضاء حاجتك عند ربك، إن كنت ذات حاجات وهي: ( اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني ). وإن شئت فقل: ارزقني، اشف ضري، طهر قلبي، بحسب حاجتك. وفي هذا الدعاء تعليم الله لرسوله كيف يتوسل إليه ليقضي حاجته.

    وأصل اللهم: يا الله! وحذفت ياء النداء؛ لأن الله قريب وليس ببعيد منا، فهو يسمعنا في كل أحوالنا، واستبدل عنها بالميم في آخرها!

    وقوله: فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، أي: خالق السماوات والأرض، وفطر بمعنى: خلق على غير مثال سابق، والفاطر هو: الذي يوجد الشيء على غير مثال سابق.

    وقوله تعالى: عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الزمر:46]. أي: يعلم ما غاب عن عيوننا فلم نراه ولم نشعر به، ويعلم ما نشاهده.

    وقوله: أَنْتَ [الزمر:46]، أي: وحدك لا شريك لك، تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ [الزمر:46]، أي: بين المؤمنين والكافرين، والموحدين والمشركين، والطاهرين الطيبين والخبثاء المفسدين، فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر:46]، أي: في دنياهم، وهذا الحكم سيكوم القيامة. وبمثل هذا الدعاء يتوسل المتوسلون إلى الله تعالى في قضاء حوائجهم، فهذا هو التوسل المشروع، أما التوسل بحق فلان، وجاه فلان، الذي عاشت عليه أمة الإسلام قروناً عديدة فباطل، فلا يوجد أحد له حق على الله، لأنه ليس له معين ولا شريك أبداً، وأبشع من ذلك التوسل بجاه فلان.

    وقد قلت غير ما مرة: أن هذا من دس وخداع اليهود المضللين لنا، الذين حرمونا من التوسل إلى الله بما من شأنه أن يستجيب الله لنا به، ويعطينا حاجاتنا، فقد صرفونا عن صلاة الليل، وعن صلاة الضحى، وعن الذكر والدعاء، وعن تلاوة كتاب الله، وعن الإحسان إلى المؤمنين والمؤمنات، وعن سد حاجاتهم لك هذا التوسل كله غطوه، ولم يتركوا لنا إلا التوسل الذي فيه: أعطني بحق فلان، وجاه فلان.

    وقد قال الإمام الأعظم أبو حنيفة رحمه الله: من سأل الله بحق فلان فقد كفر؛ لأنه جعل لفلان على الله حق، وليس للعبد على الله أي حق،فعلينا أن نحفظ هذه الآية الكريمة ونتوسل بها إلى الله، ليقضى حاجاتنا إذ لا يقضيها إلا الله قطعاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة...)

    قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [الزمر:47]، أي: من أموال وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:47]. أي: من شدة العذاب وهوله، لكونه لا يطاق ولا يقدر عليه كائن أبداً من عباد الله؛ ولو كان له ما في الأرض جميعاً ومثله معه لطالب الفداء به حتى لا يدخل النار ولا يعذب بعذابها.

    ومظاهر الظلم التي يظهر فيها ويتجلى ثلاثة:

    الأول: وهو أقبح أنواع الظلم: هو ظلم العبد لربه تعالى، ويكون ذلك بإعطاء حقوق الله لغيره من المخلوقات، والظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه، وجميع أنواع العبادات هي حق الله، فقد خلق العباد ورزقهم ليعبدوه، فمن سلبها منه وأعطاها لغيره فقد ظلم أفظع أنواع الظلم وأشره.

    ولهذا يقول تعالى في كتابه العزيز: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. فهو ظلم لله، لأنه هو الذي خلقك ورزقك وخلق الحياة كلها لك، وأنت تعيش في كنفه وحفظه ثم تعطي عبادته لغيره، إن هذا لا يجوز وهو من الظلم القبيح، والعبادة هي: ما تعبدنا الله به، ومن أعظم ما تعبدنا به: الدعاء؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( الدعاء هو العبادة ). فلا يوجد عبادة أعظم من الدعاء، ومن دعا غير الله فقد أخذ حق الله تعالى وأعطاه لغيره.

    وإليكم صور واضحة تتجلى لكم بها حقيقة العبادة، وأن العبادة هي: الدعاء:

    إنك إذا رفعت يديك إلى الله، دل ذلك على أنك عبد فقير إليه ولولا فقرك ما رفعت يديك إليه ليقضي حاجتك، كما أنه رفع اليدين إلى من فوقه، وهو الله الذي فوق عرشه بائن من خلقه.ثم إنك حين تقول داعياً: يا رب! يا رب! تعلم أن الله يسمع نداءك ولذلك دعوته، كما أن الداعي قد علم أن الله يراه ويرى كفيه المرفوعتين إليه، ويرى فقره وحاجته وأنه يسمع نداءه، وأخيراً لو كان هناك غير الله يقضي حاجته ويعطيه سؤله لدعاه ولكن ذلك غير موجود البتة. فلهذا الدعاء هو العبادة، ومن دعا غير الله فقد أشرك بالله، ومأواه جهنم وبئس المصير.

    وقد عرف هذا أعداء الإسلام فجعلوا المسلمين يدعون غير الله:فبعضهم يدعون إدريس!والبعض عبد القادر !والبعض فاطمة والبعض الحسين !والبعض رجال البلاد! والبعض يدعون أولياء الله..! وهذا يسخط الله ويغضبه عليهم، والذي وضع هذا هم اليهود والنصارى والمجوس، فترى أحدهم يقف على القبر ويدعوا : يا سيدي فلان! مع أنه لا يسمعه، ولا يعلم أنه واقف على قبره، ولا يستطيع أن يمد يده إليه ليقضي حاجته،ومثل هذا لا يجوز أبداً،

    وقد انتشر هذا بين المسلمين من إندونيسيا شرقاً إلى موريتانيا غرباً، والذي صنع بنا هذا هم أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس؛ حتى هبطنا، ثم حكمونا وسادونا، وقهرونا وأذلونا.

    فمنعونا من الوسيلة الشرعية حتى لا نتصدق بمال، ولا نصوم، ولا نتهجد بليل، ولا بغيرها من العبادات، وجعلونا نكتفي بالتوسل بحق فلان وجاه فلان، وهو توسل باطل، وهو من كيد اليهود والنصارى والمجوس، فلا ينبغي أن نتوسل: بحق فلان ولا بجاه فلان أبداً، وإنما نسأل الله تعالى ونتوسل إليه بالأمور المشروعة فقط.

    والثاني: ظلمك لنفسك، ونفسك طاهرة مشرقة من حين نفخها الملك فاحفظ إشراقها ونورها، فإذا صببت عليها قناطير الذنوب والآثام، قضيت على طهرها، وسودتها وخبثتها ونتنتها، وأصبحت عفنة لا يرضاها الله ولا يسمح أن تعرج إليه. وعندما يستلم ملك الموت روح العبد فإن كانت طاهرة مشرقة نقية، فإنه يعرج بها إلى السماء الأولى ويستأذن، فيفتح لها، وتفتح لها السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة وتدخل الجنة، ويسجل اسمها في عليين. وإن كانت خبيثة منتنة مظلمة لا يفتح لها باب السماء الأولى، وتعود إلى أسفل سافلين. فظلمك لنفسك يا عبد الله: هو أن تحملها على ترك ما أوجب الله، أو تحملها على فعل ما حرم الله.

    وظلم فلان نفسه أي: خبثها ونتنها وعفنها؛ بذنوبه وآثامه، والذنوب والآثام تكون إما بترك واجب أوجبه الله أو بفعل محرم حرمه الله.

    والظلم الثالث: ظلمك لإخوانك من بني آدم، كفاراً كانوا أو مؤمنين، فلا تظلم أحداً؛ فإن الله حرم الظلم على نفسه،فسبك وشتمك وتقبيحك وتعييرك لأخيك، وسلبك لماله، وانتهاك عرضه ظلم له

    وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47]. وبدا: أي: ظهر فظهر لهم وشاهدوا الجحيم ولهبها، والسلاسل والأغلال، ولم يكونوا يظنون ذلك في عقولهم.

    وهنا لطائف منها: أن من الناس من يسخر ويستهزئ ويقول: ليس هناك عذاب ولا جحيم وجنة ولا سعادة ولا غيره، وهذا هو احتساب الملاحدة والعلمانيين والبلاشفة الحمر.

    وهناك احتساب من هو منغمس في الذنوب والآثام، ولا يحتسب أن الله يجزيه بها، فيتلاعب ويتلاهى ويعرض عن الجزاء، ويواصل في ذنوبه وآثامه، وقد كان أحد الصالحين من السلف عند مرضه الذي مات فيه متحيراً فسألوه: عن حيرته فقال: أخشى من هذه الآية: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما كسبوا...)

    قال تعالى: وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا [الزمر:48]. أي: ظهر لهم سيئات ما كسبوا، أما الآن ما تظهر للظالمين ولا للمفسدين سيئاتهم أبداً ولكن تظهر يوم القيامة.

    ثم قال تعالى: وَحَاقَ بِهِمْ [الزمر:48]، أي: وأحاط بهم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [الزمر:48]. وهذه الآية تتناول الكافرين والمشركين والظالمين. والله تعالى أسأل ألا نكون ظالمين ولا مشركين ولا آثمين.

    فعلينا أن نستعين بالله على أداء الواجبات في حدود قدرتنا، ونستعين به على ترك المنهيات، وليس في المنهيات ما يجب عليك أن تعمله أبداً؛ لأنها إنما تتعلق بالترك والإهمال فقط، لكن الواجبات قد تعجز عن فعل بعضها.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] والآن مع هداية الآيات.

    [من هداية هذه الآيات:

    أولاً: مشروعية اللجوء إلى الله تعالى عند اشتداد الكرب وعظم الخلاف والدعاء بهذا الدعاء وهو: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم؛ إذ ثبتت السنة به ] وجاء في النهر: [ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح به صلاته من الليل، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه قوله: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ [الزمر:46] ].فما توسل به أحد إلى الله إلا وقضى الله حاجته.

    [ ثانياً: بيان عظم العذاب وشدته يوم القيامة وأن المرء لو يقبل منه فداء لافتدى منه بما في الأرض من أموال ومثله معه ] وجاء في النهر: [ روي أن محمد بن المنذر جزع عند موته جزعاً شديداً، وقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] ].

    [ثالثاً: التحذير من الاستهزاء بأخبار الله تعالى ووعده ووعيده ] فويل للذين يستهزئون بالله، ويسخرون منه وويل لهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756193620