إسلام ويب

تفسير سورة الأنفال (20)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعد أن فتح باب الهجرة للمؤمنين صار الناس في ذلك على أقسام، وبناء على ذلك فقد بين الله الحقوق والواجبات على المؤمنين تجاه بعضهم البعض، فبين سبحانه أن من آمن وهاجر وجاهد في سبيل الله هو ولي لأخيه المؤمن من أهل النصرة في المدينة، أما الذين آمنوا ولم يهاجروا من أرض الكفر فليس لهم ولاية، لكن لهم حق النصرة إن هم استنصروا المؤمنين في الدين، إلا على قوم بين المؤمنين وبينهم عهد سلام، ثم بين سبحانه أن التوارث الذي كان بين المهاجرين والأنصار قد نسخ بعد تكامل المؤمنين وحصر في التوارث بالرحم مع بقاء الولاء المبني على الدين والنصرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا....)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة والليالي الثلاث بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبي وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فحقق اللهم لنا هذا الرجاء، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك.

    وها نحن مع آخر سورة الأنفال، ومع هذه الآيات الأربع، ولا يتسع لها درس واحد، فباسم الله نصغي مستمعين إلى تلاوتها مجودة مرتلة من أحد الأبناء، ثم نأخذ في شرحها وبيان ما جاء فيها من الهدى والخير، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:72-75].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! بعد انتهاء غزوة بدر وما تم فيها من خير كبير، إذ نصر الله أولياءه على أعدائه المشركين، ختمت هذه الأحداث بهذه البينات الإلهية، فأولاً: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:72]، وهذا صنف من الناس آمنوا حق الإيمان، آمنوا بأنه لا إله إلا الله، آمنوا بأن محمداً رسول الله، آمنوا بالبعث الآخر والحياة الثانية وما يجري فيها ويتم من حساب وجزاء، آمنوا بكل ما أمرهم الله ورسوله أن يؤمنوا به، وهذا أولاً.

    ثانياً: هاجروا من ديارهم وأموالهم والتحقوا برسول الله في مدينة النبوة، وكل ذلك لوجه الله عز وجل وللرغبة فيما عنده، وقد التحقوا برسول الله ووقفوا إلى جنبه يقاتلون دونه وينصرونه وينصرون دعوته، وهؤلاء هم المهاجرون رضوان الله عليهم أجمعين.

    آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ [الأنفال:72]، فالإيمان أولاً ثم الهجرة ثم الجهاد بشيئين: بالمال لمن لديه مال، وبالنفس، وهؤلاء أعلى درجة، إذ إنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله لا في سبيل منصب ولا راية ولا وطن ولا نسب ولا شرف، لكن في سبيل الله فقط، في الطريق الموصل إلى رضوان الله عز وجل، ألا وهو قتال الكفار من أجل أن يعبد الله وحده ولا يعبد معه سواه.

    وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ [الأنفال:72]؛ لأن المال ضروري في الجهاد، إذ هو الخطوة الأولى، وبدون مال كيف يتم الجهاد؟ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:72]، لا في طريق غير طريق الله، فلا يريدون وطناً ولا سيادة ولا عزاً ولا مالاً ولا جاهً ولا ملكاً، وإنما فقط يريدون أن يُعبد الله وحده، إذ ما خلق الخلق وخلق لهم هذه العوالم إلا من أجل أن يعبدوه، فهم يقاتلون في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الصنف الأول.

    وأما الصنف الثاني فقد قال الله تعالى فيه: وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا [الأنفال:72]، والمراد بهم أهل المدينة أنصار رسول الله من الأوس والخزرج، آوَوا [الأنفال:72]، أي: المهاجرين، إذ فتحوا لهم أبوابهم، وبذلوا لهم أموالهم، ونصروا رسول الله وجاهدوا معه، ووقفوا دونه يحمونه وينصرونه، آوَوا وَنَصَرُوا [الأنفال:72]، آووا من؟ آووا المهاجرين، فقد كان الرجل يقول لأخيه: هذا بستاني بيني وبينك، وهذه داري بيني وبينك، وآخر يقول: عندي امرأتان، فاختر إحداهما أطلقها لتتزوجها! فما فوق هذه النصرة من نصرة، ما فوق هذا الإيواء من إيواء.

    ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ [الأنفال:72]، أي: السامون الأعلون أهل المقامات العالية، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72]، والمراد بالولاية الحب والنصرة، إذ من تواليه هو الذي تحبه كما تحب نفسك، وتنصره كما تنصر نفسك، أما بدون حب أو ولاء أو نصرة فلا ولاء ولا ولاية.

    أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72]، فالمهاجرون أولياء الأنصار، والأنصار أولياء المهاجرين كجسم واحد، وبذلك انتصر الدين الإسلامي وانتشر في الشرق والغرب، وكل ذلك على اجتماع القلوب واتحاد النفوس على مبدأ أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا [الأنفال:72]، أي: آمنوا بالله رباً وإلهاً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، وبالبعث الآخر، لكن لم يهاجروا، إذ إنهم آثروا بقاءهم على الهجرة، وبقاءهم لأموالهم وأولادهم ونسائهم، وما خرجوا من مكة ولا التحقوا بالمدينة حيث يوجد رسول الله يجاهد في سبيل الله، فماذا تصنعون معهم؟ قال تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال:72]، وفي قراءة سبعية أخرى: (ما لكم من وِلايتهم من شيء)، فيقال: الوَلاية والوِلاية، أي: الموالاة بالحب والنصرة، إذ ولاية بدون حب ولا نصرة ولاية باطلة كاذبة.

    مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال:72]، أبداً قل أو كثر، حَتَّى يُهَاجِرُوا [الأنفال:72]، أي: ماداموا أنهم آثروا أموالهم ودنياهم على رسول الله ونصرته والإسلام والدعوة إليه، إذاً فليس بينكم وبينهم صلة، اتركوهم فلا حب ولا نصرة لهم، مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال:72]، قل أو كثر، وفي هذا دفع لهم إلى أن يهاجروا، وبالفعل هاجر الكثير منهم، فهذه امرأة لمدة سنة كاملة وهي تحاول أن تهاجر، إذ إنها تخرج من مكة ويردونها، وهذه هي الآيات التي شجعتهم ودفعتهم وحملتهم على أن يتركوا أموالهم ونساءهم وذراريهم ويلتحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حَتَّى يُهَاجِرُوا [الأنفال:72]، من مكة إلى المدينة حيث مركز الإسلام وقبته وقائده صلى الله عليه وسلم، ومن كان في غير مكة فهو كأهل مكة، فإذا كان بالطائف أو بالرياض أو بتبوك، ثم آثر البقاء عند أهله وزوجته وأولاده وترك الهجرة فأمرهم واحد، لكن أهل مكة هم الأظهر في هذا الباب.

    ثم قال تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ [الأنفال:72]، أي: إذا آذاهم الكافرون المشركون واضطهدوهم وعذبوهم وصاحوا: أغيثونا! أنقذونا! فيجب أن تنصروهم في الدين لا في الدنيا والباطل، لكن إن لم يكن الذي حاربهم وآذاهم في دينهم بينكم وبينه معاهدة سلم وعدم حرب واعتداء، وعند ذلك الوفاء بالمعاهدة أولى، واتركوا أولئك لله عز وجل، وهذا جزاؤهم؛ لأنهم تركوا الهجرة وعاشوا بعيدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [الأنفال:72]، ومعنى هذا: أن الذين لم يهاجروا فصلتكم مقطوعة بهم، فلا علاقة ولا حب ولا ولاء؛ لأنهم آثروا الدنيا ورغبوا فيها، وتركوا الدار الآخرة وما يدعو إليها، وهؤلاء إذا آذاهم المشركون في دينهم واستنصروكم، أي: طلبوا نصرتكم فانصروهم، وليس هذا مطلقاً، وإنما هذا مقيد أيضاً بقيد وهو: أن يكون الذين آذوهم ليس بينكم وبينهم معاهدة سلم وعدم حرب، وفي هذه الحال لا تنقضوا العهد الذي عقدتموه مع تلك الجماعة الكافرة المشركة من أجل أن هؤلاء استنصروكم وطلبوا نصرتكم.

    وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:72]، أي: عليم بالظواهر والبواطن والدوافع والأسرار وكل ما يتعلق بهذه الحياة، فارهبوه إذاً وخافوه، ووفوا لله عز وجل بنصرتكم لأوليائه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض...)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].

    وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73]، إي والله! فالكافر في أقصى الشرق أو في أقصى الغرب ولي للكافر في أي مكان، يحبه وينصره وخاصة ضد الإسلام والحق والنور والهداية، فمن أخبر بهذا الخبر؟ أليس هو العليم بذات الصدور؟ والدنيا شاهدة بهذا، إذ إن الكفار بعضهم أولياء بعض، فلو نقوم بجهاد ضد الكفار لقام الكفار كلهم إلى نصرة إخوانهم والوقوف إلى جنبهم، وليس في ذلك أنى شك.

    وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:73]، وبناء على هذا فأبغضوهم وجاهدوهم ولا تفرقوا بين أبيض وأسود، ولا بين شريف ووضيع، إذ الكفر ملة واحدة، فهدفهم واحد، وأغراضهم واحدة، وقلوبهم واحدة، إذاً: فإعلان الحرب ضروري بينكم وبينهم، إلا تفعلوا هذا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، ومن يوم أن ترك المسلمون الجهاد تحقق ما أخبر الله تعالى به، فظهرت الفتن الطاحنة والفساد المنتشر في الشرق والغرب.

    إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، ولا أكبر فتنة من فتنة الشرك والكفر بالله والعياذ بالله! والفساد هو الظلم والخبث والشر والباطل والمنكر!، إِلَّا تَفْعَلُوهُ [الأنفال:73]، أي: الجهاد معهم ببغضهم وإعلان الحرب عليهم وقتالهم، ينتج عن هذا الفتنة في الأرض، إذ لا يعبد الله تعالى، وإنما تعبد الفروج والأهواء والأصنام والأشجار والشياطين، ويقع أيضاً الفساد الذي لا حد له في الأموال وفي الأعراض وفي الأبدان وفي كل شئون الحياة، فمن أخبر بهذا؟ إنه الله عز وجل! وقد وقع، إذ ما إن وقف الجهاد وتعطل حتى عم الشر والفساد الدنيا بأسرها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله...)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74].

    وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:74]، وهذا تسجيل أخير لأولئك الأولين المهاجرين والأنصار، فقد أثنى عليهم وبين حالهم، ثم ختم هذا الخاتم بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:74]، أي: حقاً وصدقاً لا ادعاء ونطقاً، إذ إنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فهؤلاء هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]، أي: لهم مغفرة لذنوبهم التي ارتكبوها قبل إسلامهم وجهادهم وإيمانهم، أو ما قد يحدث من ذنب آخر، فقد كافأهم الله بمغفرة ذنوبهم وأعطاهم الرزق الكريم، ليس هذا الذي إذا أكلت تخرأ، وإذا شربت تبول، وإنما رزق آخر فيأكلون ويشربون فلا يتغوطون ولا يبولون، إنه نعيم الجنة دار السلام، ذاك هو الرزق الكريم.

    إنه جزاء عظيم للمهاجرين والناصرين، إذ قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:74]، وهؤلاء هم المهاجرون، وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم...)

    قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75].

    وطائفة أخرى قال الله عنها: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ [الأنفال:75]، لكن دونكم، أي: فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا أيام كان الإسلام يطلب النصرة فهؤلاء أعلى درجة، والذين آمنوا بعد صلح الحديبية وهاجروا فهم مؤمنون وهم إخوانكم، لكن ليسوا في المستوى الأول، فهل مستوانا الآن إن آمنا ونصرنا نكون كأصحاب رسول الله من المهاجرين والأنصار؟ لا، إذ إن أصحاب الرسول صنفان: صنف أول، وصنف ثاني، فمن هاجر وجاهد بعد صلح الحديبية فدرجتهم أقل من درجة الأولين الذين استشهدوا في بدر وقاتلوا في أحد والخندق.

    وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ [الأنفال:75]، أي: جزء منكم، فلا فرق بينكم وبينهم، وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75]، وهنا صلتان قويتان: صلة الإيمان والهجرة والجهاد، وصلة الرحم والقرابة، فالصلة بين أهل الإيمان والهجرة والجهاد هي النصرة والولاء والحب، وأولو الأرحام من آباء وأمهات وإخوان وأخوات وأعمام صلتهم القرابة فيما بينهم، فليست كالصلة الأولى، وفي هذه الآية من أهل العلم من يقول: ما كان من توارث بالهجرة فقد بطل بهذه الآية، أو ما كان يتوارثونه بالمعاقدة والهجرة فقد نسخ بهذه الآية، وقد درسنا وعلمنا أن هذا قد نسخ، إذ كانوا يتوارثون فيما بينهم، فيجيء الرجل لأخيه فيقول له: أنت أخي، ويكتب بينه وبينه كتاباً، فيتوارثون ويتعاونون بحكم المودة التي هي توثيق بكتابة وعقد، لكن لما نزلت هذه الآية بقي التناصر العام وهو الحب والولاء في الله عز وجل، أما الطعام والشراب وإيواء المنزل والدار والثوب تعطيه فهذا خاص بأولي الأرحام، فابدأ بنفسك ثم بمن تعول كزوجتك ثم بابنك وهكذا.

    وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ [الأنفال:75]، أي: يتناصحون ويتوادون ويتحابون ويتعاونون، وأهل الإيمان والهجرة والجهاد يتعاونون كذلك في باب النصرة للإسلام والجهاد دونه، فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال:75]، الذي هو كتاب القضاء والقدر والقرآن الكريم، وقد نسخ من كتاب المقادير إلى القرآن الكريم، فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض، فالأب أولى بابنه، والابن أولى بأبيه، والأخ أولى بأخيه، والأخت أولى بأخيها وهكذا.

    إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75]، وهنا هل أولوا الأرحام يتوارثون؟ بعضهم أخذ من الآية أن ذوي الأرحام يتوارثون، والجمهور: أن التوارث إنما يكون بين أصحاب الفروض الذين ذكر الله أنصبتهم، وأصحاب التعصيب والوراثة، وما بقي إلى بيت المال، لكن خلاف الجمهور -وهو الراجح- أننا إذا قسمنا التركة وبقيت بقية فنقسمها على ذوي الأرحام، كالخالة والخال والعمة وابن الخال وما إلى ذلك، وذلك لمن لا نصيب لهم في التركة، أو لا فرض لهم ولا تعصيب، والكل خير وصالح.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    هيا لنعود من جديد إلى بيان الحقيقة، فأقول: عرفنا أن الإيمان هو تصديق الله ورسوله في كل ما أخبرا به، فما إن يخبر الله بخبر أطقناه واستطعنا فهمه أو لم نستطع فهمه إلا ونقول: آمنا بالله، إذ إن الإيمان يعني أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما يجري فيه وما يتم لعباد الله فيه، وأن كل خبر يخبر الله به أو رسوله يجب أن تشرح له صدرك وتتقبله وتطمئن نفسك إليه، وأنه والله للحق كما بلغنا، ثم إن المؤمن الحق هو من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده )، فلابد من تحقيق الإيمان بالمعنى الكامل التام.

    والهجرة هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإيمان، لكن بعد أن نصر الله رسوله ودينه قال الرسول: ( لا هجرة بعد الفتح )، فأعلن إعلاناً رسمياً أنه لا هجرة على أهل مكة بعد فتح مكة، فيا من هو بمكة بعدما فتحها الله! لا تهاجر إلى المدينة أبداً، ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قد نصر دينه ورسوله، وتبقى الهجرة فلا تنتهي لا تنقضي إلا إذا انقضت هذه الحياة، والهجرة هي هجر الباطل وترك الشر والخبث والفساد، والمهاجر من هجر ما نهى الله ورسوله عنه، أي: يترك ويبتعد عن كل حرام حرمه الله من قول أو عمل أو اعتقاد، فيهجر كل ظلم وكل خبث وكل شر وكل ابتداع وكل باطل فيبتعد عنه، ثم إنه تجب عليك الهجرة إذا كنت في بلد لا تستطيع أن تعبد الله تعالى فيه، أي: لو كنت في بلد لا تستطيع أن تصلي صلاة الجماعة فيجب عليك أن تهاجر، أو كنت في بلد لا تأمن فيه على عرضك أو بدنك فيجب عليك أن تهاجر، وهذه الهجرة باقية ببقاء الدنيا حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا يحل لمؤمن أن يعيش بين ظهراني كافرين ولا ظالمين ولا مشركين يؤذونه ويحاربونه ويحولون بينه وبين عبادة الله التي خلق لها ومن أجلها.

    إذاً: فهجرتنا الآن هي أن نهجر ما نهى الله ورسوله عنه من قول فاسد أو من عمل سيئ أو من سلوك منحرف أو من تفكير باطل، ونصحح مواقفنا مع ربنا لنكون حقاً عبيده المؤمنين الصادقين في إيمانهم.

    وأما النصرة التي نحن مطالبون بها فحيث ما وجد جهاد شرعي حقيقي في المسلمين، فنقف إلى جنب المجاهدين بالدعاء والمال، وذلك كما وقفنا مع إخواننا الأفغان لما كانوا يحاربون الروس ويقاتلون الكافرين، والجهاد الشرعي هو أن يكون للمؤمنين إمام قد بايعوه ووضعوا أيديهم في يديه على أن ينصروا دينه وينشروا دعوة الله بين الناس، وهذا الإمام إذا أعلن الحرب على دولة كافرة فيجب أن نجاهد معه.

    وقد عرفنا وتكرر القول: من هي الدولة التي نجاهدها؟ دولة رفضت الإسلام وأبته ولم تطلبه ولم تدخل فيه، وإنما بقيت على ظلمها وخبثها وكفرها وفسادها، فهل يجوز أن نتركها هكذا تأكلها النار فتحرم الطهر والصفاء، وتحرم الولاء والمودة والإخاء، والجهل يقتلها والكفر يفسدها؟! لا، وإنما يجب أن ننهض لإصلاحها وهدايتها، فيجهز إمام المسلمين جيشاً ويقوده حتى ننزل بساحتهم، سواء موانئ أو أراضي، ونراسلهم سفارة ربانية لا يختلف فيها اثنان: يا أهل هذه الديار! ادخلوا في الإسلام، أنقذوا أنفسكم من الخلود في النار، أنقذوا أنفسكم من هذا الخبث والظلم والشر والفساد، ووالله لا يخلو منه بلد لم يسده الإسلام، ولا نصدق أبداً أن بلداً أهله غير مسلمين فيه طهر وصفاء ومودة وإخاء، إذ والله ما فيه إلا الشر والخبث والفساد، فإن أجابوا كبرت الدنيا كلها ودخل جيش المسلمين، وعين الإمام من يقوم مقامه في تلك البلاد، وكون الحكومة الإسلامية وانسحبوا.

    وإن رفضوا وقالوا: لنا ديننا ولكم دينكم، لا نرضى باستبدال ديننا بدين آخر أبداً، فنقول لهم: إذاً ائذنوا لنا أن ندخل دياركم وتكون تحت رايتنا لننشر دعوة الله بينكم؛ لأن الذي منع هو الحاكم والجيش، والأمة ما ذنبها؟ افسحوا لنا المجال فيدخل علماؤنا ورجالنا ينشرون دعوة الله بينكم، وأنتم في حمايتنا وتحت رايتنا، وأعطونا فقط رمزاً يسمى الجزية يدل على قبولكم للعهد والمعاهدة، ووالله ما يمضي زمن قد لا يزيد على سنة إلا وأهل البلاد أكثرهم قد دخل في الإسلام، وهذه الشعوب قد دخلت في الإسلام بهذه الطريقة، إذ ما هناك من أكره على الإسلام أبداً، وإنما يدخلون الإسلام برغبة لما عرفوا وفهموا.

    فإن رفضوا وقالوا: لا نقبلكم ولا نرضى بدولتكم ولا سلطانكم علينا، ولكن الحرب بيننا وبينكم، وعند ذلك نجاهدهم فنقاتل رجالهم دون نسائهم وأطفالهم وخدمهم وعلمائهم وعبادهم، والمرأة إذا حملت السلاح فإنها تقتل، والراهب أو العابد في صومعة إذا حمل السلاح وقاتل فإنه يقتل، ولا نقاتل إلا من يقاتلنا، ثم ينهزمون قطعاً ولا شك؛ لأن الله ناصر أولياءه، وحينئذ يقبل الشعب على الإسلام بكل سرور وفرح؛ لأن العقبة الكؤود التي هي الجيش قد انتهت.

    فهذا هو الجهاد الحقيقي الشرعي، أما جهاد بلا بيعة ولا إمامة ولا أمة فباطل وحرام، فإن قيل: يا شيخ! هل لك أن تضرب لنا مثلاً؟ إي نعم، إخواننا في الأفغان جاهدوا الروس وطردوه وأخزوه وأذله الله بدعائنا وجهادهم، لكن لماذا لم تقم دولة الإسلام فتقام فيها الصلاة إجبارياً، وتجبى فيها الزكوات إلزاماً، ويحكم فيها بكتاب الله وشرعه؟ والله إن السبب لهو عدم بيعتهم لإمام لهم قبل أن يخوضوا معارك القتال! وعندما أحلف فأنا أحلف على علم، وقد ذهبنا إليهم وطالبناهم بهذا وقلنا لهم: اتحدوا وبايعوا إماماً منكم قبل خوضكم المعركة، فإذا انتصرتم سادت سيادتكم وعلت رايتكم، لكن للأسف رفضوا، إذاً كيف الحال؟ يقتل بعضهم بعضاً إلى الآن! فكيف إذاً بجماعة طائشة حمقاء مثلي في مدينة أو في قرية من القرى في بلاد المسلمين وتعلن الجهاد أو القتال في سبيل الله، ويقتل مسلم مسلماً، بل ويقتل المسلم المرأة المسلمة والطفل المسلم؟! إن هذا والله لضلال وفساد وقبح وشر، ووالله الذي لا إله غيره! لا يحل أبداً للمسلمين أن يقتل بعضهم بعضاً إلا في حالة واحدة وهي: عندما تتقاتل طائفتان من المؤمنين أو بلدان أو قريتان أو إقليمان، وهنا على المسلمين أن ينصروا المؤمنين حتى تستسلم الطائفة الظالمة وتحط رقبتها، قال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9]، إلى متى؟ حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9].

    أما هذه التحزبات والتكتلات والجمعيات في داخل بلاد المسلمين -حتى في المدينة النبوية- والمطالبة بكذا وتكفير الحكام، ثم إعلان الحرب بهذه الفتنة، فهذا باطل ونبرأ إلى الله منه، ووصيتي لكل مسلم عندما تحدث هذه الفتنة أن يقول: أنا مسلم فقط، لا أن ينتمي لمنظمة أو حزب أو جماعة، فإن قتل فهي شهادة كتبها الله له ظلماً وعدواناً، وإن نجا وسلم نجا والحمد لله رب العالمين، أما أن يشارك بكلمة: هذا كافر، هذا كذا، ويساعد بالريال والدينار على كذا، فكل دماء تسيل فهو مساهم فيها، وكل روح أزهقت له من وزرها نصيب، فمن يكفر عنه هذا الذنب؟ يبكي الدهر كله ما ينجو.

    إذاً: كلمة جهاد ليست مجرد كلمة سهلة، وإنما الجهاد له أسسه ودعائمه، فأولاً: أن تبايع الأمة إماماً لها وتمشي وراءه، ويقودها العام والعامين والعشرة، وأمرها واحد، وكلمتها واحدة، ويجاهد الكفار، لا للمال ولا للمنصب ولا للدنيا، وإنما من أجل إنقاذهم من النار والخلود فيها، من أجل تطهير أرض الله من العبث والشر والفساد، فهذه هي العوامل وهذه هي النيات، لا مجرد سيادة وحكم كما يفعل الكافرون والمشركون، لكنه للأسف الجهل خيم علينا، وسببه كما قلنا: إن القرآن يقرأ على الموتى، والسنة تقرأ في ليالي رمضان للبركة، والأمة كلها منظمات: تجاني، قادري، رحماني، عيساوي، وطني، وهي مفرقة وممزقة، وبالتالي فكيف تتعلم؟! والله أسأل أن يتوب علينا وعليهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756233329