إسلام ويب

تفسير سورة الأنفال (11)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يوجه الله عز وجل في هذه الآيات خطابه للمشركين بأنهم إن ينتهوا عن الكفر والعصيان وحرب الإسلام وأهله، فإنه سبحانه يغفر لهم ما قد مضى من الذنوب العظام وهي الشرك والظلم، وهذا وعد صدق ممن لا يخلف الميعاد جل وعلا، أما إن عادوا إلى ما كانوا عليه فإن الله سيجري عليهم سنته في الظالمين، وسيسلط عليهم عباده المؤمنين ليقاتلوهم قتالاً متواصلاً حتى لا تبقى في الأرض فتنة؛ من شرك واضطهاد واستضعاف للمؤمنين.

    1.   

    قراءة في تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ... ) وما بعدها من كتاب أيسر التفاسير

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات في أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة الأنفال المدنية المباركة الميمونة، ومع هذه الآيات الثلاث، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نأخذ في شرحها وبيان هداية الله منها.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:38-40].

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! أذكركم بالهدايات الثلاث التي تضمنتها الآيتان السابقتان، اللتان درسناهما بالأمس:

    [ من هداية الآيات:

    أولاً: كل نفقة ينفقها العبد للصد عن سبيل الله ] ولصرف الناس عن دين الله، ولإبعاد الناس عن الإسلام وعن عبادة الله [ بأي وجه من الوجوه تكون عليه حسرة عظيمة يوم القيامة ] فكل ما ينفقه قل أو كثر يكون حسرة عليه يوم القيامة؛ وذلك لقول الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].

    [ ثانياً: كل كافر خبيث، وكل مؤمن طيب ] فقل: الكافر الفلاني خبيث، ولا تتحرج ولا تظن أنه غير خبيث، وكل مؤمن طيب، وقد أخذنا هذا من قول الله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال:37]، أي: المؤمن من الكافر، ثم يدخل المؤمنين دار السلام، ويدخل الكافرين الأخباث دار البوار جهنم وبئس المصير.

    [ ثالثاً: صدق وعد الله تعالى لرسوله والمؤمنين بهزيمة المشركين، وغلبتهم وحسرتهم على ما أنفقوا في حرب الإسلام ] في بدر وفي أحد وفي الخندق، وفي غيرها [ وضياع ذلك كله، وخيبتهم فيه ].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ...)

    الآن مع هذه الآيات الثلاث: قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:38]. والآمر بقوله: قُلْ الله جل جلاله منزل هذا الكتاب، المأمور بأن يقول رسوله ومصطفاه، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أُمر أن يقول لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:38]، أي: جحدوا دين الله، وجحدوا شرع الله، وجحدوا آيات الله، وجحدوا لقاء الله، وجحدوا ألوهية الله، فهؤلاء الكفار المشركون قُلْ [الأنفال:38] لهم يا رسولنا!: إن ينتهوا عن الكفر والصد عن سبيل الله ومحاربة المؤمنين يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]. وهذا عطاء الله وفضل الله. وهذا لا يقوى عليه إلا الله. فهم قد كفروا به وبرسوله، وبكتابه وبلقائه، وأشركوا به في عبادته الأصنام والأهواء والشياطين، وقتلوا أولياءه وحاربوهم، ومع هذا يقول لهم: إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف، أي: كل ذنب سلف ومضى مغفور لكم.

    و عمرو بن العاص لما أسلم جاء ليصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ليعاهده فيضع يده على يده صلى الله عليه وسلم، فبسط يده ثم قبضها وجذبها، فقال الحبيب: ( لم يا عمرو ! أخذت يدك؟ قال: أريد أن أشترط، قال: اشترط، قال: أريد أن يغفر لي كل ذنب سلف مني. قال: أما تدري يا عمرو ! أن التوبة تجب ما قبلها، وأن الهجرة تجب ما قبلها، وأن الحج يكفر ما قبله )؟ فأخبره بهذه الثلاث، وهي: أن الدخول في الإسلام يجب كل ذنب سبق ويقطعه ويأتي عليه، وأن الهجرة تجب ما كان قبلها، فمن هاجر في سبيل الله واستجاب لأمر الله فما قبل الهجرة كله مغفور له، ومن حج حجاً شرعياً فكذلك ذنوبه قبل الحج تغفر له. وهذا يدل على فضل الله ورحمته. ولا يقوى على هذا أحد.

    ولو كنا نحن لقلنا: ما دمتم أسلمتم فسننتقم منكم، فمن قتل نقتله، ومن سلب أموالنا نسلبها منه، أو على الأقل نبقى في غضب وشدة عليهم؛ لأنهم عذبونا واضطهدونا، وقاتلونا من أجل ديننا. ولكن الله يأبى ذلك؛ لسعة رحمته، وعظمة مغفرته.

    فهو يقول تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:38] لهم يا رسولنا! وبلغهم عنها، إِنْ يَنتَهُوا [الأنفال:38] ويكفوا من الكفر والشرك، وأذية المؤمنين والصد عن سبيل الله يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]. ويمحى عنهم، ولا يطالبهم به أبداً.

    جزاء الكافرين إن عادوا لمحاربة دين الله عز وجل

    قال تعالى: وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38]، أي: وإن يعودوا إلى حربنا وحرب رسولنا وأوليائنا والصد عن سبيل الله فالجزاء معروف وهو الدمار والخراب والهلاك الأبدي. فقد مضت سنة الله في أن من يقف هذا الموقف إلا ويبيده ويدمره.

    وهذا البيان يعدل الدنيا بما فيها، فهو برقية من ملك الملوك تحمل الخير والهدى. وهذا البيان العظيم هو قوله تعالى: قُلْ [الأنفال:38] يا رسولنا! لهؤلاء الكافرين المحاربين المعاندين إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]. مع أنهم قد ذبحوا وقتلوا المؤمنين، وشردوهم وصدوا عن سبيل الله، وأنفقوا الأموال الطائلة من أجل حرب الإسلام، ومع هذا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا [الأنفال:38] إلى كفروهم وحربهم وشركهم فقضاء الله نافذ فيهم، ولله سنن لا تتبدل ولا تتخلف، كما قال تعالى: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38]. وستمضي فيهم كما مضت في الأولين، وهو الدمار والهلاك الكامل، وعذاب الاستئصال والإبادة. هذا معنى قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ...)

    قال تعالى لرسوله القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم ولجيشه من المؤمنين، وكلهم جيش الله: وَقَاتِلُوهُمْ [الأنفال:39]. هذا أمر الله لرسوله وللمؤمنين، ونحن إن شاء الله منهم، فقال وَقَاتِلُوهُمْ [الأنفال:39]. ولم يقل: واقتلوهم، بل قال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]. وهذا أمر الله عز وجل. فهو الذي قال: وَقَاتِلُوهُمْ [الأنفال:39] أيها المؤمنون! وعلى رأسكم قائدكم صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا المشركين حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: لا يكون شرك في هذه الديار. وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]. لا يشاركه فيه سواه من إنس ولا جان.

    وهذه الآية يا أهل العلم! اختلف المفسرون فيها في لفظ: الفتنة هل المراد بها الشرك أو المراد بها فتنة الناس المؤمنين عن دينهم وبعدهم عنها، بالحرب وبالمكائد والمكر؟ والذي فتح الله به علي أقوله، وهو: أن الآية تحتمل المعنيين، الشرك في ديار الجزيرة، فلا يحل لإنسان أن يعبد غير الله عز وجل في هذه الديار؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمع دينان في الجزيرة ). ولما نزل في سورة التوبة بعد هذه السورة، وهو ذلك الإعلان العظيم الحربي الشديد الذي يدل دلالة قاطعة أنه لا يسمح لكافر أن يعيش في هذه الديار، أما ما وراءها فأمر آخر. وهذا البيان العظيم هو قوله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:1-5]. فإذا انسلخ الأشهر التي أعطاهم الله إياها، وهي أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فيذهبون إلى الفرس، أو إلى الروم، أو إلى الأحباش، فهذا شأنهم، ولا ينبغي أن يبقى مشرك في هذه البلاد. فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التوبة:5] يا رسول الله! ويا عباد الله! فَاقْتُلُوا [التوبة:5]. ولم يقل: قاتلوا، بل قال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]. وسورة براءة نزلت بعد الأنفال، وإن كانت متصلة بها، وفيها إعلان أن هذه الديار وهذه القبة مركز الإسلام، فيجب ألا يوجد فيها دينان، ولهذا يقتل كل مشرك يوجد في هذه الديار، وقد سمعتم قول الرسول لـعمر : ( يا عمر ! لا يجتمع دينان في الجزيرة ). وبالفعل ما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحق بربه في الرفيق الأعلى إلا والجزيرة هذه التي تعرف بشبه جزيرة العرب لا يوجد فيها دين إلا الإسلام، ولم تبن فيها كنيسة ولا بيعة لليهود ولا للنصارى قط؛ لأنها قبة الإسلام وبيضته.

    وهنا لطيفة أذكركم بها، وهي: أن مسيو طارطار كان أستاذاً في الجامعة الفرنسية بباريس السوربون، ومنذ حوالي عشر سنين أو أقل كتب في جريدة لوموند الفرنسية يقول: لماذا السعودية تمنع مواطنينا أن يعبدوا ربهم في بلادها، ونحن نسمح للمسلمين أن يعبدوا الله، ويبنوا المساجد الكثيرة العديدة؟ فنحن نسمح لهم، وهم لا يسمحون لنا. فوفقني الله عز وجل فرددت عليه في كلمة في نفس جريدة لوموند بعد أن ترجمت إلى الفرنسية، فقلت: يا مسيو طارطار! المملكة العربية السعودية وفيها الحرمان الشريفان عبارة عن قبة الإسلام، وكلها عبارة عن مسجد كلها، ولا يجوز أن تبنى في داخل مسجد، كما أنه لا يجوز أن يبنى مسجد داخل كنيسة. فهذه المملكة عبارة عن مسجد للإسلام، فلا يصح أبداً أن يبنى فيها معبد لغير المسلمين، فأقتنع. ثم رد علي وقال: نحن لا نطالب بكنيسة، وإنما نريد فقط أن يقيم إخواننا ما يسمونه قداساً، ويجتمعون فيه. فرددت عليه وقلت له: هذا ليس خاص بإخوانكم، بل المسلمون لو يجتمعون في بيت ويقومون فيه بدعة من البدع فإن الهيئة تطاردهم، وتجليهم من الجزيرة. وعندئذٍ انقطع مسيو طرطار وسكت.

    فاعرفوا أن هذه الديار عبارة عن مسجد، والمسجد لا يجوز أن تبنى فيه كنيسة، والدليل قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5] ... الآيات من سورة براءة. فقال: المشركون، مع أنه كان يوجد في نفس الوقت يهود في المدينة، فقد مات رسول الله ودرعه مرهونة ممن استسلموا وانقادوا، وما وقفوا إلى جنب إخوانهم، فاليهود غير المشركين، فهم أهل كتاب.

    ومن هنا نقول ربنا تعالى جل ذكره: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: قاتلوا الكفار والمشركين، فقاتلوا الذين كفروا في الشرق والغرب؛ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: حتى لا يصرف مؤمن عن دينه وعن عبادة ربه. وهذه الآية تتطلب من المسلمين أن ينشروا دين الله في الأرض كلها؛ وذلك لقوله: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]. ومن ثم أخذ أصحاب رسول الله بهذه الآية وتحملوها، وأخذوا يخرجون خارج الجزيرة، فأدخلوا الشام في الإسلام، وأدخلوا العراق في الإسلام، وأدخلوا الفرس وما وراء نهر الهند، والأندلس وشمال أفريقيا والغرب؛ لأن أمر الله هذا عام، فيجب أن تطهر الأرض من الشرك والكفر، وألا يعبد فيها إلا الله خالقها، وما دام يوجد من يعبد غير الله فلا ينبغي أبداً أن نسكت، بل لا بد من الجهاد من بلد إلى بلد. وإذا أرسينا سفننا على شاطئ دولة نراسلها أن يدخلوا في الإسلام ليسعدوا ويكملوا، ينجوا من عذاب الدنيا والآخرة، وليطهروا ويطيبوا، ويصفوا ويعيشوا على العدل والرحمة الإلهية، فإن رفضوا فنقول الثانية، وهي: أن يسمحوا لنا أن ندخل، وندعوا الناس في داخل دياركم ونوجههم؛ ليسلموا وينجوا من عذاب الله، فإن رفضوا لم يبق إلا قتالهم، فنقاتلهم حتى تنهزم جيوشهم، وندخل البلاد، وننشر رحمة الله فيها. وهذا الذي تم وحصل، فقد انتشر الإسلام برجاله، لو كان الآن للمسلمين إماماً ولهم جيشاً إسلامياً لاستطاعوا أن يدخلوا العالم بكامله في الإسلام، ولكن الأمر لله من قبل ومن بعد.

    والشاهد عندنا في الآية الكريمة: وَقَاتِلُوهُمْ [الأنفال:39]، أي: الكفار، حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: صرف عن دين الله، حتى لا يظلم مؤمن ويصرف عن دين الله، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39].

    فالوجه الأول في الآية هو قوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]، أي: حتى لا يبق شرك، بل البشرية كلها توحد الله عز وجل.

    تحذير الله للكافرين من موافقة الإسلام علناً والمكر به في الخفاء

    قال تعالى: فَإِنِ انتَهَوْا [الأنفال:39]، أي: أولئك الكفار المحاربون المشركون فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:39]. فبين لهم أنهم إذا انتهوا من حرب الرسول والمؤمنين في العلن وكادوا لهم ومكروا في السر فإن هذا لا يخفى على الله عز وجل، فإنه بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:39]. لأنهم قد يعلنون عن عدم الحرب ويعلنوا عن السلم، ثم في الأخير يقتلون ويؤذون ويمنعون المسلمين، فأعلمهم أنه تعالى بصير بعملهم هذا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم ...)

    قال تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا [الأنفال:40]، أي: وإن رفضوا الإسلام ولم يقبلوا إلا الكفر فقط فَاعْلَمُوا [الأنفال:40] أيها المسلمون! أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ [الأنفال:40]. ومن كان الله مولاه فلا ينهزم ولا يذل ولا ينكسر والله؛ لأن الله قوي قدير. فمن والاه وأصبح وليه فوالله ما ينهزم ولا ينكسر. وما دام الله مولاكم فهو نِعْمَ الْمَوْلَى [الأنفال:40] أيضاً لمن تولاه. وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40] لمن نصره. ومعنى هذا: ابقوا على حربكم مع المشركين؛ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39] في هذه الديار. وقد جاءت آيات براءة فبينتها في قوله تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التوبة:5]. فقد أعطاهم أربعة أشهر لهم أن يسيحوا في الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً، ثم بعد الأربعة الأشهر فحيث ما يوجد مشرك يقتل، وتم ذلك بالحرف الواحد، ولكنهم دخلوا في الإسلام، وعبدوا الله عز وجل.

    هذا معنى قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا [الأنفال:38]، أي: من حربهم للإسلام، وكفرهم وشركهم يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، أي: الذي مضى من كفرهم وظلمهم وجرائمهم، فكلها تغفر، ولا يطالبون بدم ولا بمال أبداً. وَإِنْ يَعُودُوا [الأنفال:38] إلى ما هم عليه من حرب رسولنا، وشن الحروب والغزوات عليه، ويعودوا مصرين على كفرهم وحربهم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38] في غيرهم، أي: فسوف يبيدهم الله ويهلكهم.

    ثم قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الأنفال:39]. فنادى الله رسوله والمؤمنين وأمرهم بقتالهم؛ حتى لا يبقى شرك ولا مشرك في هذه الديار. حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]. وهو الإسلام، وليس غير الإسلام. فَإِنِ انتَهَوْا [الأنفال:39] فنعم الانتهاء، وليعلموا أن الله بصير بعملهم إذا أرادوا أن يظهروا الإسلام للخديعة، فيعلنون عن التوحيد ويعبدون الحجارة في بيوتهم فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:39]. فسوف يفضحهم، وينزل عقوبته بهم.

    ثم قال تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا [الأنفال:40] أي: أعرضوا عن الإسلام، وأبوا إلا الحرب والقتال، فَاعْلَمُوا [الأنفال:40] أيها المسلمون! أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ [الأنفال:40]. فلا تخافوا أبداً، ولا ترتعد فرائصكم، وإن أعلنوا الردة كلهم عليكم؛ لأن الله نِعْمَ الْمَوْلَى [الأنفال:40] لمن يتولاه، ويكون وليه، فلا يخذله ولا يهمله، ولا يسلط عليه أعداءه أبداً. وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40] أيضاً في المعركة، فينصر عباده المحاربين من عباده المؤمنين. هذا ما دلت عليه الآيتان.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    [ معنى الآيات ] هيا بنا لأسمعكم شرح الآيات في الكتاب.

    قال: [ ما زال السياق الكريم في بيان الإجراءات الواجب اتخاذها إزاء الكافرين، فيقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:38] مبلغاً عنا، إِنْ يَنتَهُوا [الأنفال:38]، أي: عن الشرك والكفر والعصيان، وحرب الإسلام وأهله، يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]. يغفر الله ] تعالى [ لهم ما قد مضى من ذنوبهم العظام، وهي الشرك والظلم. وهذا وعد صدق ممن لا يخلف الوعد سبحانه وتعالى. وَإِنْ يَعُودُوا [الأنفال:38] إلى الظلم والاضطهاد والحرب فسوف يحل بهم ما حل بالأمم السالفة قبلهم لما ظلموا، فكذبوا الرسل، وآذوا المؤمنين، وهو معنى قوله تعالى: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38]، أي: سنة الله والطريقة المتبعة فيهم، وهي أخذهم بعد الإنذار والإعذار.

    ثم في الآية الثانية من هذا السياق يأمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين قتالاً يتواصل بلا انقطاع إلى غاية، هي: ألا تبقى فتنة، أي: شرك ولا اضطهاد لمؤمن أو مؤمنة من أجل دينه، وحتى يكون الدين كله لله، فلا يعبد مع الله أحد سواه. فَإِنِ انتَهَوْا [الأنفال:39] عن الشرك والظلم فكفوا عنهم، وإن انتهوا في الظاهر ولم ينتهوا في الباطن فلا يضركم ذلك، فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال:39]. سيظهرهم لكم، ويسلطكم عليهم.

    وقوله في ختام السياق: وَإِنْ تَوَلَّوْا [الأنفال:40]، أي: نكثوا العهد، وعادوا إلى حربكم بعد الكف عنهم فقاتلوهم ينصركم الله عليهم. واعلموا أن الله مولاكم، فلا يسلطهم عليكم، بل ينصركم عليهم. إنه نِعْمَ الْمَوْلَى [الأنفال:40] لمن يتولى. وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال:40] لمن ينصر ] سبحانه وتعالى.

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] أي: ما تحمل هذه الآيات الثلاث من هداية. فهيا نسمع:

    [ من هداية الآيات:

    أولاً: بيان سعة فضل الله ورحمته ] فلو أن عبداً يرتكب ألف جريمة وجريمة منذ أن وجد وهو مجرم ثم تاب توبة نصوحاً فلا يؤاخذه الله بشيء من ذلك؛ وذلك لسعة فضله ورحمته. وغير الله لا يقدر على هذا. وقد أخذنا هذا من قوله تعالى: إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]. مع أنهم قتلوا الحمزة ، وقتلوا الأصحاب، وجرحوا رسول الله، وأجلوا المؤمنين من مكة، وأخرجوهم من ديارهم، ومع هذا إن تابوا يغفر الله لهم ما مضى. وقد عرفنا حادثة عمرو بن العاص لما أراد أن يبايع الرسول أنه قبض يده، وقال: أريد أن اشترط أن يغفر لي، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، وأن الحج يجب ما قبله

    [ ثانياً الإسلام يجب -أي: يقطع- ما قبله ] فالجب معناه: القطع [ فيغفر لمن أسلم كل ذنب قارفه من الكفر وغيره ].

    [ ثالثاً: بيان سنة الله في الظالمين، وهي إهلاكهم وإن طالت مدة الإملاء والإنظار ] فلابد من إهلاكهم. وقد أخذنا هذا من قوله: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ [الأنفال:40].

    [ رابعاً: وجوب قتال المشركين على المسلمين ما بقي في الأرض مشرك.

    خامساً: نعم المولى الله جل جلاله لمن تولاه، ونعم النصير لمن نصره ].

    والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس من كتاب الله ونسمع.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756164575